رؤية موجزة لمفهوم الدين ونشأته

زينب الكلبانية

اختلف علماء الاجتماع في تحديد النظم الاجتماعية القائمة في المجتمعات البشريَّة؛ فمنهم من يرى أنها قائمة على أربعة: الأسرة، ونظام الملكية، والدين، والسياسة. ومنهم من أضاف إليها التربية، وحدَّدها دوركهايم بستة: الدين، والأخلاق، والقانون، والاقتصاد، واللغة، والفن الجمالي، وهذا ما ناقشه الكاتب برّاق زكريا في مقاله بعنوان "الدين: نشأته، ماهيته، أدواره ووظائفه"، والمنشور بمجلة "التفاهم".

وقد بنوا تحديداتهم تلك، إما على أسس حيوية جسمية، وإما على أسس نفسية داخلية، وفي موضوع كلامنا هنا هو النظام الديني فحسب. وفي هذا السياق، يذهب دوركهايم إلى أن النظم الاجتماعية نشأت من أصول الدين، وتوصل إلى أنه في روح الدين هناك روح المجتمع، وكل ما هو اجتماعي فهو ديني الأصل، وربط كل من دي كولانج ودوركهايم بين الدين والمجتمع لدرجة أنهما اعتبرا الله والمجتمع شيئا واحدا. وهناك نقطة مهمة أشار لها الكاتب وهي الارتباط الوظيفي؛ حيث تعني ارتباط الناحية الاقتصادية مثلا بالدين، وتأتي متمثلة في حاجات الإنسان الضرورية، حيث إنَّ جميع مطالبه لابد أن تكون متمثلة من الناحية الدينية، وكذلك عليها باقي النظم الاجتماعية.

ويرى العديد من علماء الاجتماع أن الدين هو أهم الظواهر الاجتماعية، التي لابد من أخذها في عين الاعتبار، ومن هذا المنطلق انبعثت منه بقية الطقوس الدينية المختلفة، كالاحتفال الديني "الانتشيوما" والذي يهدف لإيجاد رابطة تربط بين أفراد العائلة، وتقوية ترابطهم عن طريق أكل اللحوم الحيوانية المفترسة التي يعبدونها في هذه الطقوس. كما أشار بعض الدارسين إلى القصص القديمة، والأساطير الدينية، والتي ساهمت بانبعاث وخروج بعض الفلسفة والفنون والعلوم المختلفة والفنون الفنية، كالتصوير، والرسم، والحفر، والعمارة، كما أثرت في انبعاث القواعد الدينية والقوانين وأصول الأخلاق.

الشيء الظريف في الموضوع أنه ظهر هناك بعض العلماء الذين يشيدون بوجود الشعور الديني للحيوانات حيث إنها تحس بالموت، أو قد تعلم بظاهرة كونية قد تحدث، ولكن العلم النفسي الحديث لم يؤيد هذه الفكرة تماما، وصرحوا بأن الإنسان هو الوحيد الذي يختص بالدين، أما الحيوانات فإنها تفتقر للدين بقدر افتقارها للقواعد والقوانين والأخلاق، فالتدين عنصر أساسي لتكوين الإنسان، والحس الديني يكمن في القلب البشري فقط، ويدخل في صميم ماهية الإنسان، مثله مثل العقل تماما، ولكن الحس الديني يكون الإنسان ولكن بدرجات متفاوته.

وقد أشارت بعض الدراسات الاجتماعية الحديثة، وبعض المفكرين أمثال جون جاك روسو إلى أن الأقوام المتأخرين لا دين لهم، معتبرين أن الإنسان يعيش عيشة الحيوان، ويسعى فقط لإشباع غرائزه. وما هذه الأقوال إلا أنها بعيدة عن عين الواقع.

وصرحت بعض الدراسات الاجتماعية الحديثة بأن الدين تعود نشأته إلى التكوين البشري، أي أن الدين بإنسانيته، والإنسان هو الذي صنع الدين لغايات ومآرب خاصة، والآخرون قالو بأن الدين هو النفس البدائية المستوحاة من فكرة الإله السامي. الإنسان هنا مجبور بأخذ دين معين له يؤمن به ويقدسه فيظهر في طباعه وفطرته، وهناك العديد من النظريات والأفكار حول نشأة الدين؛ ومنها:

النظرية التطورية: أشارت إلى أن فكرة "الله" وجدت في المجتمعات الأولى بشكل عقائدي، إذ إنها ظهرت من الأفراد أو الجماعة، مثلما تطورت الحياة البيولوجية للإنسان؛ فكذلك تتطور الحياة العقلية للإنسان، والكائن ينتقل طبقا لقانون التطور من ماهية أدنى إلى ماهية أسمى، يتطور في حياته الفكرية ثم ينتقل من مرحلة لأخرى، حتى يصل لمرحلة الاكتمال البشري، ومن هنا ظهرت مذاهب متعددة مثل المذهب الطبيعي، والمذهب الحيوي، والمذهب التوتمي.

