الأبجدية في العصور القديمة

424.jpeg

عصام السعيد

  1. الألفبائية:

        أخذت الكتابة في بادئ الأمر الشكل البيكتوجرامي الذي تمثل فيه الصورة الشىء الذي يراد التعبيرعنه، ثم تلتذلك خطوات مثَّلَت فيها الصورة أولاً فكرة؛أي أنها صارت كتابة أيديوجرامية، ثم أصبحت الصورة تمثل الحركات الصوتية في الكلام؛أي صارت كتابة فونوجرامية. ويمكن أن تصبح الحركات الصوتية عندما تمثل كل علامة مقطعاً يتكون عادة من حرف ساكن عليه حرف متحرك، أو يمكن ان تصبح حرفاً ابجدياً عندما تمثل صوتاً واحداً معيناً سواء  أكانساكناً أو متحركاً،  وأشهر مثل على الكتابة البيكتوجرامية هو الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة، ولو أنها قد أصبحت في أقدم وقت وصلت إلينا منه تتألف من كل من حروف بيكتوجرامية وحروف أيديوجرامية. وثمة مثال آخر أقل شهرة هو الكتابة المسمارية التي نشأت في بلاد الرافدين وأقدم أمثلة معروفة لدينا منها ترجع إلى الألف الرابعة ق.م.وكانت في ذلك الوقت قد أصبحت جزئياً كتابة أيديوجرامية(1).

 

        فقد بدأ الإنسان مزاولته للكتابة عن طريق الرسوم والرموز، وتدرج هذا الخط حتى وصل إلى المقطعية، فأصبح من الضروري تطوير النظام الكتابي إلى نظام آخر أكثر مرونة وأسهل تعلماً؛ إذ إن الأنظمة السابقة التصويرية والمقطعية لم تكن صعبة فحسب؛ بل إنها لا تحمل في سماتها مايجعلها سهلة التعلم والإتقان أيضاً.

        والسؤال المطروح الآن من أين استقى أصحاب هذا النظام الجديد أبجديتهم هذه، وللإجابة علي هذا السؤال: هناك خمس نظريات، منها بطبيعة الحال ما قبلته الأغلبية؛ نظراً إلى أن أصحابها ومؤيديهم قد أخذوا بالمنهج العلمي، وهناك النظريات التي رُفضت تماماً من الدارسين؛ نظراً لوقوع أصحابها ومؤيديهم في أخطاء علمية.

        والنظريتان المعروفتان باسم المسمارية والمصرية هما اللتان لقيتا التأييد، في حين ان النظرتيين المعروفتين باسم الكيرتية والقبرصية لم يحظيا لضعفهما بالتأييد، وهناك نظرية أخرى عرفت باسم النظرية الحثية لاقت الرفض من المختصين أيضا.    

        ونبدأ أولاً بالنظرتين المرفوضتين تماماً: الكريتية المدعومة بشكل كبير من الباحث" أفنز" التي تفرض أن الألفبائية انتقلت من كريت(2)، مع القبائل الفلسطينية التي استقرت، بعد موافقة فرعون مصر آنذاك في شمال فلسطين الحالية.

        وبهذه الطريقة_ كما يعتقدون_انتقلت الألفبائية من كريت إلى الفينيقيين، أما الثانية القبرصية(توجد علاقة وثيقة بين الكتابتين الكريتية والقبرصية(3)؛فرأى أصحابها أن الألفبائية ذات أصل قبرصي، وأبرز مؤيدي هذه النظرية هو العالم" براتويوس"(4)، وكان اعتماد أصحاب هاتين النظريتين على التشابه الواضح في الشكل الخارجي لعدد من رموزها مع حروف الألفبائية، وهو من الأسباب التي أدت إلى رفضهما؛ لأن التشابه الخارجي لم يكن متطابقاً في القيمة الصوتية، وموافقاً للتسلسل التاريخي، فهو تشابه لا يعتد به؛ لأن اختيار الإنسان للرموز والعلامات يأتي من الأشياء المحيطة بالبيئة، والتي يمكن لأي إنسان أخذها وتبنيها، لذا فإن التشابه بينهم كان عن طريق المصادفة البحتة، فضلاً عن أن أقدم ظهور واستخدام للقبرصية يعود إلى القرنين السابع أو السادس قبل الميلاد، كما أن وصول القبائل الفلسطينية من كريت إلى فلسطين كان في حدود القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في حين أن دراسة العالم" درايفر" (5) قد أثبتت أن الألفبائية اقدم بعدة قرون من تاريخ وصول هذه القبائل إلىأرض كنعان، وهذا بحد ذاته كافٍ لسقوط هذا الرأي، فالكتابة الألفبائية التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث عشر قبل الميلاد تتمثل في التالي:

