بول كيندي: في قيام الإمبراطوريات وانهيارها

image.jpg

محمد الشيخ

في بداية القرن العشرين كان قارئ كتب التاريخ ذات المنحى الفلسفي يجد نفسه أمام "أنبياء الأفول" ؛ من أمثال أوسوالدشبنجلر (1880-1936) ـ صاحب كتاب "أفول الغرب" (نشر بالألمانية عام 1918)، وأرنولد توينبي (1889-1975) ـ صاحب المؤلف الضخم "دراسة في التاريخ" الذي نظّر فيه لسقوط الحضارات وانهيار الإمبراطوريات (1934-1961).وها هو القارئ ذامنذ الثمانينات من القرن الماضي يشهد على النزاع بين المتنبئين بأفول الإمبراطورية الأمريكية ، أمسوا يسمون اليوم باسم "الأفولية" Declinism ـ من أمثال بول كيندي (1945-) وغيره كثير، وخصومهم من أنظار جوزيف ناي (1937-) ونيال فرجسون (1964-) ... ذلك أن الإنتاج الفكري الاستراتيجي الأمريكي في مضمار العلاقات الدولية كانت تتخلله على وجه الدوام بحوث تحاول إعادة ابتداع العالم بتفسيره على ضوء أطروحة مركزية وواحدة (الأفول (بول كيندي ...)، نهاية التاريخ (فوكوياما)، صراع الحضارات (هانتنغتون ...)، ويبدو أن النقاش الأكاديمي لا ينتعش إلا حين تكون ثمة أطروحات راديكالية من هذا القبيل .

  1. حول إمكان واستحالة النظر العام في شأن "القوى العظمى" ـ الإمبراطورياتـ : أصولها وفصولها

تبلغ الإمبراطوريات من شدة التنوع-في المكان وفي الزمان وفي النظام- بحيث يعسر عسرا شديدا أن تقوم ثمة "نظرية عامة" تفسر أصول هذه الإمبراطوريات وتعلل فصولها ؛فمن إمبراطوريات إقليمية إلى إمبراطوريات براري، حيث التمدد شاسع بشساعة لا تكاد تضبط، والحدود سيالة بدالة أبد الحال، إلى إمبراطوريات تبسط سيادتها على البرور وأخرى على البحور، فإلى إمبراطوريات صناعية وأخرى مالية وثالثة مرتبطة بالتكنولوجيات الجديدة . تتعاقب الإمبراطوريات وتتعايش ولا تتشابه ولا تتناسخ.

ومديات حياة الإمبراطوريات بدورها تختلف ولا تأتلف: لم تدم إمبراطوريتا الإسكندر ونابليون إلا بضع سنين، وما دامت إمبراطوريتاالأنكا والأزتك إلا قرنا ونيفاً بالكاد.والشيء نفسهيصْدُق على إمبراطورية شارلمان. وتضاعف القرن فأمسىثلاثة بالنسبة إلى الإمبراطورية الإسبانية، وزاد عليها بقرن في حال الإمبراطورية الخلافية الإسلامية. وبقرن آخر مع الإمبراطورية الرومانية. وكانت ثمانية قرون مديدة في عمر الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة. وحوالي ألف عام بالنسبة إلى الإمبراطورية البيزنطية،وزهاء ألفي ومائتي عام كان عمر "الإمبراطوريات الصينية" التي قيل عنها:إنها حيت "بتسع حيوات" . وعلى أية حال لا أحد يعلم على وجه الدقة متى تموت الإمبراطوريات، وبالخصوص ليس يعلم ذلك مؤسسها وبانيها. وبعد، أَوَ لم يكن هتلر يتنبأ لإمبراطوريته بأن تحيا ألف سنة، بينماما صمدت هي إلا سبع سنين،وكيف !

وتختلف الإمبراطوريات في ملابسات وحيثيات وظروف تواريها واختفائها: ثمة منها من "يحتضر" احتضارا طويلا، كما حدث للإمبراطورية البيزنطية، كما ثمة منها من قد تحتضر من طول "شيخوختها"، على نحو ما طرأ على الإمبراطورية الجرمانية المقدسة في مستهل القرن التاسع عشر، وعلى الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن العشرين.كما تحتضر بسبب من أزمة توريث خانقة، على نحو ما أصاب إمبراطورية شارلمان.وقد يحدث ذلك عقب هزيمة عسكرية نكراء، كما وقع للإمبراطورية النمساوية-الهنغارية عام 1918 ولروسيا عام 1917. وقد تبيد عن تفكك داخلي، على نحو ما جرى للإمبراطورية المغولية أو لإمبراطورية الاتحاد السوفياتي عام 1991؛ إذ عادة ما تختفي الإمبراطوريات إثر الحروب؛ لكنها يمكن أن تتفسخ في فترات السلم، وقد تكون نهايتها طوراً سلمية هادئة، كما اعترى الوهن الإمبراطورية المقدسة ودبّ إليها دبيباً.وقد تكون في أغلب الأحاييننهاية مأساوية، كما انتهى إليه حال الرايخ الثالث الذي اختفى وكأنه قامت قيامته.

وتتعدد أسباب نهاية الإمبراطوريات والنهاية واحدة: اقتصادية، اجتماعية، عسكرية، تنظيمية . فقد يكون نمط تنظيم الإمبراطورية نفسه سبب اختفائها، وذلك على شاكلة ما حدث للإمبراطورية المقدسة التي اختفت نسياً منسيًّا يلفها جو من عدم المبالاة بعد أن تهافت تماسكها شيئا فشيئا إلى أن لم تعد مؤسساتها تصلح لأي شيء على الإطلاق؛ اللهم إلا في ديمومة تأمين خدمة بريد بين الدول الأعضاء التي لطالما ادعت أنها وريثة روما الإمبراطورية!وعلى شاكلة ما حدث من قبل أيضا بالنسبة إلى إمبراطورية الإسكندر الأكبر الذي مات شابا ولم يهتم بتنظيم بدواته وغزواته! وعلى شاكلة ما حدث للإمبراطوريتين المغولية والعثمانية من غياب للعقلانية السياسية والإدارية والترقيع بإصلاحات بدت مسكِّنة مهدئة ولم تكن فعالة منجية !

وقد يكون داء عَطَبٍ قديم قد استشرى في جسم الإمبراطورية واستفحل، فأصابها في مقتل من غير أنتدري أو تحتسب. خذ مثلا الشأن الديمغرافي، واعتبر بحال إسبانيا واليابان أو إنجلترا وفرنسا؛ فقد فقدت هذه الدول حيويتها الديمغرافية حتى تغذي هي مقدرتها وترفد قوتها، بينما البلاد المستعمَرة لها بلغت من دينامية الساكنة بحيث طمحت إلى استقلال بدا لها أكثر واقعية كلما أبانت الدول الكولونيالية عن نزوع نحو الأفول.أو لعل الأمر عائد إلى التعدد السياسي والتاريخي والعرقي والديني والثقافي الكبير الذي قد يفرض على الإمبراطورية أن تحكم أجزاء واسعة، كما حدث للإمبراطوريات الاستعمارية، فلا تهتم بتوحيدها ولا باختزالها، بحيث يمسي التوازن هشا مهددا دوما بالانقطاع، كما قد يحدث العكس، فلا يقوم التعايش السلمي الناهض على صراع المصالح إلا على القوة والعنف اللذين يلجأ إليهما سلطان الحكم الإمبراطوري .

غير أنه ليست تتم تبرئة شخص الإمبراطور نفسه من التسبب في ضياع الإمبراطورية؛ إذ لا يكفي أن تكون للحاكمكاريزما تقليدية، بحسبانه مبعوثا من الغيب، أو بوصفهظل الله في أرضه، وإنما يلزم أن تكون له-فضلا عن ذاك- موهبة سياسية وحنكة عسكرية ودراية إدارية، وذلك حتى وإن كانت شخصية العديد من مؤسسي الإمبراطوريات الاستثنائيةهي نفسها من كانت السبب في انهيارها بعد غياب مؤسسها، كما حدث لإمبراطورية الإسكندر قديما ولإمبراطورية نابليون حديثا .

هذا دون أن نذكر ما للعوامل المادية من أثر على انهيار الإمبراطوريات، وذلك مثل انقطاع أوصال سبل التواصل البري أو البحري أو اللساني، على نحو ما حدث لإمبراطورية شارلمان الممتدة الأرجاء، ولإمبراطورية جانكيز خان الدائمة الترحال، ولإمبراطورية الصين الشاسعة الأنحاء ولإمبراطورية إسبانيا المشتتة على ثلاث قارات .

زيادة على دور العوامل الخارجية المتمثلة في صعوبة قبول الإمبراطوريات بعضها ببعض ومزاحمةبعضها لبعضوتعدِّيها على ما جاورها، وميلها إلى استلحاق سواها، وطمعها في استتباع ما دونها إما خوفاً من استقوائه أو طمعاً في ثرواته. أَوَ لم يُسِر نابليون إلى كاتبه: "سلطتي سببها مجدي، ومجدي باعثه الانتصارات التي تحققت لي، ولسوف تسقط همة سلطاني وسطوتي إِنْ أنا لم أسندها إلى مجد آخر وانتصارات أخر؛فالغزو هو ما صنع مني ما أنا عليه، والغزو وحده هو ما يمكنه أن يبقيني؟" دون أن ننسى أن الإمبراطوريات عادة ما تنتهي إلى السقوط صريعة حاجاتها المالية، لا سيما حين يتطلب تمويل الحرب مكوسا تتجاوز حدود المحتمل، في تعالق جهنمي بين حماية قوة الإمبراطورية وبذل الجهد العسكري الزائد وفرض الضرائب والمكوس على الأقاليم والأفراد.

