الدين والتغيير.. جدلية الفرد والجماعة في التجربة الإسلامية

haidan-Ko0Dpd1MOJY-unsplash.jpg

أحمد سالم

 يكتسب الدينُ وضعًا خاصًّا في العالم الإسلامي عموما، وفي المنطقة العربية خصوصا، كما يمثّلُ ركيزة أساسية في عملية التغيير الاجتماعي ؛إذ عليه يُعـوَّلُ كثيراً إما في تقدُّم المجتمع إلى الأمام وإما في تقهقرهإلى الخلف. ومن هنا، لامناص لنا في دراستنا تلك من محاولة الإجابة عن طائفة من التساؤلات الهامة، وهي : ما معنى الدين ؟ وماذا يعنى التغيير الاجتماعي؟ وما طبيعة العلاقة بين الدين والتغيير في المجتمع ؟ وما مدى أثر الدين في تغيير حياة الأفراد والجماعات ؟ وكيف انتقل الإسلام من دين لصناعة ضمير الفرد أولا إلى دين لتدبير شأن الجماعةثانياً؟ وما دور العوامل السياسية في حراك الدين الإسلامي في مساره التاريخي؟ وهل علاقة الدين بحركة المجتمع والسياسة في التجربة الإسلامية كلها لصالح سيطرة الروحي على الزمني أم أن الزمني قد حرك الروحي (الديني) لصالحه في معظم الأحيان؟ ومتى كان للدين دورُه البـــارز في إصلاح حياة الفرد وتغييره؟ ومتى كان الدين هو الطريق لإصلاح مسار الجماعة ؟ أسئلة كثيرة لعلنا نستطيع الإجابة عنها من خلال هذه الدراسة.

         يعرف الدين بأنه "الخضوع والطاعة والعبادة والورع" وكلمة "الدين لله" يصح أن تشمل معنيين : الحكم لله ، أو الخضوع لله.(1)؛فالدين في المعنى الاصطلاحي يقهر أتباعه ويسوسهم وفق تعاليمه وشرائعه كما يتضمن خضوع العابد للمعبود ، وذلته له ، والعابد يفعل ذلك بدوافع نفسيه ، يلتزم به بدون إكراه أو إجبار ، وقد "عرف الإسلاميون الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوى العقول السليمة بإختيارهم إلى الصلاح في الحال ، والفلاح في المآل ، أما الغربيون فيقول شيشرون: الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله ، ويقول كانط : الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية ، ويقول شيللرماخر : قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة "(2) .

         وبالمقابل، يعرف التغيير الاجتماعي في مقارنته بمصطلح التغير الاجتماعي " فالتغير الاجتماعي آلية لا شعورية جمعية يقوم بها المجتمع لحفظ ذاته وحمايتها بما تتعرف له من تهديد أو خطر يمس بنية الاجتماعية أو الأخلاقية أو القيمية " (3)ومن ثم فإن التغير هو آلية مجتمعية تلقائية، في حين أن التغيير فاعلية بشرية إرادية " فالتغيير الاجتماعي هو آلية شعورية إرادية يقف وراءها فاعل ما داخلي أو خارجي يريد أن يغير في المجتمع أمرًا ، سلوكًا، عادة ، قيمة ، نمطًا، أو غير ذلك ، وهو يريد إحداث هذا التغيير لأمر يريده، ولذلك ليس من الضروري أن يكــون التغيير متجها نحو الإيجاب ، ونحو الصواب ، فقد تكون بإرادة المغير إحداث خلل ما ، أو تكريس سلوك أو عقيدة أو قيمة تخدم مصالحه وحسب بغض النظر عما يمكن أن تقدمه للمجتمع من فائدة أو خير على الأمدية القريبة أو البعيدة " (4) ، ومن السابق نلاحظ أن التغيير وهو فعل قصدي خالص لايشترط فيه أن يكون فعلاً إيجابياً، فقد يكون التغيير سلوكا قصدياً سلبياً، ومن خلال تعريف كلمن الدين والتغيير الاجتماعي نتساءل: ما حدود طبيعة علاقة الدين بالتغيير الاجتماعي في حياة الفرد والجماعة؟

عندما نزلت الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلمفى مكة فإنه كان يسعى إلى تغيير حياة الأفراد من الشرك إلى الإيمان ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، فكانت دعوته في مكة تركز على إصلاح حياة الأفراد – كنواة لإصلاح الجماعة – فدعى الناس إلى رسالته لأنها تدعو إلى الخير والمساواة والرحمة، وتساوى بين المؤمنين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وثقافتهم ، فلا فضل لعربي علىأعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ، فدخل في الإسلام ثلّة من غير العرب؛ منهم: بلال الحبشي، وصهيب الرومي ، وسليمان الفارسي؛إذ"رأى القرآن أن وحدة المثال ينبغي أن تكون المنطلق والنهاية باتجاه صيغة اجتماعية تفهم "سنن" الاجتماع البشري في التمايز واللاسلطوية ، والدفع الاجتماعي، وتستوعب ذلك كله في السعي لتشكيل أمةقرآنية تستعيد الوضع التاريخي لخلق البشرية من نفس واحدة فأمة واحدة ، دون أن تعني الاستعادة تجاهل الطوارئ والمتغيرات ، وجدليات الوحدة في الكثرة، والكثرة فيالتوحيد"(5)فهدف الرسول فى دعوته بمكة تغيير وجهة الأفراد فى الإيمان برسالته من الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد ، مبينا كل الفضائل الأخلاقية التى جاء بها الإسلام ، وكل العقائد الفاعلة فى حياة الأفراد ، ولذلك كله كانت الدعوة الدينية فى بدايتها تركز على تغيير حياة الأفراد وإصلاحها.      