اولاً: عشر مخطوطات قصيرة جداً تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، جاءت من مناطق مختلفة من فلسطين، عرفت باسم كتابات فلسطين البدائية(6)

ثانياً: كتابات أوجاريت ذات الشكل المسماري والمبدأ الألفبائي التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وتحديداً إلى القرن الخامس عشر ق.م.

ثالثاً: الكتابات السينائية، التي تعود أيضاً -مثل الأوجاريتية- إلى القرن الخامس قبل الميلاد(7)، ولذا لا يصح من الناحيتين العلمية والمنطقية أن يقارن الأقدم بالأحدث.

 

وبالنسبة للنظرية المعروفة بالحثِّية، فقد استبعدها كلياً العديد من الدارسين(8)، ويتبنى هذه النظرية العالم الأنجليزي الشهير" سايس" الذي يرى أن واضع الألفبائية كان متأثراً بالحثية التصويرية، وسبب استبعادها_ كما يقول منتقدو "سايس"- أنه وقع في أخطاء ثلاثة:

اولها: إغفاله أن الحثية مقطعية.

ثانيهما: وهو الأهم أن الحثية هندوأوربية.

ثالثهما: الخطأ التاريخي الذي وقع فيه "سايس" بعدِّه الحيثيين ساميين غربيين، وأنهم الشعب الآموري.

وتجدر الإشارة إلى أن الحثية وهى لغة هندوأوربية استفادت من المسمارية البابلية السمية وخطها ورموزها المسمارية؛ بل أنه الكثير من المقاطع قد تبنت الخط الهيروغليفي ليكون خطها، والمصرية ليست هندوأوربية، فضلاً عن أن الألفبائية كنظام بدأ يتشكل في الفترة التاريخية التي وُجد فيها الحثيون في المنطقة بكل قوة.

        والنظريتان اللتان وجدتا قبولاً وترجيحاً هما المسمارية والمصرية التي دعمت بشكل واضح بالكتابات السينائية المبكرة، وكتابة جبيل شبه الأبجدية، وبالنسبة للمسمارية، فلعل أهم داعميها هم:

العالم"ديك"، والعالم "زيمرن"، والعالم" ودل"، فالأول عدها مأخوذة من الخط المسماري الآشوري الحديث، والثاني أكد رأي الأول بملاحظته أن الترتيب الأبجدي لبعض أسماء الحروف الألفبائية مشترك بين الفينيقية والبابلية(9)، في حين كان الأخير" دل" يرى أنها اشتقت بشكل مباشر من المسمارية الأكدية(10).

        وقد أخذ على أصحاب هذه النظرية اعتيادهم على التشابه في الشكل الخارجي، فالتشابه الخارجي في تصورهم جاء عن طريق المصادفة؛ لكن واقع الحال يدفعنا إلى عدم أخذ هذا الاعتراض أمراً  مسلَّماً به، فالعلاقة القوية بين مستخدمي الرموز المسمارية( الآكادية-البابلية) وأبناء هذه المنطقة موغلة في القدم، فالتأثير والتأثر بينهما لا نقول:إنه وارد بل هو حقيقة ثابتة، وتجدر الإشارة إلى أن المسمارية الأكدية في الفترة البابلية كانت لغة عالمية، نجد نصوصها في كل مراكز القوى الدولية؛ لذا فالتشابه في تصورنا بين الأشكال المسمارية مع الألفبائية لم يكن وليد المصادفة، دليلنا الأوجاريتية الألفبائية فرموزها مسمارية، أما اعتراضهم الثاني فكان حول القائمة التي وضعها" ودل"، والتي أراد بها بيان التشابه الخارجي بينها.

        حيث كانت هذه القائمة انتقائية، بمعنى أن "ودل" -بغض النظر عن التفاوت الزمني- يختار الرمز المشابه لذلك الحرف في الألفبائية، فعلى سبيل المثال رمز الألف المسماري له تأريخ طويل في التطور، لكن "ودل" اختار الرمز المشابه للألف الألفبائي متجاهلاً التفاوت الزمني، وكذلك فعل عند اختياره للمقاطع، فقد أخذ المقطع المؤكد لوجهة نظره متناسياً المقاطع الأخرى للرمز نفسه، لكن"ودل" مرة أخرى اختار المقطع الذي يشابه في شكله الخارجي حرف اللام الألفبائي غاضاً الطرف عن الأشكال الأخرى لهذا المقطع، ورغم وجاهه هذا النقد إلاأننا نأخذ في الحسبان أن بعض النصوص الأدبية والأسطورية، التي تعود إلى فترات تاريخية قديمة قد أعيد استنساخها في فترات احدث، فعلى سبيل المثال لا الحصر العديد من هذه الأعمال التي تعود إلى العصرين البابلي القديم(22.-185.ق.م.) أعيد استنساخها في مرحلة مابعد العهد البابلي(16..-1...ق.م) وغيرها من المراحل الأخرى، وهذا يعني أن الكثير من هذه الرموز القديمة كانت متداولة ومعروفة في فترات تاريخية أحدث، فكان هذا العلم محصوراً بين الكتبة وهم فئة قليلة.

        أما النظرية المصرية، والتي يعود تأريخها إلى ماقبل الميلاد، حيث أشار بعض المؤرخين اليونانيين إلى أن أصل الألفبائية كان مصرياً (11)، وقد حظيت باستحسان غالبية المهتمين بهذه النوعية من الدراسات، وحيث إنها الأكثر رواجاً بين الدارسين فقد تعددت الآراء والنظريات عن الكيفية التي جاءت بها الألفبائية من المصرية القديمة، ويمكن القول:إن نشوء الألفبائية كان عن طريقين مختلفين، أولهما الطريق المباشر، وثانيهما الطريق غير المباشر، وذلك على النحو التالي:

1-الطريق المباشر:

يرى أصحاب هذه النظرية أن الألفبائية جاءت مباشرة(دون وسيط) من المصرية القديمة؛ لكنهم اختلفوا في تحديد نوع الخط المصري القديم، الذي جاءت منه الألفبائية، فهناك مجموعة منهم ترى أنها جاءت مباشرة من الهيروغليفي، لعل أشهرهم الفرنسي "هاليفي"(12) (انظر الشكل1): 
1.png
          شكل (1) نظرية "هاليفي" في أصل الأشكال السامية القديمة
 

الذي استنتج -بعد مقارنته للأحرف الفينيقية بالرموز ذات الصوت الواحد من الخط الهيروغليفي-أنأحد عشر شكلاً(حرفاً) فينيقياً من الحروف الاثنين والعشرين تعود إلى اشكال من الخط الهيروغليفي، في حين أن الأحد عشر حرفاً الأخرى أخذت من الأحد عشر خطاً الأولى، التي جاءت مباشرة من الخط الهيروغليفي، وذلك بعد إجراء تعديلات واضحة على أشكالها.

        ومن أشهر من كان يرى أن الفينيقية جاءت من المصريةالفرنسيان"شامبليون" و "لينورمانت"؛ لكن الأخير تراجع عن رأيه هذا(13)

        أما الفريق الآخر فيظن أن الألفبائية جاءت مباشرة من الخط الهيراطيقي، التي قال بها الفرنسي" دي روجيه" وهو تلميذ لينورمانت(14)، فضلاً عن التشابه الخارجي بين الحروف الفينيقية وأشكال الرموز المصرية القديمة، فقد أضاف عدد من الدارسين حججاً تدعم هذه النظرية منهم"سيس" و "هلك"(15) وهى:

1-أن الخط الهيروغليفي خط تصويري، كما أن الخط الفينيقي في بداياته كان تصويرياً.

2-أن الكتابتين تتجهان في الغالب من اليمين إلى اليسار، علماً بأن المصرية القديمة تتجه  في بعض الأحيان من اليسار إلى اليمين، ومن الأسفل إلى الأعلى، ومنها مايبتدئ في نقطة وسط اليمين واليسار، وهذا الأسلوب في الكتابة معروف في النقوش الثمودية التي تعود إلى القرن الثامن ق.م.

3-أن الكتابتين الفينيقية والمصرية القديمة كانتا تدونان في أقدم مراحلهما على قطع من الحجارة أو المعدن، كما كانتا ترسمان على الأواني الفخارية.

  1. الطريق غير مباشر:

جاء اكتشاف نقوش من منطقتي سيناء في مصر، وجبيل في لبنان ليجعل بعض الدارسين يؤكد العلاقة القوية بين الألفبائية والمصرية، وسنبدأ بالنقوش السينائية:

وهي مجموعتان من النقوش يصل مجموعهما إلى خمسة وأربعين نقشاً قصيراً عثر عليها في موقع سرابيط الخادم الواقعة جنوب شبه جزيرة سيناء وتحديدا في خرائب معبد حتحور ن المجموعة الأولى وعددها أحد عشر نقشاً يعود اكتشافها إلى العالم "فليندرز بتري" في (عام1904-1905م)، أما المجموعة الثانية فهيأربعة وثلاثون نقشاً عثر عليها بعد عقدين من اكتشاف المجموع الأولى، وذلك بين عامي 1927م-1935م، اتسمت غالبيتها بالتشوه والنقص في بعض أجزائها.

        وقد لاقت المجموعة الأولى منها اهتماماً واضحاً من العديد من الباحثين:

-Cowley, A., "The Sinaiticlnscriptions", JEA 15, 1929, pp.12-21.

-Sethe, K., Der Ursprung des Alphabets & die neuentdeckteSinaischrift: Zwei.

 

-Branden, Alb, Van den., "Le déchiffrement des Inscriptions protosinaitiques", al- Machriq

52, 1958, pp.361- 4.5.

 

 

لعل أبرزهم العالم البريطاني جاردنر الذي توصل بعد أحدعشر عاماً من اكتشافها إلىأن هذه النقوش قد اتبعت النظام الألفبائي وليس المقطعي، فضلاً على أن لغتها سامية (16)، بل إن جاردنر قرأ أحد هذه النصوص القصيرة.

أما تأريخ هذه المجموعة فقد أعادها فليندرزإلى القرن 5 ق.م.(17) ، فيما رجح جاردنرأنها تعود إلى مابين القرنين الثامن عشر أو السابع عشر قبل الميلاد ،ورأى "درايف" انها تعود للفترة الواقعة ما بين القرنين السابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد(18).

ولكن  العالم "جلب يعيدها إلى الفترة مابين القرنين السادس عشر والخامس عشر قبل الميلاد"(19)، وهكذا عَدَّ "جاردنر" هذه (النقوش السينائية)، المرحلة المتوسطة، أو لنقل: الانتقائية بين الكتابة المصرية القديمة بخطها الهيروغليفي، والألفبائية السامية، وسمَّاه الخط السامي الأول(20).

         وقد اختلف العلماء حول تحديد موطن أصحابها، فعلى سبيل المثال رأى العالم "كولوي"أنهم قوم من البدو جاءوا من جنوب فلسطين للعمل في مناجم الفيروز في سيناء(21)، أما "سبرنجلنج" فيرى ان موطنهم هو"أدوم" الواقعة بين البحر الميت والأحمر، ولذلك يطلق على لغتهم اسم اللغة السعيرية، ويسميهم السعيريين(22)، أما الكيفية التي استخدمها هؤلاء القوم في كتابة نصوصهم، فيرى جاردنرأنهم استخدموا المبدأ الأكروفوني أو الاحتزائي وهو انتزاع الجزء الأول من اسم شكل كتابي، واستخدام هذا الشكل فيما بعد ليمثل هذا الجزء أينما وقع(23).

وبالنسبة للنقوش الأخرى التي جاءت من جبيل بلبنان، فهى تبلغ عشرة من النقوش محفورة على لوحات بعضها من البرونز ولآخر من الحجر،  وقد اكتشفها العالم الفرنسي "موريس دونان"(24) أثناء تنقيباته الأثرية في هذا الموقع؛ إذ وفق "دونان" بداية من موسم 1929م في اكتشاف هذه النقوش، وللفرنسيين "دونان"، و"دروم" جهد واضح في لفت نظر المختصين والمهتمين إلى أهمية هذه المجموعة من النقوش، فالأول: بعد دراستها وتمحيصها بنشر استنتاجاته عليها- وذلك بعد ستة عشر عاماً من بداية اكتشاف أول نصوصها - أشار إلى عدد من نتائجه وهي:

أولاً: أطلق على هذه النقوش اسم الخط الهيروغليفي؛ وذلك بسبب التشابه الواضح بين رموز هذه النقوش والخط الهيروغليفي، وقد رأى أن خمسين شكلاً من هذه الهيروغليفية تعود إلى المصرية القديمة، منها خمسة وعشرون شكلاً جاءت -كما يقول-من الخط الهيروغليفي، (انظر الشكل رقم:

 ٢.png

نظرية "دونان" في أصل الألفبائية (نقلاً عن منير البعبلكي، الكتابة العربية السامية دراسات في تاريخ الكتابة وأصولها عند الساميين، دار العلم للملايين، بيروت، 1981م، ص56) العربية السامية.

ثانياً: أن هذه الكتابة تحتوي على علامات تصويرية، وكذلك الأشكال الدالة على أصوات مقاطع لا تختص بكلمة دون أخرى.

ثالثاً: عدد أشكالها: تتكون من مائة وأربعة عشر شكلاً، صنف ستين شكلاً منها فقط، فهناك واحد وعشرون تعود لأشكال حيوانية، وثلاثة عشر شكلاً ذات أشكال نباتية، وشكلان فقط للماء والنجوم، أما الأشكال التي عدّها ذات علاقة بالأدوات المختلفة الأخرى فقدرها باثنين وثلاثين شكلاً، ستة منها أشكال ذات علاقة بالعبادات، أما الأشكال المتبقية وعددها ثمانون شكلاً فكانت أشكالاً هندسية، وأخرى لم يتمكن من تحديدها.

رابعاً: إشارته، وذلك للربط بين الهيروغليفية الزائفة(جبيل)، والسامية الألفبائية بأنهما يُقرآن من اليمين إلى اليسار، وأنهما يستخدمان في بعض نصوصهما الخط العمودي الصغير للفصل بين كلمات السطر الواحد(25).

خامساً: أرجع هذه النقوش من الناحية التاريخية إلى الفترة الواقعة فيما بين القرنين العشرين والرابع عشر قبل الميلاد(20-14 ق.م) فقد أرخ النقش الصغير الذي قرأه بأسلوب المحراث إلى الألف الثاني قبل الميلاد، في حين رأى أن النقش الذي سمي بنقش" أ س د ر و ب ل" وهو نقش "شفط بعل" يعود إلى القرنين الثامن عشر أو السابع عشر ق.م.(26)


وبعد أن نشر "دونان" استنتاجاته وآراءه، أكملها من بعده العالم" دروم" (انظر الشكل):
٣.png
 

الألفبائية المقطعية الجبلية عند "دروم"الذي أخذ في الحسبان آراء "دونان"، فترجم هذه النصوص الأولى ولكنه خالفه في بعض استنتاجاته، فمثلاً أرخها من القرن الرابع عشر ق.م.، واعتبر رموزها لا تتعدى المائه رمز.

        لكن أبرز نتائج "دروم" تحديده للقيمة الصوتية لهذه الأشكال، في حين أن "دونان" اعتمد على التشابه الخارجي، بغض النظر عن القيمة الصوتية للشكل(27)، وبخلاف بعض الهيئات التي أشار إليها عدد من الدارسين، فإن أبرز ما يجب التوقف عنده بالنسبة للنظرية السينائية، الفترة الزمنية لهذه النقوش السينائية والواقعة مابين القرنين السادس عشر والخامس عشر قبل الميلاد، وفترة الألفبائية الأبجدية.

        إن أخذنا بأنها تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ فإن هذه الفترة التي لا تتعدى قرنين قد لا تكون كافية لتطور الأشكال، أما النظرية الأخرى (نقوش جبيل) فلعل أوضح عيوبها عدم توافق القيمة الصوتية بين بعض أشكال الهيروغليفية الزائفة(جبيل) وحروف الألفبائية، فمثلاً شكل الصوت"ع" في الألفبائية يعطيه" دروم" صوت "س".

 

ثانياً: الأبجدية الأوجاريتية:

بعد سنتين من اكتشاف مزارع سوري لقبر في مزرعته، وسنة من بداية الحفريات الأثرية في 1929م، كتبت إدارة الفرنسيين" شيفر"(28)و"تشنت": توصل ثلاثة علماء أوروبيون- وهمالألماني "هانز باور"(29)، والفرنسيان" إيتين دورم"، و"شارل فيرولو"(30)-إلى فك رموز هذه الألواح الطينية وعلاماتها، التي لم تكن معروفة قبل هذا التاريخ. والواقع أن هذا الأنجاز يعدّ أسرع عملية فك وقراءة رموز وحروف لغة قديمة حدثت حتى يومنا هذا، وقد تعددت آراء الباحثين ومقترحاتهم، على النحو التالي:

1-   النظرية الأكادية:

اعتمد أصحاب هذه النظرية على استخدام الأوجاريتية للرموز المسمارية، وخصوصاً التطابق في أشكال حرف الجيم، والغين، والتشابه في حرفي الطاء والصاد، في الأوجارتية والمسمارية الأكادية، إلا أن ما أضعف هذا الرأي عند بعض عدة أمور:

الأول: المقارنة كانت بين كتابتين مختلفتين، فالأوجاريتية الفبائية (هجائية)، والأكادية مقطعية.

الثاني: أن الرموز الأكادية التي قورنت بها الأوجاريتية قد اخذت من مراحل زمنية متفاوتة، فبعض الرموز تعود إلى البابلية القديمةوبعضها الآخر إلى البابلية الحديثة.

الثالث: اعتمادها على التشابه والتطابق في أشكال الرموز لا يعني شيئاً؛ لأن أشكال الحروف تكون في الغالب مأخوذة من محيط بيئي واحد، إلاأننا نرى أن هذه الاعتراضات -وتحديداً الثاني والثالث- لا تقلل من أهمية هذه النظرية.

 

2-   النظرية السينائية- السامية الجنوبية:

اعتمد أصحاب هاتين النظريتين أيضاً-في كونهما نظرية واحدة- على التشابه الدقيق بين الأحرفالأوجاريتية واللغات السامية الأخرى، إضافة إلى أن الأوجاريتية تتفق مع هذه اللغات السامية- السينائية، والعربية الجنوبية في أنها ألفبائية هجائية، ولكن ما قلل من قبول هذه النظرية هو عدم تقديمها الأسباب المقنعة، لأمريين:

أولهما: أن الكتابة الأوجاريتية تبدأ من اليسار إلى اليمين، وتجدر الإشارة إلى أن الكتابة السبئية كانت في بداياتها تكتب بطريقة سير المحراثboustropheden) )، وأحياناً النقوش المعروفة بالثمودية والصفوية، في حين كانت الساميات الأخرى تبدأ من اليمين إلى اليسار.

ثانيهما: وجود ثلاثةأصوات لحرف الألف .

 

وعلى أيه حال فمنها كانت النظرية الأرجح، فإن الكتابة الأوجاريتية تظل إحدى أهم الكائنات السامية، فقد حفظت لنا هذه الكتابةالأوجاريتية النواحي الحضارية والثقافية التي دارت في المجتمع الأوجاريتي، المتعدد الأعراق والأديان(31).

 

ثالثاً: الأبجدية الفينيقية:

تعد الأبجدية أبرز ابتكارات الفينيقيين، وأول كتابة أبجدية صرفة ظهرت لدى الفينيقيين قبل 15ق.م.وهى التي اشتقت منها جميع الحروف الأبجدية الغربية. وكان الفينيقيون تجاراً في البر والبحر؛وكانوا في حاجة إلى نوع سهل سريع في الكتابة؛ إذ كان هذا ضرورياً لسرعة تصريف الأعمال، وقد دفعتهم هذه الضرورة إلى التفكير في اختراع أول حروف أبجدية صرفة(32)، وقد نقل الفينيقيون أبجديتهم إلى اليونان فيما بين 1و7ق.م.وحذف اليونانيون بعض السواكن وأضافوا سواكن جديدة، كما حولوا بعض سواكن أخرى لا يوجد ما يقابلها في اللغة اليونانية إلى حروف متحركة، كما أدخلوا تغييراًآخر يتمثل في طريقة الكتابة، فقد كانت تكتب أولاً من اليمين إلى اليسار بعرض الصحيفة، فغير اليونانيون هذا الشكل إلى الكتابة من اليسار إلى اليمين.

ومن اليونان انتقلت الأبجدية في ثوبها الجديد إلى روما، ومنها إلى غرب أوروبا، كما نقلها التجار شرقاً إلى بلاد الرافدين، حيث استخدمت هناك جنباً إلى جنب مع الكتابة المسمارية، ثم انتقلت إلى إيران، وكذلك وصلت الأبجدية إلى الهند، وكان لها فضل كبير في ابتكار الأبجدية الآرية في حوالي 3ق.م. وهكذا نجد أنه قد اختلفت الآراء حول إلى من تنسب أقدم أبجدية(الشكل رقم 1)، ويرجح الباحثأن أقدم ابجدية ترجع إلى الحضارة المصرية، وذلك ماذكره الأستاذ الدكتور عبد المنعم عبد الحليم سيد في مؤلفه(البحر الأحمر وظهيره في العصور القديمة)(33).

وقد تطورت كلتا الكتابتين الهيروغليفية والمسمارية إلى مرحلة الكتابة المقطعية، حيث تمثل العلامات مقاطع، كما طور المصريون الكتابة الهيروغليفية إلى ما هو أبعد، واستخدموا العلامات لتمثل حروفاً ساكنة مفردة، ولو أن الكتابة الهيروغليفية كانت قد وصلت إلى مرحلة كان يمكن أن تتطور معها إلى الشكل الأبجدي، كما أن السومريين لم يتعدوا مرحلة الكتابة المقطعية، وكذلك الحال بالنسبة للكتابة الصينية في الشرق الأقصي. وفي الواقع لم يطور الصينيون كتابتهم أبداً إلى شكل أبجدي صرف، بل ظلت كتابة أيديوجرامية حتى يومنا الحاضر(34).

 

  

٤.png

شكل رقم(1): نماذج من الأبجديات التي تنتمي إلى العصور القديمة، نقلاً عن:

Brain R. Pellar, "On The Origins Of The Alphabet Sino-Platonic Papers, No. 196(December 2..9), P.1.

 

 

المراجع والمصادر:

  1. انظر: [  Driver,G.R., Semitic Writing: From Pictograph To Alphabet, London: Oxford University Press, 1976, P.120. ]
  2. رمزي بعلبكي: الكتابة العربية السامية دراسات في تاريخ الكتابة وأصولها عند الساميين، بيروت دار العلم للملايين، 1981م، ص34 : [Chadwick,J., Linear B And Related Scripts, London: The British Museum Publications, 1987, Pp.33-49. ]
  3. انظر: [Op.Cit, pp.6.56. ]
  4. انظر: [Prätorius, Fr., " DasKanaanäischeAnd Das Südsemitische Alphabet ", ZDMG 63, 1909, Pp.98-189.]
  5. انظر: [Driver,G.R., op.cit, p.127. ]
  6. انظر: [Op.cit., pp.97-102. ]
  7. أحمد هبو: الأبجدية نشأة الكتابة وأشكالها عند الشعوب، اللاذقية، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1984م، ص76-77.
  8. منير البعلبكي: ص41 .
  9. منير البعلبكي: ص 29 .
  10. انظر: [Waddell,L., The Aryan Origin Of The Alphabet: Disclosing The Sumero-Phoenician Parentage Of Our Be Lehres  Ancient And Modern, London, 1927, Pp.1-4. ]
  11. انظر: [Driver, op.cit,pp.118-9. ]
  12. انظر: [Halévy, J., " Nouvellés Considerations SúrLʼorigine De Lʼalphabet", Revue Sémitique 9, Pp.70-356. ]
  13. منير البعلبكي: ص42 .
  14. انظر: [De Rouge, E., Mémoire Sur LʼorigineEgyptienne De LʼalphabetPhénicien, Paris, 1874. ]
  15. انظر: [Seethe, K., Der Ursprung Des ] : [Alphabets&DieNeuentdeckleSinaischriftZwerAbdhandlungenZurEntstehungsgeschichteUnsererSchrift, Berlin, 1962: Helck, W., "ZurHerkunft Der Sog (Phönizschen)Schrift",Ugarit-Forschungen 4, 1972, Pp.5-41.]
  16. انظر: [Gardiner, A.H., “The Egyptian Origin Of The Semitic Alphabet", JEA 3, 1916, Pp.1- 16. ]
  17. انظر: [Petrie, F., Researches in Sinai, London, 1906, pp.32-129. ]
  18. انظر: [Driver, pp.9-98.]
  19. انظر: [Gelb, I. J., A Study of Writing, Chicago, 1965, pp-25-122.]
  20. انظر: [Gardiner, A.H., p.12, 16. ]
  21. انظر: [Cowley, A., "The Sinaiticlnscriptions", JEA 15, 1929, pp.200-18. ]
  22. انظر: [Sprengling, M., The Alphabet: Its Rise and Davelopment from the Sinai (1) Inscriptions, Chicago, 1931, pp.7-50. ]
  23. انظر: [Gardiner, A.H., p.14. ]
  24. انظر: [  Dunand, M., BybliaGrammata: Documents etrecherchessur le développement de l'écriture en Phénicie, Beyrouth, 1945, pp.51-146. ]
  25. منير البعلبكي: المرجع السابق، ص 55 .
  26. انظر: [Dunand, M., BybliaGrammata: Documents et recherchessur le (1) développement de l'écriture en Phénicie, Beyrouth, 1945, pp.51-146.]
  27. انظر: [Gelb, pp.8-157. ]
  28. كلود شيفر: مدخل في رأس الشمرة 1929-1979م البعثة الفرنسية المنقبة، ترجمه فهمي الدالاتي، المديرية العامة للأثار والمتاحف، دمشق، 1980م، ص13-19 0
  29. انظر: [Bauer, h., Das Alphabet von RasSchamra : seine Entzifferung und seine Gestalt, Halle, 19320: id, Entzifferung der Keilschrifttafeln von RasSchamra, Halle, 1932.]
  30. انظر: [Virolleaud, C., "La naissance des dieuxgracieux et beau: PoémePhénicien de Ras Shamra", Syria 14, 1937, pp.128- 51.]
  31. عدنان البني: المدخل إلي قصة الكتابة في الشرق العربي القديم، دمشق، 2001م، ص88 .
  32. انظر: [Cross, F.M., The Phoenician Inscription From Brazil", Orientalia 37, Pp.347-60. ]
  33. عبد المنعم عبد الحليم سيد: البحر الأحمر وظهيره في العصور القديمة، الأسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1993م، ص 224-263 . ]
  34. انظر: [Brain R.Pellar, "On The Origins Of The Alphabet Sino-Platonic Papers,No. 196(December 2009), P.2.]

 

 

 

أخبار ذات صلة