فقد تحقق أنالإمبراطوريات تتباين في المكان وفي الزمان؛ لكنها تتباين أيضاً في الشكل وفي النظام: من إمبراطوريات تنزع مؤسساتها نحو التوحد، شأن الإمبراطوريتين الرومانية والنابليونية، إلى إمبراطوريات تسعى إلى الكونفدرالية، نظير الإمبراطورية الأزتيكية، فإلى إمبراطوريات تنحو نحو نظام أكثر مرونة وتراخياً وأقل صرامة وتشدداً، مثيل الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، وإلى أخرى أشد تعقيدا، على نحو ما كانته الإمبراطورية العثمانية ... كما تتباين في أسس المشروعية التي تسوغ بها وجودها: من الدين (الإمبراطورية الإسلامية وفتوحاتها، أو الإمبراطورية المقدسة المسيحية وصليبيتها في العصور الوسطى مثلاً)، إلى إرادة تدمير إمبراطورية عدوة (الإسكندر الأكبر ضد داريوس)،فإلىحمل "رسالة التحضر والتمدين" (إمبراطورية روما، إمبراطورية بيزنطا، الإمبراطوريات الاستعمارية الإسبانية أو الفرنسية ...)وإلى نشر أدلوجة "العدالة الاجتماعية" (الإمبراطورية السوفياتية ...) أو نشر مبادئ "حقوق الإنسان" و"الحرية" و"اقتصاد السوق" (الإمبراطورية الأمريكية ...).

وفي الجملة كل هذا التنوع يقف عائقا أمام الحديث عن "نظرية عامة" في الإمبراطوريات، اللهم ـ يقول بعض مفكري الإمبراطوريات ـ إلا إذا ما نحن ركزنا النظر على ما هو مشترك بينها؛ يعنون "خواتمها" ؛إذ يرون أنه إذا نحن انطلقنا من هذا المشترك البيّن بين هذه الإمبراطوريات ـ وهو مصيرها إلى زوال ـ أمكننا حينها أن نفهم مفتتحها وواسطتها ؛ ذلك أن من شأن الانطلاق من "موت الإمبراطوريات" ـ حسب اعتقاد هؤلاء ـ أن يقدرنا على البحث عن نقط أخرى مشتركة بين هذه الإمبراطوريات.

ذلك أنه وعلى الرغم من هذا التباين في أحوال الإمبراطوريات، فإن ثمة من حاول تفسير أسباب ظهورها وعلل ضمورها، وقد تعاقب على ذلك المحدثون والمعاصرون؛ فقد كتب المفكر السياسي الفرنسي مونتسكيو (1689-1755) كتابات حول أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم (1734)، وكتب المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون (1737-1794) عن تاريخ انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية في ستة أجزاء (1776 - 1788)، وكتب المفكر التاريخي البريطاني أرنولد توينبي (1889-1975) دراسة في التاريخ ضمنها تأملاته في سقوط الحضارات وانهيار الإمبراطوريات (1934-1961) ...

 وقد عاد هذا الموضوع إلى الظهور في الآونة الأخيرة ـ وخاصة في الثمانينات من القرن الماضي ؛لأسباب عدة: منها سقوط بعض الإمبراطوريات شأن الاتحاد السوفياتي، ومنها الاعتقاد في بداية تراجع بعض الإمبراطوريات القائمةكأمريكا مثلا، ومنها عودة ظهور بعض أشباه الإمبراطوريات التي أعلن أنها اختفت، كالصين وروسيا...

نقول "عاد" لأنه لأمد طويل كان قد اعتُقد أن زمن الإمبراطوريات قد ولى وانتهى، وأن فصلا مهما من تاريخ أحد أهم الأشكال السياسية قد أغلق، وأنه من بين أشكال التنظيم السياسي الأساسية التي شهد عليها التاريخودارت أحداث عليها المدينة-الدولة، الإمبراطورية، الدولة القومية ،فإنه مضى زمن الإمبراطوريات والمدن-الدول، وأقبل زمن الدول القومية التي صارت هي الوحيدة الممكنة.

وهكذا، بدأت بعض الكتابات تظهر إلى السطح مبرزة هذه الظاهرة(1) .

  1. في مفهوم "القوى العظمى" أو "الإمبراطوريات":

عديدة هي تلك الكتابات التي تناولت مفهوم "القوة العظمى" أو "الإمبراطورية"، وقد تناولت هذا المفهوم إما في إطلاقيتهأو في خصوصيته؛ أي حضور أو ضمور المفهوم في حقبة معينة وفي مجال مخصوص. من باب التناول الأول نذكركتاب بريت بودن: "إمبراطورية الحضارة: تطور الفكرة الإمبراطورية"(2)، وكتاب تييري مينسيي: "فكرة الإمبراطورية في الفكر السياسي والتاريخي والفلسفي"(3).ومن باب التناول الثانينلمع إلى كتاب جيمس مولدون: "الإمبراطورية والنظام: مفهوم الإمبراطورية 800-1800"(4)،وإلى كتاب روبير فولتز: "مفهوم الإمبراطورية في أوربا الغربية من القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر"(5)،وإلى كتاب جون ريشاردسون "لغة الإمبراطورية: روما وفكرة الإمبراطورية: من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعده"(6).

ويقر المشرفان على كتاب "نهاية الإمبراطوريات" (2016)(7) ـ في ديباجة الكتاب اللذي أشرفا عليه ـ بأن مفهوم "الإمبراطورية" مفهوم سيالبدال ورخو مطاطي؛وذلك بسبب تعدد ألوان الإمبراطوريات واختلاف أشكالها؛فهو مفهوم لا يكاد يقر له قرار، اللهم إلا بربطه بضرب من "السيطرة" أو "الهيمنة" معين ،وإنه لتجميع كيانات متنوعة حول سلطة مركزية يتم تبليغ وصرف توجيهاتها بضرب من الإدارة تكون بالضرورة غير مباشرة وغير مركزية، وذلك بالقياس إلى شساعة الإمبراطورية ،أو اللهم إلا حين نقارنه بأشكال سياسية أخرى يذكرها التاريخ: المدينة-الدولة، ثم بعد ذلك الدولة القومية.

وبالجملة فقد ثبت أن لفظ "الإمبراطورية" في بعض اللغات الأوربية الحديثة ـ Empire ـمشتق من اللفظ اللاتيني ـEmperiumـ الذي يفيد دلالة "القوة"، أو "المقدرة""الأسمى"؛ إذ كان أهل العصور الوسطى يتحدثون عن "السيادة الكاملة" التي يملكها ذاك الذي يعود إليه أمر تحديد الحق وتعيين أصحابه، وليس عليه أن يتلقى القانون أو يمتثل إلى أمره من أيٍّ كان. فكان الإمبراطور بذلك هو "ملك الملوك" بلا منازعة. وعندما أراد إمبراطور فرنسا الذي كان عرشه غير مأمون آنذاك ـ في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين ـ أن يؤمِّن ويؤكد استقلاله نحو قوى العالم الأخرى، أعلن مشرعو بلاطه أنه أمسى "إمبراطورا في مملكته"، وهي طريقة في القول تعني أنه لما كانت توليته قد تمت من لدن القوة الأسمى، فإنه ما كان له أن يبرر حكمه أمام أيٍّ كان، اللهم إلا أمام القوة التي كان يقر بأنهها أعلى منه؛ نعنى قوة الله وقدرته(8).

تأسيساً عليه، يعرف المشرفان على كتاب "نهاية الإمبراطوريات" مفهوم "الإمبراطورية" على أنه: " ما يترتب عن هيمنة كيان سياسي معين على عدد من الكيانات، سواء أكانت سياسية أم لا، من دولٍ وأقاليم وقبائل وشعوب وثقافات ...".

  1. في نشوء القوى العظمى ـ  الإمبراطوريات ـ وأفولها:

قدم المشرفان على المؤلف الجماعي "نهاية الإمبراطوريات" (2016) كتابهما على النحو المثير التالي:

""كتب جون-باتيستديروسيل(9) [كتابا تحت عنوان]: "ما من إمبراطورية إلا وشأنها أن تبيد"(10)، وإن الدراسات العشرين التالية لتبين عن ذلك: اللهم باستثناء الإمبراطوريات التي لا زال تاريخها موصولاًمسترسلاً: الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هل يتعلق الأمر حقاً بإمبراطورية؟ وأولئك اللواتي تاريخهن يستأنف استئنافا ـ الصين، ولربما أيضا روسيا ـ وذلك من غزوات الإسكندر الأكبر، منذ ألفين وثلاثمائة عام، إلى الإمبراطوريات الاستعمارية التي شيدت في القرن التاسع عشر، فلا واحدة من هذه الإمبراطوريات عاشت. وإن الكتاب التالي ليعرض أمر سقوطها، مقدما إلى القارئ جولة في حوالي خمسة وعشرين قرناً من تاريخ العالم"(11).

