زينب الكلباني
السياسات تجاه الإسلام في العصر الاستعماري موضوعٌ شديد التوسُّع والتشعُّب؛ فالبلدان الاستعمارية لم تكن تسلك سياسة مُوحدة، وإن التقت غايتها وأهدافها، وتقاربت وسائلها ومناهجها في كثيرٍ من الأحيان، كما أنها لم تكن تتعامل مع الإسلام بصفته دينا أو حضارة، بقدر ما كانت تعامله بصفته فضاء جغرافيا وسياسيا، وكثيرا ما عنتْ كلمة "إسلام" في الأدبيات الاستعمارية ما نطلق عليه عادة عبارة "العالم الإسلامي"؛ لذلك فإنَّ السياسات قد اختلفت أيضا حسب المناطق، وما كان منها مطلوبا لذاته بسبب ما يزخر به من خيرات "الهند مثلا"، وما كان مهما بسبب موقعه الجغرافي والإستراتيجي، وأخيرًا ما برز شأنه بسبب الجوار، وسعي القوي إلى فرض سيطرته على الضعيف، لا سيما إذا حضرت مشاعر الثأر من تاريخ لم يكن فيه القوي قويا دائما، ولا الضعيف ضعيفا دائما. وهذا ما ناقشه الباحث محمد الحداد في مقاله المنشور في "مجلة التفاهم".
مثل هذا الموضوع قابِل لأن يطرح من وجهة نظر أصحاب السياسات، أو من وجة نظر الذين خضعوا لتلك السياسات. فمن وجهة النظر الأولى، لم يكن الاستعمار إلا مسارا لإدخال الشعوب المتخلفة إلى الحضارة، واقتسام مكتسبات الحداثة معها، وتدريبها على استعمال التكنولوجيات والإضاءة بالكهرباء، والتواصل بالهاتف وتدريبها على المعارف الرياضية والجغرافية والطبية الحديثة، وصد حكامها عن التصرف بالإطلاق في الرعية وإلزامهم بالتقيد بالدستور والقوانين، هذه هي الصورة التي تبرز مثلا في مذكرات بعض كبار السياسيين الذين تولوا مناصب خطيرة وحساسة في الإدارة الاستعمارية.
أما من وجة النظر الثانية -أي رؤية المستعمرين (بالفتح)- فستبرز الصورة طبعا على طرف نقيض، وسيعد الاستعمار ضربا لوحدة البلد ونسيجه الاجتماعي المتماسك وثقافته العريقة وأخلاقه السامية، وستحتل مسألة التحديث المادي مكانة ثانوية مقارنة بالجوانب المعنوية والأدبية؛ نظرا لما أصاب الأمة من ويلات، وقد تحمل السياسات الاستعمارية أحيانا المسؤولية الكاملة في كل مواطن الخلل والوهن، مع أن بعضها موروث من مرحلة ما قبل الاستعمار، بَيْد أن بناء الوحدة الوطنية ضد المستعمر، وتجييش الإرادات لمقاومته، والسعي إلى إقناع المجتمعات بإمكانية التغيير، كانت بصرف النظر عن التاريخ البعيد، وحصر الاهتمام في اللحظة الاستعمارية ذاتها، مفصولة عما كان المفكر الجزائري مالك بن نبي يطلق عليه "القابلية للاستعمار".
ولقد فضَّلنا في هذا المقال أن نطرق الموضوع من زاوية مختلفة، فلم نتجه إلى أصحاب الوجهة الأولى ولا إلى أصحاب الوجهة الثانية، وإنما أردنا أن نعرّف بأثر طريف وغير معروف، تركه كاتب أصبح اليوم في عداد المغمورين، بل المجهولين، صاحب الأثر هو أحمد رضا -كاتب تركي- درس في العديد من المعاهد والجامعات إلى أن تقلد رئيس البرلمان العثماني عام 1895م.
كان أحمد رضا شديد الإعجاب بالحضارة الأوروبية، وبفلسفة أوغست كونت الوضعانية، وسخر حياته كما يقول لمقاومة استبداد السلاطين العثمانيين من جهة، وتعريف شعوب الإمبراطورية بمحاسن الحضارة الحديثة، وسخر قلمه لتحقيق الغايتين، ورغم الجهود التي بذلها للدفاع عن صورة الإسلام والمسلمين ومهاجمة السياسات الاستعمارية تجاههم، فإن ذكره يكاد يكون معدوما في المراجع العربية، وإذا ما ذكر فيشار إليه غالبا بصورة المتغرب، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها أنه لم يكن يخفي إعجابه بالثقافة والحضارة الحديثتين، وإن لم يكن يخلطهما بالسياسات الاستعمارية، ومنها دوره في جمعية "تركيا الفتاة" التي أسهمت في الإطاحة بالسلطان عبدالحميد سنة 1909م، ومنها مناصرته لقضية تحرير المرأة. وتحضرنا هنا حادثة طريفة تثبت مدى تغير الأفكار بتغير الأزمنة، فمن المآخذ على أحمد رضا عبارة اشتهرت عنه، وقد نقلها شكيب أرسلان وقالها عندما تولى رسالة البرلمان العثماني، الذي استعيد بعد عزل عبدالحميد الثاني، إذ هنأه أحدهم باستعادة البرلمان، وقال له: إن الإمبراطورية العثمانية دخلت بذلك في مصاف البلدان المتقدمة، فرد عليه بالقول: إن الإمبراطوية لن تكون جديرة بصفة التقدم، إلا إذا جاء يوم نرى فيه شاباتها يعبرن مع الشباب جسر البوسفور، سافرات الوجوه، متساويات في الحقوق، وقد اعتبرت هذه الأمنية من الكبائر في ذلك الوقت، وإنها من شواهد الحملة الممنهجة ضد الإسلام.
