المجتمع المدني في سياق تاريخ الأفكار.. من أرسطو إلى هيجل

زهرة ناصر

شَهد مفهوم المجتمع المدني انتشاراً كبيراً في السنوات الأخيرة؛ باعتباره مجموعة من التنظيمات الوسيطة التي تسعى لتنظيم العلاقة بين الفرد والدولة، لكن ما ليس معروفاً حقًّا هو التحولات التي طرأت على هذا المفهوم منذ فلاسفة الإغريق إلى إنْ تشذّب بفعل أحداث تاريخية عديدة، مُتحولاً إلى ما هو عليه اليوم. فبعد أن كان سابقاً يرادف في معناه المجتمع السياسي، ومرتبطاً تماما بالكيان الذي يحكم الدولة، جاءت الثورة الفرنسية مُحدثة شقاً بين ما قبلها وما بعدها؛ حيث كانت أحداثها المحور المفصلي في عملية تشكل المجتمع المدني في معناه الحديث.. مقال "في المجتمع المدني والدولة المدنية"، والمنشور في مجلة "التفاهم"، يتتبع سير هذه التحولات في سياق الفكر السياسي والفلسفي الغربي؛ حيث ناقش عملية تشكل الدولة المدنية في إطار أربع مرجعيات فلسفية؛ هي: مقولة شمولية العقل، مقولة استقلالية العقل، مقولة الحق الطبيعي، ومقولة العقد الاجتماعي.

وعلى الرغم من أن فكرة المجتمع المدني نُوقشت كثيراً منذ السفسطائيين، إلا أن المجتمع المدني كمصطلح اتخذ شكلاً واضحَ المعالم  فقط عند أرسطو، وإذا أمعنَّا النظر في الترجمة الحرفية للمصطلح الذي استخدمه، سنجد أنه يعني المجتمع السياسي، وهذا يتوافق تماما مع أفكاره حول المجتمع المدني؛ فهو يعتبره اجتماعا سياسيًّا لا يتحقق وجوده واستمراره إلا بوجود دولة قادرة على إشْتراع القوانين لتنظيمه. وبعكس أفلاطون الذي ذهب لضرورة تجاوز المصلحة الخاصة في سنّ القوانين، كان لأرسطو رأي آخر أكثر حصافة؛ حيث قال إنَّ القوانين لا بد وأن تكون نتيجة المداولات العامة بدلا من أن يضعها الخبراء بمعزل عن التجربة؛ ذلك لأن الناس من خلال تعاطيهم المستمر فيما بينهم يُعززون الذكاء الجمعي الذي يوصلهم لقانون وسط يُرضي جميع الأطراف. ومن بين الطبقات الثلاث، يُفضل أرسطو حكم الطبقة الوسطى المتعلمة؛ فحُكم الفقراء ينتج دولة هشة، وحكم الأغنياء ينتج سياسة احتكار الثروات، وهو مُحق؛ فليس أفضل مثالاً على فشل الديمقراطية إلا ما حدث في فنزويلا في بداية الألفية الجديدة؛ فالبرغم من أن تشافيز هوجو كان محبوبًا جدًّا، وانتُخب من قبل عامة الشعب، إلا أن ذلك لم يكن كافياً فقد خَلّف عَقِب وفاته دولة ذات اقتصاد أقل ما يُقال عنه إنه منكوب، أما إذا حاولت ذكر أمثلة على فشل الديكتاتوريات فلن تتسع هذه الصفحة ولا الصفحات الأخرى. هكذا إذن وضع أرسطو الأسس الأولى لمفهوم المجتمع المدني، واستمرَّت تنظيراته حوله حتى عقب وفاته، بل إنَّها تطورت على أيدي الرواقيين المحدثين المنادين بشمولية العقل حتى باتت العدالة -التي تحدث عنها أرسطو- تشمل الجميع: نساءً وعبيداً وأطفالاً.