يبدو أن المفكر الإستراتيجي ومنظر العلاقات الدولية البريطاني بول كينديما كان ليقاسم المشرفين على كتاب "نهاية الإمبراطوريات" قناعتهما في شأن استثناء بعض الإمبراطوريات المعاصرة من عوادي الزوال، ولا سيما منها الولايات المتحدة الأمريكية.ويبدو أنه ما كان ليكذب هو بتلك القاعدة التي تحكم في فلسفة التاريخ،والتي سبق أن أشرنا إليها،وكان قدصاغها جون باتيستديروسيل: "ما من إمبراطورية إلا وشأنها أن تبيد"، أو حتىالمؤرخ الفرنسي جون تولار (1933-): "محكومة هي الإمبراطوريات بأن تموت"(12). فعند بول كيندي أيضا ثمة فكرة مركزية لا تكاد تكذَّب، وهي أن كل الإمبراطوريات تنتهي إلى فقدان تماسكها بفعل عوادي الزمان.

وعلى الرغم من إيمان بول كيندي بأن التاريخ يعسر أن يُستقرأ ـ أَوَ ليس هو القائل: "الشيء الوحيد الذي يعلمنا التاريخ إياه هو أنه لا يمكنك أن تكون أبداً موقناً بأي شيء ومتأكدا منه"؟ ـ فإنه لا يكف أيضاً عن تكرار القول الحكيم: "من شأن الإمبراطوريات أن تغدو وأن تروح".

كما أنه وعلى خلاف التقاليد الأكاديمية الأنجلو-أمريكية الراسخة في التأليف التاريخي والتي تقتضي ألا يغامر المؤرخ بالتأريخ للراهن، فإن بول كينديكثيراً ما يشتكي من "بروز إكليروس مهني مكون من مؤرخين محترفين، وذلك بدءا من نهاية القرن التاسع عشر ... يرى أنه عليك أن تكون حاصلاً على دكتوراه ومسيجا حقبة تاريخية معينة لا تتجاوزها".

والحال أن كتاب "نشوء القوى العظمى وسقوطها"(13)، وكما يدل على ذلك عنوانه، يحلل عملية ظهورالقوى العظمى ـ الإمبراطوريات ـ وضمورها خلال القرون الخمسة التي أعقبت تشكيل "الممالك الجديدة" بأوربا الغربية؛ أي أن المؤلف يعودالقهقرى إلى عام 1500 ـ وهو العام الذي يشكل في نظره فيصل التفرقة بين الحقبتين الوسيطة والحديثة.

ويقدم المؤلف كتابه بوصفه يعنى بدراسة القوى الإقليمية والدولية في عصر ما بعد النهضة الأوربية (القرنين 14 و15 الميلاديين)، ويتقصى عن كيفية تشكل القوى العظمى ـ على اختلاف ألوانها، وتعدد علاقاتها ـ وتحللها بعد ذلك.

ولئن كان الكتاب قد أولى عناية خاصة بظاهرة الحروب بين تلك القوى؛ فإن صاحبه ينبهنا إلى أنه ما كان كتابه محضسجل للحروب وما ينبغي له؛ وإنما هو بالأحرى سجل تاريخي اقتصادي يستقصي التغيرات التي لحقت الاقتصاد العالمي منذ عام 1500م. ومن ثمة كان الكتاب مؤلفاً بين "الاقتصاد والاستراتيجية". وما زال المؤلف يؤكد على هذا التآلف في تاريخ القوى العظمى بين هذين العنصرين، حتى انتهى إلى ما يكاد يشبه ناموساً تاريخياً كونياً حكم نظام القوى العظمى: "أن جميع الدول الطليعية في النظام العالمي لم تأل جهداً كي تعزز ثروتها وقوتها العسكرية حتى تغدو (أو تبقى) ثرية وقوية في آن واحد". إذ يحاول المؤلف إثبات أن ثمة تلازماًوتعالقاً بين "القوة العسكرية" و"القوة الاقتصادية"؛ وذلك بحيث إن "الثروة سلاح لدعم القوة العسكرية، والقوة العسكرية ثروة مكتنزة تتيح الحصول على الثروة وحمايتها". ذلك أنه بعد استقراء المؤلف لزهاء 500 حول من التاريخ انتهى إلى استخلاص أن: "النصر الذي حققته أية واحدة من القوى العظمى خلال تلك الحقبة أو الهزيمة التي لحقت بقوة عظمى أخرى قد كانا في الغالب إما ثمرة أو عاقبة لحرب طويلة كانت هذه الدولة أو تلك طرفا فيها".

على أن تحليل المؤلف لنظام القوى العظمى ما كان هو بالتحليل الستاتيكيـ الذي يركز على السكون ـ وإنما هو تحليل دينامي، يركز على التحولات والصيرورات وينتبه إلى المآلات والمصائر. من جهة أولى، لا توجد قوة مطلقة، كل القوى نسبية. ومن جهة ثانية كل القوى تتغير فتشتد وتلين عبر الزمان؛فالقوى النسبية التي امتلكتها دول الطليعة ذات التأثير على الشؤون المالية العالمية لم يكن لها أن تبقى ثابتة ساكنة جامدة؛ وذلك لسببين اثنين: أول:؛ تباين معدل نمو المجتمعات المختلفة. وثانيا: تفاوت المستويات التقنية والتنظيمية من مجتمع إلى آخر، بما يجعلها ترجح كفة المجتمع الواحد على الآخر.

ويلاحظ المؤلف أن من شأن القوة العظمى التي أدركت أن قدرتها الإنتاجية قد تعاظمت أن يسهل عليها الاضطلاع بأعباء الإنفاق على تسليح واسع المدى في زمن السلم، وأن تحافظ على جيوش قوية وأساطيل ضخمة تلبي احتياجاتها في زمن الحروب؛ لكن "لو خصصت نسبة كبيرة من مصادرها لأغراض عسكرية فقط بدلا من توظيفها في خلق الثروة وتنميتها؛ فإن هذه الدولة تكون قد اختطت لنفسها طريق التداعي على المدى البعيد". وذاك "ناموس" من "نواميس التاريخ" يقف عنده الرجل: إن في التوسع الاستراتيجي المفرط ـ المتمثل في احتلال مناطق شاسعة أو في ولوج حروب باهظة التكاليف ـ لخطرا يهدد الدولة في حال ما إذا رجحت كفة الإنفاق الهائل على مثل هذا التوسع الخارجي على كفة الفائدة المرجوة منه. وبهذا، سوف تدخل الدولة التي أقدمت على ذلك على مرحلة من الانهيار الاقتصادي النسبي. والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة في نظرالمؤلف،وهي تدل كلها على أن ثمة "ترابطاً دالاً على المدى البعيد بين الإنتاج ونمو عوائده من جهة، وبين القوة العسكرية من جهة أخرى".

ويبسط المؤلف كل آرائه هذه على مدى صفحات طوال ترجمت إلى أزيد من 25 لغة، وبلغت في الطبعة الإنجليزية 708 صفحة، وفي الترجمة الفرنسية 722 صفحة، وفي الترجمة العربية824 صفحة، من خلال ثمانية فصول، فضلا عن توطئة وخاتمة.

يدور الفصل الأول ـ المعنون بالعنوان: نشوء العالم الغربي ـ على أحوال القوى العظمى في العالم آنذاك؛ أي في عام 1500، وذلك من خلال تحليله لمواطن القوة ومكامن الضعف في أبرز مراكز القوة وقتئذ؛ نعني الصين في عهد إمبراطورية منغ، والإمبراطورية العثمانية وامتداداتها الإسلامية في كل من الهند وأوربا، والإمبراطورية المغولية، ومسكوفيا، واليابان، ومجموعة دول وسط أوربا وغربها. ويعمد المؤلف إلى المفاضلة بين إمبراطوريات الشرق وإمبراطوريات الغرب، فيرجح كفة الشرق بناء على معايير الخصوبة والتعداد السكاني والموقع الإستراتيجي؛ بل وحتى الإنتاج المعرفي. ويذكرنا بأنه ما كانت أوربا عام 1500 إلا مركزاً واحداً بين أهم المراكز الحضارية؛ ومن ثم لم يبد آنذاك ما يوحي بأنها سوف تَبُزُّ كل الدول بعد حين؛لكن سرعان ما سيتبدى جانبا قوة أوربا: يتمثل الأول في تحرر بلاطات أوربا وقصورها من أيادي السلطة العليا التي ميزت إمبراطورية الشرق. ويكمن الثاني فياستفحال العداء داخل أوربا بين الممالك؛ الأمر الذي خلق تنافساً فيما بينها ألجأ المجتمعات الأوربية إلى أن تدخل مرحلة نمو اقتصادي وعسكري تصاعدي؛ فكان أن سابقت جميع مناطق العالم الأخرى، فسبقتها.

وينظر الفصل الثاني ـ الموسوم باسم: "مطامع هابسبرغ للسيطرة على أوربا: 1519- 1659"ـ في أمر الصراعات بين القوى العظمى في أوربا بغاية الهيمنة على القارة، وذلك خلال الفترة من الزمن الممتدة ما بين عام 1519 وعام 1659. وقد شهدت هذه الحقبة أمرين: أولهما: نهوض حركة الإصلاح الديني عام 1517 على يد الراهب مارتن لوثر في ألمانيا، الشيء الذي كان من شأنه أن أحدث شرخا دينيا بين شعوب أوربا، وأجج النزاعات السياسية، وحوَّل بعضها إلى حرب كاثوليكية-بروتستانتية، فحدث أن اصطفت مملكة آل هابسبروغ والنمسا ومعظم فرنسا في جانب، وألمانيا وبريطانيا وهولندا وباقي فرنسا في الجانب المقابل. وثانيهما، تأسيس تآلف آل هابسبورغ(إسبانيا/النمسا) الذي نزع إلى الهيمنة على أوربا برمتها؛ مما ألب عليهم الأعداء تأليبا. وقد عمل الفصل على تحليل موازين القوى بين هذه القوى المتصارعة. ويقف المؤلف على سبب فشل إمبراطورية آل هابسبورغ المتمثل في تعدد واجباتهم العسكرية حتى تكالب عليهم أعداؤهم، ولم يعرفوا للراحة من الحرب طعما .

