نظام القيم ... وبناء الحضارات

زينب الكلبانية

عبر مختلف الحقب التاريخية تبلورت مجموعة من القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والإنسانية، التي شكلت مَعْلماً بارزا في حياة القادة وعامة الناس، وكانت تدعو إلى التسامح والمحبة والعدالة والرحمة والرأفة والإصلاح وإغاثة الملهوف واحترام المسنين وحماية المرأة والعناية بالأولاد، ورفض الظلم والتحذير من مغبته، وتنبيه الحاكم إلى أن السلطة لا تدوم لأحدٍ، على قاعدة: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك". وانتشرت مقولات وحِكَمٌ حول الغاية من دراسة التاريخ بوصفه الحاضن للحضارات الإنسانية التي هي نتاج جميع شعوب العالم.

وهذا ما ناقشه الباحث مسعود ضاهر في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" إذ تُعدُّ كتابة تاريخ الحضارات مسؤولية علمية وأخلاقية في آنٍ واحدٍ؛ فهي تتجاوز أخبار المعارك العسكرية وسرد أحداث الماضي ومعها دور الشخصيات المميزة، لتبرز القيم الأخلاقية والإنسانية التي كانت سائدة في مختلف حقب التاريخ، ودور القادة الكبار الذين احتضنوا علماء وأدباء وفنانين، وتركوا شرائع وقوانين ذات أبعاد إنسانية وروائع أدبية وفنية خالدة، فأشاد مؤرخو الحضارات بحكمة العظماء من القادة الذين أنقذوا جماعات كبيرة من الموت، وحفظوا الكثير من المخطوطات العلمية والأدبية، وحافظوا على المعابد والآثار القديمة بوصفها مِلكاً للإنسانية جمعاء.

بالمقابل، ندد المؤرخون بالحكام الظالمين الذين أحرقوا المكتبات، أو دمروا المدن، أو أتلفوا المخطوطات، أو قتلوا العلماء. هكذا بات تاريخ الحضارات سجلا حاضنا للقيم الإنسانية والأخلاقية، التي شكلت جامعا مشتركا بين الشعوب، على اختلاف أعرافهم، وأديانهم ومعتقداتهم.

تأثر تاريخ الحضارات في مرحلة الحداثة الكونية بصورة واضحة وعميقة بالاتجاهات الفلسفية التي انطلقت من أوروبا في عصر الأنوار، وحملت معها مقولات الحرية، والمساواة، والإخاء، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان والديموقراطية. فتوسعت الفروع المعرفية لتاريخ الحضارات، وتعددت مناهجه واتجاهاته، والرؤى الفلسفية لفهمه. وتضمنت النظريات الفلسفية والاجتماعية في فهم التاريخ الحضاري آراء عدد كبير ممن كتبوا في "فلسفة التاريخ". فركزت مقولاتهم النظرية على البُعد الحضاري للإنسان كقيمة بذاته، وعلى علوم الإنسان، وحق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة وفي تقرير مصيرها دون تدخل خارجي، ورفض كل أشكال الاستبداد، والظلم والقمع والهيمنة والتسلط.

ومع أن "فلسفة التاريخ" تختلف باختلاف منظّريها، وأن نظرة الفلاسفة إلى التاريخ وطرق كتابته وتحليله تختلف بين حقبة زمنية وأخرى؛ فإنها تشدد على النظم العقلانية، والأخلاقية والإنسانية. وهي شديدة الصلة بتطور تاريخ الحضارات السائدة، وما رافقها من ثورات علمية وصناعية، ومقولات فكرية وفلسفية متطورة باستمرار؛ لذا تأثرت كتابة تاريخ الحضارات على الدوام بتطور الفكر العلمي والمفاهيم الفلسفية والأخلاقية والإنسانية، التي أسهمت مجتمعة في تطور تاريخ الحضارات على المستوى العالمي بوصفه الحافظ للقيم الإنسانية عبر العصور.

تُعد حماية المجتمع الإنساني إذن الهدف الأسمى للقادة الكبار، الذين طبقوا القيم الأخلاقية والإنسانية لضمان سلامة المجتمع، وحث أفراده على احترام التقاليد والعادات الإيجابية المتوارثة. والغاية من التطبيق الصارم لنظام القيم هو ضمان سلطة قادة المجتمع على الأفراد من جهة، وإعلاء شأن القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية الجامعة؛ لمنع الفرد من التحكم بالجماعة من جهة أخرى. كما أن نظام القيم الأخلاقية يمنع الجماعة من الاعتداء على جماعات أخرى، والدخول معها في حروب إبادة، أو ممارسة التسلط والهيمنة على مناطق جغرافية متقاربة أو متداخلة.

لذا وضع المصلحون التنويرين قوانين صارمة تضبط أعمال الأفراد والجماعات، وتبقى سارية المفعول من جيلٍ إلى جيل، ولا تتغير بتغير القيادات السياسية. وهي تبرز مدى تطور الذهنيات التقليدية في تحولها إلى سلوك اجتماعي، في إطار دولة عادلة يقودها حاكم سياسي متنور، يسعى إلى الارتقاء بمجتمعه التقليدي، ونقل الجماعات القبلية أو الطائفية أو العرقية إلى رحاب الدولة العادلة، التي تعتمد القوانين العصرية، وتقيم العدالة الاجتماعية على قاعدة المواطنة التامة، والمساوة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.