لا يغيبُ عن بالِ أحد أن المسيحية كانت سبباً في انهيار الجمهورية الرومانية التي كان أساسها العدالة المتحققة بالقانون الذي شُرّع نتيجة لثورات العامة، واعتراضاتهم المستمرة على الاحتكار والطبقية. لكن ما الذي حدث فعلاً؟ وكيف أصبحت للكنيسة سلطة تخوّلها التدخل في شؤون الحكم؟ لا بد أن ذلك حدث عندما لاحظ  قسطنطين أن وتيرة انتشار المسيحية أصبحت في تسارع، متجاوزةً بذلك الوثنية، فأعلن حينها الإمبراطورية الرومانية دولةً مسيحية من أجل تحقيق دوافعه السياسية. ونتيجة لذلك، طرأ على مفهوم المجتمع المدني تغيُّر درامي؛ حيث بعد أن كانت مهمة الكيان السياسي أو الدولة أداة لتحقيق الخير الأسمى على الأرض، أصبحت أداةً لتمهيد مملكة الله في السماء، وبعد أنْ كان العقل الإنساني أداة ينتظم من خلالها المجتمع ويتطور وفق القانون الطبيعي، أصبح ضعيفاً، وأصبحت النفس البشرية فاسدة لا يُعتمد عليها، وكان لا بدّ من الاستناد للكتاب المقدس في وضع أسس السياسة والمجتمع المدني، وكانت هذه أول نظرية مسيحية تعنى بالمجتمع المدني، وضعها القديس أوغسطين والتي رهنت قيام الأمة بمشروع الخلاص. إلا أن هذا التزاوج بين الكنيسة والسياسة لم يؤتِ بالثمار المرجوة، حيث سرعان ما بدأت ملامح الصراع بين الإمبراطور والبابا بالظهور، وفقدت السلطة السياسية قدرتها على إدارة الشؤون الدنيوية. ثم تسربت أفكار أرسطو حول المجتمع المدني مجدداً على يد الأكويني، محدثة تغيراً في الأفكار الموروثة عن أوغسطين؛ فحاول الأكويني أن يشرك العقل في مشروع الخلاص من خلال موافقته مع الإيمان، وافتراض أن السلوك البشري يُمكن تقويمه من خلال  قوانين الطبيعة والقوانين الإلهية المنزلة معاً. ومنذ القرن الثالث عشر، استمرت المساعي لفصل السياسة عن الكنيسة، حتى إن الشاعر دانتي ألغيري كتب عدة أطروحات، ناقش فيها هذا الفصل، وكذلك دعا في مقاله الطويل "الحكومة العالمية" إلى ضرورة رفع قبضة الكنيسة عن السياسة. ومن ثم حاول مكيافيللي في القرن الخامس عشر أن يضع منهجاً يتجاوز فيه السلطة الدينية وينتزعها من الفكر السياسي، مُمهدا بذلك الطريق لتطوره لاحقاً على أيدي مفكرين آخرين؛ مثل: منتسيكو ولوك وروسو. وفي القرن السادس عشر، احتجَّ اللاهوتي مارتن لوثر على سلطة الكنيسة، وكافح من أجل التقليل من سطوتها على الناس والمجتمع.

أمَّا المجتمع المدني في القرن السابع عشر، فيمكن اختزاله في فكرتين؛ الأولى لتوماس هوبز الذي رأى أن المصلحة الفردية تنتج حالة حرب دائمة إذا لم تُقهر من قبل سلطة تتمتع بالنفوذ الكامل لإنزال العقاب الأليم بالأفراد في حال نقضهم المواثيق المتفق عليها. أما الفكرة الثانية، فكانت نوعاً ما تجابه الأولى، وقد وضعها جون لوك، وعارض من خلالها السلطة المطلقة للدولة في تحديد أقدار مواطنيها؛ لأنها بذلك تهدد الحقوق الأساسية التي حصلوا عليها بموجب القانون الطبيعي، فلا يصح أبداً أن يُسلبْ أحد شيئاً أعطته له الطبيعة كالحرية والملكية ما دام أنه بقي أخلاقياً ولم يتعد على حقوق الآخرين. وخلاصة القول؛ رأى لوك أن المصلحة الفردية لا بدّ منها لأنها أساس الحياة الطبيعي،  وعليه وجب على الدولة حمايتها وتنظيمها، ولا بد أن تكون حكومة هذه الدولة محدودة ذات ملكية دستورية، وليست بملكية مطلقة والتي دعا إليها مواطنه هوبز.