جمعا بين إضعاف الخلافة، وتغيير نمط حياة المرأة، والواضح أن الذين ذهبوا هذا المذهب لم يطلعوا على كتابات أحمد رضا بالفرنسية التي سخرها للدفاع عن الإسلام والمسلمين، لا سيما ونحن نرى اليوم عبور الفتيات جسور إسطنبول، وقد أصبح أمرا عاديا، لا يكاد يثير حفيظة أحد، وإنما هي العادات والتقاليد تستقر في الأذهان، وتختلط بالدين فتُصبح وكأنها جزء من قداسته وعلوه، ويتهم كل من يتجرأ على نقدها بالتطاول على الدين ذاته.
لقد تراجع الدافع الديني ظاهريا، وأصبحت الدوافع المادية هي الطاغية في العلاقات بين الأمم، وأصبحت البنوك هي المعابد، و"بلوتوس" (إله الحرب) معبود الغربيين؛ بَيْد أن "أوروبا الرسمية" -يقول الكاتب- لم تتحرر من المفاهيم اللاهوتية والميتافيزيقية، ولم تتخلص من تعصبها القديم ضد الإسلام، وقد تجلى ذلك في سياساتها الاستعمارية.
أما عامة المواطنين، فلا يقيمون آراءهم ومواقفهم على المعرفة، وإنما هم ضحايا ما يقوله الرسميون من سياسييهم، ولا قدرة لهم على تبين حقائق الأمور، يقول الكاتب: "إذا رفع قناع الحضارة الحديثة فلن نجد غير أفكار العصر الوسيط ومسلماته".
ويبقى الجانب المهم في كتابه التنبيه إلى أن العديد من الأزمات والمواجهات والحروب لا يمكن تفسيرها بطريقة منطقية ومعقلنة. وهو ما يذكرنا بنظرية طرحها مؤخرا الخبير الإستراتيجي دومينيك موازي دعاها "جغراسياسة العواطف"؛ باعتبارها في رأيه أحداثا قائمة على العواطف والانفعالات. وحسب نظرية موازي فإن النزاعات الأساسية في العالم الراهن تحركها العواطف، وهي الخوف والأمل والشعور بالمهانة، وعلى هذا الأساس يقرأ أحداث الثورات العربية على أنها ثورات ضد الشعور بالمهانة؛ بينما يحلل الوضع الآسيوي على أنه نتيجة الشعور بالأمل، والوضع الإسرائيلي على أنه نتيجة الشعور بالخوف.
وبصرف النظر عن هذه التفاصيل؛ فإن الرابط الذي نجده بين كتابي أحمد رضا ودومينيك موازي هو إقحام العوامل غير المادية في فهم النزاعات والصراعات، فلئن كانت العوامل المادية مثل البحث عن الثورات الجديدة، ومصادر الطاقة وتوسيع الأسواق يمكن متابعتها بسهولة، فإن هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية؛ لكنها غير معلنة، وكثيرا ما يصعب تحديدها والاستدلال عليها، وأثرها في النزاعات عميق ومتواصل.
فمن هذه العوامل وزن المسلمات التاريخية والثقافية والرؤى المستنبطة تجاه الآخرين، وتصنيف جزء من البشر على أنهم يمثلون استثناء يبرر معاملتهم خارج القواعد الإنسانية المعهودة، وتستند هذه الادعاءات إلى صياغات محرفة للتاريخ وللحاضر تتخذ ذرائع لتبرير الاعتداءات بمختلف أشكالها. إن العالم الإسلامي يثير كثيرا من الانفعالات في الغرب، بما يجعل التعامل معه -سابقا وراهنا- تعاملا قليل العقلنة يكاد يكون غير قابل للفهم والتحليل لمن أراد أن يتعاطى معه من جوانبه المادية لا غير، ولا يسبر خلفياته التي قد تكون أحيانا غائبة على أصحاب القرار أنفسهم.