ومن الدعوة الفردية فى مكة انتقل الرسولصلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقام بتغيير وجهته منإصلاح الفرد إلى البحث عن سبيل لوَحدة الجماعة؛" ففي يثرب (المدينة) استطاع النبي البدء بعملية بناء جماعة المسلمين أو الأمة الوسط أو أمة الإجابة طريقاً لتحقيق الأمة الشاملة"(6)واستطاع الرسول توحيد المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وثقافتهم وعصبياتهم في جماعة واحدة وأمة واحدة ، وكانت فكرة الأمة تتجاوز "القبائل" والشعوب لكن لا تلغيها، في محاولة لبثِّ الانسجام والتناسق في شبه الجزيرة والعالم على المستويات كافة، الفكرية والسياسية والاجتماعية ، فقد حدَّد القرآن طبيعة الفهم العربي الإسلامي لأسباب قيام المجتمعات البشرية، وديناميات تماسكها واستمرارها وذلك في قوله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة: 251](7) .

وقد أسهم الدين الإسلامى في تغيير حياة العرب الاجتماعية ، يقول حسين مروّة "إن مبدأي التوحيد والقيامة اللذين دارت عليهما عقيدة الإسلام –الأساس- ينطوي وراء مفهومهما جذر اجتماعي ، فإن التوحيد يعني فى شكله الدينى وحدة الإله الخالق للكون، ثم وحدة الدين ، ولكننا نستطيع أن نلمح فى فكرة التوحيد انعكاساً قد يكون خفيا لفكرة التوحيد الاجتماعى، توحيد المجتمع القبلى المتفرق على أساس جديد ، وليكن هذا الأساس دينياً ، وإن كان مبدأ القيامة بمفهومه الديني يحمل وجود عالم آخر وراء عالمنا المادي ، فهو يحمل بصورة مباشرة وعداً للمحرومين والمظلومين اجتماعياً بأنهم سيجدون فى ذلك العالم  بديلاً عن الحرمان والظلم ، وعزاءً عن واقعهم السيء ، ويحمل مع ذلك تهديداً لظالميهم بالعذاب الأخروي ، ويتضح البعد الإجتماعي أكثر فى الشريعة الإسلامية حيث حرم التشريع الربا والاحتكار، وكثرة الذهب والفضة ، وفرض الزكاة على الدخول المادية للأغنياء"(8)وتميز الإسلام يالتداخل بين الديني والإجتماعي، وبين الدينيوالسياسي، وذلك لأن الإسلام لم يقف عند حدود إصلاح حالة الأفراد، ولكنه كدين قد إهتم أيضا بتدبير الجماعة على المستوى الاجتماعي.

         إذن،فقد أسهم الدين في تأسيس وَحدة الجماعة الإسلامية من خلال وحدة دينها واعتقادها، وكانت تلك الفكرة مقاومة لفكرة القبلية ورسخوها في شبه الجزيرة العربية، ولذا" فإن الفكرة السياسية الإسلامية عن الوحدة والتضامن في الجماعة الإسلامية كان لها تأثيرا مضادا لتأثير النزعة القبليَّة، وأصبح الدين دون النسب والجنس هو المرجع في العلاقات بين الأفراد" (9) وأسهم الدين كذلك في إحداث تغيير اجتماعي وسياسي واضح في حياة العرب؛إذْ سطر لهم النموذج الأخلاقي الذي أسهم في وَحدة الجماعة ، ولهذا رأى ابن خلدون " أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية ، ذلك أن الصبغة الدينية تذهب بالتنابذ والتحاسد في أهل العصبية، وتفرد الوجهة إلى الحق ، فإذا حصل الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شىء لأن الوجهة واحدة ، والمطلوب متساو عندهم ، وهم مستميتون عليه"(10) .

         ويمكن القول بأنه منذ بناء الرسولصلى الله عليه وسلم للجماعة المسلمة  فى المدينة حتى نهاية عهد الخلافة الراشدة كان الديني أوالروحي هو المسيِّر لحركة الزمني على المستويين الفرديوالاجتماعي ، وهو الموجِّه لهما فى التغيير،فكان الدين هو المثال والنموذج القِيَمي الحاكم في مجالات الحراك الاجتماعي والسياسي كافة " فإذا رجعنا إلى الجهة السياسية علمنا أيضا كيف أن تأثير المعتقدات كان شديدا ، والسبب في قوة الدين العظيمة كونه العامل الوحيد الذي تتوحد به وقتا ما منافع الأمة ومشاعرها وأفكارها ، فيقوم المبدأ الديني بذلك دفعة واحدة مقام غيره من العناصر التي تتكون منها روح الأمة"(11)

  وعلى الرغم من أنّ الدين قد أسهم في حركة التغيير الاجتماعي ، إلا أن التغيير الذى طرأ على الإجتماع السياسي في الحضارة الإسلامية قد أسَهم كذلك في حدوث تغييرات فى تجليات الدين نفسه في الواقع مع تطور حركة الزمني ، وبدلا من أن يصير الدين مسيِّرًا لحركة الزمني، أصبح الزمني مُشكِّلا لتجليات الروحي والديني، معًا في التاريخ، وذلك حين وظفت السياسة عقائد الدين في تجلياتها الزمنية.    فعلى الرغم من دور الدين في تغيير حركة الاجتماع البشري في الجماعة المسلمة منذ فترة مبكرة؛إذْ كانت وَحدة الدين واللغة هي الجامعة للجماعة المسلمة ، بما حَمله الدين من قيم مثالية لهذه الجماعة، ولكن حركة المجتمع ما انفكّ الصراع على السلطة يسودها منذ موقعة صفين عام (40 هـ) ، وهو ما أدى إلى الانتقال من الصـــراع على السلطة إلى الصراع على الحق ، وملكية حقيقة الدين بين الفرق الإسلامية المختلِفة، والانتقال من الخلاف السياسي إلى الخلاف حول العقيدة والدين، ومن دور الدين الإيجابي والفاعل في إحداث التغيير الاجتماعي للجماعة المسلمة إلى الآثار السلبية لتوظيف التغيير السياسي والاجتماعي للدين في مساره الزمنى، وهو ما أدى إلى إخضاع الدينى للسياسي، وتسيير الزمني لحركة الروحي .

