نص: إنزو باتشي | عالم اجتماع إيطالي متخصص في دراسات الأديان.
ترجم المقال عز الدين عناية وهو أستاذ تونسي بجامعة روما ( إيطاليا).
أوّلا: غواية الانشقاق
تناول المفكر الأمريكي مايكل والتزر سردية الخروج كما وردت في أسفار التوراة، بوصفها معينا نبعت منه يوطوبيات الثورات الحديثة(1)، فمن خلال الإيعاز بالأمل تستطيع الأديان الحثّ على تخيّل المولد الثاني، وهو شأن معنويّ علاوة على كونه شأناً اجتماعياً، وبوسعها أن تحدث تحويراً راديكاليا في البناء الاجتماعي وفي النظم السائدة. حيث يذهب والتزر على غرار أرنست بلوخ(2) إلى أن انعتاق شعب إسرائيل من نير العبودية في مصر قد أمسى نبراسا للعديد من حركات التحرر. والمرور من أوضاع الاستعباد إلى أوضاع الانعتاق يمكن أن يُقرأ بمثابة الثورة على نظم القهر والتدوين المستجد للوفاق الاجتماعي، ومن هذا المنحى تبرز الانشقاقات الدينية بمثابة حالة من حالات الـلاّ-نظام التي تتطلّع إلى إيجاد تحوير داخل المجتمع، والسياسة الثورية هي مسعى جاد لتحقيق تغيير جذري مدفوع بحافز خلْق عالم جديد.
والخروج -كما صوّره والتزر- هو رواية خارقة، غدا جزءا من الوعي الثقافي الغربي، جرى ربط سلسلة من الأحداث السياسية به وتفهمها من خلاله(3).فهناك رغبة في التغيير الاجتماعي، تغدو في بعض الأحيان فعلاً جماعياً، على شاكلة حركات النهوض الأخلاقي والتغيير السياسي، وتندرجضمن برنامج قلبالنظام الاجتماعي نفسه واستبداله بغيره. وليس الأمل حلما رومانسيا أمام واقع الظلم والقهر؛ بل هو خيار عقلاني يدفع الناسإلى خوض عملية التغيير.فقد غدت "الأرض الموعودة" صياغةً قابلة للتوظيف سواء أكان من قِبل الحركات الدينية أمالجماعات السياسية. وبالفعل في سائر الحالات وعلى اختلاف الأشكال ثمة حديث عن تحرر شعب من نير القهر، هدفهالمنشود بلوغ الانعتاق.
ضمن هذا السياق شحذتبعض الحركات الدينية رؤى ألفية،وتملّكها إحساس بانتظار نهاية العالمالوشيكة، واستحوذ على أتباعها هاجس النزول بأرض قصيّة، فهي علامات على عهد قطعه الرب معهم. هدفٌ بعيدٌ بتضحيات جسام في أعقاب مسيرة عسيرة يجتاز فيها المؤمن الفيافي والصحارى. يجول بخاطري عبور صحراء الفار واست الشاق من قِبل أتباع جوزيف سميث، مؤسس "كنيسة يسوع المسيح القدّيسي الأيام الأخيرة"، المعروفة بكنيسة المورمون. يتعلّق الأمر في الأصل بحركة ترقّب عودة المسيح التي اِستلهمت أفكارها من الراعي المعمداني وليام ميللر (1782-1849)، بعد أن أوّل آيات من سفر دانيال (من التوراة العبرية) وحدّدمن خلالها زمن عودة المسيح، وقد جرّته تلك القراءة إلى ضبط زمن يتراوح بين 21 مارس 1843 و 21 مارس 1844.
نشر جوزيف سميث المؤسس الفعلي لحركة المورمون في مارس من عام 1830 "كتاب مورمون"، وزعم أن نبيّا دوّنَ سِفرا في لغة غريبة، منقوشة على ألواح ذهبية، وأنه عثر عليه في مكان أشار إليه ملاك (ومن ثم تبعا لرؤيا). فما فحوى هذا السِّفر؟ بعد قيامة المسيح ظهر لأهالي أمريكا الشمالية الأصليين (الهنود الحمر)، ثم إن نبيًّا عاش في القرن الخامس بعد المسيح جمع تلك التعاليم واستأمن عليها الأهالي، وهم إحدى قبائل إسرائيل التائهة وراء البحار، وقدكابد سميث ما كابد واستُهزِئ به حتى اغتيل، وقرّر خلَفه بريغهام يونغ- ضمن مقتضيات الرسالةالمورمونية- الهجرةَ رفقة الأتباع نحو الشرق، وكانت التجربة بمثابة الخروج نحو أرض الميعاد. في الواقع كانت الرحلة شاقة ومضنية عبر الوديان والجبال إلى حين النزول بأرض قفر ليس فيها سوى بحيرة مالحة مترامية، أسس فيها أنصار مورمون جماعتهم الدينية. ستكون تلك الأرض ولاية يوتالاحقاً،وعاصمتها "سالت لاك سيتي" (مدينة البحيرة المالحة) وستغدو المقرّ الرئيس لكنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة. خروجٌ وتحولٌ كانا عماد تجربة دينية تنتشر اليوم في أنحاء شتى من العالم،أساسها بنية تنظيمية بالغة التطور مرفوقة بشبكة خدمات اجتماعية راقية، ذات طابع تعاوني ومالي خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية. كما تضمّ في صفوفها شخصيات مرموقة من عالم السياسة والمال: في حملة الانتخابات الرئاسية سنة 2012 كان منافس باراك أوباما مِيت رومني من أنصار كنيسة المورمون.