ولا تستقيم أمور الأفراد والجماعات في الأنظمة العصرية إلا إذا اعتمدت نظام القيم الأخلاقية والإنسانية الشمولية، التي تربّي المواطن على الأخلاق والفضائل المكتسبة، وتؤمّن للفرد حياة أفضل، وللجماعات السكانية الأمن والاستقرار والتفاعل الإيجابي مع الثقافات الكونية. وعبر الزمن التاريخي الطويل أو الممتد تظهر الشعوب الحية قدرتها على الممانعة، والصمود ومواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها. فالحضارات الحية تشكل التاريخ الحافز والرافض للتبعية أولا، والقادر على التفاعل الحر مع الحضارات والثقافات الكونية من موقع الندية.

أما الشعوب العاجزة عن الحوار المتكافئ فتفقد قدرتها على حماية حضاراتها أو التفاعل الإيجابي معها. فتسارع شعوب أخرى إلى استيعاب منجزات تلك الحضارة؛ لتدخلها في نسيج ثقافي إنساني شمولي؛ لتبدع من خلاله رافدا جديدا من روافد الحضارة الكونية. هكذا تبقى منجزات الحضارات الإنسانية حية وعصية على الزوال أو الذوبان، ومستمرة في بناء التاريخ الكوني على أساس التفاعل الإيجابي بين جميع الشعوب، على اختلاف ثقافاتهم، وأنظمتهم السياسية.

تأثرت منهجية تاريخ الحضارات كثيرا بالمدارس الاستشراقية الغربية؛ فتجاهلت حضارات الدول النامية، التي لا تزال شعوبها أسيرة القيم الدينية والأخلاقية التي تنادي بالعدالة، والمساواة، وإنصاف المظلومين، ومساعدة الفقراء والأيتام والأرامل والمسنين. علما أن مفهوم الحضارة يتضمن أفضل ما أنتجته الشعوب، وما حققته الإنسانية في مجال المعرفة، والعقل والإبداع.

وأثبت البحث العلمي أن حركة التاريخ الحضاري سيرورة مستمرة، تفسر صمود حضارات معينة في بعض الحقب التاريخية وانهيارها في مراحل أخرى، ويقدم صعود وانهيار النازية، والفاشية، ومختلف الديكتاتوريات العسكرية، والأنظمة التوتاليتارية خير برهان على غياب القيم الأخلاقية والإنسانية في الدول التي احتضنتها.

كما أنّ اعتماد الثأر أو الانتقام من الهزيمة السابقة الذي تبنته ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى قاد إلى صعودها خلال سنوات قليلة، ثم أصيبت بهزيمة ثانية أكثر تدميرا من الأولى، ما دفع قادة ألمانيا وقادة اليابان بعد هزيمة الدولتين في الحرب العالمية الثانية إلى اعتماد القيم الإنسانية والأخلاقية وليس الانتقام العسكري، فبنت كل منهما قوة ناعمة مهدت الطريق لكي تلعب دورا بارزا في التاريخ العالمي.

من نافل القول أن رؤية مؤرخي الحضارات للحروب المحلية والعالمية بصورة مقطوعة عن جذورها التاريخية، أو بتجاهل النتائج السلبية المدمرة لتلك الحروب على القوة الناعمة، التي تشكل التراث الإنساني الأصيل لدى جميع الشعوب والتي تُعد رؤية تعسفية. فلا يجوز عدّ الحروب المدمرة عملا عظيما، أو تاريخا إنسانيا يمكن الاعتزاز به. وليس من الحكمة تبجيل الانتصار العسكري، أو الاعتداد بالقوة العسكرية في حال تم توظيفها لصالح نزعة توسعية استعمارية تترك آثارا سلبية للغاية على القوى التي استخدمتها.

يكفي التذكير بالآثار السلبية لحروب نابليون الأوروبية على فرنسا أولا، وحروب هتلر على ألمانيا، وأثر احتلال اليابان لدول الجوار الآسيوية على الشعب الياباني، والنتائج الكارثية – البشرية منها والمادية – للحربين العالميتين على الشعوب الأوروبية.

على جانبٍ أخر، تقدّم دراسة التاريخ العالمي في مرحلة الاستقلال السياسي نموذجا ساطعا لدور المقولات الحضارية في بلورة الأسئلة الكبرى لبناء التاريخ الإنساني. فقد ركّزت على الجوانب الثقافية والمعرفية والتحررية والأخلاقية والإنسانية لفهم التاريخ الحضاري بعيدا عن مقولات الغرب الاستشرافية، وشدد مؤرخو الحضارات على ضرورة تعزيز الانتماء الإنساني في دولة عادلة، تسعى للحفاظ على الهوية الوطنية كشرط أساسي للحفاظ على التعددية والتنوع بين المكونات السكانية داخل الدولة العصرية.

 

أخبار ذات صلة