عرف المجتمع لأول مرة في عصر التنوير من قبل إدوارد تايلور؛ حيث قال: إن المجتمع "هو المركب الذي يشمل المعارف، والعقيدة، والفن، والأخلاق، والأعراف، وأي قدرات أو عادات اكتسبها الفرد نتيجة تعايشه في المجتمع". ودرس مونتسيكو من قبله المجتمع وكان هو صاحب فكرة مجتمع المجتمعات التي دعا من خلالها إلى إقامة فيدراليات الهيئات الوسيطة التي تتحقق من خلال وجود طبقة النبلاء كحلقة وصل بين الدولة وأفراد المجتمع، وهذا يذكرنا قليلا بالتنظيمات الوسيطة في مفهوم المجتمع المدني الحديث، وبذلك يكون مونتسكو قد وضع أولى أساسات المجتمع المدني الحديث.

ومن بعد ذلك، جاء فلاسفة التنوير في منتصف القرن الثامن عشر بتنظيراتهم، بداية بجان جاك روسو الذي حاول ترسيخ مقولة العقد الاجتماعي، وهو عقد افتراضي ناتج عن توحُّد الإنسان الحرّ مع الآخرين بإرادته؛ لأنَّ الإنسان العاقل بطبيعته حيوان اجتماعي يحتاج الأمان والتعاطف، وهذا تماما عكس ما ذهب إليه هوبز بقوله إن المجتمع يتوحد بالإرهاب، وكذلك خلاف رأي لوك الذي قال إن الأفراد يتوحدون من أجل منافعهم الفردية. وبعد أن انتقد ديفيد هيوم أفكار جاك روسو مُؤكداً أنَّ المصالح الذاتية هي المحرك الأساسي للمجتمع، رد عليه إيمانويل كانط قائلاً: إنَّ المجتمع المدني يجب أن يقوم على الإحساس بالواجب الأخلاقي، وواجب الفرد أن يفكر كيف سيستفيد الآخر منه بدلاً من العكس.

وكما أسْلفت الذكر، كان للثورة الفرنسية دور مفصلي في تطور مفهوم المجتمع المدني؛ فهي التي وضعت النظريات موضع التطبيق؛ فالبرغم من أن فكرة التنظيمات الوسطية أوجدها مونتسيكو، إلا أن الثورة هي التي أحدثت التغيير الدرامي بعد أن محقت الطبقية وأزالت امتيازات طبقة النبلاء، مثل الوساطة بين الدولة والشعب، حيث انتقلت هذه المهمة إلى مؤسسات أخرى. وبعد الفصل الذي حدث بين السياسة والاقتصاد، ظهرت دولة حديثة تماما ومجتمع مدني مُنفصل نوعاً ما عن الدولة، ولكن هيجل -الذي لم يتفق مع نظريتي الحق الاجتماعي والعقد الاجتماعي- كان مُحقاً عندما اعتقد أنَّ المؤسسات الوسطية تنتمي للدولة أكثر من انتمائها للمجتمع، فكلاهما له الأهداف عينها.

هكذا إذن تطوَّر مفهوم المجتمع المدني منذ فلاسفة الإغريق مروراً بالمسيحية، ثم عصر التنوير، ثم الثورة الفرنسية، واستمرت الأحداث بالتغير كما استمر المفكرون بعد هيجل بالتنظير إلى اليوم، ولا أعتقد أنها ستتوقف يوماً.

أخبار ذات صلة