يُبرز المثال المعروض آنفا تعذّر اختزال الظاهرة الدينية في بُعد محدّد من الحياة الاجتماعية؛ إذ يبدو من الصائب أن ما نطلق عليه الدين يتعلق ببُعد مكين في البنية الأنثروبولوجية، ويمكن لآمال التغيير من خلاله أن تولّد حركات اجتماعية على صلة بما يجدّ من أحداث. وبالنتيجة تكمن في صلب الدين مناهضة للنظاموميولات للانشقاق، بمعنى أن هناك تصوراً آخر للنظام، يناقض ما هو سائد؛ فقد عبّرت الأديان في البدء، وقبل الدخول في هياكل تنظيمية معقدة، عن رؤية على صلة بفرد، تطلّع من خلالها إلى أفق بعيد، واستطاع إبلاغها إلى آخرين والإيعاز لهم بإمكانية تغيير مسار الأحداث والأوضاع المحيطة، وأنه يتيسر إضفاء معنى جديدعلى ما اعتدنا عليه، والتفكير في الأشياء ورؤيتها على نحو مغاير(4). فغالباً ما كان معلمون روحيون ومتصوّفةو"شامانات"(5) أصلاً لما سيغدو نظاماً اعتقادياً دينياً، تدعمه أجهزة مؤسساتية ذات طابع ليتورجي.
ثانيا: النِّحل ومطاردة طيف مملكة الربّ
باستعادة ماأفصحَ عنه كلّ من فلهلم ديلتاي وفريديريك شلايرماخر يعبّر الغلاة وأتباع النِّحل -ممن يعَدّون هراطقة من قِبل الأرثوذكسية المهيمنة- عن روح المسيحية أيضاً. ولا ينبغي أن يحول الاعتقاد في الحقيقة المطلقة للمسيحية دون الاعتراف- من وجهة نظر تاريخية وسوسيولوجية-أنها متعددة؛ فالاختيار الذي ذهب إليه عالم الاجتماع الألماني أرنست ترولتش أن جوهر المسيحية يمكن بلوغه عبر مقارنة مختلف أنماط المسيحيات بعضها ببعض، التي عرفتها المجتمعات عبر الزمن. كيف لنا أن نفسّر في الأثناء الفرق بين النمط الكاثوليكي والنمط البروتستانتي أو كذلك النمط الأرثوذكسي، على سبيل المثال؟ وإذا كنا لا نريد أن نبقى في حدود تناول المسائل اللاهوتية-المهمة بالطبع؛ ولكن غير الكافيةلتقديم تفسيرات سوسيولوجيةوتاريخية- التي جرّت المسيحية إلى انقسامات عنيفة ومأساوية.فإن السبيل الوحيد لعلم الاجتماع الديني -وهو ينشد فهم دين كبير وعالمي مثل المسيحية-يكونفي استيعاب الكل لبلوغ الإحاطةالشاملة بالخاصيات الموحدة والأصلية للرسالة.
لقد جرى توضيح مجمل عناصر الوسط الثقافي والديني الذي تهيأ لترولتش لصياغة تأملاته السوسيولوجية واللاهوتية عن المسيحية، وهو ما يمثّل -وفق تقديري- الخيط الدقيق الذي تابعه عند تأليف مؤلَّف "مذاهب الكنائس الاجتماعية والجماعات المسيحية"(6)، وهو أن الجماعات المابعد كاريزمية الوفية لكلمة المسيح الأصيلةقد تخيلت تلك المملكة، وبحثت عن استباقها في عالمنا، لتشهد بذلك على القوة المستبطَنة في الكلمة الملهِمة للمسيح في بنى حُدّدت ولمرّة وحيدة في حركات نهوض روحي من صنف النِّحلة، غير مبالية بتحوّل رسالة حيوية إلى جهاز تسيير للديني والقداسي. ينبني المبدأ الجوهري للنِّحلة على وهم الحفاظ علىالكلمة الأصلية، منذ اللحظة التي تصاغفيها أخلاق صارمةوأسطورة حية، فتتوهّم أن إقامة صرح المملكة وشيك، والنتيجة أن تعود إلى الاعتقاد وتعمل على ترسيخ أن الوعدَ حقٌّ. وبشكل ما تنحو النِّحلة للحفاظ على الطاقة الكامنة في الكلمة الأصلية،بقصد صياغة منهج حياة ملائم ونظام علامات مناسب للإعلان عن أن عصر المملكة هلَّ، وإن لم يتشكّل بالفعل.
فكما يخبرنا أرنست ترولتش يسفر التطلع للملكة من جانب عن جذرية اختيارات الحياة الفردية والجماعية، المستخلَصة من نظرة الجماعة المتخيّلة للقديسين والصفوة، ومن جانب آخر، عن بحث واقعي للتلاؤم مع العالم. في الحالة الأولى يكون لدينا تنوع في الأشكال الاجتماعية-الدينية تمتدّ من النِّحلة إلى التصوف، بما فيها أشكال الزهد والرهبنة، وفي الثانية غالباً ما يكون بحوزتنا ميلٌ إلى التجسد في نموذج الكنيسة، ينزع بحاله إلى التعبير عما هو مستعجل، ليس بقصد الخروج من العالم؛ بل بغرض تنظيمه على شاكلته وهيئته.
في الواقع نعثر على النِّحلة في العديد من الأديان، وهي شكل تنظيمي نابع عن انشقاقات داخليةفي جماعة المؤمنين وهم بصدد صياغة هويتهم الخاصة؛ لقد حدث ذلك في الإسلام كما سبق أن عرفته المسيحية، وحدث بالمثلمع دين لم يكن في البدء على ما هو عليه كما هو الشأنفي البوذية؛ حيث أحدث الاستقطاب المتركز في الجماعة البدئية انقساماً أولياً تلاحقت على إثره التشظّيات، وضمن سياق التميز أنشأ كل تشكيل ديني هرمنوطيقيا خاصة به استمدها من تعاليم بوذا. ومن هذا المأتى تولدت تقنيات تأمل متنوعة وأنماط تنظيمية متباينة، خلّفت صراعات بين النِّحل تبعاً لادعائها أنها الأنقى والأوفى مقارنة بغيرها التي تنهل من المنهل ذاته. ليحدث تخطي ذلك في التحول التنظيمي المتدرج للنّحلة إلى شكل يقرب من نمط الإطار المهيكَل. وبالمحصلة ولأسباب تاريخية يرافِق تلك التحولاتوتلك الانشقاقات بناء هوية شعوب وصياغة كيانها (ethnos)، إلى حد إنشاء دين داخل الدولة.
