الإصلاح الديني البروتستانتي..وطأة خمسمائة عام

madai-valencia-O0dqpwAx2PE-unsplash.jpg

نص: جان بول وِيّام

بانقضاء شهر أكتوبر من العام الفائت (2017)، يكون قد مرّ على تعليق أطروحات الراهب مارتن لوثر الخمس والتسعين على أبواب كاتدرائية ويتنبيرغخمسة قرون، وهو ما مثّل بداية انشقاق هائل في الوعي الديني الأوروبي؛ فقد اِختزلت تلك الفعلة حدثاً في منتهى الرمزية، تفجّرت في أعقابه أزمة شائكة وعامة، تفاعلت آثارها إلى حدّ الإجهاز على موروث ثقافة العصور الوسطى العميقة والمتجذرة، والانفتاح على ثقافة بديلةتسير صوب الحداثة.

يثير ذلك الحدث مع حلول كلّ مئوية جديدة سلسلة من التأمّلات، تستعيد بشكل معمّق ومتطوّر صورة لوثر والإصلاح البروتستانتي بوجه عام. وبموجب ثِقل الحدث لم ينفك العديد من رجال اللاهوت والفلاسفة والمؤرخين والدارسين والساسة أيضاً -لا سيما من الأوساط الألمانية- في تقديم إسهامات توضح خطورة ذلك الحدث بمنأى عن التقييم الذي يمكن استخلاصه من أحكامهم. وبمنأى عن سلسلة المآسي التي خلّفها الحدث، حتى أُطلقعلى ذلك العهد "قرن الصراعات الدينية"، يمكن أن نستشفّ من تلك التطورات الأليمة -التي هزّت الماضي- حصول تحولات إيجابية، ما يوحي أن التخطي الأليم للانشقاقات قد تنبني على أعقابه مصالحات واعدة،بما لا يستند فحسب إلى الطرح الجدلي لفلسفة اللوثري هيغل،بل وإلى تفسيرات "البليّة النافعة" وفق الكاثوليكي أليساندرو مانزونيأيضا.

يجدذلك الموقف دعماً وسنداً في تطلّعات كلّ من البابا جوزيف راتسينغر والبابا فرانسيس ماريو برغوليو، حيث ألقى الأخير خطاباً في مدينة لود السويدية، اعترف فيه بحيازة لوثر وعياً دينياً عميقاً، "تستوقفنا تجربته"، وبمنأى عن الجرح الغائر الذي خلّفه فهو يدعونا إلى التكاتف معا لتخطّي آثاره، من خلال الالتزام بـ"تنقية ماضينا"، و"العمل من أجل حاضرنا"، بناء على "أن ما يجمعنا هو أكبر مما يفرقنا".

حري بنا أن نبيّن هنا أن عمليات إحياء ذكرى ذلك الحدث البعيد ليس معناه استدعاء هوية جامدة بعد كلّ تدابيرمتْحَفَتها؛ بل مراجعة متأنّية لذاكرة متداخلة مع الحاضر، وهي بالأحرىعملية انتقائية وتأويلية، أو لنقلْ:ممارسة هرمنوطيقية. في هذا السياق تكتسي عبارات البابا فرانسيسماريو برغوليو-"استذكار إصلاح لوثر"- وقعاًخاصًا بما يقتضيه من إضفاء واقعية على مدلولاته في الحاضر؛لأن الإصلاح "لم يخلّف انشقاقًا فحسب؛ بل تنقية أيضا".

سنحاول عرض مضامين الإصلاح البروتستانتي من خلال عنصرالوعي الديني الجديد الذي كان وراء ظهور العالم الحديثوالعلاقة التاريخية المتداخلةللوثر مع الحداثة، ثم محاولة إرساء تقارب في الإجابة عن التحدي الكبير المنجرّ عن مسألة العلمنة بالنسبة إلى الضمير الديني المعاصر، من خلال التحرك سويا-بروتستانت وكاثوليك- لإيجاد سبل جديدة للتعايش،وتفعيل مخزون التعالي التاريخي للإيمان المسيحي، في عالم يطبعه تراجع الحس الديني.

ميلاد العصور الحديثة

ليس من الضروري استعادة كافة أحداث التاريخ البروتستانتي في هذه الخلاصة، وإن كنّا نؤكد على الرهان التاريخي؛ فقد خسرت الكنيسة الغربية وحدتها، وبقيت إلى اليوم جريحة جراء انشقاق البروتستانت عن الكاثوليك. تربّى الجيل البروتستانتي الثاني مع كالفنفي فرنسا وسويسرا، لتلي ذلك نشأة الكنيسة الأنغليكانية مع هنري الثامن. لن نتطرق هنا إلى تعدد النِّحل البروتستانتية، وقد جرّت العوامل السياسية تلك الفتنة نحو الحروب الدينية، بفعل ما تم إقراره من أن كل أمير يقرّ دين رعاياه بمعزل عمّا تمليه عليه كنيسة روما (cuius regio eius religio). وبحلولعام 1598م أصدر هنري الرابع "قرار نانت" حاول من خلاله أن يرسي في فرنسا تعايشًا سلمياً بين الكاثوليك والبروتستانت، في تلك الأوضاع شهدت أوروبا تطورات ثقافية كانت حاسمة بالنسبة إلى العصور الحديثة؛ ذلك أن مختلف قضايا الحداثة قد جرى إقحامها حتى اصطبغت بطابع صراعي على مدى القرون الأربعة الأخيرة. وفي ظلّ هذا التداخل الوثيق ينبغي أن نميز بين مختلف أنواع الحداثة: الحداثة العلمية التي بدأت مع نيوتن وقانون الجاذبية الكوني مروراًبأنشتاين، والحداثة السياسية التي عبَرت بالبشرية من سلطة الأمير الكاريزمية، الذي يستلهم شرعيته من مرجعية علوية إلى مبدأ الديمقراطية المعقلن. وكذلك ينبغي أن نميز الثورة الثقافية، المتعلقة بعصر الأنوار في فرنسا والأفكلارونغ (الاستنارة) في ألمانيا، والتي جرّت إلى علمنة الفكروعقلنة المعايير وتجاوز موضوع السلطة المهمينة، وبالنهاية الحداثة الصناعية والتكنولوجية التي عبَرت بالإنسان إلى ضفاف عصر الآلة. كانت هذه المحطات الأربع للحداثة بمثابة الثورات التي هزّت مفهوم الإيمانبعمق ولا زالت، والتي لم يغب الإصلاح عن لعب دور فيها.

