قضايا الأزمة الفكرية ومناهج التغيير في القرآن الكريم

زينب الكلبانية

تميّزت المدرسة الإصلاحيّة الحديثة في البلاد العربيّة بما قدّمته من معالجة، تجلّت في فكرها السّياسي والاجتماعي، وهي التي صيغت في سؤال: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ ضمن هذه المعالجة، قدّم الطهطاوي أطروحة «المنافع العموميّة» بينما ركّز خير الدين على أطروحة « التنظيمات» وكانا في ذلك بمعيّة عموم الإصلاحيين يعملون على ضرورة الفصل نظريّا وعمليّا بين الثقافة الغربية ومبتكراتها التقنية من جهة، وبين السّياسات الغربية التوسّعية تجاه العالم الإسلامي من جهة ثانية، وهذا ما تحدث عنه الباحث أحميدة النيفر في مقاله " قضايا التغيير ومناهجه في القرآن الكريم" والمنشور بمجلة التفاهم.

يتحدث الكاتب أن الجانب المغمور والذي تميّزت به هذه المدرسة هو مبادرتها الرّائدة في إصلاح الفكر الدّيني، وأبرز من جسّد هذا التوجّه هو الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي كان يرى أن الإصلاح ينبغي أن يعتني بالفكر الدّيني أساسا لذلك عرّفه بقوله: «هو تحرير الفكر من قيد التّقليد، وفهم الدّين على طريقة سلف هذه الأمّة، قبل ظهور الخلاف، والرّجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله، لترد من شططه، وتقلّل من خلطه وخبطه لتتمّ كلمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني» ولقد كان يعتبر أن بلوغ ندّية حضاريّة مع الغرب ومواجهة سياساته المعادية للمسلمين، تقتضي ابتداءً إعادة بناء الذّات عبر مراجعات نقديّة للتّراث، وقراءات تجديديّة لقضايا فكره الدّيني ومناهجه التّعليمية.

مثل هذا المشغل لم يكن قدرا مشتركا بين صاحب المنار، وبين عموم الإصلاحيين، ناهيك أن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، كان لا يخفي تبرمّه من التّمحض لهذا التوجه. لذلك كان يكاتب الشّيخ، بما يشبه التّقريع، ليطالبه بالاعتناء بالتّوجيه السّياسي الاجتماعي وما يلزم ذلك من إيقاظ الهمم، وإلهاب المشاعر قصد إزاحة أنظمة الحكم المستبدة.

مواجهة لهذا الانحراف قام الشيخ عبده بتركيز مقولة: «القرآن كتاب هداية» وهي التي كان صاغها أستاذه السيد جمال الدين في عبارة توجيهية عامة حين كان يقول إن: "القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية أمّا ما تراكم عليه وتجمّع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظريّاتهم فينبغي أن لا نعوّل عليه". لكن ما ميز مقولة « القرآن كتاب هداية» فيما اهتم به محمّد عبده، هو أنّها كانت افتتاحا لتوجّه منهجي جديد للعلاقة بالنصّ القرآني وبقضاياه ومفاهيمه. هو توجّه يحدّد للتفسير هدفا مغايرا لما استقر عليه المفسرون التقليديون، إنه:«ذهاب المفسّر إلى فهم المراد من القول وحكمة التشريع في العقائد والأحكام على وجه يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام». الغرض الجديد للتفسير في تيار المنار هو التوصّل إلى الاهتداء بالقرآن، بما يجعل وظيفة النصّ القرآني محددة في إصلاح المجتمع، وتغيير مضمونه، ووجهته عبر مسالك ومنهج مخصوص.

أول مستلزمات الوقوف على قضايا «التّغيير» نتوصّل إليه من خلال مفهوم «الهداية» ذاته، الذي يمثّل عنصرا من عناصر الرّكيزة الصّلبة، التي تتحرّك عليها تلك القضايا في الخطاب القرآني، ما يشدّد ذلك الخطاب على تأكيده في هذا الشأن، هو أنّ الهداية عنصر أساس للتّغيير المنشود شريطة أن لا تعتبر حُظوَة وتفضيلا إلهيًّا عشوائيّا يختص بِه مَن يشاء من عبادِه، دونما سنّة ناظِم أو نامُوسٍ حاكِم، ما يفيده الخطاب القرآني في هذا الخصوص باعتباره ما يعنيه من فكر متجسّد في كامل مفاصل النّص، هو أنّ الهداية لا يمكن أن تحصرها دلالة التلقّي الضيّقة، بقدر ما ينبغي أن تكون مطبوعة بحسّ إنساني للتّواصل والفاعليّة. المهتدي، بناء على ذلك، هو الذي يسلك في سيره قاصدا هدفا واضحا متّخذا في ذلك سبيلا بيّنةً لديه لها علامات جليّة، بذلك سيتوفر للمهتدي عون على سلوك طريقه ليصل الى الهدف بسلام.

