زينب الكلبانية
ما المراد بلاهوت التحرير؟ بالأساس هو خط ديني مسيحي يستلهم رؤاه من كتابات ذات منحى لاهوتي نضالي، تم تأليفها منذ عام 1971 من قبل مجموعة من رجال الدين المسيحيين، على غرار غوستافو غوتيراز من البيرو، وروبيم آلفز من البرازيل، وغيرهم من الكتاب من مختلف دول أمريكيا اللاتينية. ولذلك ليس مصادفة أن تظهر هذه الحركة في أمريكا اللاتينية، في جنوب القارة التي تفشى فيها التباين الاجتماعي بشكل صارخ، وقد توالت، منذ تفجر الثورة الكوبية سنة 1959، نضالات اجتماعية تطلعت إلى إرساء العدالة، دعمتها حركات ثورية بشكل متلاحق، وهذا ما ناقشه الباحث ميكائيل لوفي في مقاله المنشور بمجلة التفاهم.
ولئن برزت اختلافات جمّة بين آراء مجمل هؤلاء اللاهوتيين؛ فإننا نجد في سائر أعمالهم العديد من المحاور الرئيسة التي شكلت أرضية مشتركة ومنطلقا جذريا نابعا من المعتقد التقليدي، كما أرسته الكنائس المسيحية، سواء منها الكاثوليكية أو البروتستانتية، ومنها: تقريع أخلاقي واجتماعي للرأسمالية باعتبارها نظام حيف وجور، وبوصفها شكلا من أشكال الخطيئة البنيوية. أيضا توظيف أدوات التحليل الماركسية بقصد تفهم دواعي الفقر، والإحاطة بتناقضات الرأسمالية وبمختلف أشكال الصراع الطبقي. كذلك خيار موالاة الفقراء ومناصرة نضالاتهم في التحرر الاجتماعي الذاتي، والسعي الجاد من أجل إرساء العدالة الاجتماعية.
ومنها أيضا العمل على النهوض بالشرائح المسيحية المعدمة في أوساط الفقراء، كشكل جديد من جمهور الكنيسة، والبحث عن نمط بديل لحياة الفردانية التي أملاها النظام الرأسمالي، وقراءة مستجدة للكتاب المقدس، تحوم أساسا حول جملة من الإصحاحات الواردة في سفر الخروج التوراتي، كنبراس للنضال من أجل التحرر لشعب يرزح تحت نير الاستعباد، وأخيرا نقد الثنائية اللاهوتية التقليدية باعتبارها نتاجا للفلسفة الأفلاطونية الإغريقية، ولأنها لا تمت بصلة للتراث الكتابي التوراتي، الذي يتميز فيه التاريخ البشري عن المسار الإلهي ولا ينفصلان.
لم تؤثر مسيحية التحرير بخطها اللاهوتي إلا في مجموعة ضئيلة من كنائس أمريكا اللاتينية: حيث بقي التوجه السائد -في الغالب الأعم- إما محافظا أو معتدلا، لكن تأثير تلك المسيحية ما كان هينا أو عرضا، لا سيما في البرازيل حيث رفض المؤتمر الأسقفي(CNBB) -برغم الضغوط القوية المتأتية من حاضرة الفاتيكان وبشكل متكرر- إدانة لاهوت التحرير.
ذلك أن مسار التأصيل اللاهوتي في الثقافة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية -وهو ما سيقود إلى بروز لاهوت التحرير- لم ينطلق من قمة الكنيسة ليسير نحو القاعدة، ولا من القاعدة الشعبية باتجاه القمة، ولكن من الهامش باتجاه المركز. فالشرائح أو القطاعات الاجتماعية في الحقل الديني الكنسي -التي ستغدو المحرك الفاعل في عملية التجدد- كلها ذات طابع هامشي أو متحدرة من الأطراف بالنسبة إلى المؤسسة: الجهاز الكنسي اللائكي وأعوانه، والخبراء اللائكيون، والكهنة الأجانب، والتنظيمات الدينية. ففي بعض الحالات استولت الحركات على "المركز" وأثّرت على المؤتمرات الأسقفية (لا سيما في البرازيل)، وفي حالات أخرى بقيت معزولة على "هامش" المؤسسة.