ذلك أن ما يميّز انطلاق حدث تاريخيليس طابع القطيعة مقارنة بالماضي فقط؛ بل والطاقة الهائلة التي يمكن أن يختزنها أيضا، فضلا ًعن الحمولة المعنوية المقدَّر لها الانتشار عبر الزمن. يبدو هذا الاستهلال ضرورياً قبل أن ندخل في حيثيات قضايا الإصلاح وتداعياته على العصر الراهن، رغم البعد الزمني نسبياً للحدث الذي نحن أمام معالجته.

فقد أثارت الذكرى المئوية الخامسة للإصلاح العديد من التساؤلات بشأن الأحداث التي عصفت بأوروبا على مدى القرون السابقة؛ لكن مع حلول تلك الذكرى:ما الذي يجري إحياؤه تحديدا وما المغزى من ورائه؟ الاحتفاء متعلّق هو بلوثر حصرا أم بالإصلاح عموما؟(1) على النحو التالي طُرحت الأسئلة في ملتقى علمي عُقد في زيورخ خلال أكتوبر من عام 2013، ضمّ حوالي 250 مشاركاً قدموا من خمسة وثلاثين بلدا. "ما الذي نريد استعادته تحديدا من خلال إحياء تلك الذكرى والاحتفاء بها؟ وما الذي يعنيه بالنسبة إلى الكنائس اليوم وإلى العالم؟"، "متى حصل ذلك الإصلاح وفيما يتمثّل بالتحديد؟"(2). نأمل أن يكون إحياء الذكرىدون ادعاء الانتصار أو كذلك دون التهوين من أثره إلى حد الابتذال، ودون جدل عقائدي أو مسكونية تبسيطية(3). ومن ثم ما المفردة المناسبة "الاحتفال" أو "الاحتفاء" أو "إحياء الذكرى"؟ لوثر أم الإصلاح؟ وهل العملية منحصرة بين البروتستانت أو تشمل الجميع بشكل مسكوني عام؟ فعن أي نوع من الإصلاح نتحدّث،وهل بالإمكان الإصلاح دون تهشيم؟ إذ ليس الإصلاح ترميما؛ وإنما هو إبداع لشيء جديد من خلال الاستعادة النقدية للتراث. ومن ثم هل الإصلاح البروتستانتي هو النموذج لِما يتميز به من عودة إلى النص؛ وقد بات ذلك شائعاً بفضل الطباعة، وبالمثل لتأكيده على دور البشر وعلى الوعي البشري، والحذر من المؤسسات والسلطات المهيمنة. ليس التساؤل هينا! "إحياء" أو بشكل أكثر حدة "احتفال" بأحداث شقّت وحدة الصف المسيحي في الغرب، وخلّفت بشكل مباشر أو غير مباشر مظاهر مختلفة من العنف والحروب، يبدو الأمر بالفعل إشكالياً. كما تشير إلى ذلك وثيقة "من الصراع إلى الوحدة: إحياء الكاثوليك واللوثريين ذكرى الإصلاح معاً خلال عام 2017"(4). لا يتعلق الاحتفال بانقسام بل بالاتعاظ والتمعن في ذكرى خلافات لاهوتية وأحداث جرتخلال القرن السادس عشر الميلادي، خلافات وأحداث خلّفت مشارب متباينة في فهم الإيمان المسيحي.

كلّ ذلك لن يحول دون التأكيد على الإسهام اللاهوتي والحضاري للإصلاح من جانب البروتستانت، عبر البحث عن مسيحية أكثر أصالة ومندمجة بشكل سلس في نسيج المجتمعات والثقافات الحاضرة فيها؛ إذ يتيح تعدد المبادرات التي تحركها القرون الخمسة السابقة- في كافة الحالات-فرصة سانحة للتساؤل عن خصوصيات البروتستانتية، كطريقة متميزة في عيش المسيحية بشكل فردي وبشكل جماعي. أو بعبارة أخرى للتساؤل عن الكيفية التي تتجلى بها البروتستانتية في هذه المرحلة التاريخية، وكيف نؤوّل البُعد المسكوني الذي أردنا إضفاءه عليها.

فهْم البروتستانتيةورهان إحياء الذكرى؟

أن نربط الذكرى المئوية الخامسة للإصلاح بشخص المصلح مارتن لوثر؛فذلك يعني الاحتفاء بالبروتستانتية التي نشأت في أحضان التفرع اللوثري؛ ففي ألمانيا -على سبيل المثال-يجري الحديث عن "لوثر 2017 – المئوية الخامسة للإصلاح" (Luther 2017 – 500 Jahre Reformation)؛ لكن "آفاق يوبيل 2017 للإصلاح" التي أُعلنت من قِبل الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا(5) أكّدت بالخصوص -وعلاوة على المجالات اللاهوتية والكَنَسية-على التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية التي انجرّت عن الإصلاح. بعد الاحتفال خلال عام 2009 بيوبيل كالفن -وقد كان مناسبة للتأكيد على إسهامات البروتستانتية-اغتنمت "الفيدرالية البروتستانتية الفرنسية"فرصة يوبيل 2017 لتعرض البروتستانتية اليوم "كمعين ومصدر لمجتمع غائب أحيانا". فكان العنوان الذي تم اختياره: "البروتستانت 2017: خمسمائة عام من الإصلاحات، عيش الأخوة"، وقد أكّد على عنصرين اثنين: يتعلق من ناحية "بإحياء ذكرى خمسة قرون" وليس التمحور حول شخص لوثر، ويتعلق الآخر بإضفاء طابع واقعي راهن على رسالة الإصلاح من خلال الإلحاح على سياق "العيش معا" وفق مفهوم الأخوة.

