الخلافة مدخل لتجديد الدورة الحضارية

زينب الكلبانية

من بين عناصر القوة في النص القرآني، أنَّه أعاد صياغة فلسفة الحياة بطريقة ربط فيها الإنسان بخالقه بطريقة مزدوجة، فمن جهة جعله مشدودا إلى السر الإلهي في انتظار اللحظة السرمدية، التي تجعل من هذا الكائن الضعيف قريباً من القوة المطلقة، وغير محدودة في المكان أو الزمان، لكنه في المُقابل يُعيد القرآن الكائن البشري إلى قلب الصراع، ويجعل منه إنساناً مكلفاً بخلافة الله على الأرض، وهذا ما ناقشه الباحث صلاح الدين الجورشي في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "قضية التكليف بين المسؤولية ودعوى الحق".

وأضاف الكاتب أنَّ مصطلح الخلافة له أبعاد كثيرة ومعانٍ مُتعددة، ومن يقتصر على ظاهر الكلمة قد ينتهي به المطاف إلى إسقاط الشكل على المعنى، وتغليب ظاهر اللفظ على جوهره، فيخرجه عن سياقه، وقد يفرغه من محتوياته، أو ينحرف به في اتجاه يختلط فيه الحق بالباطل، أو يقلل من أهميته، ويقوم بتسطيح مضمونه.

قد يُفجأ المرء عندما يعود إلى بعض تفاسير القرآن، ويطلع على ما ورد من معانٍ تخص خلافة الإنسان على الأرض، فمنهم من فسَّر قوله تعالى: ((إني جاعل في الأرض خليفة)) أي؛ قومًا يخلف بعضهم بعضًا، قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، معتمدًا في ذلك على الآية الكريمة ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض)) فهو لم ير في العبارة سوى قانون التعاقب والتحقيب الزمني. أما البعض الآخر فذهب إلى اختزال الأمر في دور القاضي، حين رأى أنَّ الخليفة هو الذي يفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم، ويرد عنهم المحارم والمآثم.

أما الخلافة بمفهوم أشمل فهي أولاً دليل على ثقة الخالق في مخلوقه، أخرجه من العدم ليجعل منه كائنا استثنائيا في قدرته وذكائه، وبنيته النفسية والروحية والعقلية، ولقد حول الله ضعف الإنسان إلى قوة، عندما أكرمه وفوضه لتولي شؤون الدنيا والتحكم في مُقدرات الأرض، وذلك بتكليف منه سبحانه، لا تستطيع أي قوة أن تمنعه عن القيام بهذه المهمة، مهما كان حجم الأخطاء التي ارتكبها، أو تلك التي سيرتكبها مستقبلا، ولقد حاولت الملائكة فعل ذلك، رغم أنَّها جبلت على عدم الاعتراض على إرادة الله؛ لكنها لم تُفلح.

لقد استغربت الملائكة أن يكون خليفة الله مخلوقا مزدوج الطبيعة، يتمتع بالقدرة على فعل الشر مثلما هو قادر على فعل الخير، لم يختر الله كائنا نورانيا مفطورا على عبادة الخالق دون تردد أو تفكير مُسبق، ولهذا احتار المفسرون، وحاولوا أن يبحثوا عن تأويل يزيل هذا الاستغراب عن سلوك الملائكة، وبقيت هذه التأويلات دون الغوص في المعاني العميقة لموقف الملائكة، ولقد عبرت الملائكة عن خوفها من طاقة العنف والتدمير الكامنة في طبيعة الإنسان قولاً ومشاعر وقدرة، وعدّت ذلك دليلاً على أهلية المخلوق للقيام بمهمة الخلافة التي يجب أن تكون – حسب اعتقادها - قائمة على رسالة الحب والخير فقط.

الخلافة لا تتحقق إلا إذا كانت معها حرية في الاختيار والقرار والتوجيه، وهندسة بناء الحياة الفردية والجماعية، فالذي ليست له حرية الإرادة والتخطيط والتنفيذ، لا يُمكن أن يكون كائناً مكلفاً. صحيح هو مطالبٌ بطاعة خالقه، واتباع المنهج الرباني الذي وضع له؛ لكنه أيضاً مُنح حرية الاختيار بين القبول بذلك طوعاً، ورفضهِ بإرادته.

كما أنَّ الخلافة مسؤولة عن الأفعال؛ لأنَّ المفطور على الفعل والمجبر عليه لن يتحمل تبعات ما يقوم به، مثله في ذلك مثل الآلة التي تنجز ما تريد مشغلها، تعمل دون أن تعي بذلك، في حين أن الإنسان كائن مُخير في أفعاله، ومن ثم فهو مسؤول عنها أمام الله وأمام الناس بحكم كونه اجتماعياً بطبعه، يعيش ضمن مجتمع خاضع لمنظومة قيمية وتشريعية تضبط حركته، وتقيد سلوك أفراده.

