زينب الكلبانية
حدّث الترمذي بسنده عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم" فقلت: يا رسول الله، وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله - تبارك وتعالى – فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع به العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ...} من قال به صدق ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
والقرآن الكريم - من قبل ومن بعد – هو كتاب الإسلام الخالد الذي يوجه الإنسان نحو المعرفة العلمية قراءة وبحثا وتعليما وتدوينا وتطبيقا، ويبيّن لنا أنّ الكون كله كتاب منظور يدلّ ويبرهن على وجود الخالق ووحدانيته، ويوضح لنا أن التفكر في ظواهر الكون والحياة يؤدي إلى تعميق الإيمان بالله وزيادة الخشية منه على هدى وبصيرة، وهذا ما ناقشه الباحث أحمد فؤاد باشا في مقاله المنشور بمجلة " التفاهم" بعنوان "التفسير العلمي للقرآن الكريم في أعمال المعاصرين".
ولما كان القرآن الكريم هو الأصل الأول للثوابت الإسلامية، فإن المسلمين مطالبون في كل زمان ومكان باستنهاض عزائمهم، وشحذ عقولهم، نحو فهمه فهما يغير من حياتهم إلى الأفضل دائما، ويضعهم في موضع يمكنهم من نشر لواء الإسلام في كل ربوع الأرض، باعتباره منهجا ربانيا متكاملا يحمل للناس كل ما فيه فلاحهم في الدنيا والآخرة.
ولقد ظهرت مباحث في علوم القرآن تعنى بجوانب إعجازه التي لا تحصى، ومنها إعجازه العملي الذي يظهر من تفسير آياته الكريمة في ضوء ما يستحدث دائما من حقائق عملية، فالإعجاز العلمي حالة خاصة من التفسير العلمي عندما يشير القرآن الكريم إلى حقيقة علمية كان من الصعب إدراكها وقت نزوله بالوسائل البشرية في زمن الرسول الكريم، مما يظهر صدقه فيما بلغ عن رب العزة، سبحانه وتعالى.
إنّ كلمة "إعجاز" توحي في دلالتها بأنّها غير دقيقة ولا سديدة، كما أنّها توحي عند سماعها أو قراءتها بحصر اهتمامات المجتهد في القرآن الكريم وتفسيره في دائرة بمعناه الاصطلاحي فحسب. والواقع أنّ جهود المهتمين بهذا المجال ليس من الضروري أن تتوصل إلى نتائج صحيحة دائما تدخل تحت مفهوم "الإعجاز العلمي"، باعتبار أنّ ما ينتهون إليه اجتهادات في خدمة تفسير القرآن الكريم وفهم معانيه.
كذلك ينبغي التنبيه فيما يتعلق بوصف "العلمية" الذي يراد به العلم التجريبي (الكوني) في موضوعه وطرائقه على ما هو شائع على ألسنة كثير من المفكرين، بصرف النظر عن صحة هذا الشائع وخطئه؛ ذلك أنّ الاقتصار على معنى العلم التجريبي فحسب فيه تضييق للواسع، فضلا عن أن فيه تسليما بالرأي المغالط في الثقافة الغربية، وإغفالا للمدلول الواسع والشامل في الثقافة العربية الإسلامية.
حيث إن الأصل في معنى "العلم" عند العرب هو الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وتصنيف العلوم إلى دينية أو دنيوية، أو نقلية وعقلية، أو شرعية وطبيعية، أو نظرية وتجريبية، أو غير ذلك، وهذا التصنيف يعتمد على الصفات المعبرة عن موضوعات العلم، أو مصادره، أو الطرائق التي يتم تحصيله بها بحسب تناسبها وقرب بعضها من بعض.