لكن "لمن ينتمي الإصلاح؟" كما تساءل بنباهة سارج فونيرو، المدير المسؤول عن يوبيل الإصلاح ضمن "فيدرالية الكنائس البروتستانتية" في سويسرا(6). يندرج سؤال هذا المدير السويسري ضمن سياق "عشرية الإصلاح" التي دشّنها يوبيل كالفن سنة 2009 والتي تُختتم فعالياتها بإحياء ذكرى المصلح أولريخزوينغلي سنة 2019(7)، مروراً بيوبيل 2017. حتى وإن ارتأى بعضهم أن الإصلاح "من دون كالفن كان قدره أن يبقى حدثاً ألمانياً محدوداً بشمال أوروبا"(8)، ويمكن أن يُطلَق على كافة البروتستانت لوثريين من وجهة نظرٍ ما؛ ليس لأنّ لوثر له أسبقية في الزمن؛ ولكن لأن الرجل عبر كتاباته - وبالخصوص عبر مؤلفاته الإصلاحية المؤثرة التي تعود إلى عام 1520- قد أرسى الأصول اللاهوتية والكَنَسية للكنائس البروتستانتية.

لكن ينبغي التفطن- كما لاحظ بانتباه هوبرتبوست - أن البروتستانتية "هي ميلاد من دون انتماء"(9). إذ نعرف أن نية لوثر حين احتجّ ليس بعث كنيسة جديدة، ولكن إصلاح الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في زمنه. ومفردة البروتستانتية/الاحتجاج- قبل أن تغدو نعتاً لبعض الكنائس (مثل الكنيسة البروتستانتية الموحَّدة في فرنسا [EPUdF] أو الكنيسة الموحَّدة في بلجيكا)-قد أُطلقت على عالَم مسيحي، على اختلاف تنوعاته العقدية واللاهوتية، توحّدَ في طابع عائلي واستلهممرجعيته بأشكال مختلفة من أحداث ونصوص تعود إلى القرن السادس عشر، سمحت - من وجهة نظر المحتجين- باكتشاف أصالة الرسالة الإنجيلية. والقطيعة التي خلّفهاذلك التصوّر مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في ذلك العهد عُدّت بمثابة التجربة المؤسّسةلفهْم متجدد للإنجيل ولحياة المسيحي في المجتمع. وإذا ما كان ظهور مصطلح "البروتستانتي/المحتجّ" قد طفا على السطح منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي – بمناسبة معاهدةشباير الثانية سنة 1529-، فإن مصطلح "البروتستانتية/الاحتجاج" لم يظهر إلا في منتهى القرن السابع عشر(10). وبحسب أليستر إدغار ماكغراث ظهر مصطلح 'البروتستانتية' في أعقاب محاولة ربط سلسلة من الأحداث في بداية القرن السادس عشر ولصياغة رواية مشتركة عن تلك التحولات(11).

والملاحظ في غمرة أحداث الإصلاحات البروتستانتية وانتشار نصوصها-خلال القرن السادس عشر- التأكيدالواضح على السلطة المرجعية والعلوية للنصوص المقدسة في مجاليْ الإيمان والاعتقاد، وبالتوازي الإصرار علىنفيالقداسة عن الوسائط الكنسية وإكليروسها (الكنيسة المرئية)، التي ليست بالضرورة وفيّة للحقيقة المسيحية، ومن ثم ينبغي أن تخضع إلى المبدأ الكتابي واختبار صدقيتهافي ضوء الكتاب المقدس. لذلك حضرنزْعُهالة القداسة عن الكنيسة وعن إكليروسها من جانب، والتأكيد على الكهانة العالمية للمعمَّدين-من جانب آخر- في قلب رسالة الإصلاح. وكما أشار إلى ذلك اللاهوتي أليستر إدغار ماكغراثبدقة "يتمحور موقف البروتستانتية حول حق الأفراد في تفسير الكتاب المقدّس لأنفسهم، بدَل أن يكون مُملى من فوق،أو مسلَّطاًعبر تأويلات رسمية يطلقها بابوات أو غيرهم من الممسكين بمقاليد السلطات الدينية"(12).

هذه المستجدات بالنسبة إلى المؤسسة الدينية المسيحية كان وقعها مؤثرا؛ فما عاد مقرّ الحقيقة الدينية في المؤسسة؛ بل في الرسالة المنقولة، وجرى تحويل الشرعية من وظيفة تابعة للكنيسة إلى فِعْلها، وإلى توجهها؛فما عادت قضية الصِّدقية-من منظور بروتستانتي- مسألةً مؤسساتية بالمرة؛ بل تحولت إلى عمليةهرمنوطيقية ووجودية، وبات رهان تأويل الكتاب المقدس والنقاش في حقيقة المسيحية- في الآن نفسه - نقاشاً في التفسيرات وفي المواقف بين العلماء، إنه حوار بين ما هو معيش ومختلف منتجارب البشر. هكذا جرى إدراج مبدأ الاحتجاج منذ تلك الآونة في قلب الحدث المسيحي،وفي حقيقته الإيمانية (الجدل العقدي)، وفي شكله الاجتماعي (تجمع المؤمنين، الحياة في ظل كنيسة، ومن ثم علاقتها بالعالم). وهو ما جعل مختلف أشكال إضفاء الطابع المؤسساتي على البروتستانتية محلّ نقاش، بناء على حجج لاهوتية؛ لكن من خلال الاستناد إلى مرجعية التجربة أيضاً. فما كان التنوع البروتستانتي تغذّيه الخلافات اللاهوتية فحسب؛ بل الحركات التقوية والحركات الإحيائية أيضا، والتي انتقدت - باسم الإحساس الديني واعتماداً على التجربة الروحية المعيشة - المَأْسَسَة العقدية واللاهوتية لكنائس الإصلاح.