مع هذه الدلالة التّواصلية والإراديّة للهداية، التي تستدعي من الإنسان الكدح والوعي نقف على مَعْلَم أول من معالم «التّغيير» كما يرسيه القرآن الكريم وكما جَلَّتْه آية «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» يتبيّن أنّ «الهداية» مسلك من مسالك « التّغيير» القرآني، وأنّها بذلك تقتضي تربية على الإرادة والاختيار. ما يفيده النسق القرآني بهذا الخصوص هو أنّ لهذا المسلك ثلاثة موجهات كبرى تحدّد طبيعته وسبيل فعله في مجال « التّغيير» وهي أن: الهداية ظاهرة عامة في الوجود، فهي لا تقتصر على جانب من جوانب الحياة إذ النبات والحيوان وسائر الكائنات مشمولة بها تستلهم منها سرّ وجودها وِفقَ هدى غَريزي تَكويني، كذلك  تشمل هذه الظاهرة الإنسان، لكن بخصوصية تراعي مكانته في سلّم الكائنات، والغاية المميزة من خلقه ووجوده، بما يجعلها تكليفيّة تحقيقا لمبدأ استخلافه، وتجسيدا لمعنى مسؤوليته ومساءلته، وأخيرا من وجهَيْ الهدايــــة التكويني والتكليفي يتولّــــد مبدأ «التكافئ الإنساني» الذي يساوي بين الناس، والأمم السّابقة واللاّحقة، في استحقاق هذه الهداية سعيا لتعين قيم الحرّية والفاعليّة والإبداع التي لا يتحقق إعمار الأرض إلا بها.

نخلص من هذا أن «الهداية» في الخطاب القرآني بما تقتضيه من حرص ومكابدة إنسانية، موصولة على المستوى الفردي والجماعي، وهي القضية الأولى المفضية إلى «التغيير» وأنها تتضافر في ذلك مع أربعة مفاهيم رئيسية أخرى تحدد حقيقة هذا «التغيير» وإمكان تحققه والطرق الموصلة إلى ذلك والأولويات التي ينبغي أن تعتبر فيه.

كانت مقولة « القرآن كتاب هداية» عنوانا دالاّ ومدخلا لتوجّه جديد يفتح الباب على تحوّل مفصلي حامل لخطاب تغيير نوعي هدفه المُعلَن ولادة « إنسان جديد»، إنسان مستحق للهداية بما يعبر عنه من إرادة، ويتوصّل إليه من وعي وفاعليّة، تلك هي القضيّة الثانية التي لا يتأتى «التغيير» القرآني إلاّ بها، لمزيد تحديد هذه القضيّة يعرض لنا الخطاب القرآني الخصائص الكبرى لهذا «الإنسان الجديد» فيقدّمه على أنّه: كائنٌ متميز في سُـلّم الموجودات بالإرادة وبإمكان الوعي بمسؤوليته في عالَم هو موضوع المعرفة، وأحد مصادرها، كاشفٌ لذاته، يرتقي بها بصفتها مجالا أعمق من نفسّية الفرد العاديّة معتمدا في ذلك على تجربة حيوية تنطلق من توقه إلى ذات الحقّ العليا، وأخيرا بانيا لتجارب واقعيّة تتمثل مقاصد الخطاب القرآنيّ، بما يجعل إنسانيته في سيرورة مبدعة ومتفاعلة مع أعمق رغبات العالَم المحيط به.

بعبارة واحدة: الإنسان القرآني الفاعل للتغيير كائنٌ متجدد باستمرار في رؤيته لذاته ولمن يختلف معه وللكون اللامتناهي والمتغير هو الآخر، على هذا فإن « التغيير» في الخطاب القرآني يرتبط عضويّا بالخاصّية الدّلاليّة لمفهوم «الإنسان الجديد» من جهة وما تستدعيه خاصّيته تلك من رؤية جديدة للعالَم الممتدّ والمحيط به من جهة أخرى.

مقتضى هذا التّرابط منهجيا هو تحوّل «العالَم» في الخطاب القرآني إلى قضية ثالثة من قضايا التّغيير، إذ أنّه يَمْثُل أمامنا في موكب متحرّك، بما يشتمل عليه من طاقة إيجابيّة حافزة على الفعل وقابلة للتّغيير.

تأكيدا لهذه الرّؤية الجديدة فإن القرآن الكريم يبدأ بنزع كل قداسة عن العالَم، جاعلا منه بكافة مكوناته مجالا ممتدّا ومُسَخَّرا بنواميس لا جنوح عنها، ومنضبطة بأنساق تكوينيّة بيّنة، إضافة إلى هذا، فإنّ الآيات القرآنية العديدة تؤكّد أنّ الكون في زيادة مطّردة بما يدحض الرؤية القارّة والثبوتيّة، وبما يعزّز رؤيةً مغايرة تقوم على خَلْقٍ للعالَم لا يتوقف، ومسيرة منفتحة لا تفتأ تنمو وتزيد.

 

 

أخبار ذات صلة