         وحين انتقلت الخلافة من الاختيار إلى القهر والتغلب ، ومن البيعة إلى الوراثة على يد بني أمية، مما جعلهم يبحثون عن مشروعيتهم من خلال توظيف الدين ، وعقيدة القضاء والقدر في سيادة حكمهم، ففي ردّ معاوية على المعارضين لتولي يزيد ابنه الخلافة، قال لهم : " إنما هو الملك يؤتيه الله من يشاء، وأن أمر يزيد قضاء من الله ، وليس للعباد الخيرة في أمرهم"(12)  كما كان معاوية يقول عن نفسه في بعض خطبه " لو لم يرني ربي أهــلا لهذا ما تركني وإياه ، ولو كره الله ما نحن فيه لغيره، وهذا صريح الجبر ، كما كان يقول: " أنا عامل من عمّال الله؛ أعطي ما أعطى الله ، وأمنع ما منعه الله"(13).

وقد نظر الأمويون إلى أنفسهم على أنهم لابد أن يحافظوا على وحدة الجماعة المسلمة في مواجهة حركات المعارضة ضدهم ، فقاموا بتوظيف آلية التكفير لمواجهة أي معارَضة سياسية لحكمهم ، ومعلوم ما في توظيف تلك الآلية من تبعات فقهية تتضمّن تصفية المعارضين من أعلام الفرق الإسلامية الأوائل؛مثل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم ، وقَطاع من المُحكِّمة (الخوارج)، والشيعة، وغيرهم ، وكانوا يبررون ذلك بتكفير المخالفين، ورميهم بالزندقة والخروج عن الإسلام، في حين أن القراءة الواعية النقدية للتاريخ تشهد أن خروج أولئك لم يكن دينياً بل كان سياسياً فيما يشبه الثورات على حكم بني أمية وليست خروجًا عن الدين.

وحين تسنّم العباسيون ذروة الحكم والخلافة، حدث امتزاج للأجناس والألوان والثقافات، ولا سيما في العهد العباسي الأول، فعمل العباسيون على تعظيم شأن الخلافة في نفوس الناس"وهذا ما دعاهم إلى صبغ الخلافة بالصبغة الدينية، وأقام الخليفة مقام الحامي للدين ، الزائد عن حياضه ، فالسلطان ظل الله في الأرض ، ومنه يتلقى كلمة سلطان ، ونري هذا واضحاً في الدولة العباسية أكثر من الدولة الأموية،" فلا نرى في الدولة الأموية قاضياً اتصل دينياً وسياسياً بالخليفة ، كما اتصل أبو يوسف الرشيد، فاصطبغ الخليفة العباسي بالصبغة الروحية ، وكان من مظاهر ذلك ما أحاطة بالبيعة من مظاهر قدسية ، ومن ثم لما ضعفت سلطتهم ، وغلبهم الأمراء والولاة – خاصة في العصر العباسي الثاني – ظل الناس على أمرهم لهم الحرمة الدينية عليهم"(14) .

وحدثفى الدولة العباسية تغيير اجتماعي كبير؛فقد امتزجت فيها الأجناس والثقافات والأديان ، مما جعل هذه الدولة تُخضعالدين لها مباشرة ، واتخذت من نفسها معبراً عن الشأن الروحي، ولهذا يمكن أن نصف خلافة بين العباسي بأنها " سيادة الدولة على الدين، وقد استعملوا من يطارد الزنادقة ، وأنشأوا نظاماً في امتحان عقائد الناس وذلك بقصد تعقب الزنادقة" (15) وأخذوا يبررون وجودهم في الخلافة تبريراً دينياً يتمحور حول دفاعهم عن الإسلام، وإحيائهم السنة النبوية وتدوينها، والاهتمام بالفقه والشريعة، واستفتائهم الفقهاء في كل شيء؛ لأنهم كانوا حريصين على وضع المشكلات السياسية في ثوب فقهي ، فهُمالذين يحَكمون وفقا للكتاب والسنة!

         ونحن – إذن -  أمام علاقة جدلية بين الدين بقيمة وتشريعاته ومُثله التي جاء بها من أجل وَحدة الجماعة المسلمة، وبين تغيير حركة الاجتماع البشري، فقد يكون الدين أحيانًا موجَّها لحركة الاجتماع ومحدِثا التغيير الإيجابي فيه كما كان في عهد الرسول والخلافة الراشدة ، وقد يكون للاجتماع السياسي، في أحيان أخرى، دوره في تغيير تجليات الدين في حركة الواقع، بما يعني سيطرة الزمني على الروحي ابتداءً من خلافة بني أمية (41 هـ/ 662 م) حتى سقوط الخلافة العثمانية (1342 هـ/1924 م)، ومن ثم فإن علاقة الدين بالتغيير الإجتماعي هى علاقة متداخلة، فكلاهما يؤثر فى تشكلات الآخر فى الواقع، فقد يسيطر الدين وتكون له اليد الطولى فى التغيير الإجتماعي، وبالمقابل فقد تسيطر حركة التغيير الإجتماعي والسياسي، فيتم تسخير الدين من أجل أغراض هذا التغيير، فيوظَّف الدين وعقائده من أجل تحقيق الضبط الاجتماعي والمشروعية السياسية .