يبدو تعريف البروتستانتية، كما ذهب إليه ماكغراث- "بوصفها مزيجاً من الحركات الدينية التي تتقاسم جملةمن المصادر التاريخية وجملة من المصادر اللاهوتية"- في غاية الدقة(13). أضيفُ كذلك أن البروتستانتيةَ- من خلال المراجَعة الدائمة لهذه المصادر التاريخية والنظر المتكرر في المصادر اللاهوتية، تجسِّد منطق التغير، وكأن الإصلاحات التأسيسية خلال القرن السادس عشر تضفي مشروعية، أو - في مجمل الأحوال - تتيح فرصة لإصلاحات مستقبلية. في النهاية تظهر البروتستانتية بمثابة الحاضنة الشاملة للإصلاح؛إصلاحٌ متواصلٌ ودائمٌ - بحسب الصيغة الدارجة على الألسن "الكنيسة الإصلاحية دائماً في حالة إصلاح"- (Ecclesia reformata, semper reformanda) والتي تستبطن دائماً سلبية ينبغي تخطيها جراء التجارب والمؤسسات السائدة للمسيحية. إصلاح متواصل ودائم ولكن يضبط نتائجه المتحولة بجملة من الركائز، حيث الفكرة الناظمة داخل البروتستانتية تمثّل طرفاً، إلى جانب التقاليد الإيمانية المميزة مثل المعمدانية واللوثرية والكالفنية والميتودية.

 

معنى الإصلاح ضمن سياق مسكوني

من بين العديد من الحوارات التي خاضتها الكنيسة الكاثوليكية منذ انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني مع مختلف الجماعات التاريخية التي انشقت عنها- كان الحوار اللوثري الكاثوليكي هو الأكثر عمقاً والأكثر ثراء. ومنذ عام 1972نُشرت وثائق مهمّة ضمن مؤلف "في مواجهة الوحدة"(14)؛ فقد اتفقت الكنائس على تجنب الوقوع في الاتهام المتبادل الذي شاع خلال القرن السادس عشر، ومنذ عام 1986 تكثّف الحوار على نطاق عالمي وعلى نطاق وطني، خصوصا في الولايات المتحدة، من خلال التركيز على مسألة "التبرير بالإيمان وحده" الحاسمة.

العديد من الوثائق-مثل "عقيدة التبرير بالإيمان" (1999)(15) - مهّدت الطريق لصدور الإعلان المشترك بين الفيدرالية اللوثرية العالمية والكنيسة الكاثوليكية الرومانية. ويمكن القول اليوم: إن النقطة المحورية التي فجّرت الخلاف قد جرى تخطّيها. حيث موضوع التبرير بالنعمة بتوسط الإيمان هو موضوع مشترك بين الكاثوليك واللوثريين، حتى وإن بقيت المفاهيم متباينة.

فمنذ عام 2013 أكّد تقرير "اللجنة اللوثرية الكاثوليكية حول الوحدة" "أن عام 2017 سيكون عام إحياء الذكرى التي تحوز موضعامتقدما في زمن مسكوني"(16)، وقدجرى التأكيد على البعد المسكوني في هذه الذكرى بما حصل في السويد خلال الحادي والثلاثين من أكتوبر من عام 2016: لقاءٌ بين البابا فرانسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية وممثلي "الفيدرالية اللوثرية العالمية" (FLM) في كاتدرائية مدينة لوند التي يعود تأسيسها إلى عام 1947. كان اللقاء مناسبة لتوقيع البابا مع رئيس الفيدرالية-الأسقف منيب يونان- إعلاناًمشتركاً "بمناسة إحياء ذكرى الإصلاح المشتركة الكاثوليكية اللوثرية"، وقد اعترف البابا فرانسيس -نفسه خلال العظة التي ألقاها في لوند يوم 31 أكتوبر- بإسهام الإصلاح وثمَّن دوره، معرباًعن "أن إسهامهيتلخّص في وضع النصوص المقدسة في قلب الحياة الكَنَسية". وفي الإعلان المشترك الموقّع خلال اليوم ذاته عبّر الكاثوليك واللوثريون عن عميق امتنانهم "بالمزايا الروحية واللاهوتية التي خلّفها الإصلاح". بعبارة أخرى ما جرى من أحداث خلال القرن السادس عشر- وبمنأى عن النظر إليها من زاوية سلبية فحسب- جرى تثمينها (بل أزعم الاحتفاء بها) من قِبل الكنيسة الكاثوليكية؛ للإسهامات الإيجابية التي خلّفتها. لا ريب أن هذا اللقاء اللوثري الكاثوليكي في لوند قد شكّل حدثاً تاريخياًفارقاًلدلالته الرمزية: حبر الكاثوليكية الأعظميحتفل بذكرى الإصلاح في كاتدرائية بروتستانتية! بالفعل إنه حدث، حتى وإن بقي الحرمان المسلَّط على لوثر ماثلاًولم يُرفع بعد، وحتى وإن كان السماح للكاثوليك واللوثريين بأداء طقس المشاركة بينهما غير متاح.

