تأريخ الكلام وتكليم التاريخ.. مقاربة معرفية للفكر الخلدوني

زينب الكلباني

ناقشَ الكاتب والباحث في الفكر الإسلامي والفلسفة الحسان شهيد بمقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- طبيعة النشأة التاريخية للعلوم الإسلامية وتفاعلاتها مع مواقع الوجود الإنساني، إلى حضور البعد العقدي في الكتابات العلمية لمفكري الإسلام؛ لذلك يكاد ينعدم وجود أحد من العلماء مجردا عن رؤية عقدية من الرؤى والاتجاهات المعروفة عبر تاريخ علم الكلام، وحتى الذين سلكوا منهم طريقا مجانبا للبحث في العلوم الأكثر ارتباطا بعلوم الشريعة كالفقه والأصول والمقاصد، ونحو ذلك يشملهم هذا الحكم، كابن خلدون مثلا، الذي اشتهر بالكتابة التاريخية والعمرانية.

مما يُوحي -كما يقول الكاتب- بعدم إمكانية إغراق البحث التاريخي في جدليات تحقيق الحكايات واقتفاء الروايات، في غياب أنفاس عقدية تفسر كتابة الأحداث وتدوينها، وقد تردد أكثر من باحث في تحديد الاتجاه الكلامي لابن خلدون، كعمر فروخ في كتابه "الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون". تأتي هذه الدراسة للنظر في مدى كلامية ابن خلدون وحدود تلازم الارتباط الكلي بتلك التصنيفات التقليدية، وللبحث في أبعاد التداخل العلمي بين علم الكلام وعلم أصول التاريخ، ثم في نطاقات الاستصحاب العقدي في دراسات ابن خلدون.

ويقوم اختيار الأنموذج الخلدوني في عرض مباحث هذا الموضوع على أساس قوته في التاريخ، وهيمنته في العلم، ووضوحه في المنهج؛ لأن الحضرمي مهد لكتابته التاريخية بمقدمة منهجية عليا في مقامها، وبين أسسها تأصيلا للمعرفة التاريخية، كاشفا فيها منهجه ومزواجا بين التاريخ لعلم الكلام، واستحضار المعرفة الكلامية وخلفيته العقدية في تلك الكتابة؛ لذلك فإن العمل على كشف أسس الموضوع وأصوله لدى ابن خلدون سيفتح لنا مجالا واسعا على طرق أبواب نماذج عملية أخرى، من الدرجة نفسها أو دونها. أولا: تاريخ الكلام وتكليم التاريخ، وهو ما سنركز عليه في مقالنا هذا، وثانيا: الاستدلال التاريخي على الكلام، أما ثالثا فتكليم التاريخ.

 

أولا: تأريخ الكلام وتكليم التاريخ

الحديث عن التكامل المعرفي بين علمي الكلام والتاريخ هو محاولة ربط علم التاريخ بالكلام من حيث مبدأي الإمداد والاستمداد بينهما. وذلك على ثلاثة مستويات: الأول: حول تأريخ الكلام، والثاني: حول الاستدلال التاريخي على الكلام، والثالث: حول تكليم التاريخ.

أ- تأريخ الكلام: المقصود بتأريخ الكلام هو عرض علم الكلام على التاريخ، وبسط مداخله الأولى، بداية من تعريفه ونشأته ومدارسه واتجاهاته، وفلسفة تطوره، وينقسم ذلك إلى ثلاثة عناصر:

1- تاريخ الدرس الكلامي:

قد لا يصل مستوى وضوح التداخل المعرفي بين علم الكلام والتاريخ إلى ذلك التقاطع والمنهجي الكبير، الذي حصل بين علم الكلام وباقي العلوم الشرعية المطلوبة بالقصد الأصلي؛ كالفقه والأصول والحديث وغيرها؛ وذلك لأسباب عدة منها: أن البداية المحتشمة لعلم التاريخ وغير المنضبطة -إلى أن استوت سفينتها على شاطئ الفكر الخلدوني خصوصا مع كتابه "المقدمة"- أجَّلت من بروز ذلك التداخل والتكامل المعرفي.

كما أنَّ علم الكلام علم مقصود ومطلوب، من حيث ارتباطه المباشر مع التمثل التعبدي في حياة الإنسان، عكس أصول التاريخ الذي لا يحوز الدرجة نفسها؛ لذلك فإن أوجه التداخل يصعب إدراكها ورسم معالمها. كذلك فإن المعرفة العقدية غالبا ما تسري بين تضاعيف الكتابات العلمية والتاريخية، إلا ما ظهر منها انتصارا لمواقف عقدية، أو تفسيرا لظواهر اجتماعية وتاريخية.