 

2

   وعلى الرغم من دور التغيير الاجتماعى فى تشكلات الوحي فى التاريخ،إلا أن الدين يظل هو الثابت الذي يُحتكَم إليه في تسيير حركة الاجتماع البشري فى التجربة الإسلامية متى انحرفتهذه الحركة فى التغيير عن قيم الدين ومُثله وتشريعاته ، وهنا تبرز أهمية مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة الجماعة المسلمة ، وذلك لأنه يربط بين الدين والممارسات البشرية فى الواقع ،وقد" تأسس هذا المبدأفيالقرآنوالسنة ، وتعد الآية الكريمة "وَلْتَكُن مِّنكُم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران: 104] هي نقطة البَدْء في بيان هذا المبدأ ، ومن ثم الوظيفة التي يمثل جوهرها القيمي ، وهي ذات جانبين ، أولهما الدعوة إلى الخير ، وثانيهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى تمثّل ضابطا للثانية ، إذْ إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطان بالوصول إلى الخير والحق ، ودفع المفسدة في إطار الشرع" (16)، وفي الحديث أن أبا بكر – رضي الله عنه –قال:سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول:"ما مِن قوم عملوا بالمعاصي، وفيهم مَن يقدر على أن يُنكر عليهم، فلم يفعل، إلا يوشك أن يَعمَّهم الله بعذاب من عنده" [رواه البخاري وأصحاب السنن]، وقال أيضا: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" (17)

ويذهب الزمخشرى فى قوله" (ولتكن منكم أمة) بأن هذا المعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، لأنه لايصلح له إلا من علم المعروف ونهى عن المنكر ، وعرف كيف يرتب الأمر فى إقامته وكيف يباشره ، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، قد يغلظ فى موضع اللين ، ويلين فى موضع الغلظة ،وينكر على من لايزيد إنكاره إلا تمادياً، أو على من الإنكار عليه عبث " (18)

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من العمل على تطبيق الإسلام من قبل المسلمين داخل الحياة الإسلامية ، وحمل المسلمين على السير في طريق الإسلام من غير التواء أو انحراف، ولذلك كان القائمون على أمره يعيشون داخل الحياة الإسلامية يلتمسون مواطن القوة فيدعمونها، ومواطن الضعف والخطأ فيغيرونها فهم حُرّاس العقيدة والتطبيق الإسلامي في الداخل (19) ومن الواضح أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مبدأ نظامي للجماعة الإسلامية من أجل الحفاظ على النموذج المثالي للإسلام كدين ، ودوره في حركة التغيير الاجتماعي، بل ودوره الضابط أيضا لحركة الاجتماع البشري " ولا شك أن هذا المبدأ يتّسع ليشمل أمور الدين كلها ، لذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصطلحان شرعيان ، فالمعروف هو كل قول أو فعل ينبغي قوله، أو فعله طبقا لنصوص الشريعة الإسلامية أو مبادئها العامة أو رُوحها، والمنكر هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء وقعت من مكلف أو غير مكلف، ولذا يعرفه الفقهاء بأنه كل محذور في الشرع، ويفضّلونه على التعبير بالمعصية لأن المنكر عندهم أعم من المعصية " (20)

ومن ثم بات المعروف هو ما تعرفه الشريعة، وتستحسنه العقيدة، والمنكر هو ما تنكره الشريعة وتسهجنه، ومع ذلك لو كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه ضرر سيحدث أكبر من المصلحة فإن ذلك لايجوز لأن" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أوالمستحبات ، لابد أن تكون المصلحة فيه راجحة على المفسدة ، إذ بهذا بُعثت الرسل ، ونزلت الكتب ، والله لايحب الفساد ، بل كل ما أمر الله به هو الصلاح ، وقد أثنى على الصلاح والمصلحين ، والذين أمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين فى غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر به الله ، وإن كان قد ترك واجب، وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقى الله فى عباده ، وليس عليهم هداهم (21)

         ومن خلال هذا المبدأ تم التنظير له في مجالات العقائد والفقه والتصوف، وتم النظر إلى هذا المبدأ على أنه متصل ببناء الدولة ومسألة الإمامة، يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي:" وقد اتصل بباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكلام في الإمامة، ووجه اتصاله بهذا الباب أن أكثر ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقوم بها إلا الأئمة" (22)ولكن هذا لا يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاصرٌ على الأئمة فهو فرض كفاية على جميع الأمة، قد يقوم به بعض الأفراد فيسقط عن البعض الآخر، وقد يقوم به الأئمة والولاة وأولى الأمر، والهدف منه مقاومة الفساد والظلم والبعد عن النموذج القيمى فى الدين.

         وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يكون حقا لأي فرد من أفراد الأمة ، فإن الدولة في الإسلام قد أقامت مؤسسة الحِسبة لتطبيق المبدأ من خلال مؤسسات الدولة الإسلامية" فإنشاء وظيفة الحسبة لتقوم بأداء هذه الفريضة في صورة رسمية نيابة عن الدولة، وهي وظيفة هامة ابتكرها الإسلام ، فالحسبة معاونة للقضاء ، وهي تسهر على تنفيذ القوانين فيما يتصل بالمصالح والآداب العامة، يعمل على حماية الجمهور ممن يحاولون غشة أو استغلاله ، وتحسم أسباب كثيرة للشر"(23) ويعرفها ابن خلدون فيقول " أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين من يراه أهلاً له، فيتعين فرضه عليه ، ويتخذ الأعوان على ذلك ، ويبحث عن المنكرات، ويعزز ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالحالعامة"(24).

ويضع الإمام الغزالي شروطا لتولي منصب المحتسِب فيقول :" إن شروط المحتسب أن يكون مكلفا مسلما قادرا ، ويشترط فيه المقدرة والإيمان ، فلا يخفي وجه اشتراطه لأن هذا نصرة للدين فكيف يكون من أهلهمن هو جاحد لأصل الدين وعدوله ، وأما الشرط الثالث وهو العدالة فقد اعتبرها قوم، وقالوا ليس للفاسق أن يحتسب ، وربما استدلوا بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله، والشرط الرابع أن يكون مأذونا من جهة الإمام والوالي فقد شرط قوم هذا الشرط ، ولم يشرطوا لآحاد من الرعية الحسبة"(25).