من الطبيعي أن تحتفي "الفيدرالية اللوثرية العالمية" بالذكرى المئوية الخامسة لأزمة (1517) التي تمثّل نقطة انطلاق كافة عمليات الإصلاح؛ لكن سيكون الأمر في منتهى السلبية لو جرى تَمثّل الاحتفال في إعادة التأكيد بنوع من الروح الانتصارية على الهوية الصراعية، وبما يتضمّن وجهاً من وجوه المحاكمة الضمنية للكنيسة الكاثوليكية؛ إذ لا ينبغي أن ننسى أن الانقسام- بآثاره المتنوّعة- كان تعبيراً عن بؤس الخطايا التي انحدرت لها مؤسسة الكنيسة وكافة شركائها في الانقسام؛ إذ لا يمكن أن يكون إحياء الذكرى إلا بتقدّم جديد في نهج المصالحة.

لكن في غياب الاعتراف بالحمولة التاريخية للحدث الذي يمثّل الدافع لمجيء البابا فرانسيس إلى السويد، ينبغي على الأقل التأكيد على الحدود الماثلة، وهي حدود تتلخّص في الازدواجية البنيوية للمسارات المسكونية، أيا كانت النوايا الحسنة المعلنة من الطرفين، كلٌّ يدافع عن هويته وعن مفهومه للحقيقة (17)، وهو ما يُعدّ أمراً مقبولاً من زاوية نفسية؛إذ تسمح العديد من العناصر بإضفاء طابع نسبي على لقاء لوند. في البدء، إن تكن الكنائس اللوثرية بوسعها أن تثمّن مرجعية متميزة للوثر، وإنبدت شرعيتها قوية علاوة على ارتباطها الوثيق بإصلاحات القرن السادس عشر؛ فهي مرتبطة بـ 73 مليون مؤمن، وهي لا تعني اليوم سوى 10 بالمائة من البروتستانتية العالمية (التي يُقدَّر عدد أتباعها بثمانمائة مليون نسمة). بعبارة أخرى، ضمن الظرف المعاصر للبروتستانتية المصبوغة بطابع التطور في مختلف الكنائس الإنجيلية والبنتكوستالية(18)، ينبغي أن يُنظر إلى المكوَّن اللوثري نظرة نسبية، حتى وإن حاز أهمية على الصعيدين التاريخي واللاهوتي؛ فكافة تعبيرات البروتستانتية - وبدرجات متفاوتة - يمكن العودة بها إلى الدفع الذي خلّفه الإصلاح اللوثري. بالإضافة ينبغي أن نكون على بيّنة أيضاً من أن البروتستانتية اللوثرية - ضمن التنوع البروتستانتي عام – تُصنَّف الأكثر انفتاحاً على المسكونية الكاثوليكية البروتستانتية، وهي خاصيات لا يتغاضى عنها البابا.

بالتوجه نحو السويد زار البابا بلدا تشهد فيه البروتستانتية اللوثرية تراجعاً بيّنا على المستوى الديمغرافي، ويشهد فيه الكاثوليك تقدّما (في جانب منه عائد إلى الهجرة). وفي بلد ينحو فيه "الاحتفال" بالإصلاح -لإخفاء العنف الذي ترتّبعنه - ينتهز العديد من الجامعيين الكاثوليك فرصة مرور خمسمائة عام لتذكير السويديينبأن التحول إلى الإصلاح - في ظل حكم غوستاف الأول ملك السويد (1495-1560م)- قد جرى في أجواء قمع (نهب العديد من الأديرة وغلقها، إجهاض الثورات الشعبية بكل شراسة وحدّة...)(19). كما طالب جامعيون- وهم على صواب في ذلك- بإعداد لجنة تحقيق حول الاضطهاد الممارَس من قِبل كنيسة الإصلاح على شعب "سامي" (اللابيون). الإصلاح في السويد والإصلاح في فرنسا: كلاهما يجمع بينهم اتاريخ حافل بعنف سياسي بروتستانتي من جانب، وعنف سياسي كاثوليكي من جانب آخر. أفرزت كافة هذه العناصر الحمولةَ المسكونيةَ للقاء اللوثري الكاثوليكي في لوند؛ ولكن كلّ ذلك لا يمكن أن ينسينا التعبيرات الأخرى غير اللوثرية للبروتستانتية.

لا يغفل البابا فرانسيس عن التنوع الحاصل داخل البروتستانتية،وتنحازالمسكونية الكاثوليكية البروتستانتية إلىتكثيف اللقاءات والحوارات الثنائية بين ممثلي الكنيسة الكاثوليكية وممثلي مختلف الحساسيات البروتستانتية: الإصلاحيين والمعمدانيين والإنجيليين؛ ليبرز بالخصوص اللقاء في حاضرة الفاتيكان في العاشر من يونيو 2016 بين ممثّلي " التجمع العالمي للكنائس الإصلاحية" (CMER)(20) والكردينال كورت كوش، رئيس المجلس البابوي للنهوض بوحدة المسيحيين. خاض التجمعُ العالمي للكنائس الإصلاحية- النظير الإصلاحي للفيدرالية اللوثرية العالمية (FLM)- العديدَ من الحوارات مع الكنيسة الكاثوليكية، رابعها كان بعنوان "التبرير والأسرار: المشاركة المسيحية كعامل من عوامل العدالة" ، وأُعلنتنتائجه خلال عام 2017. فقد أكد رئيس "التجمع العالمي للكنائس الإصلاحية" أن "الإصلاح بمختلف أشكاله وسائر أعلامه: (لوثر، كالفن، زوينغلي، نوكس")هو "فرصة جيدة" في عام إحياء الذكرى. ودون شك الإصلاحيون هم أكثر حساسية أمام تعدّد أنواع الإصلاحات من اللوثريين. لم يغفل البابا فرانسيس عن الإنجيليين؛ فقد التقى في الثامن من سبتمبر 2016 - في دير القديسة مارتا بحاضرة الفاتيكان- سبعة رعاة إنجيليين إيطاليين، ومنذ عام 1973 انطلقت لقاءات بين ممثّلي "التحالف الإنجيلي العالمي" وممثلين عن المجلس البابوي للنهوض بوحدة المسيحيين(21). تبقى التحركات الإنجيلية بالنسبة إلى يوبيل 2017 أقلّ مقارنة باللوثريين الإصلاحيين؛ لكن بمنأى عن هذا التنوع البروتستانتي، ثمة حقيقة مفادها أن البروتستانتية- بمختلف أشكال تعبيراتها الإيمانية- قد ولّدت ثقافة خاصة في مختلف الفضاءات اللغوية التي عرفت الانتشار فيها. بعبارة أخرى ليست البروتستانتية مجرد لاهوت وتوجّه كنسي؛ وإنماهي أيضا شكل من أشكال مجابهة تقلبات التاريخ وعيش المسيحية داخل المجتمع.