ضمن هذا السياق جاء ميلاد لاهوت التحرير. بدأ موضوع التحرر يشغل لاهوتيي أمريكا اللاتينية الأكثر تقدما -غير المقتنعين "بلاهوت التنمية" الرائج في جنوب القارة- منذ أواخر ستينيات القرن الماضي. وعلى سبيل المثال نورد حالة اللاهوتي البرازيلي هوغو آسمان، الذي سبق أن تلقى تعليمه في فرانكفورت. فقد لعب دورا بارزا منذ سنة 1970 في حشد أولى العناصر لبلورة نقد مسيحي ذي طابع لاهوتي تحريري للتنمية الاقتصادية المستدامة؛ لكن بحلول عام 1971، ومع صدور مؤلف غوستافو غوتيراز - اليسوعي البيروفي، الذي أنهى تحصيله العلمي في جامعتي لوفان وليون الكاثوليكيتين- كان المولد الفعلي للاهوت التحرير. ففي مؤلفه المعنون بـ"لاهوت التحرير - السياقات"، سيطرح غوتيراز جملة من الأفكار الاحتجاجية، ستكون مدعاة لإثارة بلبلة في التصورات اللاهوتية داخل الكنيسة. في مستوى أول، ألحّ على ضرورة تهشيم الثنائية المتوارثة عن الفكر الإغريقي: فلا وجود لواقعين: أحدهما "زمني" والآخر "روحي"، أو تاريخين: أحدهما "مقدّس" والآخر "مدنّس". هناك تاريخ موحد فحسب، وفي حضن هذا التاريخ الإنساني والزمني ينبغي أن تتحقق العدالة الاجتماعية، والخلاص، ومملكة الرب. لا يتعلق الأمر بترقب الخلاص من أعلى؛ فالخروج التوراتي يبين لنا بشكل لا لبس فيه "أن بناء الإنسان عمل من صنعه، يتأتى تبعا لنضاله السياسي التاريخي". كما أنّ مسار الخلاص يغدو مسارا جماعيا و"شاملا" بعد أن كان خيارا فرديا وخاصا، حيث لا يتمثل الرهان في أن ينجو المرء بنفسه، بل في خلاص وتحرر شعب بأسره يرزح رهن الاستعباد. فليس الفقراء -ضمن هذه السياق- مجرد موضوع للشفقة أو هدفا للإحسان؛ لكنهم -على غرار سائر المستضعفين من بني إسرائيل- صناع تحررهم. وفيما يتعلق بالكنيسة، ينبغي أن تكف عن لعبها دور الشريك في جهاز السيطرة؛ متبعة التراث العظيم لأنبياء التوراة والنموذج الشخصي للمسيح، وأن تواجه الجبابرة، وتندد بالظلم الاجتماعي.
خلال العقود الأخيرة، دشن لاهوت التحرير ورشات عمل جديدة، بتناوله بالتحليل مظاهر اضطهاد المرأة، وأشكال العسف والميز المسلطة على تجمعات الزنوج والسكان الأصليين، كما ضم إلى تلك المسائل تحديات التنوع الثقافي والتعددية الدينية والحوار بين سائر المعتقدات، فضلا عن المسألة البيئية. مستهلا عمله بوضع الليبرالية الجديدة محل نقد لاهوتي وسياسي، باعتبارها الشكل الجديد الرائج في أمريكا اللاتينية لنظام مضطرب داخليا ألا وهو الرأسمالية. حيث لم يقتصر النقد الذي وجهه لاهوتيو التحرير إلى نظام السيطرة السائد على المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية؛ بل شمل أيضا المجال اللاهوتي. فقد بدت الرأسمالية -ولا سيما في شكلها الليبرالي الجديد من منظورهم- شكلا من أشكال الوثنية.
فليست المسألة المحورية المطروحة اليوم في أمريكا اللاتينية الإلحاد؛ أي المسألة الأنطولوجية التي تطرح وجود الله؛ بل تتمثل المسألة في الوثنية، في عبادة الآلهة المزيفة لنظام الاستغلال. حيث يتميز كل نظام من أنظمة الاستغلال بهذا الشكل تحديدا بأنه يخلق آلهة وأوثانا، تضفي قدسية على الاضطهاد، وتناصب الحياة العداء. فعملية البحث عن الإله الحقيقي في هذه المعركة للآلهة تقودنا إلى رؤية للأشياء تنزع نحو الصدام مع الوثنية، والرفض للآلهة المزيفة، والأوثان المميتة، وأسلحتها الدينية التي تروج للموت. فالإيمان بالله المحرر، ذلك الذي يكشف عن سره في نضالات الفقراء ضد القهر، هو ما يكتمل بشكل حاسم بنفي الآلهة الزائفة فيغدو الإيمان من هذا الباب نقيضا للوثنية.
ليس لاهوت التحرير مجرد مجموعة من النصوص فحسب؛ بل هو أيضًا ممارسة نضالية من أجل العدالة الاجتماعية في أوساط الطبقات المحرومة، من داخل الشعوب المضطهدة.
تيارات المناضلين المسيحيين التي تشارك في الحركة المناهضة للعولمة شديدة التنوع -منظمات غير حكومية، مناضلون في نقابات أو في أحزاب يسارية، تنظيمات مقرّبة من الكنيسة- ولا تتقاسم الخيارات السياسية ذاتها. مع ذلك فإن مجملها تشترك في الخطوط الكبرى للاهوت التحرير، كما تبلور مع رجال الدين، بل أيضا كما يمارس من قبل أساقفة ذائعي الشهرة أو معروفين بدرجة أقل، وتسهم في النقد الأخلاقي والاجتماعي والبيئي للرأسمالية بقصد العمل لأجل تحرير الفقراء.
انتخاب البابا فرانسيس (برغوليو) من أمريكا اللاتينية ربما سيمهد الطريق لخلق ظروف ملائمة في حضن الكنيسة الكاثوليكية؛ لتطور لاهوت التحرير. فالدعوة الموجهة لغوستافو غوتيراز للالتقاء مع البابا فرانسيس في الفاتيكان يمكن أن تكون بادرة لطي صفحة الماضي وتدشين مرحلة جديدة.