ويعنى الفصل الثالث ـ الموسوم:"المال والجغرافيا وأثرهما في كسب الحروب (1660-1851)" ـبشأن دراسة صراعات القوى العظمى في الفترة المذكورة، وتأثير عاملي "المال" و"الجغرافيا" على نتائج هذه النزاعات. فبعد هزيمة آل هابسبورغ أمست حقيقة التعددية السياسية في أوربا أمرا محتوما، وبرز نظام أوربي متعدد الأقطاب أضحت فيه كل دولة توجه سياستها بحسب مصالحها القومية لا تبعا للدين أو غيره. وبهذا توارت السمة البارزة للمرحلة السابقة،وسد مسدها نظام هش مؤلف من تحالفات قصيرة المدى يسيرة التبدل. وشهد ذلك على تغير في نظام القوى بتراجع دول عظمى شأن إسبانيا وهولندا والسويد ودولة آل عثمان، وصعدت دول أخرى نظير فرنسا وبريطانيا والنمسا وروسيا وبروسيا ... وكان وراء ذاك التراجع وهذا التقدم عاملان حاسمان: المال ؛لدعم الاقتصاد وتأسيس المؤسسات المالية المقتدرة وتمويل الحروب ، والجغرافيا: الموقع الاستراتيجي أثناء الحروب المتعددة الأطراف. وقد تمتعت بمواقع جغرافية امتيازية كل من بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، حتى قال توكفيل في نبوءته الشهير عن القوتين الأخيرتين: "إن إرادة السماء قد اختارت روسيا والولايات المتحدة ليتحكما بمصائر نصف العالم".

يحمل الفصل الرابع من الكتاب من العناوين عنوان "التصنيع وتغير التوازنات العالمية 1815-1885". ويدور آثار التصنيع والتطور التكنولوجي والاقتصادي على توازن القوى في العالم وقتئذ. ويشرح المؤلف سمات النظام الدولي آنها، فيجدها قد تمثلت في ثلاث: أولا: النمو الموصول والواسع النطاق لاقتصاد عالمي متكامل قوامه التجارة الواسعة عبر المحيطات والقارات؛ مما خلق شبكة مالية تمركزت في أوربا الوسطى بقيادة بريطانيا. وثانياً: غياب نسبي للحروب القومية الكبرى، وظهور توازن استراتيجي بحيث ما عادت أية دولة أوربية بمكنتها فرض هيمنتها على الأخريات. ولذلك اتجهت أنظار هذه الدول إلى "بقية العالم" غازية. وثالثاً:أثر التكنولوجيا المنبثقة عن الثورة الصناعية على وسائل الحرب البرية والبحرية، وذلك على الرغم من بطء ظهورها. وهو الأمر الذي أثر على نتائج حروب منتصف القرن التاسع عشر القصيرةأكثر من تأثير المال. وكان من آثار تضافر هذه العوامل (نمو الاقتصاد العالمي، وبروز القوى الإنتاجية التي أطلقتها الثورة الصناعية، واستقرار أوربا النسبي، وتحديث التكنولوجيا العسكرية والبحرية تدريجيا، ونشوب بعض الحروب المحلية القصيرة الأمد) ترجح كفة بعض القوى (بريطانيا مثلاً، فضلاً عن الولايات المتحدة وروسيا) على أخرى (فرنسا والنمسا والمجر وإيطاليا).

وقد جعل المؤلف من اليسير ضم الفصلين الخامس والسادس بعضهما إلى بعض نظراًللتعالق الشديد بينهما، وقد دارا معا على مسألة "نشوء عالم ثنائي القطب وأزمة "القوى الوسطى"" كل واحد من خلال فترة أولى (1885-1918)، فثانية (1919-1942). وعني الفصلان بنشوء عالم ثنائي القطب (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية) بدل العالم المتعدد القوى أو القوى الوسطى الأوربية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، المجر) التي تكبدت بسبب الحربين العالميتين الأولى والثانية خسائر فادحة. ويحاول المؤلف تعليل سقوط النظام القديم المتعدد الأقطاب وصعود النظام الجديد الثنائيه، ومن بين العوامل التي يذكرها التعالق الذي ازداد شدة بين الاقتصاد والإستراتيجية، والذي كان عليه مدار الكتاب برمته ،في زمن الحرب الحديثة المستندة بالأولى إلى الصناعة،وهو التعالق الذي أسفر عن صدق نبوءة توكفيلالناذرة بتشكل عالم ثنائي الأقطاب.

وأخيراً عني الفصلان الأخيران ـ السابع والثامن ـ باستقصاء أحوال العالم في ظل النظام العالمي الثنائي القطب الذي ترتب عن انتهاء الحرب العالمية الثانية واستمر إلى أواخر الثمانينات من القرن العشرين، وقد عنون المؤلف الفصل السابع: "الاستقرار والتغير في عالم ثنائي القطب: 1943-1980"، متناولاً فيه المشهد الإستراتيجي الجديد الذي تمثل ـ كما أسلفنا ـ في ثنائية القطبية الذي أدى إلى نشوء "الحرب الباردة" بين القطبين، تميزت بتصعيد متبادل في أوربا ومست العالم الثالث.وعنون الفصل الأخير بعنوان: "على أعتاب القرن الحادي والعشرين: تاريخ واستقراءات". وقد بدأه بملاحظة تتعلق بإيستمولوجيا التاريخ: لا يمكن بأي حال اعتبار كتابة الراهن كتابة تاريخية بحقٍ؛ لمحاذير كثيرة من بينها استحالة التنبؤ بالأحداث التي يمكن أن تفاجئ حتى أكثر المتنبئين حذرا وحتى أكثر التنبؤات عقلانية. ولهذا ينبه المؤلف إلى أنه استبدل في هذا الفصل الحدوس بالتحليلات. وبناء على عودته القهقرى لاستخلاص "ثابت" الأطوارالسابقة من تاريخ القوى العظمى، المؤسسة لأطروحة الكتاب الأساسية القائلة بأن: "وجود قوة محركة للتغير تنبع أساسا من التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، وتلقي بظلالها على البنى الاجتماعية والأنظمة السياسية، وحتى على مواقع الدول والإمبراطوريات، وعملية التغيير الاقتصادي الكوني، و[بأن] عملية التغير الاقتصادي الكوني ليست منتظمة طالما أن خطى الاختراعات التكنولوجية والنمو الاقتصادي غير منتظمة هي أيضا، وخاضعة لحالة البلاد الخاصة، إضافة إلى تأثيرات الطقس، والأمراض، والحروب، والجغرافيا، والإطار الاجتماعي، إلخ ..."، ينتهي مؤلف الكتاب إلى محاولة لاستقراء التوجهات العامة الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية الراهنة بغاية استشراف مستقبل العالم، فيذهب إلى أن كلا من اليابان والصين والسوق الأوربية المشتركة-ولا سيما ألمانيا- تتمتع بنمو اقتصادي وتطور تكنولوجي متسارعين، بينما سوف يشهد الاتحاد السوفياتي تراجعا كبيرا في موقعه بحسبانه قطبا عالميا نتيجة لتخلفه التكنولوجي وانهياره الاقتصادي، أما التكهن المثير للدهشة حقا فهو قوله بأن الولايات المتحدة الأمريكية ـ مع أنها الرائدة اليوم ـ ما كانت بمبعد عن "الاختبارين القاسيين اللذين يحددان "امتداد عمر" كل قوة كبرى تتبوأ "الرقم واحد" في الشؤون العالمية: أي ما إذا كانت تستطيع من الناحيتين العسكرية والاستراتيجية أن تحتفظ بتوازن معقول بين متطلبات الأمة الدفاعية والوسائل التي بين أيديها للوفاء بهذه الالتزامات، وما إذا كان بوسعها أن تصون قواعدها التكنولوجية والاقتصادية لقوتها من التآكل النسبي بوجه أنماط الإنتاج العالمي الدائمة التغير".

وفي نهاية الكتاب يؤكد المؤلف أن الثروة والقوة ـ أو بالأولى القوة الاقتصادية والقوة العسكرية ـ أمران نسبيان على وجه الدوام، ومن ثمة فإنه ليس يمكن أبدا أن تبقى التوازنات العالمية هي هي؛ إذ يبدو جليا أن هناك تحولات ـ على صعيد الإنتاج الاقتصادي والقوة الإستراتيجية معا ـ مهمة في التوازنات آخذة في البُدوِّ، وربما بسرعة أعلى من ذي قبل. وأن كفة القطبين لمتآكلةٌ هاوية، وأن كفة الصين واليابان لمتقدمة راجحة. ويبقى أن المشكلة التي تواجهها الدول العظمى لتكمن في النزاع الدائم والموصول بين وسائل الأمة وغاياتها.