فلو تابعنا منطق "مسكونية" إحياء ذكرى الخمسمائة عام للإصلاح بشكل كامل؛ نلحظأنه يمكن أن يخفي-بالنسبة إلى كثير من البروتستانت- أن الإصلاحي مثّل "بروز بديل مسيحي واقعي للتقليد الكاثوليكي الروماني"، كما يعبّر عن ذلك الملفّ الإعلامي لفيدرالية بروتستانت فرنسا. بديلٌ يترجم بالخصوص في منظور آخر للمهمّة الدينية (يستطيع الرعاة والمصلحون الزواج منذ القرن السادس عشر، كما انفتحت المهمّة الرعوية في القرن العشرين على النساء)،  وللأفخاريستيا (العشاء المقدس) وللكنيسة. يمكن أن نضيف إلى هذه الاختلافات الكاثوليكية البروتستانتية ما يخص مجال الأخلاق الجنسية والحياة الأسرية وأخلاقيات علم الأحياء (البيوإيتيك). باختصار تجسّد المسيحية البروتستانتية - برغم كافة التوترات الحاصلة، وبتباينات مختلفة - مسيحية مغايرة؛ إذ يقرّ بذلك صراحة بروتستانت لهم قناعات ليبرالية وبحساسيات إنجيلية متنوعة.

لكن هناك ما يتخطى ذلك أيضا. ليس بوسع المؤرخين والفلاسفة وعلماء الاجتماع سوى الانحياز إلى النقطة السادسة من وثيقة "آفاق يوبيل 2017 للإصلاح" التي صاغتها الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا: "لم يحوّر الإصلاحُ الكنيسةَ واللاهوت بشكل عميق فحسب؛ فقد أسهمت البروتستانتية التي تولّدت منه في صياغة مجموع مسارات الحياة الخاصة والعامة، كما أثّرت على بنى المجتمعات، والاقتصاد، وأشكال الفهم الثقافية والعقليات، فضلاًعن الصيغ التشريعية، والتصورات العلمية وأشكال التعبير الفنية". فقد بدتالعلاقة بالأنوار (في نسخها الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيرلندية)- أو بشكل موسع: العلاقة بالحداثة - مغايرة في البلدان التي تهيمن فيها البروتستانتية عن تلك التي تهيمن فيها الكاثوليكية. نرى آثار تلك النتائج في العقود الأخيرة، كما بيّنت التحقيقات الأوروبية عن القِيم الجارية سنة 1981- وكذلك التحقيقات اللاحقة سنة 1990- أن البروتستانت والكاثوليك لا ينظر كلاهما بالمعيار نفسه إلى قيم الحرية والعدالة: نجد في أوروبا 61 بالمائة من البروتستانت قد اختاروا الحرية في مقابل 47 بالمائة من الكاثوليك. من جانب آخر خلص الفيلسوف بيار بوراتز- أثناء تتبع "الأصول الدينية للفردانية الحديثة"- إلى "أن ثمة ودون شك أثراً ملموساً للبروتستانتية، بالشكل الذي تعِدُ فيه بطرح أصيل للاستقلالية الفردية تجاه السلطة، التي لا تُعدّ بمثابة التحرر تجاه الأفكار الدينية؛ بل كرجوع إلى المصدر"(22). وبحسب ما يذهب إليه بوراتز دائما تجسّد فرنسا وألمانيا "ضربين من الفردانية"، "وتصوغ كلتاهما علاقات متضاربة مع التراث الديني؛ فمن جانب نجد مشروع اجتثاث دوْره يتداخل مع الادعاءات الروحية والسياسية للكنيسة الكاثوليكية، ومن جانب آخر الإحساس بعلمنة الإيمان وفق ثقافة الاستبطان التي مهّدت لها البروتستانتية". في حين تكشف المقارنة بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية أن المسألة "لا تتلخّص في مجرد الاختلاف السياسي بشأن درجة حياد الدولة التي تتغاير بين أمريكا وفرنسا؛ بل في وجود نمطين أحدهما غريب عن الآخر، بشأن علاقة المجتمعات الحديثة بالتجربة الدينية"(23). بعبارة أخرى: ليس الإصلاح مسألة اختلافات لاهوتية فحسب، بل مسألة هو عيشديني وسياقات ثقافية متباينة أيضا، وهي لا تُختَزل في مجرد توافق لاهوتي فحسب ؛لكن بالأحرى في تأثير العلمنة و"الأنجلة" العابرة للمعتقدات المسيحية أيضا.