ويميز الفقه السياسي الإسلامي بين المحتسِب والمتطوع بإعتبار أن الحِسبة وظيفة في الدولة الإسلامية من شأنها تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول الماوردي مفرّقًا بين المحتسب والمتطوِّع :" إن تطبيق المبدأ فرض عين على المحتسب وفرض كفاية على غيره ، قيام المحتسب من حقوق تصرفه التي لا ينبغي أن ينشغل بها ولكن المتطوع يقوم بها من نوافل عمله ، وإن المحتسِب منصوب إليه للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره ، وليس المتطوع منصوبا للاستعداء ، وعلى المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوع ،وعلى المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها ، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته وليس على المتطوع بحث ولا فحص، للمحتسب أن يتخذ على إنكاره أعواناً لأنه عمل منصوب إليه، وإليه مندوب ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس على المتطوع أن يندب أعواناً، وللمحتسب أن يعزز في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز إلى الحدود ، وليس للمتطوع أن يعزز على منكر، وللمحتسب أن يرتزق على حسبته من بيت المال ولا يجوز للمتطوع أن يرتزق ، وللمحتسب الاجتهاد برأيه فيما يتعلق بالعرف دون الشرع كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة فيه ، فيقرر وينكر من ذلك ما أداه اجتهاده إليه ، وليس هذا للمتطوع" (26)

         وميَّزت كتب الفقه السياسي بين الحسبة والقضاء ، فهي تمنح الحسبة ميزة على القضاء " بأن الحسبة يجوز للناظر فيها أن يتعرض لتصفح ما يأمر به من المعروف ، وما ينهي عنه من المنكر، إن لم يحضره خصم مستعد ، وليس للقاضي أن يتعرض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى فيه ، فإن تعرض القاضي لذلك خرج من منصب ولايته ، وصار متجوزاً في قاعدة نظره ،والثاني : أن للناظر في الحسبة من سلاطة السلطنة واستطالة الحماة فيما تعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة ، لأن الحسبة موضوعة للرهبة ، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزا فيها وخرقا ، والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أحق، وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرقا"(27) .

         وتسعى مؤسسة الحسبة دوماً إلى مواجهة انحراف المجتمع إلى التغيير فى اتجاه الفساد، والبُعد عن تعاليم الدين، فهي تهدف إلى تحقيق الصورة المثالية للدين في واقع المسلمين الاجتماعي وممارستهم، ويرى الغزالي أن للحسبة ثماني درجات

" 1- التعرف والمقصود وطلب المعرفة يجريان المنكر

2- التعريف: فإن المنكر قد يقوم عليه المقدم بجهله، وإذا عرف أنه منكر تركه مثل من يصلى ولا يحسن الركوع والسجود بجهله.

3- الوعظ والنصح والتخويف بالله.

4- السب والتعنيف والقول الغليظ .

5- التغيير باليد ككسر الملاهي أو إراقة الخمر وغيرهما.

6- التهديد والتخويف كقوله دع عنك هذا وإلا لأكسرن رأسك

7- مباشرة الضرب باليد والرجل

8- حشد الأعوان، وهذا لا يحتاج إليه بنفسه فيحتاج إلى الأعوان لكي يشهروا السلاح ، وربما يستمد الفاسق أعوانناً ، ويؤدي إلى تقابل ويتقابلان، وقال البعض لا يستقل بذل آحاد الرعية لأن في ذلك تحريكالفتن وخراب البلاد، ولهذا شرط البعض إذن الإمام ، وقيل البعض الآخر ليس في حاجة إلى إذن الإمام"(28).

         ولا شك أن تأسيس الدولة الإسلامية لمؤسسة الحسبة وذلك لأنها لا ترغب في جعل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في يد الأفراد بلا ضابط ولا رابط ، كما أن الدولة الإسلامية عبر تاريخها إنما أرست هذا المبدأ لأن وظيفة الإمامة فيها هي خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، ولهذا كان للدولة ممثلة في الخلافةووظيفتها الدينية المنوطة بها، ولذاسعت الدولة من خلال ممارستها تلك في توظيف الفقه في ضبط حركة الاجتماع السياسي، وضبط حركة الأفراد وفقا لأفق الدين الذي يحافظ على وحدة الجماعة المسلمة من التفكك والفساد، ومن ثم بدا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سعي نحو تحقيق الدولة الإسلامية لمُثل الوحي في الممارسة البشرية في تنظيم شئون الدولة وضبط حركة الإجتماع .

         ونظرت كتب الفقه السياسي حول الحسبة التى تتحدد في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فى أن النهي بالمعروف منه ما يتعلق بحقوق الله تعالى: وهو ما يختص بإقامة الصلوات وصلاة الجمعة، والزكاة وغيرها من أمور العبادة، ومن ما يتعلق بحقوق الأدميين، ومنه عام : مثل البلد إذا تعطل شربه، أواستهدم سوره، وأركان يطرقه بنو السبيل من ذوي الحاجات فليكفوا عن معاونتهم وعمارة المساجد وغيرهم ، وأما الخاص: كالحقوق إذا بطلت والديون إذا أخذت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج مع المكنه إذا استعداه أصحاب الحقوق، وليس له أن يحبس بها لأن الحبس حكم، وليس له أن يلازم عليها ، وغيرها مما يتعلق بحياة الأفراد"(29) .