لقد تبين أن مدار الكتاب الرئيس إنما هو على التفاعل الحاصل بين الاقتصاد والإستراتيجية، واستهلال الكتاب يفيد ذلك: "كلاَّ؛ لا تظل القوة النسبية للأمم الكبرى على المستوى الدولي على حال من الثبات أبد الدهر، وإنما تتغير تغيراً، لا سيما تبعا لمعدلات نمو كل مجتمع ، وترتهن إلى الامتياز النسبي الذي يُكسبها ألوان التقدم التكنولوجية والبنيوية"؛ذلك أن نمو مقدرة الإنتاج عند أمة من الأمم يسمح لها بتحمل الأعباء المرتبطة في زمن السلم بسياسة تسليح مكثفة، والمرتبط في زمن الحرب بتعهد الجيوش تعهدات باهظة الكلفة. وإذا ما تم توجيه قسم كبير من الموارد المراد بها خلق الثروة نحو غايات عسكرية، فإن ذلك مؤذن بخطر يؤدي على المدى البعيد إلى إضعاف مقدرة القوة العظمى.

وهكذا، يستقصي بول كيندي أحوال الأمم الكبرى البرتغالية والإسبانية والبريطانية والروسية والألمانية وغيرها منذ نشأتها إلى تطورها فإلى أفولها. وقد حلت بعضها- كلبحسب دوره- محل إمبراطورية كانت منافسة لها أو نشأت لتوها،وذلك عبر 500 سنة منسيرورة القوى المترقية والمتدلية التي يحللها بول كيندي تحليلا ضافيا حسب تطوراتها الاقتصادية؛ لكي يستخلص -عبر ثوابتها- ما يمكن أن يحدث في القرن الواحد والعشرين. وتستوقفه بالخصوص الهوة المتنامية منذ السبعينات بين التوازنات الإنتاجية والتوازنات العسكرية؛ فالقوى العظمى ـ في عالم أمسى متعدد الأقطاب أكثر من أي وقت مضى، شأن الصين واليابان وأوربا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية ـ ما تفتأ تتطور باطراد، ولسوف تواجه ـ حسب ما يذهب إليه المؤلف ـ "تلك المسألة الأبديةالأزلية الدائرة على الوسائل والغايات".

وهكذا، يبرز المؤلف الصلات القائمة على المدى البعيد بين الاقتصاد والتوسع العسكري للإمبراطوريات؛ وهي الصلات التي تطرح مسألة الفارق العميق بين الإمبراطورية الأمريكية والإمبراطوريات التاريخية، فارق يعمل مجمل النظار الإستراتيجيين الأمريكيين على إبرازه؛ لكي يعلنون أن الإمبراطورية الأمريكية قوة أبدية. وهو ما يخالفهم فيه بول كيندي.

قد يبدو القيام بحروب من أجل الإمبراطورية أمراً من شأنه أن ينمي مواردها؛ لكن أن تضطر إمبراطورية إلى أن تفعل ذلك بلا حد، وأن تتعهد بإبقاء احتلالاتها العسكرية قائمة إنما هو أمر-بالضد مما يعتقد- يعمل على إضعافها كثيراً.

في دعوى جامعة إذن يناقش المؤلف دعاوى صغرى يمكن حصرها على النحو التالي:

أولا:أن الناظر في أحوال القوى العظمى تاريخيا يلحظ أنها تشهد على دينامية تغيير يغذيهابالإحساس تطور الاقتصاد والتقنيات الذي يؤثر على البنى الاجتماعية وعلى الأنساق السياسية وعلى القوة العسكرية؛ ومن ثم على وضع الدول والإمبراطوريات(14).

ثانياً: من شأن أشكال التطور غير المتوازنة للنمو وللتجديدات أن يجعل من تقدم أو تأخر بعض الأمر أمرا يترجم عنه بتعابير القوة العسكرية والوضع الإستراتيجي النسبي الذي تشهده مختلف الدول(15).

ثالثاً: من أمر الازدهار الاقتصادي ألا يفضي بالضرورة دوما الإفضاء المباشر إلى الفعالية العسكرية؛ وذلك لأن هذه الفعالية منوطة بعوامل عدة أخرى، سواء تعلق الأمر بالجغرافيا وبحال معنويات الأمة أم بجودة الضباط السامين وبالمقدرة التكتيكية العالية(16). فلا توجد سببية آلية بين الأمرين، كما يعتقد الماركسيون، وإنما ثمة استقلال نسبي للقوى العظمى بسبب من بشريتها. إذ ثمة ثلاث بنى مستقلة ومتعالقة في الآن نفسه ـ أي مستقلة بعضها عن بعض باستقلال نسبيي؛ أي بضرب من التمايز والتآزر في الوقت نفسه ـولا توجد سلسلة سببية بالضرورة بينها. وهي على التوالي: أولا: تحولات البنية الإنتاجية الصناعية والعسكرية. ثانيا: العوامل الجيو-سياسية والإستراتيجية والاجتماعية – الثقافية ... وأخيرا؛ التحولات الدبلوماسية والسياسية.ومن ثمة، فإن من شأن تفوق بيّن في العتاد العسكري -وعلى العموم إنتاجية اقتصادية فائقة- ألا تضمن آليا بالتبع الفعالية العسكرية(17)، وذلكم على نحو ما خبرته وشهدت عليه الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد فيتنام. وبالعكس من ذلك، فإن من شأن إنتاج قد يكون أقل (كما حدث للنازيين عام 1943 ضد الاتحاد السوفياتي) ألا يمنع من تحقيق إنجازات عسكرية مذهلة. وقس على ذلك أمر الافتقار إلى الموارد الأولية (يابان ما بعد 1945) مع تحقيق الكثير (المعجزة اليابانية).

  1. في "أفول" الإمبراطورية الأمريكية

ثمة أولاسؤال لطالما ناقشه منظرو السياسة الدولية ومفكرو الإستراتيجية: أحقا أضحت تشكل القوة الأمريكية العظمى "إمبراطوريةشبيهية"؟ أم هل حقا أمست الولايات المتحدة الأمريكية "إمبراطورية" بالمعنى الأدق؟

ثمة أدبيات عديدة تناولت هذه المسألة بالذات، وقد عد من أبرز المسهمين فيها بنيامين باربر(18)، ونيال فرجسون(19)،وشالمرز جونسون(20) وغيرهم كثير...

من جهة أولى، هناك من يمكن أن نسميهم باسم "النفاة" أو "النكّار"، وهم الذين "نفوا" أو "أنكروا" أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية تشكل "إمبراطورية" بالمعنى الحق. على أنهم قلة قليلة؛ هذا مثلا عالم الاجتماع البريطاني المولد الأمريكي الإقامة مايكل مان يبرز أنه ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية بإمبراطورية، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك. ويستعرض مايكل مان الموارد الاقتصادية والأخلاقية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية التي يمكن أن تؤسس لهذا الادعاء الإمبراطوري، ويخلص إلى أنها غير كافية لكي تجعل من البلد إمبراطورية حقة، على الرغم من طموح بعض حكامها. ولئن هو ساغ ـ جدلا ـ تسمية الولايات المتحدة الأمريكية "إمبراطورية"؛ فإنها "الإمبراطورية غير المنسجمة، الفائقة القوة بكل تأكيد؛ لكن الفاقدة للسلطان أيضا". وهي عاجزة عن تحقيق شرطين لا بد من توفرهما في أية إمبراطورية: إطلاق كل قوى التدمير من قمقمها لسحق العدو ومحقه،وإعادة إنشاء العالم نشأة جديدة وقد قُدَّ على صورتها؛ وهو ما شكل دوما سمة الإمبراطوريات عبر التاريخ. وإذ هي عاجزة عن فعل ذلك، فإنها لا تقدر إلا على استعداء الآخرين عليها، واستكراههم لها، وحملهم على اللجوء إلى الإرهاب ضدها. ويخلص إلى نفي أن تكون أمريكا إمبراطورية؛ وإنما هي "إمبريالية جديدة تحولت إلى مجرد نزعة عسكرية ليس إلا"(21).

وثمة ما ذهب إليه المفكر السياسي اليميني الفرنسي ألان دو بونوا من أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنشئ أبدا إمبراطورية بالمعنى الأحق، وإنما قصاراها أنها أنشأت منطقة نفوذ ـ الشيء الذي يختلف عن معنى "الإمبراطورية"؛ حيث يعدّ الحلفاء عبيداً ويعد الأعداء أشرارا. وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة الأولى في العالم، وعلى الرغم من أن العولمة تخلق بيئة مساعدة لتطوير "قوتها الناعمة" التي نَظَّرَ لها منظر العلاقات الدولية الأمريكي جوزيف ناي في كتابه "خطوة نحو القيادة" (1990).

على أن كثيراً من المنظرين السياسيين والمفكرين الإستراتيجيين-من جهة أخرى-أجاب عن هذا السؤال بالإيجاب؛فهذا المؤرخ البريطاني الشهير والمثير للجدل نيال فرجسون ـ وهو أحد أهم مفكري ما يمكن تسميته باسم تيار "مفكري الهيمنة"؛ أي أولئك المفكرين الإستراتيجيينالذي يقسمون العالم إلى "الغرب" ويعدون غيره من باب "البقية"، وينظّرون لضرورة هيمنة "الغرب" على "البقية" ـلا يرى فحسب أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أمست "إمبراطورية"، بل يذهب إلى عدها أقوى إمبراطورية شهد عليها التاريخ. وهي الإمبراطورية التي ـ في رأيه ـ تسلمت المشعل من "الإمبراطورية الليبرالية" البريطانية، وها هي ذيالآن مستمرة في "نجلزة" العالم؛إذ أمست مصدر الديمقراطية والازدهار بالتجارة.