النظرية الفطرية: وتعني أن فكرة "الله" أو الدين ككل هي فكرة فطرية انغرست في النفس الإنسانية.

تعريف الدين -في اللغة- هو العادة والشأن، وقيل هو الذل والانقياد، فلا جرم أن الطاعة تكون مصحوبة بذل وانقياد وقيل أن الدين هو الداء والقهر والغلبة والاستعلاء، وقيل بأنه السلطان والملك، والدين هو القصاص فهناك الكثير من التعاريف حول مفهوم الدين، واجتمعت أقاويل العرب جميعها على أن الدين هو العلاقة التي تربط بين طرفين: يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، ويملك الثاني الأول وله عليه السلطان، فإذا وصف الأول بهذه العلاقة، كانت بالنسبة إليه خضوعا وطاعة، وإذا وصف بها الثاني، كانت أمرا وسلطانا وإلزاما، وإذا قصد الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي بمثابة الدستور المنظم لهذه العلاقة، وتكون هنا علاقة قوية إلزامية.

تعريف الدين -في الاصطلاح- قدَّم العلماء المسلمون تعاريف عدة للدين، فعند التهانوي "وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إياه إلى الصلاح وفي الحال والفلاح"، وأشار أبو البقاء إلى أنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات قلبيا أو قالبا، وأتى ابن جوزي على أنه "قول إلهي رادع للنفس يقومها ويمنعها من الاسترسال فيما طبعت عليه"، وقال محمد عبده: "وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر"، وعند جميع الأمم هو الشيء الذي تتعلق به القلوب، وترتبط به، ويرتسخ في الأفئدة. العجيب في الأمر أن كلمة الدين باللغة الإنجليزية تمَّ إرجاعها لأصولها وجذورها، ووجدت أنها تشمل معنى الربط بين شيئين أو طرفين، كالربط بين الناس والأعمال الملزمة لهم فعلها أو ربط الناس ببعضهم البعض، أو ربط الناس بالآلهة.

اللافت للعقل أنه يوجد جدال بين علماء الاجتماع وعلماء النفس، لتفسير كلمة الدين، فكلاهما يريد تفسيرا لميدانه، فعلماء الاجتماع يقولون بأنه ظاهرة اجتماعية، نظرا لاتصاله بشؤون الجماعة وأولئك يردون عليهم بأنه حالة عاطفية نفسية منغرسة داخل النفس البشرية.

ومنهم من يجعل أصل الدين شعورَ الإنسان بأنه غير مستقل في أفعاله وأحواله، ومنهم من يرده إلى ما يلقى على روح الإنسان بالفطرة من وجود لا يتناهى، ومنهم من يرى الدين ينبعث من النزوع إلى الزهد في الدنيا، ويرجح علماء النفس إلى أن هذا الحدث من أحداث الحياة النفسية، وليس من السهل رده إلى سبب واحد بسيط من هذه الأسباب المذكورة.

وقد ظهرتْ نظريات نفسانية عدة في الدين وفلسفته وماهيته؛ باعتباره حالة شعورية نفسانية وجدانية يعيشها الإنسان، ونجد الفيلسوف الفرنسي ساباتيه يحاول جاهدا تأسيس العقيدة الدينية على أساس عوامل نفسية؛ باعتبار أن العقيدة تتولد في نفس الإنسان منذ نعومة أظافره نتيجة إحساسه بالتناقض الكبير بين أحاسيسه وإرادته، وهما بمثابة القوتين اللتين تتألف منهما الحياة النفسية في أبسط صورها، وعلاوة على ذلك أضاف بأن الإنسان لا مفر له من هذا التناقض الذي يعانيه في داخله بالتدين.

فللدين دور بارز في مجال التربية والأخلاق وقيم سامية، والدين هو أسرع مؤثر في بناء الأخلاق، ومن هنا بَرَز علماء التربية إلى أن قاعدة السلوك الخلقي لا تقوى البقاء دون تأييد من الدين.

وفي خلاصة الأمر نقول: إنَّ الدين هو كل شيء، له أهمية كبيرة في تنظيم حياة الناس بشتى مجالاته الحياتية، فهو الذي يربط الفرد بالناس والعالم كله، ويربط الماضي بالحاضر، والمستقبل بالنهاية، وهناك برزت ظواهر عديدة ونظريات تكمن في أهمية الدين وأسسه وقوانينه، التي لا ينبغي للإنسان المفر منها أو التنكر لها.

أخبار ذات صلة