وتبدو وثاقة العلاقة بين علمي الكلام وأصول التاريخ في التفسير العقدي للأحداث والتطورات التاريخية المشروطة بالرؤية والتصور الخلدوني؛ حيث نلمس حضور البعد المذهبي في علم العقيدة بين ثنايا الكتابات الخلدونية؛ لأنه كما وقع التصنيف في علم أصول الفقه مثلا على اعتقاد المصنف؛ فلا شيء يمنع وقوعه ووروده بالأثر نفسه على الكتابة التاريخية، وهذا ما يظهر جليا في المقدمة أيضا.

كما أنَّ النبش التاريخي في قضايا علم الكلام سيكشف لا محالة عن بعض المسائل الخاضعة لتطورها؛ كقضية الإمامة مثلا، التي يطلعنا ابن خلدون كيف ارتبط تاريخها بهذا العلم؛ رغم أنها لم تكن جزءا من حين نشأته، يقول:" وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجتماعية ولا تلحق بالعقائد، فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعه علم الكلام.

2- تطور الدرس الكلامي:

جرت عادة ابن خلدون في تصنيفاته للعلوم والتأريخ لها بالبحث في ظروف نشأتها وتطور عمرانها العلمي، وهو ما قام به بخصوص علم الكلام، من حيث النظر في منظور تطور هذا العلم، والتحولات التاريخية التي عرفتها مدارسه، ولا يمكن للناظر في تاريخ علم الكلام معرفة أوجه التداخل والإضافة واللحاق لمباحث كانت أو أضيفت إلى ذلك العلم، إلا إذا كان مطلعا متبحرا فيه.

لذلك؛ كان حسن اطلاع ابن خلدون على التاريخ وعلم الكلام ونشأته الأثر الكبير في فقه أسس التفسير التاريخي لعلم الكلام. يقول -وهو يتحدث عن ظهور علم الكلام وظروف نشأته وتطوره: "وإذا تأملت حال هذا الفن في حدوثه، وكيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر، وكلهم يفرض العقائد الصحيحة، ويستنهض الحجج والأدلة؛ علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن وأنه لا يعدوه".

ثم يتابع في رصد تلك التحولات بظهور أبي الحسن الأشعري مؤسس النظرية الأشعرية، واصفا الحيثيات التاريخية التي ظهر فيها الإمام، ومبينا الأسس العلمية والمعرفية التي تقوم عليها نظريته في علم الكلام، والجوانب المعرفية المحيطة به عصره..

3- فلسفة تاريخ الدرس الكلامي:

لم يكتف ابن خلدون برصد التطور التاريخي لعلم الكلام في فصله المقتضب والجامع لمسار هذا العلم، وإنما نظر في فلسفة تاريخه والمتغيرات المعرفية التي حصلت في مبادئه ومسائله، متوقفا عند الحدود العلمية لمبادئ الكلام، والقضايا الدخيلة عليه؛ من حكمة وفلسفة، مما أدى إلى لبس طغى على أفهام الناس الذين ينشدون الحقيقة العقدية؛ من غير استصحاب الأنظار العقلية المتكفلة في البيان، يقول: "وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة، وكتبه محشوة بها كأن الغرض من موضوعها ومسائلها واحد، والتبس ذلك على الناس وهو صواب؛ لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاه من الشريعة كما نقلها السلف؛ من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه".

وختاما.. من الصَّعب تسجيل غياب البعد الكلامي في البحث التاريخي منه عند ابن خلدون أو عند غيره من العلماء؛ فإنتاجات مفكري الإسلام كانت عادة متأثرة بالرؤية العقدية؛ بل إنها كانت أحد الدوافع الأساسية في الكتابة عندهم؛ لكن الذي ينبغي تسجيله في ختام هذه الدراسات الملحوظات الأساسية الآتية:

أولا: أن النزعة الكلامية حاضرة بقوة في الكتابة التاريخية الخلدونية؛ إذ يصعب التجرد من الخلفية العقدية في الكتابات العلمية، وقد تم تصريفها لدى ابن خلدون بشكل واضح ودقيق ينسجم مع قناعاته وميولاته، وهذا ليس عيبا منهجيا؛ لأنه من الطبيعي أن يجري التصنيف على اعتقاد الكتاب والمصنفين.

ثانيا: أن لابن خلدون فلسفة تاريخية خاصة للدرس الكلامي تبدأ من تحقيق قضاياه العلمية الداخلية وفق الرؤية التاريخية، وتنتهي إلى رصد المتغيرات العلمية العارضة للمعرفة الكلامية، والمؤثرات الداخلية والخارجية التي وجهت الدرس الكلامي، وهذه القضايا كلها تبين مدى تمكن الحضرمي من المعرفة الكلامية، واستيعابه البين للفلسفة والمقاصد الغائية التي قامت عليها.

أخيرا: قد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا: إن منهج النظر الخلدوني لفلسفة العلوم الإسلامية تحديدا يمثل أنموذجا بديعا يمكن عدُّه إرشاديا "براديغما" في فقه نظرية المعرفة الإسلامية، في علاقاتها بمسألتي اتصال وانفصال العلوم أو بنظرتي الإمداد والاستمداد.

أخبار ذات صلة