وينظر نيال فرجسون إلى فكرة "الإمبراطورية" نظرة إيجابية، ويرى أنه لا بد للعالم من إمبراطورية تسوسه، وأنه لا ينبغي أن يبقى النظام الدولي بلا قطبية. هي إذن إمبراطورية يدعو إليها فرجسون تكون "غير مهيكلة" (تغزو العالم بالعولمة الاقتصادية التي وحدها تمكن من التنمية؛ إذ العالم الثالث-كما كان حال الهند بالأمس- يبقى فقيرًا ؛ لأنه غير مدمج الاندماج التامفي الاقتصاد العالمي)، كما تكون في الوقت نفسه "مهيكلة" وذلك بمبادرتها إلى الهجوم على الطغاة واحتلال الأراضي لتحويلها إلى صالح الساكنة.

ولئن كان يرى منظرو الهيمنة ـ من أمثال نيال فرجسون وإمانويلفالرشتاين(22) وغيرهما ـ أن الهيمنة الأمريكية ما تفتأ تسير إلى أفول منذ الستينيات من القرن الماضي، فإن مفكرين آخرين يعيبون على الأمريكيين عجزهم عن فهم الوضع الهيمني وتحمل مسؤوليتهم، وأنهم لا يرون أبعد من المصالح الأنانية لبلدهم على حساب استقرار النظام السياسي.

والأمر نفسه يتبناه نيال فرجسون الذي يجيب: نعم، الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطورية، ويضيف: أجل، هذه الإمبراطورية هي أفضل أمنية يتمناها العالم؛ لكن، هل يمكن للأمريكيين فعلاً أن يضطلعوا بهذا الدور؟

بحسب ما يذهب إليه البعض، إِنِ الولايات المتحدة الأمريكيةإلا تمثال ضخم منتفخ لكن رجليه قد صنعتامن طين وقش؛فهذه الولايات هي نفسها بنفسها ولنفسها ما يشكل حدا لقوتها وهشاشة لعظمتها وقصورا لهيبتها. ولعل حالها أشبه شيء يكون بحال الإمبراطورية الرومانية التي قد تكون ماتت لا بسبب من غزوات البرابرة-على نحو ما يزعم عادة-وإنما بسبب من انحطاطها من تلقاء نفسها ومن داخلها. فإذن، المطلوب من الولايات المتحدة الأمريكية ـ في رأي الرجل ـ أن تنهض نهضتها، وأن تصلح من أمرها في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والتربية.

وبالنسبة إلى نيال فرجسون، فإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت دائما متمنعة عن أداء هذا الدور بحجة ماضي الإمبريالية المخجل، ولقيام تيارات يمينية ويسارية على حد السواء معادية للإمبريالية. وإذ افتقد الأمريكيون إلى إرادة الإمبراطورية، فإنهم فضلوا دوما الزبدة على المدفع.

والحال أنه عادة ما يدور النقاش حول الولايات المتحدة الأمريكية على رؤيتين للتاريخ الإمبراطوري الأمريكي:فالبعض يرى أن للولايات المتحدة الأمريكية ضربا من "الجينات الإمبراطورية"؛ وبالتالي فإن الأزمات التي تحملها على إبداء قوتها إنما هي مجرد تَعِلّات وحُججٍ واهية. وثمة من يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية "مضطرة" إلى حمل لواء الإمبراطورية؛ فهي إنما تردُّـ وهي مضطرة إلى ذلك، مكرهة عليه،مُلجأة إليه ـ على هجمات مباشرة أو على تهديدات محتملة، حتى ولو كانت بعيدة الوقوع، في عالم متعالق متداخل يكاد يعرض البلاد إلى مخاطرجمة. وبناء عليه تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تغيير العالم عن طريق الديمقراطية والسوق والقانون؛ وذاك حتى تجعل من هذا العالم عالماً أقل خطراً. وأما نيال فرجسون، فيعمد إلى إحداث مزجٍ بين المنظورين: "الجينات الإمبراطورية" موجودة ـ وهذا أمر حسن في نظر فرجسون لكن ينبغي في كل وقت أن تُصدم بصدمات كهربائية حتى يفيق الأمريكيون من سباتهم غير الإمبراطوري. وهم لا ينهضون بدورهم إلا كارهين، ولا يسترسلون في مهمتهم الإمبراطورية إلى النهاية.

وهذا المؤرخ الفرنسي المتخصص في العلاقات الدولية بيير ميلاندري(1946-) يجيب عن مسألة ما إذا كانت قد أضحت الولايات المتحدة الأمريكية "إمبراطورية" بالفعل، بأن ثمة أمارات عدة على أنها استحالت فعلا إلى قوة إمبراطورية عظمى. ومن بين هذه الأمارات يذكر أربع: التوسع في البلدان الأجنبية، الهيمنة على كيانات أخرى، الإمبريالية الثقافية، القوة الاقتصادية ... وهو يرى أن أفول هذه الإمبراطورية أمر معلن عنه لا ريب في ذلك؛ لكن حيوية المجتمع الأمريكي على المستوى الاقتصادي والثقافي كانت تؤجل دوماً السقوط إلى حين، فهو إذن أفول مؤجل(23).

وهل يا ترى هذه الإمبراطورية سائرة إلى أفول؟

من أهم الأجوبة التي قدمت حول هذا السؤال جواب المؤرخ البريطاني نيال فرجسون (1964-) في كتابه: "بزوغ وسقوط الإمبراطورية الأمريكية" (2004)(24). وقد وقف المؤرخ البريطاني على التهديدات المالية التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية؛ فرأى أن الولايات المتحدة الأمريكية أمست المدين الأول في العالم، وأنها صارت رهينة حجم ضخم مهول من الرساميل الأجنبية لكي تمول نفسها، وأنه يكفي أن ننظر إلى كيف أن بنوك وول ستريت صارت تبحث عن أخذ جرعات من الرساميل الأجنبية العائدة إلى الصناديق السيادية لآسيا والشرق الأوسط. وهو الأمر الذي سوف يؤدي إلى الحد من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التصرف في هذه المناطق وعلى التحكم فيها. لقد أمسينا ـ حسب نظره ـ نعيش تحولاًخفياً غير بديٍّ بين التبعية المالية والجيو- سياسية. تاريخيا، عندما توجد نزاعات سياسية بين مدين ومدان، فإن من شأن من يمنح الدين أن تكون له الكلمة الأخيرة. وهكذا، فإنه لئنكان صمام أمان أمريكا يتمثل في أنها أفضل مكان للاستثمار في الأعمال، فإنها إن فقدت هذه السمة لا يمكن إلا أن نتصور أفولها على المستوى البعيد.

وقد عبر تعبير نبوءة وزير ياباني أول في عام 1973 حين قال: "لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية شمساً تدور حولها كواكب، وإنما عدت كوكباً بين كواكب ليس إلا".

وتقول نظرية بول كيندي في شكلها الموجز: بأنه القوى الاقتصادية في إمبراطورية ما من شأنها أن تسير جنباًإلى جنب مع القوة العسكرية، فإذا أمسى اقتصاد إمبراطورية ما أقل تنافسية وأدنى، فإن ذلك يعني ـ على المدى البعيد ـ عدم قدرة هذه الإمبراطورية على الحفاظ على وضعها العسكري المتميز دوليا. وجوهر كتاب قيام القوى العظمى وسقوطهايتمثل في كونه دراسة للتمدد الإمبراطوري. وهي دراسة استندت إلى سوابق تاريخية عدة؛ لكي توحي بأن الولايات المتحدة الأمريكية صائرة في الدخول إلى طور من الأفول بسبب من حجم التزاماتها العسكرية الشاملة.

ودائما يجدد الرجل أطروحته بالنسبة إلى أمريكا فيرى أن الولايات المتحدة الأمريكية أمست إمبراطورية ـ قوة عسكرية استعمارية توسعية. وهي اليوم تعيش على مفارقة: التوسع العسكري غير المسبوق، على نحو ما أثبتته التجربتان العراقية والأفغانية، والتمدد المالي والإنفاق المرهق في ظل عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري.

ويرى بول كيندي أن الدولة القومية الأمريكية -وكما سبق أن لاحظ ذلك بسمارك-كانتمحظوظة بحظ وافر؛ فقد حبتْها الطبيعة بخشب وفير وبأعشاب وبماء، وهي تملك كمًّا هائلا من المواد الأولية، ولها جار حميد مزدهر غير مهدد لها في الشمال، وآخر غير منظم وغير مهدد أيضا في الجنوب، هذا بينما روسيا والصين لكل واحد منهما أربعة عشر جارا. والقوى العسكرية الأقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية توجد على بُعد ثلاثة ألاف ميل من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وإذا ما أهملنا ألسكا ستة ألاف ميل عبر المحيط الهادي.

ويبدو أن التاريخ أيضا كان إلى جانب أمريكا؛ ذلك أنه لما دخل الإنجليز وسواهم إلى البلد بعد عام 1600، حملوا معهم أدوات متقدمة، وتربية بقر وماشية منظمة، وهندسة معمارية مدنية، وطاقة مائية، وأسلحة بارود، تبعتها فيما بعد ثورة علمية ونظام قرض وبنوك متطور وحكومة تمثيلية وصناعة وآلة بخار ...وقد شغلت فرنسا السلطة البريطانية ومنعت من سحق الثورة الأمريكية، ثم حمت البحرية الملكية الجهة الغربية إلى حدود عام 1905، لما خلفتها البحرية الأمريكية. وقد انخرطت أمريكا متأخرة في الحربين العالميتين، وبدت أخا أكبر عام 1945. وكان كل العالم قد اجتيح وأُنهك، فكانت أمريكا تمتلك نصف الناتج الداخلي الخام الدولي، ولم تكن تعدل تكنولوجيتها أية تكنولوجيا، وكانت ديمغرافيتها على أحسن ما يرام.

لكن لربما كان أحسن شيء يمكن أن يقع لأمريكا هو أن تقف عند هذا الحد. وليتها فعلت. ذلك أنه إلى حد هذه المرحلةكانت "قوة" أمريكا قد حققت هدفاً أو أهدافاً؛ منها: جعل الرأسمالية والديمقراطية الأمريكيتين تتقدما في تمازجهما وتخالطهما، ومنها: هزم الشيوعية. ثم كانت هناك مهمة التشجيع على الإصلاح في إفريقيا وآسيا. ولتحقيق هذه الأهداف كان بالإمكان استعمال عدة وسائل: قوة الولايات المتحدة الأمريكية الجوية، الأمم المتحدة، الحلف الأطلسي، هيئة السلام ... لكن بقدر ما كان الحضور الأمريكي قد قفز بعد عام 1945، فإن نصيبها من الناتج الخام الدولي بدأ يتراجع بوفق وتيرة ثابتة. لقد بزغت قوى عظمى أخرى، وتمنعت الكثير من مناطق العالم على مرادات أمريكا، وخسرت البلاد حروبا آسيوية، وعانت الدولة من أشكال عجز كبيرة ...

وها هي ذي اليوم كأنها شاة حائرة بين غنمين. لقد كان من المفترض أن تكون بغيتها تحديد هدفها الدولي؛ لكنها في هذا الأوان لا يبدو عليها أنها أدركته. وبدل هذا، تبقى الولايات المتحدة الأمريكية مهووسة بما كان ملاحظٌ أجنبي للإمبراطورية الأمريكية قد شخصه بدقة ووجاهة وجرأة على أنه الوهم بأنها على كل شيء قديرة.

ويروي بول كنيدي كيف أن كتابه صدر ـ ويا للصدفة الغريبة !ـ في سنة انتخابية بامتياز في الولايات المتحدة الأمريكية (1988) شهدت اختتام المرحلة الريغانية، فكان أن نكأ جرحا. لقد كان الكتاب ـ في حقيقته ـ دراسة لأزيد من 500 سنة من تاريخ الإمبراطوريات، لكن بولكندي يرى أن أغلب من قرأوه لربما لم تتجاوز قراءتهم الفصل الأخير الدائر على الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. وقد استغل الديمقراطيون الكتاب لإظهار فشل الإمبريالية الأمريكية والتوسع العسكري الأمريكي لما بعد الحرب العالمية الثانية؛ بينما نظر إليه الجمهوريون كما لو كان هرطقة، وزايد عليه المحافظون الجدد.

ويحكي بول كيندي عن حيثيات تأليف الكتاب وملابسات نشره، فيذكر أنه تم العزم ـ في البداية ـ على أن يخرج الكتاب إلى القراء في عام 1986، لكن الناشر طلب من المؤلف إعادة تحرير فصوله. وما كانت نية المؤلف ـ في البدء ـ أن يتجاوز عام 1945؛ لكنه لما بدأ ينظر في السياسات المالية غير المتوازنة وفي الإنفاق العسكري الثقيل للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، آنها وآنها فقط قرر أن بالإمكان عقد مقارنات. وحتى في هذه الحالة كان متحفظا عندما كتب بأن التحدي الرئيس لصناع القرار هو كيف يتفادون "أفولا نسبيا" قد يعتري الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالجملة، لقد كان الرجل عازما على ألا ينتهي به المطاف إلى دعوة يائسة ـ على طريقة الخُضْر ـ إلى التخلي عن التكنولوجيا المتطورة في جملتها، كما كان حريصاً أيضاً على ألا ينتهي به المآل إلى تبني بعض النداءات من أجل إعادة ولادة روحية جديدة مستأنفة ـ على نحو ما كان قد فعله توينبي. ولذلك لم ينته إلى تبني نبرة متشائمة، وإنما ذهب إلى أن مفاتيح تفادي السقوط ثلاثة حتى لا تؤخذ الولايات المتحدة الأمريكية على حين غرة: التربية، ومكانة المرأة، والحاجة إلى قيادة سياسية.

الحق أن من يقرأ الاستجوابات التي أجريت مع بول كنيدي منذ صدور كتابه ـ 1987 ـ قد يحصل له انطباع بأنه لا يهاجم أفكار الرجل سوى اليمين الأمريكي؛ فالمؤلف يرى أنه منذ ظهور كتاب "صعود القوى العظمى وسقوطها" في الثمانينيات من القرن الماضي، والكثيرون منشغلون بأمر إبطال ما انتهى إليه في كتابه ذاك عن تراجع القوى الكبرى، ولا سيما منها الولايات المتحدة الأمريكية، بتأثير من الإنفاق العسكري غير المحدود، وأنه قد تعرض إلى هجوم كبير من لدن من يسميهم "قوى اليمين الأمريكي المحافظ" في سنوات التسعينات من القرن الماضي؛ لأنهم عدّوا الأداء الاقتصادي غير المسبوق للولايات المتحدة الأمريكية في ذاك العقد بمثابة هدم لما توصل إليه. ويحكي المؤلف كيف أنه استيقظ ذات صبيحة ليجد صحيفة كبرى وقد حملت العنوان الرئيسالتالي: "جورج شولتز وزير الخارجية يقوم بجولة في ست دول آسيوية لدحض نظرية بول كيندي" ! ويوجه المؤلف اللوم إلى هؤلاء قائلا: "لو كان هؤلاء يقرؤون جيدا لأدركوا أنني كنت أعني خطورة الميل أو التوسع الاستعماري على الأمة الأمريكية بحلول عام 2010". والمؤلف يجد في غزو العراق أمارة على تحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى قوة تنجز عملية توسع استعمارية فعلية. وهذا ما يؤكد ـ في نظره ـ صدق نبوءته: توسع أمريكا العسكري -خاصة في العراق- تمدد مالي وإنفاق غير محسوب في ظل عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري.

الحال أنه تَحِقُّ هذه الملاحظة من وجه، ولا تحق من وجه آخر: تحق إذا ما نحن استعرضنا بعض ردود المؤرخين ومنظري السياسة وأهلها على دعوى بول كيندي. فهذا مثلا نيال فرجسون-الذي سبق الوقوف على بعض آرائه-ينهض ضد أولئك الذين-شأنهم شأن بول كيندي- كانوا يعدّون الولايات المتحدة الأمريكية مهددة بالاختناق بسبب توسعها الإمبراطوري، وهو يرىعلى الدوام أن المشكلة تكمن-بالضد من ذلك- في نقص التوسع الإمبراطوري لدى الأمريكيين، الذين تعد نفقاتهم العسكرية -إذا ما هي قيست بالناتج القومي الإجمالي- ضعيفة بالنظر إلى واقع قوة مهيمنة، وأن مشاكل البلد المالية ـ التي اتخذها بول كيندي ماحلة لدعواه وتعلة ـ إنما هي مرتبطة بالاستهلاك وبالنفقات الاجتماعية والطبية الباهظة التكاليف.

والحال أن هذا الانطباع يبدي عن قصوره حين نقف على نقود أخرى للكتاب ولصاحبه من غير نقود اليمين الأمريكي.

يفكك المفكر اللبناني جورج قرم في كتابه "أوربا وأسطورة الغرب" (2009) ويدين ما يراه ذاك الهوس الدائم الذي ابتُدع في الغرب والمتمثل في الخوف من الأفول، ويعود بهذا الخوف إلى مونتسكيو في كتابه الشهير عن أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم، ويكشف عن وجود تقليد من الخوف من الأفول في الغرب، شهد عليه ـ في بداية القرن العشرين ـ الكتاب الشهير والجذاب الذي ألفه أوسوالدشبنجلر(1880-1936) عن "أفول الغرب" (نشر بالألمانية عام 1918)، والذي لا يشكل كتاب بول كيندي ـ في تصور جورج قرم ـ إلا امتداداً له. وهو تقليد يرى جورج قرم أنه يعزز خوف الأوربيين الذين لا ينظرون إلى الشعوب التي تحيط بهم في البحر الأبيض المتوسط إلا بحسبانهم برابرة غزاة.