التفسير العلمي إذن – بما يتضمنه من إعجاز قرآني – ليس من قبيل ما أسماه السابقون "التفسير بالرأي"، واختلفوا فيه اختلافا كبيرا، وانتهى فيه بعضهم إلى الإباحة بشروط، وإنّما هو من قبيل ما نجده واضحا في عدد من التفاسير الشهيرة للألوسى والطبري والبيضاوي وابن كثير وغيرهم، على ألا يكون المقصود منه إقحام حقائق العلم على التفسير إقحاما، بافتعال مناسبات حشرها، أو بالإسراف في التأويل وليّ ألفاظ القرآن الكريم وآياته للجمع بينه وبين حقيقة علمية أو فرض لم يزل في حاجة إلى تمحيص، أو بالتهجم على الغيبيات وتصويرها كما يزينها الخيال أو الهوى.
ومن الأسف أن كل هذا كله قد حدث فأساء إلى الهدف النبيل، وأثار ثائرة الغيورين على كتاب الله أحيانا إلى درجة التطرف في رفض اجتهاد مقبول ومعقول في خدمة علم التفسير الشريف، وضاعف من تيار المعارضين عموما لربط العلم وحقائقه بالقرآن الكريم.
من ناحية أخرى، ربما يستند بعض المعارضين للتفسير العلمي للقرآن والسنة إلى واقع العلم ذاته عندما يبدو لهم كما لو كان قد تخلى في بعض قوانينه الجديدة عن مفاهيم أساسية قامت عليها قوانينه القديمة، مما يعني في اعتقادهم أن نتائج العلم غير يقينية، وأن العلماء عرضة للخطأ والقصور.
لكن هذا ينبغي ألا يعني أنّ القوانين العلمية التي يتوصل إليها الباحثون بعد اختبار تجريبي دقيق غير صحيحة، فقوانين إسحاق نيوتن عن الجاذبية مثلا تعبر عن حقائق موضوعية بأعلى درجة ممكنة من الصدق واليقين؛ لأننا اختبرنا صحتها أمام أعيننا في الأمر الواقع، وأفدنا من نتائجها في إنجاز تقنيات متقدمة ساعدتنا على ارتياد أجواز الفضاء، واختراع أقمار صناعية تدور حول الأرض مثلما يدور القمر الطبيعي، وغيرها من الأمثلة الكثير.
وهكذا نجد أن الحقيقة الكونية التي يعرف رجال العلم معناها وحدودها لا تبطل مع الزمن، ولكنها قد تزداد مع جهود العلماء المتتابعة تفصيلا ووضوحا وجلاء. كل ما في الأمر أنّ القوانين العلمية تعبر عادة عن حقائق علمية محدودة، وليس من الصواب أبدا أن تعد هذه الحقائق الجزئية دليلا على قصور العلم أو منقصة فيه، فطبيعة المعرفة العلمية تتميز بالتنامي والاطراد في اكتشاف القوانين التي تلقي الضوء شيئا فشيئا على حقائق الواقع الثابت في الكون بعد أن أشارت إليها آيات من القرآن العظيم، ولهذا فإننا نقول: إن التفسير العلمي للقرآن الكريم ليس تفسيرا بالرأي (العقلي الذاتي)؛ ولكنه تفسير برأي (حقائق) العلم.
وبناء عليه، لا يرى العلماء المعاصرون مانعا من الاجتهاد في فهم ما لم يستقر عليه رأي المتأولين، أو ما لم ينته فيه العلم إلى رأي قاطع، ما دمنا لا نمسّ جوهر التفسير، أو نجزم بأنّ هذا هو المعنى المقصود، مسلّمين بأنّ الله أعلم بمراده، فلماذا لا نقدم غاية ما يبلغه اجتهادنا وترتاح إليه نفوسنا وعقولنا في ضوء فهمنا لنشأة الكون، وهي قضية غيبية، أمر القرآن بالبحث فيها للوقوف على كيفية فتق السموات والأرض، وفي ضوء ما أخبر به العلم عن أضواء الكواكب والنجوم، ونحو ذلك. إنّها ليست أكثر من خدمة علمية للتفاسير، تضم إليها أو تنفصل عنها.