ومن ثمبدل تلقّي كلمة المؤسس بشكل موحَّد تتولّد الانشقاقات- بالمعنى السوسيولوجي- على أعلى نطاق: على مستوى الذاكرة، والهوية، والمناسك، والشكل التنظيمي. ومن هنا تتبلور الفتنة الداخلية الأولى، التي تولّد بدورها -بمرور الزمن-سيلاً من الملل والنِّحل. بهذا الشكل غدت البوذية أرضيةً خصبةً لتعدّد الطرق والمدارس، وبوصفها دين الدولة تشابهت مصائرها مع البروتستانتية.
لقد دبّ الانقسام في الجماعة البوذية الأولى منذ انعقاد مجمعالنسّاك سنة 338 ق.م في ويشالي، وتفاقم بعد انعقاد مجمع باتاليبوترا، ودون خوض في الخلافات العقدية بين النساك، من المهمّ استحضار العلاقة التي تنبني بين تفسير رسالة غوتاما (ذاكرة الكلمة الحية) واختيار الشكل التنظيمي الملائم للإمساك بالخيط الذي نحن أمام تتبّعه. ويمكن استعراض العوامل التي سترسّخ الانقسام داخل الجماعة على النحو التالي: ليس بوسع الجميع سلوك المسلك الروحي السامي الذي دشّنه بوذا، فهو دربٌ عسيرٌ لا تقوى على السير فيه سوى فئة قليلة، وفي مقابل ذلك تشكّل مسارٌ فكري آخر أكثر انفتاحا. أجل الدرب دائما عسير، لكن يمكن قطعه على مراحل، شوطاً عقب شوطاً، وبالتوقف والاستئناف مجددا حتى من قِبل من ليسوا مدعويين ليكونوا مثل بوذا. تشكِّل تلك الأشواط سبيلاً يراعي القدرات والوسائل التي بحوزة كل فرد، دون جرّ الجميع قسراً.
عند هذه النقطة نحن على مشارف الانقسام الأول بين تيارين روحيين، يمكن أن نطلق عليهما تيار الصّفوة وتيّار الكثرة؛ حيث شكّل التيار الأوّل في فترة لاحقة مدرسة تيرافادا (الشيوخ)، أو ما يُعرف أيضاً بـ "هينايانه" (العربة الصغرى)، وشكّل الثاني مدرسة "ماهايانه" (العربة الكبرى). ستتولّد نِحلٌ وتفرعات مع انتشار البوذية في أوساط اجتماعية وثقافية نائية عن الموطن الأصلي للدعوة، ليَسود الاتجاه الأول في جنوب شرق آسيا، من سريلانكا الحالية إلى تايلاندا، ومن كمبوديا إلى لاوس؛ في حين سيسود الثاني في الشرق الأقصى، الأكثر تقبّلا للحوار مع الأديان المهيمنة، مثل الطاوية في الصين أو الشنتاوية في اليابان. وكما حدث في ديانات أخرى، دفعت الفتنة الأولى عديد الرهبان إلى ترسيخ الانشقاق: وهكذا بقي جلياً مع مدرسة تيرافادا أن سبيل التحرر الوحيد هو صورة بوذا التاريخية، في حين انتهت المدرسة الثانية إلى اعتبار بوذا التاريخي بمثابة التجلي لجوهر تعاليم"الدارما"، التي تشكل الجوهر الصرف، ليس لبوذا التاريخي فحسب؛ بل لكل كائن بشري، بوصفها القوة الكامنة التي ينبغي إيقاظها للتخلص من العذابات ومن دورة الميلاد والممات. لذلك كان درب الدارما درباً رحباً قميناً بأن يشمل كافة من ينشدون خوضه، بقيادة معلّم وبخوض مسار تحرر، وهو ما يمكن أن يفضي إلى "البوذي ساتفا" أي الاستنارة المنشودة. وقد ترتّب عن ذلك أن جاء الشكل الزهدي مشوباً بطابع ديمقراطي، واتخذ أشكالاً تنظيمية هجينة؛ فالدّير هو محلّتأمل مفتوح للمشاركة الحرة لمن ينوي سلوك طريق البوذي ساتفا، دون اعتكاف تام أو مراعاة صارمة لقواعد النسك.