لقد باتت المسيحيات الكاثوليكية والمسيحيات البروتستانتية ثقافةً قاعديةً لدى أقليات متنوعة في المجتمعات المعلمَنة، وهي تواجه اليوم حالة مغايرة. بما يجعل هذه التطورات السوسيولوجية من المسيحية-شيئا فشيئا- ضرباً من الخيارات أكثر منها إرثاً، حيث يسعى كل المسيحيين ليكونوا شهودا مؤمنين وملتزمين بإيمانهم. ومن ثم يغدو الكاثوليك والبروتستانت بشكلٍ ما إنجيليين، حتى وإن أعربوا عن ذلك بأشكال متباينة معموجة "إنجيليي المولد الروحي المتجدد" (evangelicals born again). يمكن لهذه الأوضاع الاجتماعية الدينية الجديدة أن تدفع- جنب المسكونية - نحو منطق تنافسي بين مختلف ضروب تأويلات المسيحية، وأن تحفّز التشبّث بالهويات المتداخلة، سواء من الجانب الكاثوليكي أو من الجانب البروتستانتي (وبالمثل كذلك كما الشأن في حضن البروتستانتية، بين اللوثريين الإصلاحيين والإنجيليين أيضا).

إحياء ذكرى الإصلاح في فرنسا

لا شك أن يوبيل 2017 في فرنسا -كما في غيرها من البلدان- كان عاملاً من عوامل تعزيز مقومات الهوية البروتستانتية، دون أن يخفي أماكن الظل، ومع بقاء الانفتاح على البعد المسكوني، ومن ثملن يتوانى القائمون على تلك الاحتفالات في الإعراب بهذه المناسبة عن احتفائهم "بالقيم البروتستانتية" وإسهامات البروتستانت في أوروبا وفي العالم. مرة أخرى هذا الاعتداد بالذاتهو شيء مفهوم من زاوية سيكولوجية؛ فالوقت يبدو ملائماً أيضاً لتقييم الاختلافات، وهو تقييم يراعي بشكل أقل امتصاص الخلافات العقدية بشكل سلمي؛إذ يصادف حدث الذكرى ما تعيشه البروتستانتية الفرنسية من تحولات عميقة، وهي تبحث عن تأكيد حضورها في مجتمع هو في الآن نفسه ما بعد حداثي وما بعد مسيحي.

في هذا السياق يمكن أن نرصد ثلاث ديناميات كبرى لإعادة التشكلبشأن الاشتغال في صلب البروتستانتية الفرنسية. أولاها: الدينامية اللوثرية الإصلاحية، والتي تتجلى من خلال إنشاء "الاتحاد اللوثري الإصلاحي" (EPUDF) خلال عام 2013 في منطقة ألزاسموسال، و"اتحاد الكنائس البروتستانتية" في ألزاس ولوران منذ عام 2006؛فقد سمح تجاوز الاختلافات التاريخية اللوثرية الإصلاحية، في نطاق مراعاة اختلاف الحساسيات بينهما، بخوض ديناميكية إيمانية للشهادة البروتستانتية بالأقوال والأفعال، مع الحفاظ على منطق الانفتاح وطرح التساؤلات. أتباع اللوثرية الإصلاحية- الذين اختاروا حشْرَالشهادة المسيحية داخل ما هو علماني- ينضوون اليوم ضمن مجتمع تعددي، ونحن ننتظر أن تفصحوتظهر أقلية دينية-دون عقد- معنى الإيمان والرجاء لديها. هذا التأكيد الخالي من العقد للهوية البروتستانتية اللوثرية الإصلاحية ينحو إلى التبلور بشكل إيجابي، وليس بما يعارض الكنيسة الكاثوليكية أوالبروتستانتية الإنجيلية.

والثانية: هي الدينامية الإنجيلية، وقد تجلّت بالخصوص في إنشاء "المجلس الوطني للإنجيليين بفرنسا" سنة 2010 لتتجمّع تحت مظلّته مجمل الكنائس الإنجيلية ذات التوجه التَّقوي المحافظ، وكذلكالكنائس ذات التوجه الكاريزميالبنتكوستالي؛فقد أملى تزايد أعداد البروتستانت الإنجيليين وتكاثر مقرات عبادتهم ضرورة إنشاء هيئة تنظّممختلف أشكال التنوع الإنجيلي،ويتجلى الحماس التبشيري الإنجيلي لهذه البروتستانتية خصوصاً في إنشاء كنائس جديدة ذات طابع محلّي، حتى وإن كان بعضهم يؤْثر الخاصية الإنجيلية للبروتستانت، فإن الكثير من الإنجيليين ما انفكوا يحملون هوية بروتستانتية ذات طابع هادئ.

وأما البعد الثالث لهذا المكوَّن البروتستانتي في فرنسا فهو يتمثّل في دينامية متعددة الثقافات،باتت تخترق هذا التشكيل الديني مع مقْدم الكنائس الإفريقية الوافدة من جزر الأنتيل ومدغشقر، وكذلك من الصين وكوريا ومع الغجر، بل أيضاً مع أتباع قادمين من قارات أخرى ويرتادون الخورنيات التابعة "للاتحاد اللوثري الإصلاحي". يلوح مظهر من مظاهر العولمة البروتستانتية منخلال الفرنكفونية البروتستانتية، وأبرز ما يتجلى فيه ذلك التنوع الثقافي للشعوب البروتستانتية: الحركات الإنجيلية والبنتكوستالية خصوصا ،وهو ما يمثّل تحدّيا أيضا للاندماج الاجتماعي الديني.