والخلافة أيضًا مجال مفتوح للتشبه بالإله الأعظم، ويتم ذلك في حالتين، سواء عند التقرب من الله عبر العبادة وفعل الخير، أو عند الغرور والاعتزاز بالإثم في لحظة القوة، والانفراد بالقيادة، واعتقاد المستبد أنّه قد أصبح ربًا بين قومه، يريهم ما يراه، ولا يحق لهم مخالفة رأيه أو الخروج عنه، وطاعته في كل ما يأمرهم به، دون نقاش أو جدال، وخير مثال على ذلك الطاغية فرعون.

الخلاصة من هذا السياق أن خلافة الإنسان في الأرض تتجاوز الكثير من المعاني المجردة التي وردت بالكثير من التفاسير، والتي أفرغت المصطلح من مضامينه العميقة، وأفقدته الشحنة الخلاقة التي ولدها ذلك المشهد العظيم، الذي ارتقى في هذا المخلوق من حمأ مسنون إلى مرتبة جعلته يتقدم بقية المخلوقات، بما في ذلك ملائكة الرحمن. وعندها يستحضر الإنسان دلالات هذا التكريم، فالمنتظر أن تتغير نظرته لذاته ولدوره بشكل جوهري؛ إنه ليس مجرد رقم عابر في هذا الكون الفسيح، ولم يكن حيواناً ناطقاً كما ادعى بعض الفلاسفة، ولم يخلق لكي يأكل ويتناسل وينهب ويُسيطر، إنما مهمته أن يعمر الأرض، وأن يحميها من عوامل الاندثار، ليس فقط بهدف ضمان بقاء السلالة، وإنما لكي يحمي توازنات الكون، ويرسخ قيم التنوع والتكامل في الطبيعة والحياة الإنسانية.

تعد فكرة خلافة الإنسان لله في الأرض من كبرى الأفكار الملهمة، والقادرة على إحداث التغييرات العظيمة، ليس فقط لواقع المسلمين في مكان ما، ولكنها فرصة مفتوحة لكل من يُريد أن يحد من تدهور الحياة الإنسانية، ويعيد لها الدفء والحب والقوة النابعة من الذات الممتلئة بالقيم الخالدة.

إنَّ ربط الخلافة والتعمير من شأنه أن يضع حدا لسياسات الهيمنة، التي ميزت المسيرة الغربية منذ أربعة قرون على الأقل، فالاستعمار في المفهوم الغربي هو السيطرة على أراضي الآخرين وأوطانهم من أجل الانفراد بثرواتها لصالح الأمة المهيمنة، في حين أن التعمير هو عملية لا محدودة، تتجاوز مسألة التناسل لإبقاء الجنس البشري، لتغطي أبعادا كثيرة يصعب حصرها في فعل واحد، يقول القرآن الكريم ((هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)) فبعد خلقها بجميع ثرواتها وأسرارها، طلب من الإنسان -نتيجة تفويضه للخلافة- أن يتولى تعميرها والتصرف في كل ما فوقها وتحتها. أي مكنه من جميع الصلاحيات التي تجعله سيدا وصاحب قرار، وهو ما عبرت عنه كلمة التسخير التي وردت في القرآن الكريم في كثير من المواقع كشرط من شروط تحويل الخلافة إلى تنفيذ وإنجاز.

لكن الإنسان الخليفة لن يتمكن من تعمير الأرض إلا إذا استعمل العقل وأحسن استثماره، واكتشف القوانين المنظمة للطبيعة ولم يصطدم بها، ثم احترم تلك القوانين وخضع لمنطقها الداخلي ولقواعدها الصارمة؛ لأنه بمخالفته لها -وهو قادر على ذلك- يضع نفسه والأرض في مخاطر قد تؤدي إلى الانتحار الجماعي، ولهذا يذكره القرآن بالقاعدة الحامية لوجوده: ((ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)). والإصلاح هنا لا يعني تعويض دور الإنسان في التعمير، وإنما هو إشارة إلى القوانين الناظمة للحياة والطبيعة والمجتمع، وبذلك تكون الخلافة تفويضاً مطلقاً في دلالاته الرمزية حتى يثق الإنسان الفرد في ذاته وقدراته على تأثيث الوجود؛ لكنه في الحقيقة مقيد بقوانين الطبيعة وأحكام الوجود الإنساني.

 

أخبار ذات صلة