إجابة مماثلة ضمن هذا السياقيمكن أن تتفسر بالعودة إلى نظرية التنافر المعرفي التي صاغها عالم النفس الاجتماعي ليون في ستنغر سنة 1957، أن المرء لمّا يعيش صراعاً حاداً بين ما يعتقد وبين ما يمليه الواقع فإن أحد الحلول المتاحة لتجاوز ذلك الوضع يتمثل في تغيير سلوكه، وفي حال تعلق الأمر بجماعة، فهي تعزّز بشكل قوي أواصر التكافل بين أفرادها. سنتابع مسألة الانشقاق لدى جماعات دينية تعتقد في الانتهاء المصيري للعالم –وفق مواعيد معلومة وأحداث مضبوطة- تجد نفسها حين تخيب توقعاتها باحثةً عن تفسير ذلك الخطأ النبوي. وفي تلك الحال يمكن أن تنحلّ الجماعة وفق ما يُطلَق عليه في أوساط الجماعات المسيحية الألفية "انقشاع الوهم الأكبر" (باعتماد لغة فيستنغرفي 'تنافر معرفي درامي')، وأحياناً في أعقاب ذلك الارتجاج تعيد الجماعة النظر في التنظيم وتشرع مجددا في التمدد بنجاح. مرة أخرى نجد الجواب في الوظيفة الجزائية للمثال التنظيمي الذي يصوغه بعضهم لرصّ الصفوف. وكأن عبارة "سوّوا الصفوف" لها وظيفة الإيحاء للأتباع أنهم ليسوا شراذم متناثرة بل طليعة جسورة ومتكاتفة، وبرغم خيبة التوقعات حول نهاية الكون يتواصل نشدان ذلك الحدث وعيشه وكأنّه وشيك. فقد تعلّق الأمر بسوء فهم لفقرات من النص المقدّس والمهمّ الحفاظ على وحدة الصف والتكاتف والطاعة لمن يسير نحو الهدف المنشود. يعني ذلك بمفاهيم تنظيمية بالغ التنسيق بين القيادة العليا، بقصد تعزيز التضامن داخل الجماعة. فكل جماعة ينبغي أن تكون متينة التواصل فيما بينها، مع تمتع باستقلالية نسبية، وهكذا تُمارَس رقابة اجتماعية لصيقة على الأعضاء، وفي الآن نفسه ينبغي أن يكون الشكل الذي يتمّ به تفسير النص المقدس والمعايير الأخلاقية والاجتماعية مصاغة كلها من قِبل ثلة من الأفراد، تحتكر السلطة والمعرفة بشكل حازم.
يمكن أن يشرح المثال التالي المتعلق بـ"شهود يهوه"ما أوردناه آنفا؛ فقد نشأت الجماعة في وسط بروتستانتي في الولايات المتحدة إبان القرن التاسع عشر، وفي البدء اتخذت الجماعة طابع النحلة - وهي الصورة التنظيمية المعهودة في البروتستانتية- ولذلك لم تكتسِ أي طابع سلبي. أبدت النّحلة رغبة في عرض نفسها بمثابة التنظيم الطوعي المتميز عن سائر الكنائس التاريخية بالتشبث بالحقيقة؛ لذلك أحست أنها في طليعة الحريصين مقارنة بعامة المؤمنين، الذين يُعدّون نِياما أو فاتري الإيمان. وتبقى خاصية "شهود يهوه" الرئيسة أنهم تنظيم أبوكاليبسي (أخروي) ينتظر انتهاء العالم؛ فقد زعمت الجماعة في العديد من المرات أن العالم على وشك الانتهاء، وتلقّت بالمثل في العديد من المناسبات تكذيبا لمزاعمها، رغم تلك الخيبات تواصل تنامي الجماعة في كافة أرجاء العالم.
ومن أتيحت له فرصة دراسة الهيكل التنظيمي للجماعة يلحظ اشتغالها الدؤوب وفق قاعدتين اثنتين: المرْكَزةُ العالية للقرارات، والإلحاح على نمْذجة المواقف الذهنية والسلوكية على المستوى الفردي. حيث ينشد الجميع السير على المنوال نفسه، والتحرك وكأن لا أثر للاختلافات الجوهرية بين عناصر النِّحلة وهو نتاج عمل تنظيمي مثابر ويومي يراعي قواعد تم اختبارها منذ أمد(7) لينبني التماسك الداخلي الواسع بوساطة التنسيق المحكم بين التنظيم والمنظور المعرفي. وفي الوقتالذي يحصل فيه تنافر معرفي، يقع ترميمهعبر التماسك الاجتماعي الذي طوّرته الجماعة ورسّخته عبر الممارسات اليومية، ويجري معا تخطّي الأخطاء التأويلية بخصوص نهاية العالم.
حيث نجد التماسك بين أفراد الجماعة وثيقا، وتميزهم قناعات عميقة؛ مثل الامتناع عن نقل الدم، والامتناع عن أداء الخدمة العسكرية، وكذلك الامتثال لتعاليم مضبوطة بشأن الملبس، ومراعاة ضوابط صارمة بشأن السلوكات الجنسية، والامتناع عن التدخين وتناول الكحول، وكذلك عدم التردد على العروض الفنية المخلة بالحياء؛ إنه نظام حياة صارم، وزهد عقلي يضفي انسجاماً بين القلب والعقل، وتكمن قوة كل هذا في القدرة على تحريك الأشخاص ضمن حدود تنظيمية.
ثالثا: الانشقاق الديني واستراتيجيات الوفاق
نودّ أن نشير في هذا السياق إلى أن الجماعات الدينية المنشقة غالباً ما تنسج وفاقات مع السّلط القائمة بما يضمن لها نوعا من الاحتضان والتحالف الضمني. تبدو الحالة جلية مع مارتن لوثر،لمّا وجد نفسه في مواجهة عصيان الحركة الراديكالية الإنجيلية التي قادها توماس مونتسر (1489-1525م)، والتي كان عمادها حشوداًثائرة من المزارعين الألمان ضد ملاك الأراضي وشعارها التطويبات الإنجيلية، لم يتوان لوثر عن استدعاء الأمراء الألمانللتدخللسحق التمرد،وذلكليتشكّل وفاق متين على مستوى لاهوتي، دعمه لوثر ثم جان كالفن الذي جعل من مدينة جينيف نموذجا للمدينة الفاضلة، وأولريخزوينغلي الذي سعى جاهدا لجعل مدينة زيورخ تسير وفق الأفكار الجديدة المعبّرة عن تحالف الدولة والكنيسة؛ أي بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية.
