كيف أسهم المجتمع في دعم الوقف والرعاية الصحية في الحضارة الإسلامية!

زينب الكلبانية

كان المنطلق الأساسي للإسلام هو الحرص على كرامة الإنسان وحريته، وإليه يرجع الفضل في تقديم أرقى مضامين الحرية والكرامة الإنسانية؛ فالكرامة الإنسانية هي أساس الرعاية الاجتماعية قبل كل شيء، هذه الرعاية سياجٌ من الحُرمة والعِصْمَة والصيانة، تصون كل فرد في المجتمع، أن يهون على الناس أو ينتهكوا حرمة من حرماته، وهذا ما ناقشه الباحث خالد عزب في مقاله المنشور بـ"مجلة التفاهم" تحت عنوان "المجتمع والأوقاف والرعاية الصحية في المجتمعات الإسلامية"، ويؤكد أن المجتمع المسلم بناء متكامل متكافل لا يتخلى عن فرد من أفراه ولا يرضى لأحد منهم أن يذل أو يهون.

ومن هذا المنطلق، شهدتْ الحضارة الإسلامية تشييد العديد من منشآت الرعاية الاجتماعية، التي هي في أوضح مفاهيمها رعاية الجماعة لأفرادها، خصوصا المحتاجين منهم، جاء الإسلام لينظم هذه الرعاية على أساس الترابط بين الفرد والجماعة، والتكافل بين الناس في سبيل الخير، ويحض الناس على الرحمة والبر والعدل والإحسان، وكانت هذه المنشآت تؤدي خدمتها في ريع الوقف، الأوقاف حملت صبغة الحضارة الإسلامية، التي قنَّنتها وحولتها إلى مؤسسة لعبت دورا حيويا في بناء صرح الحضارة.

انحسر دور الدولة في المجتمعات الإسلامية، فركزت على رعاية البلاد والعباد، والدفاع عن أرضهم وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ثم تقدم بعد ذلك خدمات لرعاية مرافق البلاد وشؤون العباد، خاصة الطرق بين المدن، وغالبا ما كان الدور الخدمي للدولة محدودا، لا يفي بما ينشده المجتمع في مجالات التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، هنا يأتي دور مؤسسة الوقف التي كان يغذيها رجال السلطة تارة، والتجار تارة أخرى، وهي في دورها تماثل ما نعرفه عبر الحضارة الغربية باسم المؤسسات المعنية بتمويل الأنشطة الاجتماعية والصحية والثقافية والعلمية والتعلمية، التي تعتبر شريحة مهمة في دور المجتمع المدني المكمل لدور الدولة.

الوقف لغة: الحبس، يقال: وقف فلان داره على كذا، أي حبسها. أما شرعا، فيعرفه الشيخ محمد أبو زهرة "بأنه قطع التصرف في رقبة العين التي يدوم الانتفاع بها، وصرف المنفعة"، وعند الحديث عن مشروعية الوقف في الحضارة الإسلامية، فإنها تعود إلى عدة أسباب؛ من أهمها: فكرة الصدقة الجارية من حيث الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، إنها صدقات محرمة الرقاب، مخصومة المنافع، مصروفة في وجوه المصالح العامة.

وعند الحديث عن أركان الوقف، فإنها أربعة: الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة. أما الأول فهو الذي ينشئ الوقف، وله عدة شروط بحيث يكون أهلاً للتبرع، بالغا، عقلا، حرا وغير محجور عليه لسفه، أو غفلة، أو دين. أما عن ملكية الوقف، فقد اتفق العلماء على أن الوقف لا يكون إلا في عين مملوكة لصاحبها ملكا تاما. أما الثاني، فهو الموقوف إذ أجمع العلماء على أن الوقف يكون على وجه التأييد أي طول الأبد، وخلفه بعضهم بأن يجوز أن يكون مؤقتا. والثالث، الموقوف عليه، إذ إما أن يكون إنسانا واحدا أو متعددا، وإما أن يكون مؤسسة اجتماعية أو ثقافية أو صحية أو تعليمية، وإما أن يكون مكانا مقدسا، أو حيوانا أو غير ذلك. وأخيرا الصيغة ولها ألفاظ متعددة، وكما تكون صريحة، تكون كناية، فالصريحة كأن يقول الواقف: حبست أرضي للفقراء.

وبالنظر في اجتهادات الفقهاء الخاصة بأحكام الوقف ومسائله وتفريعاته، فإنها في جملتها، عبارة عن ترجمة لمفهوم "السياسة المدنية" بمضمونها الذي يعني التدبر في شؤون المعاش على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وتحقيق قيم التضامن الاجتماعي؛ ففقه الأوقاف مبني على ثلاثة أسس كبرى، وهذه الأسس وفرت نوعا من الحماية الشرعية لنظام الوقف ومؤسساته ضد احتمالات استيلاء سلطة الدولة عليه، وجعلت حدوث مثل هذا الاستيلاء أمرا غير شرعي، إذ لم يكن هناك ما يمنع سلطات الجور من ارتكابه في الواقع العملي، وهذه الأسس هي: احترام إرادة الواقف، والمقصود هنا ما يقوم بالتعبير عنها في وثيقة الوقف بمصطلح عام هو "شروط الواقف" من حيث كيفية إدارة الوقف، وتقسيمه.

وأضفى الفقهاء على تلك الشروط صفة "القداسة" ما لم تُحرِّم حلالا، أو تحُل حراما، وجعلوا لها حرمة لا يجوز انتهاكها -إلا في حالات استثنائية- وذلك بأن رفعوها إلى منزلة النصوص الشرعية من حيث لزومها، ووجوب العمل بها، فقالوا إن "شرط الواقف كنص الشارع" واعتبر الفقهاء والقضاة وثيقة الوقف (الحجة) دستورا يجب الرجوع إليه في كل صغيرة وكبيرة.

وعند الحديث عن الرعاية الصحية، فإنه في فجر الإسلام وبداية دعوة محمد -عليه الصلاة والسلام- حدث شيء غاية في الأهمية بالنسبة للطب، ذلك أن الرسول أولى صناعة الطب والأطباء أولوية ذات بعد عملي، إذ كان يسيطر على الفكر العربي قبل الإسلام شيء يجيء مركزه بعد اهتمام العرب بأمورهم المعيشية: ذلك الشيء هو اللغة، فلما دخلوا الإسلام صار دينهم الجديد أول مشاغلهم الفكرية، ومن هذا الطريق قومت المعارف الطبية على أسس من فرائض وسنن الشريعة الإسلامية؛ فأصاب الأطباء مركزا محترما يتقدمون به على غيرهم ممن يمارسون الصنعة بالعرافة أو الكهانة أو الشعوذة، وصارت وصاياهم الصحية التي أيدها الرسول سُننًا يعملون بها بإيمان وعقيدة.

البيمارستانات الأصل في هذه الأنواع من الأبنية، بناؤها على قاعدة: كل ما دعت الحاجة والضرورة إليه من البناء فهو واجب، فقد سن الرسول الكريم إنشاء مقار للعلاج والتطبب، فقرر بعد رجوعه من غزوة الخندق وضع خيمة في المسجد للتداوي، وتأسى الحكام أهل البر والخير بهذه السنة، وسعوا إلى إنشاء "البيمارستانات" التي توفر العلاج لأهل المدينة والقادمين إليها، واستمرت البيمارستانات حتى الخلافة العباسية.

أما البيمارستان العضدي، فتم بناؤه على يد عضد الدولة البويهي 368هـ، وكان يقع في الجانب الغربي من بغداد، أسهم بالعديد من الخدمات من حيث عدد الأطباء والخدمات الصحية المقدمة للمرضى. أما البيمارستان المنصوري، فعرفته مصر منذ فترة مبكرة في تاريخها الإسلامي، وأقدم هذه البيمارستانات كان بالفسطاط بزقاق القناديل، ولا يعرف من أنشأه ولا كيف انتهى أمره، وكان أعظم بيمارستان قلاوان مفخرة الحضارة الإسلامية في مصر، ظل مثار دهشة وإعجاب الرحالة والمؤرخين لفترة طويلة بفخامة منشآته ودقة نظامه وحسن انتظام العمل به، بل وبإنجازاته العلمية كمدرسة طبية متميزة؛ فقد عمل به الأطباء، وأشهرهم ابن النفيس.

وكان هناك تنظيم كبير في عملية فصل الأقسام عن بعضها البعض، وفصل أقسام الرجال عن النساء، وماذا ينبغي أن يحتوي في كل قسم، وكيف هي آلية  تقسيم خطورة الأمراض، كذلك قاموا بإنشاء البيمارستانات المتنقلة، وهذا ينشط في ظروف تحددها الحاجة، ويرى فريق من المعنيين أن المسلمين لهم الفضل في ابتكار هذا النوع من البيمارستانات.

... إنَّ الوقاية الصحية ومراعاة ذلك في المدن وتخطيطها، بلغتْ ذروة نضجها في رؤية علماء المسلمين، ويمكن القول إنَّه كان للمسلمين الدور الأكبر في تطور مستوى الطب؛ إذ كان لهم الدور الرئيسي في إنشاء هذه القاعدة المتينة للطب، وهو ما ظهر جليا على عدد من الأطباء المسلمين العظماء كابن سينا، وجابر بن حيان، وأبو بكر الرازي، وابن البيطار الأندلسي...وغيرهم، إذ ما زالت كتبهم تُدرَّس إلى الآن في أشهر جامعات العالم، وتعتبر المرجع الأساسي لهذا العلم.

أخبار ذات صلة