وثمة -ناهيك عن جورج قرم- جُهْد المفكر الإستراتيجي الأمريكي ـ نائب كاتب الدولة في عهد كارتر، وكاتب ملحق في الدفاع في عهد حكم كلينتون ـ جوزيف ناي، والمتمثل في طرح مفهوم "القوة الناعمة" منذ عام 1990 في كتابه "خطوة نحو القيادة". ومنذ ذلك الحين، ما يفتأ يهذب هذا المفهوم ويشذبه، لا سيما في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه"القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية"(2004). ومفهوم "القوة الناعمة" ـ هذا الذي نحته هذا المفكر الإستراتيجي ـ جاء في الأصل جوابا عن المؤرخ البريطاني بول كيندي الذي حاول أن يبين-في كتابه لعام 1987 عننشوء القوى الكبرى وسقوطها-أن أفول الولايات المتحدة الأمريكية ـ إن هي سارت على الخطى التي كانت تسير عليها من إجهاد نفسها بالإنفاق العسكري ـ أمر لا ريب فيه؛ إذ بالنسبة إلى جوزيف ناي أطروحة بول كيندي خاطئة ولو لسبب يتعلق بطريقة إعمال مفهوم "السلطة" و"السطوة" و"الهيمنة": ما عاد مفهوم "السلطة" هو هو في نهاية القرن العشرين؛ذلك أن دلالته قد تغيرت تغيرا جذريا. ومن ثمة، فإنه لا يمكن أن يحلل بالطريقة نفسهاالتي كان يحلل بها في عام 1500، وهو العام الذي اختاره بول كيندي نقطة انطلاق لأنظاره. فالحقيقة أنه ما عادت بالضرورة الدولة التي تفلح في جمع وصفّ أكبر عدد من الدبابات المصفحة أو الرؤوس النووية هي الدولة الأقوى والأقدر والأعظم. فإذن، ما ثمة من "أفول"؛ وإنما هو بكل سهولة "تغير في الباراديغم"؛ أي في دلالة السلطة والسلطان والتسلط والتسلطن. وقد حدث هذا التحول في مفهوم "القوة" و"المقدرة" بفضل مفهوم "السلطة الناعمة" أو "السلطة الرخوة" نفسه. فمن شأن "الناعم" أو "الرخو" أن يتعارض مع "الصلب" أو "الخشن"؛ أي مع القوة القسرية الاستكراهيةالتي هي بالأولى القوة العسكرية، وبالتبع القوة الاقتصادية التي تعني امتلاك الموارد الطبيعية. ومن أمر "الناعم" ألا يقاس لا "بالجزرة" ولا "بالعصا"، وإنما "الناعم" ـ بوفق معناه الأدق ـ هو مقدرة دولة ما على الحصول على ما تأمله من دولة أخرى من غير ما تُشعر هذه بالأمر أو تعي به.

تأسيسا عليه، يذهب جوزيف ناي إلى أن نهاية الهيمنة الأمريكيةلا تعني بأي حال من الأحوال الأفول الفج لهذه القوة العظمى التي يفترض أن تنهار تحت تأثير ثقلها أو تسقط السقطة المدوية؛ إنما نهاية هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية تعني نهاية مبدأ "الهيمنة" نفسه. كلا؛ لن تقوم ثمة اليوم نظيرة لروما أو عديلة، وتلك واقعة ليس لوقعتها كاذبة. وما نهاية هذا المبدأ الذي كان يحكم العلاقات الدولية سوى ثمرة لإعادة إحياء وتنشيط المجال الدولي الذي شهد بزوغ أقطاب قوة جديدة منافسة للولايات المتحدة الأمريكية. ذلك أن دولا قوية طفقت تسمع صوتها على المشهد الدولي، شأن البرازيل وكوريا الجنوبية ... بينما دول أخرى لا زالت تسير سيرها نحو القوة، مثيل الصين واليابان والهند. وعلى الرغم من تعددية الأقطاب هذه، فإن المقام الأسمى للولاياتالمتحدة الأمريكية لا يوجد في مرمى حجر. وفي اعتبار جوزيف ناي، فإن تغير قواعد اللعبة أمر غير وارد، ومختلف نظريات الأفول ـ declinism ـ إنما هي تعبر عن حالة نفسية جماعية أكثر مما تعبر عن وقائع ملموسة.فقد تكون عودة الظهور الدورية لنزعة القول بالأفول استجابة إلى ضرب من سيكولوجية الجموع الأمريكية، نوع من سوء المزاج وقطبيته الثنائية ترافق عادة المثل العليا. فتاريخ النظر الإستراتيجي الأمريكي متقلب بين الرجاء (القول بالتقدم) واليأس (القول بالأفول).

ومن هنا، فإنه -كما يقول جوزيف ناي- "أنْ نفكر في تحول القوة في القرن الواحد والعشرين بحسبانه نتاج أفول للولايات المتحدة الأمريكية: ذاك أمر غير دقيق وخداع ؛ كلا؛ ما كانت أمريكا تشهد على أفول مطلق، وإنما هي منذورة إلى أن تظل أقوى من أي دولة في العقود القادمة". وإذن، كيف يمكن تلخيص سيناريوهات مستقبل العلاقات الدولية؟ وجواب جوزيف ناي كالتالي: لن تأفل الولايات المتحدة الأمريكية الأفول، ولن تتجاوزها الصين التجاوز، ولسوف تثبت دول نفسها على الساحة الدولية في القرن الواحد والعشرين، لكن من غير أن تنافس-ناهيك عن أنتفوق- الولايات المتحدة في مجال التعاون الدولي.

.....

المراجع والمصادر:

  1. انظر: [Voir par ex : Jean-Baptiste Duroselle, Tout empire périra. Théorie des relations internationales, Paris, Publications de la Sorbonne, 1981. Jean Tulard, Les Empires occidentaux de Rome à Berlin, Paris, PUF, 1997. P. Kennedy, Naissance et déclin des grandes puissances, transformations économiques et conflits militaires entre 1500 et 2000, Paris, Payot, 2004. Gabriel Martinez-Gros, Brève histoire des empires, comment ils surgissent, comment ils s’effondrent, Paris, Seuil, 2014.  ]

  2. انظر: [Brett Bowden, The Empire of Civilization: The Evolution of an Imperial Idea,University of Chicago Press, 2009. ]

  3. انظر: [Thierry Ménissier, L’Idée d’empire dans la pensée politique, historique et philosophique , Paris : L’Harmattan, 2006.]

  4. انظر: [James Muldoon, Empire and Order: The Concept of Empire, 800–1800,Series: Studies in Modern History, Palgrave Macmillan UK, 1999.]

  5. انظر: [Robert Folz, The concept of Empire in Western Europe, from the Fifth to the Fourteenth century, Translated by Sheilla Ann Ogilvie, Edward Arnold, 1969.]

  6. انظر: [John Richardson, The Language of Empire: Rome and the Idea of Empire From the Third Century BC to the Second Century AD,Cambridge University Press, 2009. ]

  7. انظر: [Patrice Gueniffey et Thierry Lentz (dir) : La fin des empires, coll : Tempus, Paris : Editions Perrin, 2016, 480 pages.]

  8. انظر: [Ibid, p. 12.]

  9. انظر: [جون-باتيستديروسيل (1917-1994): مؤرخ وأكاديمي فرنسي متخصص في تاريخ العلاقات الدولية والدبلوماسية، حاصل على وسام الشرف ومدير عدة مجلات تاريخية. من أهم كتبه: "التاريخ الدبلوماسي من 1919 إلى أيامنا" (1953-1986)، "ما من إمبراطورية إلا وشأنها أن تبيد: نظرية العلاقات الدولية" (1981)، "أوربا: تاريخ شعوبها" (1990).]

  10. انظر: [Jean-Baptiste Duroselle, Tout empire périra. Théorie des relations internationales, Paris, Publications de la Sorbonne, 1981. ]

  11. انظر: [Patrice Gueniffey et Thierry Lentz (dir) : La fin des empires, op.cit., p.11.]

  12. انظر: [Jean Tulard, Les Empires occidentaux de Rome à Berlin, Paris : PUF, 1997, p. 12]

  13. انظر: [بول كيندي: نشوء وسقوط القوى العظمى، ترجمة مالك البديري، الأهلية للنشر، عمان، الطبعة الأولى، 1994. وانظر أيضا المراجعة الخطية الضافية التي قدمها هيثم مزاحم للكتاب في مجلة الاجتهاد (1995)، والتي أفدنا منها في تحرير بعض فقرات هذا البحث.  ]

  14. انظر: [Paul Kennedy ,   p. 686. ]

  15. انظر: [Ibid, p. 687. ]

  16. انظر: [Ibid, p. 687.]

  17. انظر: [Ibid, p. 636.]

  18. انظر: [Benjamin Barber, Fear's Empire: War, Terrorism, and Democracy, WW Norton, 2004.  ]

  19. انظر: [Niall Ferguson, Colossus. The Rise and Fall of the American Empire, Penguin, 2004.  ]

  20. انظر: [Chalmers Johnson, The Sorrows of Empire: Militarism, Secrecy, and the End of the Republic, Metropolitan Books, 2004.]

  21. انظر: [Michael Mann, l’empire incohérent. Pourquoi l’Amérique n’a pas les moyens de ses ambitions, Paris : Calmann-Levy, 2004.]

  22. انظر: [Immanuel Wallerstein, Decline of American Power: The U.S. in a Chaotic World. New York : New Press, 2003.]

  23. انظر: [Pierre Melandri, « Le déclin de l’empire américain », in Patrice Gueniffey et Thierry Lentz (dir) : La fin des empires, op.cit., p. 429-453.]

  24. انظر: [Niall Ferguson, Colossus. The Rise and Fall of the American Empire, Allen Lane, 2004, ]

 

 

 

أخبار ذات صلة