في كلتا الحالتين ثمة مسعى لتخطي فكرة الكنيسة الكاثوليكية، وثمة تصورٌ لتقاسم الأدوار بين السلطتين الدينية والسياسية، لكن يبقى الوفاء إلى فكرة كون المعرفة والسلطة الدينيتين تشكل كلتاهما دعامة للسلطة السياسية، حتى لمّا تتجلى الأخيرة في أشكال ومؤسسات ذات طابع ديمقراطي. وسواء في جينيف أو في زيورخ عاضد المصلحان إقامة الأجهزة الحكومية في المجتمع. فمن جانب سمح ذلك النظام التعاوني الديمقراطي بتمثيل المصالح الاقتصادية والأخلاقية لكافة شرائح البورجوازية، ومن جانب آخر بقيضمانة لتماسك اجتماعي مبني على أساس الرؤى اللاهوتية والأخلاقية النابعة من الإصلاح، ومن ثمعدّ المصلحان المدينتين -ضمن صيغة سياسية- بمثابة الحقللتنزيل أفكارهما الإصلاحية.
من جانب آخر- ولعرض حالة مستوحاة من العالم القديم، كان ماني (عاش ما بين 216 و276 م في أرض الرافدين، واسمه حرفيا يعني 'معلم الحياة') في البدء من أتباع إحدى النِّحل الغنوصية المنشقّة عن المسيحية، استلهمت رؤاها من سيرة بولس الطرسوسي، ثم تسمّت باسم "المعمدانيين"، انتسابا إلى يوحنا المعمدان، مثالالناسك الطاهر الذي كان دوره فعالا في مسيرة يسوعالشاب. لقد عاش ماني في وسط يعجّبالحركات الغنوصية المسيحية، وتطلّ فيه أيضا آثار الديانة الزرادشتية، علاوة على معتقداتأخروية متأتية من اليهودية، في هذا الجوّ أسّس ماني نِحلته الجديدة مدّعيا تلقّيه الوحي من إله النور. ربما كان مصير نحلته مثل مصير غيرها من النّحل الغنوصية، لولا إغواء الأفكار التي صاغها الملك الساساني شابور الأول (سنة 240 م). وهكذا غدت دعوة ماني دينًا رسمياً للمملكة الساسانية، في تلك الآونة حوّل ماني النِّحلة إلى كنيسة وأطلق أولى حملاته التبشيرية باتجاه الغرب (صوب روما) وباتجاه الشرق (نحو الهند والصين، حيث لا تزال إلى اليوم جماعة من أتباع المانوية بين الإيغور إحدى الإثنيات المهمة في الصين).
تبقى أهمّ الدراسات التي أُجرِيت حتى الآن- بشأن سُبل ضمان الوفاق حول نظام القيم والوظائف بالداخل- هي دراسات ذات طابع سيكولوجي. تناولت بالخصوص طبيعة العلاقة بين نوع الأرثوذكسية الدينية وشكل التلاحم بين عناصر المجموعة. في حين أُجريت حتى اللحظة دراسات أقلّ عن الروابط الفعلية بين عناصر الجماعات لأغراض تنظيمية، وعن توظيف الصراع الرمزي لتعزيز التماسك الداخلي على مستوى عاطفي وإيديولوجي بين أفراد الجماعة. فغالبًا ما صاغت النِّحل والكنائس والحركات عدوًّا خارجيًا رمزيًا دائم التربّص بوحدة الجماعة؛ بغرض الفوز بولاء الأعضاء. والجلي -كما بيّن عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو- أن الحقل الديني يتمتّع بهذه الخاصية(8)، إذ غالبا ما يتّخذ الصراع دلالة لاهوتية؛ لكن تاريخ الأديان- وخصوصاً منها الأديان ذات الطابع العالمي، وأقصد هنا المسيحية والهندوسية والبوذية-يكشف لنا أن المدلول اللاهوتي هو في الغالب بؤرة تلتقي فيها عناصر ذات صلة بالسلطة، بشأن الفصل بين الإكليروسواللائكيين، وبشأن العلاقة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية (تشكِّل الوفاقات المبرمة بين الكنيسة الكاثوليكية وجملة من الدول- من وجهة النظر هذه – فصلاً سوسيولوجياً مهمّا-وليس قانونيًا فحسب- للصراعات الدينية).
رابعاً: في دلالات الانشقاقات المعاصرة
على نقيض فرضيات تراجع الدين والمقدس نشهد في العالم المعاصر (الغربي والمغرَّب) بحثاً عن معنى روحي مشوب بالانشقاق، ومن ثم نحن أمام شكل مستجدّ من التحولات، لا يجد حاجة إلى الانتماء لمؤسسة المنشأالدينية. وإحدى النتائج المترتّبة عن ذلك التوجه الثقافي: أن حدود الاعتقاد الرمزية تبدو غير قارة وغير ثابتة.
وأبرزأشكال هذا التحول الجديد ما يطلقُ عليه المتخصص وناسم الثورة الروحية، أو بالأحرى الروحانية المتخلّصة من الدين(9)، والتي تهدف إلى بلوغ علاقة منسجمة بين الروح والعقل والجسد، وهيمن المحاوِر المهمة التي برزت في الدراسات المعاصرة. الصيغة التي يمكن أن نلخّص بها ما أوردناه آنفا وهي العناية بالروح دون إلحاق أذى بالنفس. وأستعملُ عمدا ثنائية الروح/ النفس؛ لأنني- بشكل ما- أحاول توضيح كيف أن من يسعى جاهدًا إلى العناية بروحه لا يحرص على اللجوء إلى الديانات التقليدية، وإلى وعود الخلاص التي تعِد بها، حيث ينال الأخيار حسن المآب، وينتظر الأشرار بئس العقاب. في هذه التطورات ثمة ميلٌ لأديان الشرق من خلال الاطلاع على سائر التجارب الزهدية التي تطورت مع الهندوسية والبوذية والطاوية. والسؤال المطروح: ما الذي يجذب الغربي اليوم نحو تلك التقاليد؟ هناك تطلّعٌ ليتمَّ الخلاص هنا وفي الحين، حيث يتخيل المرء عالَما آخر من المعاني الممكنة يمكن أن يضفيه على الموت والحياة، وعلى الألموالمرح. بشكلٍ ما تعني العناية بالروح عناية بالنفس، بالسعي لبلوغ توازن داخلي يترجم في هناء البال وراحةالجسد وانسجاممع الكون، مبتغاهنوع من الحضورية الآنية. فما عاد الكَلَفُ بالعقائد؛ بل الشغف بالممارسات التي تسمح باختبار مباشر وحيني.
واستنادًاإلى المؤلَّف المهم لجوزي كازانوفا"الأديان العمومية في العالم الحديث"(10)، نلحظ أن علماء الاجتماع المهتمين بالأديان قد باتوا أكثر انتقادًا وحيطة في التعبير عن سياقات خصخصة الدين. وفي الواقع منذ عام 1979 وإلى اليوم تابعنا حضوراً مشهدياً للأديان في المجال العمومي وفي العمل السياسي المباشر؛حيث اجتاحت حركات ونِحل وطقوس وكنائس وزعامات دينية المجال العمومي،وأبدت قدرة على تحريك الجماهير بشكل جليّ وليس بشكل خفيّ كما ساد سلفا،مدفوعينبحوافز دينية. يحدث هذا في أصقاع شتى وضمن سياقات اجتماعية/ثقافية واجتماعية/دينية متنوعة(11).
فقد أمست الأديان فاعلة وناشطة في المجال العمومي، إلى غاية أن باتت مصدر إلهام لحركات اجتماعية وسياسية، ما يعني أن أطروحات خصخصة الدين التي راجت بين علماء الاجتماع الديني-إبان ستينيات وثمانينيات القرن الماضي-تشهد أفولاً اليوم. حتى أن ثمة من يتحدّث عن عودة المقدس أو ثأر الله(12). ضمن هذا السياق يبدو من المفيد التمعن فيما انتهى إليهيورغنهابرماس(13) وشارل تايلور(14) فيما يخصّ ما بعد العلمانية. فليس المقصود بهذه الصياغة عودةَ الدين أو ثأره في الحقبة المعاصرة، أو انتهاء أفول المقدس أو تراجع العلمنة(15)؛ بل بالأحرى مصلحة الدولة الحديثة – ا لتي تواصل الاشتغال بوجه عام على الفصل بين السياسة والدين- فيدمج الفاعلين الاجتماعيين الناطقين باسم توجه ديني معين في المجال العمومي، والاعتراف لهم بدور فاعل في إرساء وفاق أخلاقي أساسه قيم الديمقراطية الجوهرية؛ بمعنى لسنا أننا في حقبة تنعتق فيها الدولة من هيمنة الدين أو تخوض فيها صراعا معه. فما عاد الأمر يتعلق بالتخلص من الدين وإنما بالاعتراف به، عبر الحرية الدينية؛ إذ يمكن للتعددية الدينية أيضا-وهي إحدى أسس الديمقراطية - أن تسهم في تطور المجتمع؛ فقد أضحى العلماني يقبل بالتحاور مع حَمَلة الرؤى الدينية، شرط ألاّ يدعي أيٌّ من هذه الأصوات أنه الأوحد، أو ربما بشكل أسوأ يملي رؤيته على الجميع بوساطة سلطة سياسية.
ودائما ضمن موضوعيْ الانتماء والانشقاق الدينيين نجدإسهامات جادةصيغت من قِبل بريان ولسون(16)،اقترح فيها ربط مختلف أشكال التحول من النوع النِّحلي على أساس الموقف إزاء "العالم". وقد صنّف في ضوء هذه الرؤية سبعة أصناف من النِّحل:
- الهدائية (أي تلك التي تتأسس على مبدأ التحول الفردي إلى معتقد محدد).
- الانطوائية (أي المنغلقة على ذاتها والمنيعة ضد التأثيرات الخارجية).
- السحرية (التي تتبنى تقنيات ذات طابع سحري بقصد السيطرة على الأحداث الطبيعية).
- الإصلاحية (التي تدمج رؤى دينية بقصد الإصلاح الداخلي).
- الثورية (التي تتطلّع إلى قلب نظام العالم).
- الإشفائية (التي تزعم تخليص الإنسان من شرور العالم باعتماد تقنيات خاصة).
- الطوباوية (التي تنتقد العالم وتعِد ببديلأفضل).
خامسا: الحركات الدينية الجديدة والانشقاقات المتلاحقة
من المناسب أن نشير ضمن معالجة مسألة الانشقاق الجارية في أحضان التقاليد الدينية، إلى ما حصل في جملة من المجتمعات التي مرّت من السيطرة الاستعمارية الأوروبية إلى الاستقلال؛ فقد ظهرت في إفريقيا وآسيا حركات وطنية أعادت صياغة مفهوم التراث الديني أثناء الاحتكاك بالمستعمر (الكاثوليكي والبروتستانتي في الغالب)،وسعت في تكييفه وفق رؤى خلاصية أكثر قرباً من الوعي الديني القومي للشعوب المحلية.
ويمكن توزيع هذه الحركات إلى صنفين أساسيين: حركات ذات طابع مسيحاني من ناحية، وحركات إنقاذية من ناحية أخرى(17). فقد ترجمت هذه الحركات تطلعات جماعية للتحرر رافقت نضالات شعوب رازحة تحت نير المستعمر. سنعمل على توضيح مفهوميْ "المسيحانية" و"الإنقاذية" تجنّبا للخلط، حين يقع التطرق إلى الحركات المسيحانية؛ فهي تحيل في العادة على ترقّب مخلّص يأتي ليشيد مملكة العدل والسلام؛ ليخلّص البشر من الظلم والجور. وبالطبع تحيل كلمة "المسيا" على التراث العبري القديم الذي تولّد منه هذا المصطلح، وهوما ألهم في القرن الثاني قبل الميلاد خصوصا حركات خلاص مثل حركة الأسينيين في فلسطين. وحين نتحدث عن الحركات "الإنقاذية"الحديثة -الإفريقية أو الآسيوية- فإن المدلول ينحصر في فعل جماعي مستوحى من قيم دينية يستلهم الفكرة اليهودية أو المسيحية، ويعيد صياغتها وفق رؤى ثقافية وتطلعات اجتماعية سياسية تعود للشعوب الأهلية.
خلال عام 1910 جرى اعتقال راعي الكنيسة الميتودية في ليبيريا ويليام وادي هاريس؛ لتأييده انتفاضة قبائل غريبو التي يتحدّر منها ضد السلطات السياسية الاستعمارية في ذلك العهد، وقد صرّح أن الملاك جبرائيل قد ظهر له أثناء الاعتقال وأسرّ له أن الرب اختاره نبيّا، وأوكل له مهمة هداية إفريقيا الغربية. صاغ هاريس مذهبا دينيا حشد له كافة العناصر المميزة للثقافة الإفريقي؛ مثل طقوس الأرواح، ونصّبله الحواريين في القرى التي لاقت فيها رسالته قبولا، كما راعى البنى التقليدية لاستقلال سائر الجماعات والقبائل بعضها عن بعض.
حالةً أخرى للتوليفية الحديثة ذاع صيتها في أوساط علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع ونالت حظا من الدراسة، متعلقة بكنيسة سيمون كيمبانغو(18)، وهي حركة مسيحانية تأسست من قِبل شاب كونغولي إبان الاحتلال البلجيكي (الزايير اليوم) في أواخر القرن التاسع عشر. تربى كيمبانغو في وسط عائليمتأثر بالكنيسة المعمدانية،وكان صاحب رؤية دينية مسيحية مشوبة بطابع إفريقي، مِثل القدرة على الإشفاء وتمثّل النبي في المخلّص المنتظر، وقد اتخذت دعوته طابعاً نضالياً مناهضاً للاستعمار، انتهت به إلى الاعتقال وصدور حكم بالإعدام ضده، تحول إلى سجن مدى الحياة بتدخل ملك بلجيكا، قضى كيمبانغو نحبه في السجن سنة 1951،ولم تتراجع الحركة، بل كثّفتمن نضالاتها السياسية حتى حققت نصرًا سنة 1960 بإعلان الكونغو دولة مستقلة. وتم إعلان الكيمبانغية ديناً رسمياً للدولة، ومنذ ذلك العهد عُدّ سيمون كيمبانغو منقذا.
مع الحركة التي تابعنا تطورها آنفا، ومع غيرها من الحركات التي برزت في العالم المعاصر واكتست طابعاً انشقاقياً، من المهم التوقف عند وجه من وجوه هذا الموضوع الذي نحن بصدد معالجته؛ حين يجري التطرق إلى الروح في الكنائس البنتكوستالية الجديدة(19)، عادة ما يحيل الموضوععلى عالم خفي، مأهول بكائنات روحية، يمكن الدخول معهافي تواصلعبر وسيط، بحوزته قوى خارقة ومعترف بقدراتالتوسطلديه بين العالم الجلي والعالم الخفي،وبناء على ذلك ندرك كيف أن أشكال المسيحية البنتكوستالية التي توجد اليوم في إفريقيا ما وراء الصحراء وفي أمريكا اللاتينية وفي آسيا (الصين وكوريا الجنوبية وأندونيسيا) هي حاضنة أيضاً لديانات الأرواح القديمة.
وإزاء سياقات التنوع الاجتماعي تعي الأديان التقليدية تراجع جاذبيتها،ومع ذلك تجهد نفسها لإضفاء طابع أخلاقي على مضامينها، على أمل تمتينعرى التواصل مع الإنسان المعاصر، موظِّفة بشكل حثيثأدوات الحداثة، ومحوّلة بذلك قسماً مهمًا من رأسمالها الرمزي نحو مواضيع جديدة ومستثمرين جدد. تحتلّ هذه المواضيع حصصا في السوق التي هجرتها الديانات التقليدية، وبقدر ما تسعى هذه الأخيرة إلى عرض رسائلها بشكل مقبول لدى الإنسان الحديث يراعي حاجاته وأحاسيسه- تشدّد حركات وجماعات وكنائس وأديان جديدة على الإسكاتولوجيا بدل الأخلاق، والتحول من إيمان عقلاني إلى إيمان غيبي، ومن شكل معتدل من التعبيرية الدينية إلى حماس الطقوس الكاريزمية. ليس بحثا عن التماثل بأي ثمن كان؛ بل لإبراز كيف أنه بقدر ما يقبل دين مهيمن بشكل تقليدي -في فضاء محدد من العالم- بضربٍ من العلمنة الداخلية- يكون عرضة لمخاطرفقدانبعض الأوجه التي تغدو موضوعا لاستثمار رمزي من قِبل جماعات وحركات دينية أخرى.
وفي المجتمعات الغربية-إبان سبعينيات القرن الماضي-عجّ المشهد الديني بالحركة، بموجب صدمة الوعي الجديد الذي أطلت ملامحه. كانت الأجيال الشبابيةفي سائرالمجتمعات الغربيةوالبلدان الشيوعية تتحرك بحثا عن وعي جديد، بمنأى عن الأطر الإيديولوجية السائدة والكنائس المؤثرة،وحاولت تلك الأجيال تفكيك أنظمة الاعتقاد التي نشأت في أحضانها ورافقت مسارات تنشئتها الاجتماعية. على ذلك النحوتم التوجه نحو ممثّلين دينيينجدد، والانضمام إلى نِحل وطقوس جديدةمن خارج دائرة الكنائس التقليدية، ومن ثَمّاكتشاف الأقليات الدينية التي تبدو منسية، وبالنهاية فسح ذلك المجال لحركات تجدد داخل الكنائس ذاتها(20)
جدير بالذكر أن نشير إلى أن ما نطلق عليهاالحركات الدينية الجديدة -المعبّرة بالفعل عن انشقاقات داخل الأديان-قد تطورت منذ البدء في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم لحقت بها أوروبا. وبالمثل في حالة الحركات التي نشأت في الهند وكوريا الجنوبية وإفريقيا، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة المرجل الديني الذي بلغت أصداء غليانه-في فترة لاحقة- أوروبابشقيها الغربي والشرقي. ينطبق الأمر ذاته على حركات انشقاق تطورت داخل الكاثوليكية، مثل الحركات الكاريزمية، التي ظهرت بوادرها في جامعة بطرسبورغ الكاثوليكية، وفي جانب كبير من حركات ذات صلة بـ "النيوآيج" (العصر الجديد).وبناء على أبحاث قامت بها إيلين باركر(21)، تحدّر السواد الأعظممن أتباع هذه التشكيلات الدينية، التي ظهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من أوساط اجتماعية ميسورة أو شبه ميسورة، وليس من أوساطمعوزة. فهذه الشرائح الأخيرة عادةً ما تميل إلى حصر خياراتها في دائرة المقدسباتجاه حركات تستبطن بُعدا سحريا، في حين الشرائح الميسورة أو شبه الميسورة- بموجب التعليم الجيد الذي تلقته والموقع الاجتماعي الذي تحتله في عالم الأشغال الحديثة، تجمع بين الدين والحداثة-انطلاقا من استراتيجيات حس ذاتي، وهي نسبيا مستقلة عن المؤسسات الدينية التي نشأت في أحضانها.
......
المراجع والمصادر:
-
انظر: [ Cf. M. Walzer, Esodo e rivoluzione, Feltrinelli, Milano 1983.]
-
أشير إلى مؤلف أرنست بلوخ "مبدأ الأمل": [Ernst Bloch, Il principio speranza, Garzanti, Milano 2005 (الطبعة الأصلية الألمانية: 1954-1959] وللكاتب نفسه حول موضوع الخروج كشكل من أشكالالثورة، راجع أيضا: [Ateismo nel Cristianesimo. Per le religioni dell’Esodo e del Regno, Feltrinelli, Milano 2005 ] (الطبعة الأصلية الألمانية: 1968).
-
انظر: [Cf. Walzer, Esodo e rivoluzione, 14. ]
-
انظر: [Cf. E. Pace, Raccontare Dio. La religione come comunicazione, il Mulino, Bologna 2008. ]
-
*الشامان هو زعيم تقليد ديني سحري، والشامانية هي شكل من أشكال الاعتقاد البدائي تنتشر في مناطق آسيا الوسطى. (المترجم)
-
انظر: [E. Troeltsch, Le dottrine sociali delle Chiese e dei gruppi cristiani, La Nuova Italia, Firenze 1941-1949 (ed. or. 1912). ]
-
انظر: [Cf. J. Beckford, The Trumpet of Profecy, Blackwell, London 1975; M. Introvigne, I Testimoni di Geova. Chi sono, come cambiano, Cantagalli, Siena 2015. ]
-
انظر: [C.f. “Genèse et structure du champ religieux”, in Revue Française de Sociologie (1971)3, 295-334. ]
-
انظر: [Cf. L. Berzano, Spiritualità senza Dio?, Mimesis, Milano 2014. ]
-
انظر: [Public Religions in the Modern World, University of Chicago Press, Chicago 1979 (trad. it. Oltre la secolarizzazione, il Mulino, Bologna 2000). ]
-
انظر: [Cf. E. Pace, Perché le religioni scendono in guerra?, Laterza, Roma-Bari 2004 ]
-
نجد عرضا جيدا لهذه المواقف لدى باولو نازو : [Cf. P. Naso, L’Incognita post secolare, Guida, Napoli 2015.]
-
انظر: [Cf. J. Habermas, “La rinascita delle religione, una sfida per l’autocomprensione laica della modernità”, in A. Ferrara (a cura di), Religione e politica nella società post-secolare, Meltemi, Roma 2009, 24-41. ]
-
انظر: [Cf. C. Taylor, L’età secolare, Feltrinelli, Milano 2009 ]
-
انظر: [Cf. P. Berger (a cura di), The Desecularization of the world, Eerdmans, Grand Rapids 1999.]
-
انظر: [Cf. Religious Sects, Penguin, London 1970, eThe Social Dimensions of Sectarianism, Oxford University Press, Oxford 1990.]
-
انظر: [V. Lanternari, Movimenti religiosi di libertà e salvezza, Editori Riuniti, Roma 2003 ]
-
انظر حول هذه الحركة المؤلفيْن التالييْن: [Cf. H. Desroche, Dieux d’hommes. Dictionnaire des messianismes et millénarismes de l’ère chrétienne, Mouton, Paris 1969; A. Mary, Visionnaires et prophètes de l’Afrique contemporaine, Kathala, Paris 2009. ]
-
*البنتكوستالية"نسبة إلى عيد العنصرة،أو "الخمسينية"، هو تيار دينيّ تطور في أحضان البروتستانتية يحوز الروح القدس في معتقداته موضعا متقدما. (المترجم)
-
انظر: [P. Berger, The Sacred Canopy, Anchor Books, Boulder 1967 (trad.it. La sacra Volta, SugaCo, Milano 1984). ]
-
انظر: [Cf. E. Barker, New Religions Movements: A Practical Introduction, Unipub, London, 1989. ]