عبر مختلف التجمعات الاحتفالية-مثل "احتفالات البروتستانت" في ستراسبورغ سنة 2009 و "باريس للأمل" في العاصمة سنة 2013- تحاول الهوية التعددية للعائلة البروتستانتية الظهور وجعل الأمر مرئياً ومقبولاً؛فقد انعقد أيضاً ملتقى دولي يومي 22 و 23 سبتمبر 2017 بمناسبة اليوبيل في مدينة باريس، كما أقيم تجمّع احتفالي في ستراسبورغ من 27 إلى 29 أكتوبر 2017. تكشِف ديناميكيات التشكيل الثلاث التي جرى التعرض لها آنفا- ضمن السياق الحالي للمجتمعات المعلمَنة، والتي تجابه ضغوطات العولمة - عن نوع من التأكيد للهوية البروتستانتية ضمن إطار بروتستانتية مؤمنةبهويتها التعددية، وهو ما يمكنأن يتيح لها مكانا في يوبيل 2017؛ لكن هذا الإخراج ينبغي ألاّ ينسينا ما يتعلق بمعنى الهوية البروتستانتية الجماعية. إن الإصلاح هو -قبل كل شيء- بحثٌ عن تآلف بين حياة الكنيسة ومَعينها وسندها، ألا وهو الإنجيل، كما عبّر عن ذلك سارج فونيرو. إذا ما كان الإصلاح هو إرادة لاكتشاف مسارات الحقيقة المسيحية من خلال النصوص المقدسة، وإذا ما كانأيضا هو نسبية التأملات الكنسية والتأكيد على الكهانة العالمية للمؤمنين؛ فإن تلك الدلالات معنية بها كافة الكنائس وسائر البروتستانت، إن لم نقلْ: كلّ المسيحيين.

-------------

المراجع والمصادر:

*ترجم النص عز الدين عناية، أستاذ تونسي بجامعة روما

*عالم اجتماع فرنسي متخصص في البروتستانتية المعاصرة.

انظر: [PertraBosse-Huber, Serge Fornerod, ThiesGundlach et Gottfried WilhemLocher (dir.), Célebrer Luther ou la réforme? 1517-2017, Labor et Fides, 2014.]

انظر: [Ibid., p. 7.]

انظر: [Ibid., p. 8. ]

انظر: [Du conflit à la commémoration commune catholique-luthérienne de la Réforme en 2017, Fédération protestante de France – Éditions Olivétan, 2014 (1er éditions en anglais et en allemand en 2013).]

انظر: [EvangelischeKirche in Deutchland ou EKD.]

انظر: [Serge Fonerod, “À qui appartient la Réforme?”, Bulletin 1/2012, site de la sek-feps. ]

ذكرى وصول أولريخزوينغلي (1484-1531م) إلى زوريخ سنة 1519، حيث كان الخوري المكلف بشؤون الكاتدرائية. تحت تأثير زوينغلي الذي اقترح سبعاً وستين أطروحة أجاز مجلس زوريخ  العظة على أساس الكتاب المقدس فحسب، وألغى القداس الكاثوليكي سنة 1525. بقي زوينغليحاضراً في الذاكرة البروتستانتية بمثابة مصلح المدينة.

يبدو موقف سارج فونيرو لدينا مغالياً. في فرنسا أيضاً جرى الحديث عن "اللوثريين" قبل أن يتمّتداولعبارتيْ "الإصلاحيين" أو "الكالفنيين"، وبما يفوق الحديث عن "البروتستانت".

انظر: [H. Bost, “Protestantisme: une naissance sans faire-part”, Études théologiques et religieuses, 67e années, 1992/373. ]

انظر: [بحسب هـوبار بوست، سنعثر في "قاموس الأكاديمية الفرنسية" خلال عام 1694على التعريف الاصطلاحي الأول لمفردة البروتستانتية، الوارد في الصفحة 363. ]

انظر: [Al. Edg. McGrath, Christianity’s Dangerous Idea, The Protestant Revolution – A History from the Sixteenth Century to the Twenty-First, HarperOne, 2007, p. 62.]

انظر: [Ibid., pp. 2-3.]

انظر: [Ibid., p. 63. ]

انظر: [Commission internationale luthéro-catholique, Face à l’unité. L’ensemble des textes adoptés (1972-1985), introduits et présentés par Hervé Legrand et Harding Meyer, Cerf, 1986.  ]

انظر: [«la doctrine de la justification»,Coédition Bayard, Centurion, Fleurus-Mame, Cerf et Labor et Fides, 2000.]

انظر: [Du conflit à la communion. Commémoration luthéro-catholique commune de la Réforme en 2017, 7. ]

انظر: [J.-P.Willaime, “Les oecuménismes chrétiens au défi des mutations sociétales et religieuses contemporaines”, dans Michel Mallèvre (dir.), L’unité des chrétiens. Pourquoi? Pour quoi?, Cerf, 2016.]

انظر:* [تُترجَم عادة بـ"الخمسينية"، وهي تفرع مذهبي بروتستانتي بملامح إفريقية، ظهر في منتصف القرن الفائت في الولايات المتحدة. (المترجم)]

انظر المؤلَّف الجماعي الصادر باللغة السويدية بعنوان: "رائحة الشمع المطفأ. الإصلاح من منظور شعبي" بمشاركة فريدريك هايدلينغاليسوعي، أستاذ اللاهوت في جامعة أوبسالا. كما نحيل على الملف المنشور في أسبوعية "La vie" بتاريخ 27 أكتوبر 2016، خصوصا الحوار الذي أجريمع الأب هايدلينغ.

شارك الراعيان جيري بيلاي وكريس فرغوسون بالتوالي الرئيس والسكرتير العام للتجمع العالمي للكنائس الإصلاحية، وأرونا غناناداسون، المستشارة اللاهوتية للتجمع العالمي للكنائس الإصلاحية.

انظر لويس شويتزر [Louis Schweitzer (dir.), Le dialogue catholiques-évangéliques. Débats et documents, Edifac-Excelsis, 2000. ]

انظر: [P. Bouretz, “La démocratie française au risque du monde”, dans Marc Sadoun (dir), La démocratie en France. 1. Idéologies, Gallimard, 2000, p. 69. Ibid., p. 58.]

 

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة