أمل مبروك
تمهيد
هناك حقيقة سيكولوجية لا يمكن إنكارها إلا عن جهل – كما يقول "ولتر ستيس" – وهي أن الإنسان تعرض له في حياته خبرات غير عادية يمكن أن نصفها بأنها "خبرات دينية" – وهو يسميها في أعلى صورها باسم "الخبرة الصوفية" – وهي خبرات نلتقي بها في آداب الأمم جميعاً حتى أكثرها تحضراً. هذه الخبرات تجعلنا نتساءل باستمرار عما إذا كان هناك – في هذا الكون – وجود روحي أعظم من الإنسان، هو الذي تتطلع إليه الديانات المختلفة للجنس البشرى؟ وإن صح وكان هناك مثل هذا الوجود الروحي، فما علاقته بالإنسان؟ وما هي علاقته بالكون بصفة عامة؟ (1).
إن التفسيرات المختلفة لنشأة الدين تفترض سلفاً وجود هذه الخبرة الدينية (أعنى ذلك الموقف الذي يجد فيه الإنسان نفسه مدفوعاً إلى التساؤل عما إذا كان هناك وجود روحي متعال) إنها – الخبرة الدينية – إحساس متأصل في أعماق الإنسان، بحيث تصبح محاولة انتزاعه، محاولة يائسة بقدر ما هي عقيمة. هذا الإحساس "يكمن في أعمق أعماق كل قلب بشرى، بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان"(2). وكما لاحظ "رودلف أوتو" بحق، فإن هذا الإحساس هو واقعة نفسية، لا تنشأ عن أي إرادة أو تصميم مسبق، بل العكس هو الصحيح تماماً؛ ذلك لأن الإنسان يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس دون مقدرة على توجيهه أو التحكم فيه. والطابع الانفعالي غير العقلاني الذي تتسم به هذه الخبرة بالمقدس – كما يقول "أوتو" – لا يمكن التعبير عنه بلغة الواقع المعاش ومفردات التجارب اليومية، فهذا أمر في غاية الصعوبة(3). الخبرة الدينية، إذن، ليست ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هي أمر ذاتي يختبره الفرد بنفسه؛ ولا يستطيع أن يتعرف عليه إلا بالتنقيب في ذاكرته وسيرته الذاتية، والاستماع إلى شهادة الآخرين الذين عبروا عن خبراتهم. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى؛ بل يتعرض له الجميع ولكن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضاً من القبول والاعتراف (4).
وتتخذ الخبرة الدينية سمتها الجماعية عندما يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم لبعضهم البعض، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن الخبرات الخاصة في خبرة عامة. وذلك باستخدام تعبيرات من واقع اللغة، وخلق رموز تعبر عن حالة انفعالية مشتركة تقود إلى تكوين "المعتقد"، وهو حجر الأساس الذي يقوم عليه "الدين الجماعي"؛ حيث تتعاون الجماعة على فهم وتفسير خبراتهم وفقاً له(5). ومع "المعتقد" يظهر "الطقس" المنظم، وهو أقوى أشكال التعبير عن الخبرة الدينية – وقد انتقلت إلى مستواها الجماعي – وذلك من خلال القرابين والرقص والحركات الدرامية التي تؤدَّى وفق أطر ثابتة تنظم الخبرة الدينية وتضبطها في معتقدات واضحة يؤمن بها الجميع. ومع "المعتقد" أيضاً تظهر "الأسطورة"(6) فتعمل على توضيحه في صيغ تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال، كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه بالعواطف والانفعالات الإنسانية. وبما أن الخبرة الدينية ليست – في أساسها – خبرة عقلية بل انفعالية، فإنها لا تتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه؛ وإنما تتطلب إطاراً موضوعياً خارجياً يضفي عليها صفة مشروعة ومعقولة. ويأتي ذلك من خلال ميثولوجيا تجعل الخبرة الدينية مشتركة مع الآخرين.
ولإبراز مفهوم الخبرة الدينية، سوف نشير هنا لموقف – متباين – لإثنين من المفكرين اللاهوتيين في مجال دراسة "الخبرة" وعلاقتها بالأسطورة والدين. وهما: "رودلف بولتمان" الذي نظر إلى مسائل العقيدة المسيحية نظرة نقدية، بغية التأكد من صحتها؛ واستبعد الطابع الأسطورى من العهد الجديد، وحاول تفسيره على نحو وجودي. وذلك من خلال مشروعه الـ "ديميثولوجى" الذي وجد فيه بداية لإعادة تكوين العقل المعاصر على نحو يخلصه من الأسطورة التي مازالت تهيمن على تفكيره في عصر العلم.
أما الثاني فهو "ميرسيا إلياد" الباحث في تاريخ الأديان وعلم الأساطير، الذي لفت الانتباه إلى أن الأسطورة هي من أهم الاكتشافات في القرن العشرين، وأن الإنسان مازال يحمل بقايا ميثولوجية في لا شعوره، يحياها في وجدانه وفى أحلامه. ومن خلال الأساطير، تناول "إلياد" مشكلات شغلت الإنسان في الأزمنة القديمة – كما في الزمن الراهن – ومنها: الألم والقلق والموت. كما قدم أيضاً أبحاثاً عن الزمان والتاريخ، وعن المقدس والدنيوي. وتحدث عن الحنين إلى الفردوس، والرغبة في تجاوز ما هو بشري، لينتهي إلى أن الأسطورة تكمن في لا شعور الإنسان الحديث؛ وهي تفعل فعلها في تفكيره، وفى سلوكه دون أن يدرك ذلك.
تخليص الدين من الأسطورة
كثير من عقائد الإيمان المسيحي قد واجهت تحدياً من قبل المفكرين الليبراليين في كل أنحاء العالم، وكانت أهم الدراسات التي تعرضت لكثير من النقد تلك المتعلقة بالأبحاث التاريخية عن يسوع المسيح. ويمكن التأريخ لبداية البحث عن "تاريخية المسيح" في الفترة ما بين عامي 1774 و 1778 عندما نشر "ليسنج" الأبحاث النقدية الخاصة بالمفكر اللاهوتي "ريماروس" والتي أثارت عاصفة من الجدال وقتذاك. فقد رأى "ريماروس" أن يسوع المسيح لم يؤسس أي سر مقدس، ولم يتنبأ بموته؛ كما أنه لم يقم من الأموات، لذلك فتاريخية المسيح – في رأيه – ليست سوى خداع متعمد من قبل تلاميذه(7).
لكن الأبحاث المرتبطة بتاريخية المسيح استمرت حتى القرن التاسع عشر، وظهرت بأشكال وصيغ عديدة ومتنوعة. فمثلاً نشر "ستراوس" كتابه "حياة المسيح" عام 1835، وأبرز فيه عبث بعض التفسيرات الخاصة بحياة المسيح وعدم جدواها؛ مؤكداً على أن المعجزات في الأناجيل ينبغي أن يتم فهمها بوصفها أساطير ليس لها علاقة بالتاريخ. وبذلك تجاهل "ستراوس" البعد الإعجازي في العهد الجديد، واعتبره مجرد "قشرة" يجب إزالتها من أجل التركيز على تعاليم يسوع. ووجد المدخل الجديد للتفسير الليبرالي لتاريخية المسيح، بعض العقائد التي يمكن الرجوع إليها مثـل: "أبوة الله" و"أخوة الإنسان" و"القيمة اللا محدودة للنفس الإنسـانية"(8). وانتهى الأمر بالكشف عن وجود تفسير أسطوري في العهد الجديد، ومحاولة استبعاده على يد "رودلف بولتمان" وأتباعه في القرن العشرين؛ الذي رأى: "أن هناك سلسلة متصلة من الأحداث التاريخية لا يمكن اختراقها بتدخلات فائقة للطبيعة، لذلك كله لا توجد معجزات – بما تعنيه هذه الكلمة – وإن وجدت هذه المعجزات فسوف تكون أحداثاً أسبابها تقع في مجال آخر غير مجال التاريخ"(9).
جاءت نظرة "بولتمان" متسقة مع برنامجه أو مشروعه "الديميثولوجى" الذى هو عبارة عن نقد لأسطورة العهد الجديد لكونها تتحدث عن رؤية أسطورية للعالم عفا عليها الزمان، ولم تعد مقبولة بالنسبة للإنسان المعاصر الذي أصبح ينظر إلى العالم نظرة موضوعية وعلمية لا تقبل أي تدخل خارق للطبيعة؛ ويجدها الأصدق والأكثر انطباقاً على الحقائق، وتناقض الرؤية الأسطورية من كافة الاعتبارات، وذلك بغرض إعادة تأويلها على نحو يكشف عن "الكيرجما" التي تختفى وراء لغتها المجازية أو التصورية، والتي يمكن أن تكون مفهومة حتى بالنسبة للإنسان المعاصر "اللا – ميثولوجي"(10). ذلك هو الهدف الحقيقي للأسطورة الذي يصر "بولتمان" على ضرورة الكشف عنه من خلال إعادة تأويلها، تأويلاً وجودياً يجسد المعنى الأعمق الذي طمسته اللغة المجازية الحرفية لهذه الأسطورة. يقول: " الهدف الحقيقي للأسطورة ليس تقديم صورة موضوعية عن العالم في حد ذاته، بل التعبير عن إدراك الإنسان لنفسه في العالم الذي يعيش فيه. لذلك، لا يجب تفسير الأسطورة تفسيراً كونياً، وإنما يجب تفسيرها تفسيراً انثروبولوجياً أو وجودياً"(11).
إن الإنسان المعاصر– في رأى "بولتمان"– لم يعد يقبل صور التفكير في العهد الجديد. فلا يمكن أن ينظر إلى عالمنا على أنه مسرح لصراع بين قوى فائقة للطبيعة، أي قوى شريرة تحاول امتلاكنا وتدميرنا، وإله يتدخل لكي يحفظ خلاصنا"(12). يقول: " ظهر العالم كبنية ذات ثلاثة أبعاد: الأرض في المركز، وتعلوها السماء، وأسفلها العالم السفلى. والسماء هي موطن الله والموجودات السماوية – الملائكة. والعالم السفلى هو الجحيم – مكان العذاب. حتى الأرض كانت أكثر من مسرح للأحداث اليومية الطبيعية . . . إنها مسرحاً للأفعال الخارقة للطبيعة من جانب الله وملائكته، ومن الشيطان وأشياعه. هذه القوى الخارقة تتدخل في مجرى الطبيعة وفى كل شيء يفكر فيه البشر وما سوف يفعلون. والمعجزات ليست نادرة الحدوث على الإطلاق، فالإنسان لم يكن هو المتحكم في حياته؛ فهو عرضة لأن تتملكه الأرواح الشريرة، أو وساوس الشيطان. وفى المقابل، قد يلهم الله فكره ويوجه أهدافه ويمنحه بصيرة سماوية"(13).
مشروع بولتمان الوجودي
كانت نقطة الانطلاق الأساسية في مشروع "بولتمان" هي اتخاذه من النقد منهجاً، ومن العقل أداة لهذا المنهج. فقد اتجه إلى دراسة منهج "نقد الشكل" وطبقه على العهد الجديد مستخدماً في ذلك منهجاً تحليلياً مقارناً، يربط من خلاله بين التعاليم الواردة في الأناجيل وأصولها في اليهودية والهيلينستية؛ ويحدد التشابهات والاختلافات بين كتاب الأناجيل والوقوف على أهم الإضافات التي ربما قد تكون أضّْيفت إلى المحتوى الأصلي"(14). يقول: " منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، ودارسوا العهد الجديد على دراية بوجود مدرسة للبحث في الأناجيل تُعرف باسم "نقد الشكل" أو – بدقة – "تاريخ الشكل". وقد كرست هذه المدرسة اهتمامها على تحليل الوحدات المكونة التي بنى على أساسها التقليد الشفهي. هذا التقليد يتكون – في الأصل – من وحدات منفصلة تم جمعها بواسطة كتاب البشائر، ثم ظهر أخيراً على شكل الأناجيل"(15).
ولعل السبب الرئيس وراء اعتماد "بولتمان" على منهج "نقد الشكل" أنه رأى أن هناك الكثير من مصطلحات الأناجيل غير قابلة للتطبيق بشكل فعلي، وغير جديرة بإيصال فحوى الرسالة الدينية الحقيقية إلى قلوب وأذهان الناس؛ وذلك بهدف جعل النص الديني قابلاً للفهم من قبل الإنسان المعاصر"(16)، الذي لم يعد يفهم ما يقوله "العهد الجديد". إذن، ماذا يتعين على اللاهوت والتبشير المسيحي أن يفعل أمام رفض الإنسان المعاصر لأسطورة العهد الجديد؟ يرى "بولتمان" أن الرؤية الأسطورية للعالم لا تنطوي – في حد ذاتها – على شيء يتوقف على المسيحية وحدها دون سواها، فهذه الرؤية هي عبارة عن رؤية كونية تختص بعصر ما قبل العلم، وعلى حد قوله: " يمكن تعقب الرؤية الأسطورية عن العالم، ليس فقط في التراث السابق على المسيحية والذي وجّْد عند اليهودية Jewish والغنوصية Gnosticism، بل أيضاً في التراث اليوناني وغير اليوناني السابق عليهما"(17).
إن الإنسان المعاصر لا يملك – كما يقول "بولتمان" – سوى قبول الرؤية السائدة في عصره، والتي تكون إما نتاجاً للتفسير العلمي في ذلك العصر (كوبرنيقوس – أينشتين) أو نتاجاً لفهم الإنسان لذاته (الرومانتيكية – المثالية)؛ كما أنه لا يمكن أن يستبدل هذه الرؤية أو يلغها بواسطة أي سلطة كائنة ما كانت، حتى إذا كانت سلطة الإيمان(18). إذن فالمهمة الأساسية للـ "ديميثولوجيا" – ممثلة في الكشف عن الهدف الحقيقي للأسطورة – هي الحديث عن إمكانية لوجود إنساني أصيل يقبله الإنسان المعاصر ويفهمه. ولقد وجد "بولتمان" مضامين هذا الوجود، في التحليلات التي قدمتها الفلسفة الوجودية خاصة عند "مارتن هيدجر.
الأسطورة وخبرة المقدس
إن نظرة فاحصة يلقيها الإنسان على مسيرة حياته وبنية مجتمعه، توضح أنه مازال يعيش في عالم ثنائي من الخيال والغيبيات. وهو – في وجوده – أسير لأساطير ومحرمات ومقدسات تتناول كل مقومات هذا الوجود، وإنه مازال يعاني تسلط واستبداد أفكار أشخاص تفصله عنهم مئات السنين(19). ويندر أن يتساءل أحد: لماذا وصّْف ذلك الشيء بالحلال والمقدس وذلك الشيء بالمدنس والحرام؟ لماذا اعتبر هذا المكان وهذا الجبل وذلك الحجر مقدساً في حين وصف غيره أو وُصِفَت ظاهرة طبيعية بكونها مجردة من القداسة(20).
كشف "ميرسيا إلياد" عن الكثير من الأوهام التي تعاني منها بعض المجتمعات، والتي يجب نزعها من الرؤوس التي تعشش فيها؛ مع غيرها من الأساطير الكثيرة التي يجب تعريتها من زمن طويل. وفى إطار ذلك، بين معالم الحدود لكثير من الأمور التي تعرض وجودها تحت عنوان "مقدس"، بينما هي – في واقع الأمر – تنبع من ميثولوجيا ابتكرها الإنسان عبر تاريخه؛ وجعلها قيداً على فكره وحريته. وفى كتابه "المقدس والدنيوي"، انكب "إلياد" على تحليل أشكال الخبرة الدينية، ونجح في إظهار محتواها وبيان خصائصها النوعية. وسعى إلى تقديم ظاهرة "المقدس" بكل تعقيداتها وفى تعارضها – أيضاً – مع ما هو دنيوي أو مدنس. يقول: "كيف يمكن للنفس البشرية أن تتحرك دون الاقتناع بوجود شيء حقيقي لا يمكن إنقاصه في هذا العالم؟ كيف يمكن للشعور أن يبدو دون أن يضفي دلالة حقيقية لتجارب الإنسان؟ إن الشعور بعالم حقيقي وذي معنى مرتبط – أساساً – باكتشاف المقدس. ومن خلال خبرة المقدس أدركت النفس الفارق بين ما يكتشف على أنه حقيقي وذي معنى قوى، وبين ما هو دنيوي (أو مدنس) ومجرد من كل خصائص القداسة"(21).
أصبح الإنسان غارقاً – كما يرى إلياد – في خضم عالم موسوم بما هو مقدس وما هو دنيوي، فالعالم القديم كان يجهل "الفعاليات الدنيوية غير المقدسة"، فكل عمل يحمل دلالة محددة، إنما يشارك على نحو ما فيما هو مقدس. فبدءاً من أعمال القنص والصيد، مروراً بالأعمال المختلفة والاشتراك في القتال، وصولاً إلى النشاط الجنسي؛ كل هذه الأعمال يمكنها أن تشترك إلى الفعل المقدس الأول وترمز إليه (22). وكل حدث أو سلوك أو فعل هو تمثيل أو محاكاة – عند القدماء – لحدث ملحمي مقدس. وتكرار النزاع بين البشر لا يتعدى أن يكون سوى محاكاة للطراز الأول من النزاع، وهذا ينسحب على قداسة المكان. والممارسة الطقوسية المرافقة لتشييد بناء ما، إنما هي تكرار للبناء الأسطوري الأول الذي تم في بدء الخلق. والقيمة السحرية لبعض الأعشاب تعود إلى اقترانها بنموذج سماوي أول خاص بالنبات، كذلك الآثار الفنية هي تقليد من الدرجة الثانية للروائع الفنية الأولى؛ لذلك يرى "إلياد" أن: " أي موضوع من الموضوعات أو فعلاً من الأفعال لا يصير واقعياً، إلا بمقدار ما يحاكى، نموذجاً أولياً أو يكرره"(23).
وإذا انتقلنا إلى الديانات التوحيدية، فإن الالتباس والاختلاط – كما يرى إلياد – ينحسر عندها بين المقدس والدنيوي؛ في الظواهر الكونية، وتتضح معالم الحرام والحلال. فتبقى بعض الأماكن تمثل موقع القداسة عند المؤمنين، ذلك لأنها تمثل صورة من الدرجة الثانية لمكان سماوي. وتصبح بعض حوادث التاريخ ذات دلالة على رضا الله، إن كانت تحمل المسرة لأصحابها؛ وبعضها الآخر يحمل الدلالة على غضب الله، إن كانت ذات طابع كارثي [مثل الأسر البابلي – واجتياز البحر الأحمر – وغزو بلاد كنعان – والرجوع من المنفى] (24). أما الإنسان في العصر الحديث – كما بين إلياد – فقد جرد العالم من القداسة، وأصبح ينظر إلى المقدس بوصفه عقبة أمام تحقيق الحرية؛ وهو لم يصبح ذاته إلا في اللحظة التي سيعود فيها عقله إلى رشده. وكما قال: " لن يكون الإنسان حراً حقاً إلا في اللحظة التي سيقتل فيها آخر إله"(25). إن الإنسان الحديث [أو الإنسان الدنيوي] يتعرف على ذاته عندما يتحرر أو يتطهر – إن صح التعبير – من أساطير أجداده، ويحيا في عالم غير العالم الذي كان أجداده قد عاشوا فيه؛ لكنه – في رأى "إلياد" – مازال ممتزجاً بالوقائع الأسطورية التي رفضها، وسواء أراد أم لم يرد فهو مازال يحافظ على ملامح سلوك الإنسان المتدين. من هنا، كان هدف "إلياد" هو استعادة الأزمان المقدسة وزرعها في الزمن الحالي، من أجل الحياة في عالم نقى متجدد؛ يشبه حالته عندما خرج من يد الخالق، ومن أجل إعادة تأسيس مستمرة لهذا العالم.
الأسطورة والعالم الحديث
يوجد سؤال يتبادر إلى الأذهان هو: ما المصير الذي آلت إليه الأسطورة في العالم
الحديث؟ يوجد عند الإنسان – كما يرى "إلياد" – ميل إلى التخلي عن الزمان الراهن وعما نسميه "الظرف التاريخي" من أجل الخروج من الديمومة ومن التاريخ، ولتحقيق الرغبات غير المرتوية. وذلك عن طريق العدد الهائل من التسليات التي ابتكرتها الحضارة الحديثة، وعن طريق الانصراف إلى الإنتاج الأدبي وإلى العروض المسرحية وإلى التلفاز والسينما. والإنسان، عندما يفعل ذلك، يستعيد دون أن يدرك السلوك الأسطوري ويحيا أبعاده(26). لذلك، فبعض المشاركات في عالم الأساطير، وفى الرموز الجماعية مازالت تفعل فعلها في العالم الحديث؛ لكنها لا تلعب الدور الرئيس الذي كان للأسطورة في المجتمعات البدائية. يقول "إلياد": " إن المجتمع الحديث يبدو مجرداً من الأسطورة، إذا ما قارناه بمجتمع الأزمنة الماضية"(27).
وهنا يقرر إلياد، أن بعض الباحثين يرون أن ما يصيب المجتمعات الحديثة، من ضيق وقلق وما تواجه من أزمات، إنما يعود إلى غياب أسطورة خاصة بها(28). لذلك، فالعالم الحديث ليس غنياً بالأساطير – على الأقل من الناحية الظاهرية – فمثلاً: عندما نقول عن "ظاهرة الإضراب العام" الذي يحرك الجماهير، إنها من الأساطير النادرة التي أبدعها الغرب الحديث؛ فهذا أمر يتعلق بسوء فهم لهذه الظاهرة، لأن الاعتقاد السائد بأن فكرة ما تجد طريقها إلى الجماهير العريضة، يمكن أن تتحول إلى أسطورة لمجرد تحققها في سياق التاريخ. في الواقع، ليس هذا النهج يبدع الأساطير، لأن "ظاهرة الإضراب العام" هي ضرب من النشاط السياسي، غير أنه ضرب يفتقر إلى السوابق الأسطورية، وهذا كاف تماماً لأن نستبعده من نطاق "الميثولوجيا". وعلى حد قوله: "إن الأسطورة – على صعيد التجربة الفردية – لم تتوار بتمامها. إنها تعلن عن حضورها من خلال الأحلام والحنين إلى الماضي البعيد، وإلى الفردوس المفقود؛ ومن خلال الأعياد الشعبية والاحتفالات الفولكلورية. إنها تكمن في الفعالية اللاشعورية عند الفرد"(29). لكننا نتساءل أيضاً: ما هي الموضوعات التي احتلت – في المجتمع الحديث – المكانة الرئيسة التي شغلتها الأسطورة في المجتمعات الماضية القديمة؟
يرى "إلياد" أن ثمة موضوعات أسطورية مازالت باقية حتى أيامنا، وهي تفعل فعلها في المجتمعات الحديثة – كالأعياد التي تحتفظ بالبنية الوظيفية للأسطورة(30). فعلى سبيل المثال: الاحتفالات بقدوم رأس
السنة، أو الأفراح التي تعقب ولادة طفل، أو عند بناء منزل، أو حتى عند الإقامة في منزل جديد . . . كل هذه الأمور تكشف عن نموذجها الأسطوري القديم الذي يعود إلى أسطورة التكرار الدوري للخلق. لكن هذه الموضوعات – التي مازالت باقية حتى الآن – لا يمكن التعرف عليها بسهولة ويسر، كما يقول "إلياد"، بسبب خضوعها لعمليات علمنة نزعت عنها كل صفات القداسة. يقول: "نحن نعلم أن تقليد مثال يتجاوز حدود البشر، واستعادة مسلسل ينطوي على قدوة ونموذج؛ وإجراء قطيعة مع الزمان الدنيوي الخالي من القداسة – بواسطة فتحة توصل إلى الزمان الكبير – إنما تؤلف علامات أساسية للسلوك الأسطوري. أي سلوك إنسان الأزمنة الغابرة، الذي وجد في الأسطورة مصدر وجوده"(31).
لقد خضع الإنسان الحديث إلى تأثير ميثولوجيا واسعة الانتشار تعرض عليه محاكاة عدد من النماذج السلوكية، التي تتفق مع التربية والثقافة التي تلقاها. فمثلاً: الأبطال كانوا – في عالم الخيال – يمثلون تلك النماذج، ويلعبون دوراً بارزاً في إعداد المراهقين الأوروبيين. ونحن نجدهم في شخصيات وروايات المغامرات، وفى أبطال الحروب، وفى مشاهير عالم السينما . . . الخ. يقول "إلياد": "إن تحليلاً صحيحاً للميثولوجيا ذات الانتشار الواسع عند الإنسان الحديث، يتطلب كتابة مجلدات وأسفار. لأن الأساطير والصور الأسطورية ظهرت في كل مكان في الاستعراضات التي يفضلها، وفى الكتب التي يقرأها، وفى السينما (مصنع الأحلام). ويمكن بيان عدد لا يحصى من البواعث الأسطورية مثل: الصراع بين البطل والغول، والمعارك والتجارب الباعثة للسعادة، والصور المثالية (الفتاة الشابة – البطل – المشهد الفردوسي – الجحيم . . . الخ) حتى القراءة تلاءم وظيفة أسطورية، ليس لأنها تحل محل حكاية الأساطير في المجتمعات القديمة والأدب الشفاهي فحسب – والتي مازالت حية في المجتمعات الزراعية والأوروبية – وإنما بخاصة لأن القراءة تزود الإنسان الحديث "بخروج من الزمن" قابل للمقارنة بما أنجزته الأساطير. إن القراءة تسقط الإنسان خارج حدود شخصيته، وتدخله في إيقاعات أخرى؛ وتجعله يحيا في تاريخ آخر"(32). وهكذا – رأى "إلياد" – أن الإنسان الحديث بوسائله المتعددة يسعى باستمرار إلى الخروج عن تاريخه، ويبذل الجهد لكي يحيا إيقاعاً زمنياً يختلف، كل الاختلاف، عن الزمان المألوف. وهو – إن يفعل ذلك – يستعيد مرة أخرى، دون أن يفطن، السلوك الأسطوري.
وخلاصة القول، أن الإنسان حاول– من خلال خبرته - أن يتطلع إلى الوجود الروحي الذي هو أعظم منه، والذي ينظم علاقته بالكون بصفة عامة؛ والذي تنحو إليه الديانات المختلفة. وأندفع – بقوة الإحساس المتأصل في أعماقه – إلى خبرة المقدس التي لا يمكن التعبير عنها بلغة الواقع المعاش، ومفردات التجارب اليومية؛ فخلق "ميثولوجيا" تجعل هذه الخبرة مشتركة مع الآخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هــوامـــش الـبـحــث
(1) ولتر ستيس، التصوف والفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999، ص22.
أيضاً: إمام عبد الفتاح، الخبرة الدينية والإيمان، مجلة الفكر المعاصر، عدد (61) مارس، 1970، ص 18.
(2) ولتر ستيس، الزمان والأزل، ترجمة زكريا إبراهيم، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت، 1967، ص 40.
(3)Rudolf Otto, The Idea of The Holy: An inquiry into the Non-Rational factor in The Idea of The Divine and its Relation, to The Relation translated by John W, Harvey, Humphrey Milford, Oxford University press, 1928, p. 9.
كذلك: فراس السواح، دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 1995، ص 31.
(4) المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
(5) فراس السواح، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 1997، ص 129.
(6) المرجع السابق، ص 24.
(7) برهان جديد يتطلب قراراً: "الهجوم على المسيح"
Http: // www. bayta/lah. Com / McDowell/book/ 29. Html,13.
(8) Ninian Smart, The Religious Experience of Mankind, Collins Fount paperbacks New York,1969 p.624.
(9) Rudolf Bultmann, Existence and Faith, Shorter writings of R, Bultmann, translated by Schubert M, ogden living age Books, INC, N. Y. 1960, p. 292.
(10) وهبة طلعت أبو العلا، جذور إلحادية في مذاهب لاهوتية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، الكتاب الثاني، ص 46.
(11) R, Bultmann, New Testament and Mythology, in Kerygma and Myth, , volume 1, edited by Hansw, Bartsch, translated by Reginald H, Fuller, London, S. P. C. K, 1964, p.10.
(12) يُمكن النظر إلى: مُعجم أعلام الفكر الإنساني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984، الجزء الأول، ص 1101.
(13) R, Bultmann, op cit ,p.1.
(14) على حسين قاسم، فلسفة الدين عند رودلف بولتمان، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب – جامعة سوهاج، 2003، ص ص 91-92.
(15) R, Bultmann, Forms of human community, in R, Bultmann Essays philosophical and Theological, translated by James C, G Greig, The MaCmillan Company, New York, 1955, pp. 3-4.
(16) على حسين قاسم، المرجع السابق، ص 93.
(17) R, Bultmann, New Testament and Mythology, p.3. (18)- op cit. - أيضاً: وهبة طلعت أبو العلا، المرجع سالف الذكر، ص 60.
(19) ) ميرسيا إلياد، المقدس والمدنس، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق للطباعة والنشر، 1988، ص 7 من مقدمة المترجم.
(20) Mircea Eliade, Man and Sacred: A Thematic Source Book of the History of Religious, Harper and Row , Publishers, New York, 1974, p.3.
(21) ميرسيا إلياد، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق، 1987، الجزء الأول، ص9 .
(22) شمس الدين الكيلاني، قداسة المكان في الفكر الفلسفي.
http: // 216.212.98.66 / arabic/ verdict/ book/ 27. html.(23) ميرسيا إلياد، أسطورة العود الأبدي، ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990 ، ص. 63
(24) ميرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة ، دار كنعان للدراسات والنشر ، دمشق ، 1991 ، ص165.
(25) ميرسيا إلياد، المقدس والمدنس، ص147. .
(26) ميرسيا إلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات، دمشق، 2004، ص39.
(27) المرجع السابق، ص 24.
(28) - Robert A. Segal, Myth : A very short Introduction, Oxford University Press, 2004, p. 55.
(29) ميرسيا إلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ص 28.
(30) المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
(31) المرجع السابق، ص 32.
(32) ميرسيا إلياد، المقدس والمدنس، ص ص148-149.