         وقد قسَّم الماوردي النهي عن المنكر في مسألة الحسبة بأن فيه ما يتعلق بحقوق الله كالعبادات مثل الصلاة والصيام والزكاة ، ومنها ما يتعلق بالمحظورات مثل وقوف رجل أو امرأة في خلوة طريقة ريبة فينكرها ، ومواجهة السكران والمجاهدة بإظهار النبيذ وغيره ، وأما مالم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس، وأما من المعاملات المنكرة كالشراء والبيوع الفاسدة، وما منع الشرع منه مع تراضي المتعاقدين به ، فإذا كان متفقا على حظره فعلي إلى الحسبة إنكاره والمنع فيه ، والزجر عليه ، ويقع في هذا غش المعاملات ، وتدليس الأثمان فينكره ويؤدب عليه بحسب الحال ، وأما ماينكره من حقوق الأدميين المحضة ، مثل أن يتعدى رجل في حد لجاره ، أو حريم داره ، أو في وضع بنيان على جذره فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار عليه، لأنه حق يخصه يصح منه العفو والمطالبة به، وأما ما هو مشترك بين حقوق الله وحقوق الآدميين ، ومنها المنع من الإشراف على منازل الناس ، ولا يلزم من علا بناؤه وأن يستر سطحه ، وإنما يلزم ألا يشرف على غيره ، ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهن على أبنية المسلمين فإن ملكوا أبنية عالية أقروا عليها ، ومنعوا من الإشراف على المسلمين ، وأهل الذمة بما شرط عليهم في ذمتهم من لبس الغيار، والمخالفة في الهيئة ، وترك المجاهرة بقولهم في العزيز والمسيح ، ويمنع عنهم من تعرض لهم من المسلمين بسب أو أذي ، ويؤدب عليه من خالف فيه ، وإذا كان في أئمة المسلمين من يطيل الصلاة حتى يعجز الضعفاء، وينقطع بها ذوي الحاجات أنكر ذلك عليه ، وكذلك التحذير من استعمال العبيد فيما لا يطيق ،وعدم استعمال المواشي أيضاً فيما لا تطيق.(30).

 

-3-

وإذا كان الفقه السياسي الإسلامي عني بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأداة لإصلاح المجتمع من الناحية الدينية ، فإن الدولة الإسلامية قد وضعت الحسبة كجزء من بنائهالتحافظ على القيم الإسلامية ، وتسعى إلى تطبيقها باعتبارها حامية الدين ، وأنها تسوس الدنيا بشريعة الدين من خلال القضاء حينا من الوقت،ومن خلال الحسبة وقوانينها حينا آخر، ولكن بالمقابل ظهر الصوفية فى فترة مبكرة من تاريخ الإسلام في خضمّ الصراع بين علي ومعاوية ، والانشقاق الذي حدث في الجماعة المسلمة ، واقتتال المسلمين بعضهم بعضا، ثم تكالب الناس على ملذات الحياة، فظهر التصوف ليبحث عن خلاص النفس الإنسانية بصورة فردية ، لأن الصوفي يبحث في ممارسة حقيقة الدين بصورة ذاتية ، فالمتصوفة نظروا كيف في يكون الدين طريقا لإصلاح حياة الأفراد في المقام الأول ، وليس طريقا لتدبير الجماعة المسلمة ، وذلك " لأن الصوفي ينظر إلى الأشياء بعين الحقيقة ، بينما النهي عن المنكر من أبواب الشريعة"(31)ولقد عدّ الصوفية أنفسهم حماة الدين بمعناه الحقيقى –لا الظاهرى – فوضعوا حدودا لأحكام الباطن وأعمال القلوب  وعدُّوا ذلك جزءًمن الدين ، بل عدّوه الفقه الحقيقى فى الدين ، ذلك لأنهم اعتبروا الدين معاملة شخصية بين العبدوربه، وقاسوا طاعة العبد لابمطابقة فعله لأحكام ظاهر الشرع فحسب ، بل بمطابقته لروح الشرع وحقيقته أيضا ، وبمقدار ماينطوى عليه الفعل من إخلاص وبعد عن الرياء(32).

وأراد الصوفية أن يكون للدين دورٌ فعَّال في حياة الأفراد ، " ولذا ثار الصوفيون على الفقهاء " لأنهم أدركوا أن الدين أصبح في عرف الفقهاء جملة رسوم وأوضاع لا حياة ، ولا رُوحانية فيها ، وهذه الرسوم والأوضاع إن أرضت ظاهرة الشرع ، وأشبعت عقول المشرعين المفتونة بتقعيد القواعد وتعميم القوانين ، حتى ولو أدى ذلك إلى اصطناع الحيل والمخارج غير المعقولة ، لم تكن لترضي باطن الشرع ، ولا تشبع العاطفة الدينية عند الصوفية"(33) ولذا فإن طريقة الفقهاء كأهل للظاهر والرسوم لم تكن لتشبع توجُّه الصوفية نحو الباطن والحقيقة ، ودور الدين الفاعل في حياة الأفراد ، ومدى أهمية الدين فى تشكيل ذات الفرد ووعيه وضميره ، فى حين أن الفقه يهتم بأعمال الجوارح وهي العبادات كالصلاة والصوم والحج والمعاملات مثل الحدود والزواج والطلاق ، والعتق ، والبيع ، وكل هذه الأعمال من المهم أن يقع فيها تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد أناطت الصوفية دوراللدين مغايراً لمسار الفقه له ، فقد ركزت على دور الدين في التجربة الدينية الشخصية وفي تغيير مسارالروحى لحياة الإنسان الفرد ، ولم يكن الصوفية ليهتموا كثيرا بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم رأوا أن " مناط التكليف عندهم هو القلب لا الجوارح ، وخلاص العبد في إخلاص نيتة لا في القيام بالعمل" (34) .

وبالتالى فإن الصوفية في توجهها نحو دور الدين في التغيير لم تتفق مع مسار الفقه في التركيز على دور الدين في تدبير الجماعة ، ولامع مسار السياسة في توظيف الدين في ضبط حركة الاجتماع فمن "  الواضح أن الصوفية لم يكونوا مجموعة كالفرق ومذاهب الفقه ، ويمكن اعتبارها بالأحرى شكلاً من التدين لا يحتل فيه الشريعة ولا السياسة المرتبطة بالدين مركز الصدارة ، ويمكن أن يأخذ التصوف أشكالاً شتى من الزهد المقترن بالإكثار من العبادات إلى اتجاه روحاني لا يقيم للعبادات الظاهرة وزناً ، ولافى السياسة من نزعة موادعة إلى أشد أشكال المعارضة للحكم ، لكن لا يشكل أي من المجالين – الشريعة والسياسة – حيث النهي عن المنكر جزء مهم وعنصر أساسي في التصوف في حد ذاته.(35)

إن توجُّه الصوفية نحو داخل الذات الفردية للإنسان بحثا عن تغييرها جعل للصوفية مواقف تعارض النهي عن المنكر شيئا ما، فمثلايُعدِّد "التستري" حالات يحذر فيها منه: إياكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ جار السلطان، وارتشى القضاة، ووطأ العلماء السلطان، ... وهلم جرا ، وذهب ابن عريف (ت 536) الصوفي الأندلسي من رأي منكم منكرا بينا فعليه بخاصة نفسه ، فإنما يجب تغيير المنكر على السلطان بالشرط وأمثالهم ، وعلى العلماء بالنصح والتعريف، وعلى الأصحاب بالرفق والمناصحة"(36).

ولقد اشترط الصوفية ضرورة التركيز على نوايا الناهي في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون خالصة لوجه ، ولهذا من الضروري " سبر نفسية الناهي عن المنكر طبقاً لفريق سلكها الزهاد في مراقبة النفس ، فقد يكون النهي عن المنكر نابعاً من حب الآخرين ، وإيثارهم على النفس ، لكن قد يتحول كذلك إلى كبر وعجب ورياء، ولذا من شروط النهي أن الصوفية يضيفون أنه يجب أن يكون مجرداً من أي غرض ، فإن لم يخل من الأغراض لا ينبغي النهي"(37).

وقد رأي ابن عربي (ت 638) " بأن الذين يأمرون بالمعروف هم جماعة عالمون عاملون عارفون أولي استقامة كأشياخ الطريقة فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة لم يكن له مقام الدعوة ،ولا مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن غير الموحِّد ربما يدعو إلى طاعة غير الله، وغير المستقيم في الدين إن كان موحدا ربما أمر بما هو معروف عنده منكر في الأمر نفسه ، وربما نهي عما هو منكر عنده معروف في الأمر نفسه ، وإنما ذلك لمن بلغ مقام الجمع ، واحتجب بالحق عن الخلق  "(38) ومن الملاحظ أن ابن عربي يعترف هنا بأهمية دور الصوفية في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط ضرورية من المهم تحقّقها، وهي أن يكون عالما عاملا موحدًا مستقيمًا، وهو يخصُّ أهل الصوفية بدور كبير في هذه المسألة أو شيوخ الطريقة على اختلاف مشاربهم.

وعلى الرغم من تركيز التصوف على إصلاح المجال الفردي للشخص في المقام الأول، فإن التصوف كان يتميز بأنه يمكن أن يغيِّر المنكر بالحال، وبالتالي " فيتصل بإسهام الصوفية في مطلب النهي عن المنكر بمجال أقوى أثرا في الورع ، وهو كذلك خاص بهم لا ينازعهم فيه أحدٌ ، والفكرة بأن في وسعهم استخدام قواهم الروحية لتغيير المنكرات بنحو يسمح بتحاشي أساليب التغيير باليد ، واللسان غير المضمونة التأثير ، ولا المأمونة العاقبة ، والتي هي نصيب العامة من الناس ذلك ما يدعو إليه القادري زين الدين الصالحي في إنكار المنكر بالحال ، وقال القرشي أحد الأولياء بالديار المصرية : إنكار المنكر بالباطن من حيث الحال أتمُّ من إنكاره بالظاهر من حيث القال ، وقد دمجه الصوفي المصري إبراهيم المتبولي (ت877هـ) بنسق قديم؛ إذ أعطى تقسيم العمل الثلاثى صيغة صوفية ، كان يقول تغيير المنكر للولاة باليد الذين إذا ضربوا العاصي لا يقدر على دربهم ، وتغيير باللسان للعلماء العاملين ،أما تغييره بالقلب فللعارفين الذين يمنعهم استصغار أنفسهم من الإنكار على غيرهم فيتوجه أحدهم بقلبه إلى الله تعالى في إزالة المنكر من ذلك المكان فيزول بقدرة الله عز وجل، فهذا التغيير حقيقة، أما إنكار العامي في قلبه فليس بتغيير للمنكر" (39) .

ومما سبق نلاحظ أن ثمة ميلًالدى المتصوفة إلى عدم الاهتمام بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أغلب الأحيان ، لأنهم قد ركزوا على أهمية دور الدين في تغيير المجال الشخصي للفرد ، وإن تكُن طافة منهم قد اهتمت بالمسألة، فهذا لم يكن سمة غالبة على أكثرهم ، ومن جانب آخر فإن الصوفية امتازوا عن غيرهم في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باستخدام قواهم الروحية أو ما يُعرَف "بكرامتهم" في مسألة إزالة المنكر، وهذا أمر قد استخدمه بعض كبار الصوفية في مواجهة المنكر وإزالته، وهو أمر قاصر على أصحاب الأحوال والمقامات دون فيرهم.

-4-

ويمكن إجمال أهم نتائج الدراسة فى النقاط التالية :-

1- كان للدين تأثيره الكبير فى تعيير حياة الفرد والمجتمع منذ بواكير التجربة الإسلامية ، فكان له الأثر الكبير فى الجوانب الإيمانية فى حياة الفرد ، كما أرسى منظومة القيم الأخلاقية التي كان لها تأثير كبير فى حياة الفرد والجماعة ، وقد مثلت هذه المنظومة  المُثل التي يسعى المجتمع إلى تحققها عبر مسار حركة التاريخ وكان الدين هو مناط الوَحدة للجماعة المسلمة، التي تستقي منه عقائدها وتشريعاتها.

 2- بقدر ماكان للدين آثره الكبير فى إحداث تغيير فى حركة المجتمع ، بقدر ما أدى التغيير الاجتماعي والسياسي دوره البارز فى تجليات الدين فى التاريخ ، من خلال تعدد أشكال التدين فى الواقع ، ومن خلال التوظيف السياسي والاجتماعي للدين فى عمليات التغيير، وهو ماكان له بعض الأثر السلبي على الدين وتطوره فى حركة الإجتماع البشري.

 3- كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من المبادئ الشرعية التى كان المسلمون يسعون إلى تطبيقها فى الواقع؛ حتى يقربون الفجوة بين الواقع والمثال الديني، متى حدث فساد فى الواقع أو انحرف عن المسار الشرعي الذى أوجده الدين بقوة فى حياة المسلمين

 4-  أنشئت مؤسسة الحسبة فى الدولة الإسلامية حتى يتم تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتم التنظير لعملها فى الفقه السياسي الإسلامي، وقد استخدمت هذه المؤسسة ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى إطار مؤسسات الدولة الرسمية ، وليكون لتطبيق هذا المبدأ دور بارز فى ضبط حركة المجتمع وفقا لتعاليم الدين والشريعة.

5- اتجه التصوف الإسلامي وجهة مخالفة عن الفقه حين لم يمنح مثل الفقه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكانة مركزية فيه، لأن التصوف قد عني بالأساس بدور الدين بتغيير حياة الفرد الداخلية وتطهير نفسه من الأمراض، ولذا كان النزوع الفردي لدى التصوف يغلب على التوجه الجماعي لدى الفقه  وكان سعي التصوف لإصلاح باطن الفرد أكبر من التوجه للطقوس والتعاليم الفقهية، ولذا فإن التصوف كان يرى أن عملية الإصلاح تبدأ من داخل الفرد وليس من مجرد تطبيق الطقوس والتعاليم التى تخص الجماعة المسلمة ، وبناءً على ذلك فقد توارى مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لدى المتصوفة لصالح إصلاح باطن الفرد. 

المراجع

  1. محمد عبد الله دراز ، الدين ، طبعة إلكترونية لمؤسسة هنداري، القاهرة ، 2014 ، ص 31.
  2. المرجع نفسه ، ص 33 ، 34 .
  3. عزت السيد أحمد ، القيم بين التغير والتغيير ، المفاهيم ، الخصائص ، الآليات ، مجلة جامعة دمشق ، رقم 27 ، العدد 1 ، 3 ، 2011  ، ص 611.
  4. المرجع نفسه ، ص 611-612.
  5. رضوان السيد ، الأمة ، والجماعة والسلطة ، دار إقرأ للنشر والتوزيع ، ط2 ،1986، ص37-38
  6. المرجع نفسه ص53.
  7. المرجع نفسه ص 152.
  8. حسين مروة ، النزعات المادية فى الفلسفة العربية الإسلامية ، دار الفارابى ، بيروت ،ط6 1986، ج1ص380-381.
  9. يوليوس فلهوزن، تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة العربية ، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، المشروع القومي للترجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، مصر 2005 ، ص 204.
  10.  ابن خلدون (عبد الرحمن) ، المقدمة ، تحقيق على عبد الواحد وافي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، جـ 2 ، ص 503.
  11. جوستاف لوبون، سر تطور الأمم ، ترجمة أحمد فتحى زعلول ، مشروع الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ،2006 ، ص 158.
  12. ابن قتيبة (أبو عبد الله)  الإمامة والسياسة ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، بدون تاريخ ، ص 183.
  13. ابن المرتضي (أحمد بن يحيي) المنية والأمل في شرح الملل والنحل ، تحقيق محمد جواد  مشكور ، المؤسسة الثقافية ، بدون تاريخ ، ص 87.
  14. أحمد أمين ، ضحى الإسلام الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997 ، جـ2 ، ص 49.
  15. فلهوزن ، تاريخ الدولة العربية ، ص 533.
  16. حامد عبد الماجد القويسني ، الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية ، دار التوزيع والنشر الإسلامية ، القاهرة ، 1992 ، ص 318-319.
  17. المرجع نفسه ص 320.
  18. أحمد  أمين ، ضحى الإسلام ج3 ص66
  19. حامد عبد الماجد القويسنى ، الوظيفة العقيدة للدولة الإسلامية ، ص 336 .
  20. المرجع نفسه ص 319.
  21. ابن تيمية ، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، تحقيق صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد ،بيروت ، ط1 1976ص17.
  22. القاضى عبد الجبار ، شرح الأصول الخمسة ، تحقيق عبد الكريم عثمان ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ،2009 ص 497.
  23. ضياء الدين الريس ،النظريات السياسية الإسلامية ، دار المعارف ، القاهرة ، 1969 ، ص 274.
  24. المرجع نفسه ، ص 274.
  25. الغزالي (أبو حامد) إحياء علوم الدين ، دار البيان العربي ، القاهرة جـ 2 ، ص 27.
  26. الماوردي (أبو الحسن) ، الأحكام السلطانية تحقيق عماد البارودي ، المكتبة التوفيقية القاهرة ، بدون ، ص 406، 407 وأيضاً الفراء (أبو يعلى)
                    الأحكام السلطانية تحقيق محمد حامد الفقي ، دار الكتب العلمية ، بيروت 1983 ، ص 284-285.
  27. الماوردي ، الأحكام السلطانية ص 406 ، والفراء الأحكام السلطانية ، ص 286.
  28. مايكل كوك، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي ، ترجمة رضوان السيد ، وعبد الرحمن السالمي، وعمار الجلاصى، الشبكة
                    العربية للأبحاث والنشر، بيروت لبنان ط 2 ، 2013 ، ص 622.
  29. الماوردي ، الأحكام السلطانية ص 413-415 ، والفراء ، الأحكام السلطانية ص 289-291.
  30. الماوردى ، المرجع نفسه ص 430 وما بعدها ، الفراء ، الأحكام السلطانية ص 303.
  31. مايكل كوك ، المرجع السابق ، ص 656.
  32. أبو العلا عفيفي ، التصوف الثورة الروحية في الإسلام ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2013 ، ص 123.
  33. المرجع نفسه ، ص 118.
  34. المرجع نفسه ، ص 126-127.
  35. مايكل كوك ، المرجع السابق ، ص 646-647.
  36. المرجع نفسه ص 654.
  37. المرجع نفسه ، ص 649-650.
  38. المرجع نفسه ، ص 655.
  39. المرجع نفسه ، ص 651-652.

أخبار ذات صلة