علىّ الدين هلال | أستاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة.
الاضطراب لغة نقيض النظام والاستقرار، ويعني حالة من الفوضى والبلبلة، فاضطرب الشيء يُقصد به تحركه على غير انتظام،ويذكر معجم المعاني الجامع أن اضطربَ هو فعل خماسي لازم متعد، اِضْطَرَبَ، يَضْطَرِبُ، مصدر اِضْطِرابٌ، والمفعول: مُضْطَرَب فيه، (واضطرب) الشَّخصُ أحسَّ بقلق وحيرة ،أيتردَّد وارتبك واختل، ويسير على النهج نفسهالمعجم الوسيط، ومختار الصحاح. ويُستخدم التعبير في العلوم الاجتماعية على نحو مماثل يشير إلى عدم الاستقرار وغياب الانتظام في علاقات البشر والجماعات والمؤسسات.
ورغم أن هذا المفهوم يعود إلى عام 1990 عندما استخدمه الأستاذ جيمس روزيناو في تحليله للنظام العالمي(1)؛ فإنه اكتسب شهرة وذيوعاً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وذلك مع سرعةتلاحق الأزمات والأحداث المفاجئة وغير المتوقعة،والتقلبات في المواقف والسياسات، والتحالفات المرنة والمتغيرة، وتداخل كل ما سبق بشكل معقد. يحدث هذا التطور تحت وطأة التقدم المتسارع في الإنجازات العلمية والتكنولوجية، وتبلور اقتصاد المعرفة ومجتمعها، وما يسمي بـ "الثورة الصناعية الرابعة" التي تغير من نوعية الحياة في عالمنا المعاصر على نحو جذري.
وتناولت الأدبيات العلمية هذه الحالة بمصطلحات مثل "الاضطراب" و"الفوضى" و"اللانظام"، والتي ارتبط بها شيوع حالة من السيولة وازدياد مساحة عدم اليقين. وفي هذا السياقيشهد الواقع العربي أزمات خانقة تعصف ببعض دوله، وتفرض تحديات جمة على الدول الأخرى مع اختلافٍ بالطبع في حجم هذه التحديات وضراوتها.
ويهدف هذا البحث إلى عرض أهم مظاهر الاضطراب العربي، وتحليل لأهم جذوره والعوامل التي أسهمت في وجوده، والسبل المتنوعة لاستعادة الاستقرار بوصفه البيئة اللازمة لتحقيق التنمية والسلم الاجتماعي.
أولاً: مظاهر الاضطراب العربي
يعدّ ضعف الدولة وعدم قدرتها على الوفاء بمهامها الأساسية هو المظهر الأبرز لحالة الاضطراب العربي، ومن الناحية النظرية اهتم علما السياسة والاجتماع بموضوع قوة الدولة وضعفها في سياق دراسة بناء مؤسسات الدولة في البلدان النامية أو حديثة الاستقلال، وفي حالات تراجع قدرات مؤسسات الدولة وتقلص فاعلية سياساتها العامة، فبرزت مفاهيم مثل التحلل السياسي (2) Political decay أوPolitical dissolution والدولة الضعيفة Weak stateوانهيار الدولة breakdownState، وذاع تعبيراً الدولة الفاشلة (3) Failed state والدولة الهشة Fragile state.
وبصفة عامة فإن هذه المفاهيم تشير إلى تلك الدول التي لا تستطيع السيطرة على أراضيها، وتتسم بوجود مؤسسات ضعيفة تسيطر عليها أقلية أو أقليات سياسية أو اثنية، وتفشل في تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، وتعاني من قصور التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضعف مشاعر الولاء الوطني والانتماء للدولة، وذلك في مناخ يتسم بانتشار العنف والجريمة والفساد(4)
وبمعنى آخر فإن الدولة الهشة أو الفاشلة هي تلك التي لا تمتلك القدرات اللازمة للوفاء بأربع مهام، وهى: تشجيع وجود بيئة محفزة للنمو الاقتصادي المستدام والعادل، وبناء - أو المحافظة على - مؤسسات سياسية شرعية وشفافة خاضعة للمحاسبة، وحماية إقليمها من التهديدات والمخاطر الخارجية، وتوفير الأمن والسلامة لمواطنيها في الداخل(5).وعندما تفقد الدولة قدرتها على القيام بهذه المهام فإنها تدخل دوامة الاضطراب، وتصبح ساحة للفوضى، ومصدرًا للتهديد لسكانها وللدول الأخرى؛ لأنها تغدو قاعدة للجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية وتهريب السلاح وتدريب الميليشيات المسلحة.
وفي الإطار العربي تبلورت حالة الاضطرابمن نهاية عام 2010 رغم أن جذورها تمتد لسنوات سابقة، كما تنوعت مظاهرها من بلد لآخر؛ ولكنها صبت جميعها في تزايد مظاهر الاضطراب التي شهدتها هذه الدول، وتآكل واستنزاف تدريجي لشرعية نظمها، وازدياد الفجوة بين الدولة ومجتمعها، مما أدخل عدداً كبيرًا منها في قائمة الدول الهشة أو الفاشلة أو التي في طريقها إلى الفشل.
وامتد الاضطراب ليهدد الأسس التي تنهض عليها الدولة، وهي: الشعب، والإقليم، والحكومة، والتي نعرض لكل منها بإيجاز.
فبخصوص ركن الشعب الذي هو البنية التحتية البشرية لأي دولة، فقد شهد العالم العربي خروج وتمرد فئات وجماعات عن سيطرة الدولة، وذلك على أسس قومية مثل حالة الأكراد في العراق، أو دينية ومذهبية مثل أنشطة التنظيمات الإرهابيةالمتطرفة كالقاعدة وداعش في العراق وسوريا وليبيا واليمن، أو أسس جهوية مناطقية وقبلية مثل الحال في ليبيا واليمن. ومؤدى ذلك تراجع الانتماء الوطني للدولة وسعي التكوينات الإثنية والهويات الفرعية في المجتمع إلى تأكيد ولاءاتها الخاصة بها.
وبخصوص ركن الإقليم- وهو المجال الجغرافي الذي تبسط عليه الدولة سلطاتها وتنفذ قوانينها- فقد خرجت أجزاء منه عن سيطرة بعض الدول العربية-وخضعت لسلطة الميليشيات الطائفية أو القبائل المسلحة التي نجحت في هزيمة جيش الدولة-كما حدث في سوريا والعراق خلال الفترة 2014-2018. وانتهزت هذه الميليشيات فرصة الفوضى السياسية والأمنية واندلاع الحروب الأهلية لتحقيق هدفها مثل الحال في ليبيا واليمن والصومال. وأدى ذلك إلى تدخلات إقليمية ودولية كان من أشكالها المشاركة العسكرية المباشرة في القتال وإنشاء قواعد عسكرية.
وبشأن ركن الحكومة- وهي الهيئة المسؤولة عن تنظيم العلاقات الاجتماعية بين المواطنين- فنتيجة لخروج جزء من الإقليم وسكانه عن سيطرة الدولة، تقلصت قدرة الهيئات الحكومية على الوفاء بالاحتياجات الأساسية لهذه المناطق، ونشأت تنظيمات بديلة خاضعة للميليشيات المسلحة قامتبصك النقود، وفرض الضرائب، وإدارة الخدمات التعليمية والصحية، وحفظ الأمن، وتنظيم القضاء في المناطق التي سيطرت عليها(6)
أما بالنسبة للدول العربية التي لم تتعرض أركان الدولة فيها للتهديد، فقد اختبرت شكلين مهمين آخرين من الاضطراب والأخطار: أولهما: سياسي / أمنى يتمثل في خطر الأفعال الإرهابية مثلما هو الحال في مصر، التي شهدت خطرًا منظمًا ومتواصلاً خلال الفترة من 2012-2017، أو الحال في تونس والمملكة العربية السعودية والكويت بشكل أقل حدة. وثانيهما: اقتصادي / اجتماعي يتمثل في خطر تدني معدلات النمو الاقتصادي، والتفاوتات بين الطبقات والمناطق أو الجهات، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب؛ مثل الحال في مصر وتونس والأردن والسودان.
وأدى مجمل مظاهرالاضطراب إلى أن تصبح بعض الدول العربية أو أجزاء منها "غير قابلة للحكم"، مما دفع أحد الباحثين بوصف هذه الحالة بـ "الجيوبولتيك المظلمة الجديدة في الشرق الأوسط"(7)، وأن هذه المنطقة هي"مرجل النزاعات المسلحة" في العالم.
ثانياً: مصادر الاضطراب العربي
بناء على هذا العرض لمظاهر الاضطراب العربي وتجلياته، يكون من المهم إثارة السؤال عن مصادر هذا الاضطراب والعوامل التي أسهمت في وجوده.تعود هذه العوامل إلى سمات ظروف نشأة الدولة العربية وتكونها، وطبيعة مجتمعاتها، والضغوط التي خضعت لها.
ويمكن عرض أهم هذه السمات فيما يلي:
- ضعف الأطر المؤسسية والحكم الرشيد:
اتسمت النظم السياسية في الدول العربية عموماً بغياب القواعد والأسس التي يقوم عليها "الحكم الرشيدGood Governance"، وضعف الأطر المؤسسية التي هي أساس كل نظام سياسي واجتماعي، وتجلى ذلك في عدم الالتزام بحكم القانون وتطبيق قواعده على الجميع دون تمييز أو محاباة، وغلبة الاعتبارات الشخصية في إدارة أمور الدولة، مما أدى إلى تراجع مبدأ الجدارة والكفاءة في اختيار القيادات وشغل المناصب، وانتشار ممارسات الفساد والزبانية السياسية والاجتماعية.
- تسييس التعددية الاجتماعية:
يشير مفهوم التعددية الاجتماعية إلى تنوع التكوينات التي توجد في دولةٍ ما على أسس قومية ولغوية ودينية وطائفية أو مذهبية، وهو ما يطلق عليه عموماً بالتعددية الإثنية(8). في هذا السياق يشهد أغلب الدول العربية مختلف صنوف التعددية الاجتماعية. من المهم التذكير هنا بأن هذه التعددية هى سمة أو صفة لصيقة بكثير من مجتمعات دول العالم، وأنه لا يترتب عليها بالضرورة تداعيات سياسية سلبية، فبعض دول التعددية الاجتماعية حققت درجة عالية من التكامل الوطني والسياسي، وتبنت الصيغ السياسية المناسبة لتحقيق التعايش بين مكوناتها بما يحفظ لها حقوقها الثقافية والقومية، بينما فشلت أخرى في ذلك، فعانت من الاضطرابات والتوترات السياسية، وأصبحت التعددية الاجتماعية مصدرًا للصراعات والخلافات فيها مثلما حدث في العراق والسودان. وعندما تنفجر تلك الانقسامات وتبرز الولاءات التحتية والهويات الفرعية، فإن المجتمع يشهد مجموعة من "الصراعات الاجتماعية الممتدة" Social protracted conflicts أو ما نسميه "تسييس التعددية الاجتماعية".
وليس من المبالغة القول:إن أغلب الدول العربية قد شهدت في العقدين الأخيرين كثيراً من الاضطرابات التي ترجع إلى تسييس وعدم توفير مؤسسات التمثيل والتعبير لكل مكونات المجتمع، وإعطائها الفرصة للمشاركة العامة.
- سياسات تنموية تمييزية:
لم تؤد السياسات التنموية التي اتبعتها كثير من الدول العربية إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام وعادل؛ ففي بعض الأحيانكان من شأن السياسات المتبعة نقل الفائض الاقتصادي من الريف إلى المدينة مما أدى إلى افقار الريف وتدهور أوضاع الفلاحة والفلاحين. وفي أحيان أخرى تراوحت السياسات بين التصنيع بهدف إحلال الواردات والتصنيع بهدف التصدير للخارج، كما تراوحت بشأن العلاقة بين القطاعين العام والخاص والتعاون بينهما في عملية التنمية. واتسم العديد من هذه السياسات بعدم العدالة الجغرافية والتمييز بين المناطق والأقاليم.
وشهدت الحقبة الأولى من القرن الحادي والعشرين توسع أغلب الدول العربية في تبني سياسات التحول إلى الاقتصاد الرأسمالي، وبيع وحدات القطاع العام بما شابه من عمليات فساد وانحراف. وأدت هذه السياسات إلى التهميش الاقتصادي والاجتماعي لدائرة واسعة من المواطنين، وازدياد تأثير الثروة على السلطة والتداخل بينهما، وذلك في غياب قواعد قانونية لمنع التعارض بين المصالح، ومقاومة أصحاب المنافع لإجراءات الحكومة الساعية إلى تنظيم السوق لضمان المنافسة ومنع الاحتكار أو حماية حقوق المستهلك، أو فرض ضرائب على مصادر أرباح رأس المال في أسواق المال والبنوك.
وأدت هذه الممارسات إلى شعور قطاعات من الناس وخصوصاً الشباب بالحرمان النسبي وعدم العدالة الاجتماعية والاغتراب السياسي، والتي كانت بدورها من أهم أسباب التحركات والانتفاضات الشعبية التي شهدتها بعض الدول العربية في عامي 2010/2011، وكان لها تداعياتها على عموم دول المنطقة.
إضافة إلى مظاهر الاضطراب العربي على المستوى الداخلي حدث اضطراب مماثل في العلاقات بين الدول العربية كانت له مظاهره من حقبة الخمسينيات من القرن العشرين؛ ولكن مع نهاية هذا القرن بلغت هذه الصراعات مستويات جديدة، فتتالت الأحداث الجسام التي عمقت حالة الاضطراب العربي والتي كان في مقدمتها غزو العراق للكويت 1990، وكان لهذا الحدث آثار عميقة، ففتح الباب لموجة من الانقسامات العربية، وازدياد أفكار التطرف، وتقسيم المجتمعات العربية على أسس طائفية ومذهبية.واستمرت التباينات العربية بشأن التعامل مع الأزمة في سوريا واليمن، وكذلك استراتيجية التعامل مع إيران.
ثالثاً: العرب ووضع نهاية لحالة الاضطراب
بعد استعراض مظاهر الاضطراب ومصادره، يهدف هذا الجزء من البحث إلى عرض بعض التصورات والسياسات التي تساعد على مواجهة تأثيرات العوامل التي أوجدت حالة الاضطراب، والعمل على إيجاد البيئة المناسبة لتحقيق الاستقرار.
ويمكن تحديد أهم تلك التصورات والسياسات في خمسة أشياء تدور كلها حول إقامة نظام الحكم الرشيد، والتي تتمثل فيما يلي:
- سيادة حكم القانون:
ارتبط ظهور الدولة الوطنية الحديثة بالانتقال من النشأة المقدسة للدولة والحق الإلهي في الحكم إلى دولة العقد الاجتماعي، التي تقوم على أساس التراضي بين المواطنين، وقبولهم لسلطتها ومشاركتهم في تسيير أمورها ومؤسساتها في إطار من حكم القانون.ويعدّ حكم القانون Rule of law أحد الأسس الرئيسة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، فالقانون بحكم تعريفه هو قاعدة عامة ومجردة، بمعنى أنه يخاطب عموم المواطنين والمقيمين في الدولة ويطبق عليهم جميعاً دون تمييز، وأنه ينطبق على جميع الوقائع والحالات التي يتضمنها، ويكون على الأجهزة المسؤولة تطبيق القانون على كل الحالات التي تندرج في إطاره.
يؤكد حكم القانون مجموعة من المبادئ والقيم، منها المساواة بين كل الخاضعين لأحكامه، والعدالة في إيقاع العقاب أو الثواب على الكافة، والبعد عن الشخصانية والأهواء الفردية في الحكم على الناس. لذلك يتردد عن دول النظم الديمقراطية الراسخة أنها دول تحكمها القوانين وليس الأفراد. وحكم القانون ليس مجرد شعار؛ وإنما يتطلب لتحقيقه وجود هيئات تشريعية تقوم بإصدار القانون المعبر عن احتياجات المجتمع، وهيئات تنفيذية تقوم بتطبيقه وتخضع للمحاسبة والمراقبة، وهيئات قضائية مستقلة تقوم بحسم الخلافات حول تطبيق القانون بين الأفراد فيما بينهم أو فيما بينهم وبين هيئات الحكومة.
يمثل حكم القانون هدفاً ينبغي على الدول العربية، العمل على استكمال تحقيقه، فمع أنه يوجد في أغلبها نظم قانونية وقضائية فإنه تعتورها مثالب عدة؛ مثل عدم الأخذ بمبدأ تلازم السلطة بالمسؤولية، وأن كل شاغل سلطة يكون مسؤولاً عن عواقب القرارات التي يتخذها، وعدم استقلال القضاء وخضوعه أو تأثره باتجاهات السلطة التنفيذية.
- إقرار مبدأ المواطنة:
تبين خبرات عملية تكوّن الدولة ضرورة التمييز بين "الدولة" ككيان قانوني يتمتع بعضوية المنظمات الإقليمية والدولية، و"الدولة" بالمعنى السوسيولوجي أي امتلاكها للسمات القيمية والمعنوية والمؤسسية للدولة Stateness or Statehood . ومن أهم السمات القيمية التي تستند عليها الدولة الحديثة هي مبدأ المواطنة، وهو المبدأ الحاكم في تنظيم العلاقات بين الدولة ومواطنيها.
وللمواطنة عدة تعريفات أو مستويات متداخلة، أولها: مستوى قانوني، يعبر عنه مفهوم الجنسية، فالمواطنون هم الأشخاص الذين يتمتعون بجنسية الدولة. وثانيها: حقوقي، ويشير إلى الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتمتع بها المواطنون دون سواهم من المقيمين على أرض الدولة، مثل الحق في التصويت في الانتخابات العامة والمحلية، وحق الترشح في المجالس التشريعية والنيابية وعضوية الأحزاب السياسية، وواجب الخدمة العسكرية في جيش الدولة أو ما يسمى أحياناً "خدمة العلم". وثالثها: نفسي معنوي، ويشير إلى ارتباط المواطنين بالوطن الذي تمثله الدولة، والتعلق العاطفي برموزها كعَلَمها وجيشها ونشيدها الوطني، وغلبة مشاعر الانتماء الوطني على الولاءات الفرعية، وكل ذلك يؤدي إلى تكريس سمات الدولة وزيادة شرعيتها، وكلما زادت شرعية الدولة توفرت بيئة الاستقرار الاجتماعي والقدرة على العمل المشترك.
وهكذا، فإن المواطنة هي العروة الوثقى التي تربط بين الفاعلين المختلفين – أفراد وجماعات - بغض النظر عن اختلافاتهم الإثنية، وهى علاقة بين المواطن والدولة تسمو على تلك الاختلافات والتباينات، وهى أساس الحقوق والواجبات العامة للمواطنين، وأساس الولاء للدولة الذي يتجاوز الولاءات والهويات الإثنية.
إن الخروج من مرحلة الاضطراب العربي يتطلب تأكيد مبدأ المواطنة باعتباره الركيزة التي تقوم عليها الدولة، وتضمن انتماء المواطنين لها، ولكى يتحقق ذلك فإنه من الضروري تبني مجموعة من السياسات في عدد من المجالات مثل إصلاح مناهج النظام التعليمي، وبالذات في مراحله الأولى بهدف غرس قيم الانتماء الوطني والتسامح وقبول التنوع والاختلاف، والمساواة بين جميع المواطنين، وقيام المؤسسات الدينية والفكرية بتصحيح المفاهيم المغلوطة، ومراجعة التشريعات للتأكد من التزامها بالمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، وأن يكون التعيين في الهيئات الحكومية على أساس الجدارة والاستحقاق دون أيسبب آخر.
يمثل تأكيد مفهوم المواطنة وممارساتها أحد سبل معالجة الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي يعانيه كثير من الدول العربية، وأحد جوانب استراتيجية الخروج من هذا النفق المظلم.
- التعددية الاجتماعية وتصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع
تنطلق الأدبيات الحديثة في دراسة طبيعة الدولة وقدرة مؤسساتها على القيام بوظائفها وتحقيق استقرارها من ضرورة فهم العلاقة الوثيقة بين الدولة ومجتمعها، وإدراك التأثيرات المتبادلة بينهما، فمن ناحية، تتأثر سمات الدولة بطبيعة المجتمع الذي نشأت فيه وثقافته وموارده الاقتصادية، ومن ناحية أخرى، تؤثر الدولة على المجتمع وثقافته واقتصاده والتوازن بين القوى الفاعلة فيه، فالتفاعلات المجتمعية لا تحدث في فراغ ولا تمارس تأثيرها بشكل مستقل، وإنما في سياق الإطار القانوني والمؤسسي للدولة، فسلوك الأفراد وحركة الجماعات ينبعان من التقاء المجتمع والدولة(9). يرتبط بذلك أنه لا يمكن تفسير لماذا تبدو بعض الدول قوية والأخرى ضعيفة-أو لماذا تتمتع مؤسسات بعض الدول بالشرعية والفاعلية على خلاف مؤسسات دول أخرى- إلا بفهم شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع(10).
وفي هذا السياق- برز مفهوم "التمكين المتبادل" Mutual empowerment بين الدولة والمجتمع، وجوهره أن العلاقة بينهما هي علاقة تكامل وتواصل(11)، فزيادة قوة الهيئات والمؤسسات الاجتماعية لا يضعف الدولة بالضرورة. وبالمنطق نفسه، فإن زيادة قوة الدولة ليست قيدًا على المجتمع بالضرورة، بل على العكس تمامًا، فإن التمكين المتبادل بينهما يؤدي إلى إطلاق قيمة مضافة وقوى جديدة تتجاوز القوة الخاصة بكل منهما Synergy.
وترتب على تبني مفهوم التمكين المتبادل أن تغيرت صورة الدولة المنشودة من الدولة المسيطرة أو الوصية على المجتمع إلى الدولة المتفاعلة والمتعاونة مع مجتمعها لتحقيق الرفاهية الاجتماعية والأمن الوطني. فالمطلوب هو وجود دولة قوية ومجتمع قوي يتميز كل منهما في علاقته بالآخر بالجمع بين الاستقلال النسبي والتداخل Embedded autonomy. ويعدّ هذا الوضع متطلبًا لإنجاز مهام التنمية الاقتصادية والسياسية، فالتنمية الاقتصادية تتطلب وجود دولة قوية تعبر عن الصالح العام ،وقادرة على ضبط المصالح الخاصة والأنانية والاتجاهات الانقسامية لبعض التكوينات الاجتماعية، بينما تتطلب التنمية السياسية مجتمعًا قويًا يحقق المشاركة الشعبية ويصون الفضائل المدنية.
وهكذا فإن التحدي الذي تفرضه التعددية الاجتماعية يتمثل في البحث عن الصيغة (أو الصيغ) السياسية الملائمة بما يضمن للتكوينات الإثنية حقوقها وأمنها، ويحقق للدولة وحدتها وأمنها، ويوفر للمجتمع تماسكه واستقراره. فالمهم هو حسن إدارة الدولة للتعددية الاجتماعية، والعمل على بناء هوية وطنية مشتركة تعلو الهويات الفرعية دون إنكار أو إقصاء لها وتؤكد على مبدأ المواطنة، ويكون ذلك بالاستفادة من السياسات التي ثبت نجاحها في دول أخرى واجهت التحدينفسه، والتي تراوحت بين اللامركزية والفيدرالية وغيرها من سياسات التكامل الاجتماعي وتقاسم السلطة والاختصاصات، وأن تراعي ذلك في بناء مؤسساتها وتصميم سياساتها(12)
وعلينا أن نتذكر أن قوة الدولة إزاء مجتمعها وشعبها لا تنبع من قدراتها الأمنية والقمعية والإكراهية، بل من قدراتها التمثيلية والرمزية والخدمية، والتي تتأسس على تنمية رأس المال الاجتماعي، وتطوير المؤسسات بهدف زيادة المشاركة الشعبية، وتعميق ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة ونظامها السياسي.
إن الاعتراف بالتعددية الاجتماعيةوتصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع في الدول التي تواجه حالات حادة من الاضطراب هو شرطٌ أساسي لإعادة بناءمؤسسات الدولة، وزيادة قدرتها على تحقيق تكاملها الوطني والإقليمي.
- إصلاح المؤسسات العامة:
يعدّبناء المؤسسات أحد السمات الرئيسة للمجتمع والدولة في العصر الحديث، فالمؤسسات هي الآلية المنتظمة والمستمرة لتطبيق القانون وتنفيذ السياسات العامة. وعندما تزداد كفاءة مؤسسات الحكم والإدارة في أداء مهامها يزداد الرضاء الشعبي عنها وتتعمق شرعية النظام السياسي. لذلك أكدت تقارير المؤسسات الدولية ونتائج البحوث العلمية على ضرورة أن تكون مؤسسات الحكم أكثر قربًا من الشعب، وأن تقدم خدماتها بكفاءة وبأقل تكلفة على المجتمع، وذلك في إطارالقانون وخضوعها للمحاسبة.
إن الخروج من حالة الاضطراب العربي يتطلب مراجعة لأداء مؤسسات الحكم والإدارة في الدول العربية بهدف رفع كفاءتها وزيادة فاعليتها، وذلك باتباع سياسات الإصلاح المؤسسي، التي تتضمن إعادة النظر في القوانين المنظمة لعملها، ورفع كفاءة العاملين بها من خلال التدريب والفصل بين تقديم الخدمة وتقييمها، وتنظيم العلاقة مع القطاع الخاص والتعاوني وهيئات المجتمع المدني. ومن المهم في هذا الصدد التأكيد على الطابع المدني للمؤسسات الحكومية، والتمييز بين المجالين السياسي والديني بوضوح؛ وذلك لأن الخلط أو التداخل بينهما يعطل بناء الهوية الوطنية، ويمكن أن يؤثر سلبًا على حقوق المواطنة.
لقد كشف الوضع في الدول العربية التي تبنت سياسات التحرر الاقتصادي دون تقدير كاف لعواقبها السياسية والاجتماعية عن نتائج سلبية؛. لذلك فمن الضروري أن تتفهم النخب الحاكمة احتياجات جمهرة المواطنين من الفقراء ومحدودي الدخل، وأن الدولة في كل الظروف والأحوال تظل مسؤولة عن توفير المنافع العامة أو العمومية الضرورية في المجتمع، وعن المؤشرات الكلية للاقتصاد، وعن تطبيق التشريعات الخاصة بمنع الاحتكار وضمان المنافسة، وحماية الفقراء ومحدودي الدخل من غيلة ارتفاع الأسعار، وذلك بتطوير مؤسسات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي الشامل، والالتزام بالحد الأدنى للأجور.ويكون ذلك كله بهدف تحقيق التنمية المستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية والجهوية أو المناطقية.
- تجاوز المفهوم الضيق للدولة المركزية:
لفترة طويلة ساد في عديد من الدول العربية مفهوم مركزي وضيق لإدارة الدولة، كان من شأنه أن تركزت السلطات وعملية اتخاذ القرار وتحديد الأولويات في العاصمة،ولم يكن للمحافظات والمديريات دور سوى تنفيذ السياسات والقرارات الصادرة من المركز. وأثبتت الخبرة العملية أنه قد ترتب على هذا المفهوم أخطاء فادحة في تحديد الأولويات وتخصيص الموارد في كل منطقة أو جهة، مما أدى إلى تعثر عملية التنمية، وعدم تحقيقها لأهدافها المرجوة، وأكد ضرورة مشاركة السلطات والهيئات المحلية في المستويات الإدارية الأدنى في عملية تحديد الأهداف والأولويات، فسكان أي قرية أو مدينة أو مركز إداري وهيئاتهم الاجتماعية هم الأكثر قدرة على تحديد الاحتياجات الخاصة بهم، واختيار الحل أو البديل الأكثر مناسبة في إطار الموارد المتاحة.
أضف إلى ذلك أن مشاركة الهيئات المحلية المعينة والمنتخبة والتطوعية يجعلها مشاركة في تحمل مسؤولية ما تتخذه من اختيارات وقرارات، وأكثر حرصاً على نجاحها، مما يؤدي إلى تحفيز المواطنين على التطوع بالوقت أو المال، وازدياد مبادرات التمويل الذاتي في تنفيذ بعض المشروعات وإدارتها.
هذه هي بعض المقترحات بشأن السياسات والتوجهات الاستراتيجية للخروج من الدوامة المفرغة للاضطراب العربي. وبالطبع فإن تطبيقها وشكل الأخذ بها يختلف من دولة عربية لأخرى وفقاً لظروفها وسياقها، وتزداد أهميتها في الدول التي واجهت أعتى أشكال الاضطراب في شكل اقتتال أهلي، وحروب بالوكالة، وصراع إقليمي ودولي، وذلك في مرحلة العمل على الوصول إلى حل سياسي ثم في مرحلة التعمير وإعادة البناء.
ومن الأرجح أن حالة الاضطراب العربي لن تنتهي بين عشية وضحاها، وأن العوامل الداخلية والإقليمية والدولية لاستمرارها مازالت قائمة، ولكن درس التاريخ أن كل حرب لها نهاية، وكل صراع له خاتمة، وأنه يأتي وقت يصبح استمرار الحرب أو الصراع أكثر تكلفة من العائد المتوقع من الانتصار فيه؛ لذلك فمن المهم أن يكون هناك تدبر وتفكير في مرحلة ما بعد الاضطراب العربي، وأن يتم الوصول إلى توافق عام بشأن المستقبل.
المصادر والمراجع:
المراجع والمصادر:
-
انظر: James N.Rosenau, Turbulence in World Politics. A Theory of Change and Continuity (Princeton: Princeton University Press, 1990)
-
طور هذا المفهوم الأستاذ صمويل هانتجتون مبكراً في : Samuel P. Huntington, Political Order in Changing Societies (New Haven: Yale University Press. 1968).
-
انظر: Robert Jackson, Quasi States, Sovereignty; International Relations and the Third World (Cambridge: Cambridge University Press, 1994).
-
د. عبد المنعم سعيد، "نظرة على خطر الدول العربية الفاشلة"، الشرق الأوسط، 2 سبتمبر 2009. ويضيف د. مأمون فندي تعبير "الدولة البدينة" Fat State، ويشير بها إلى حالة الدولة التي تتسم بالاسترخاء وضعف قرون استشعارها، والتي تعاني من جمود مؤسساتها السياسية باسم الاستقرار، والتي يهتم أهلها بتوافه الأمور وهوامشها حتى تصبح قضايا مهمة بحكم التكرار. مقال بعنوان "الدولة البدينة أو الـ Fat State"، الشرق الأوسط، 27 سبتمبر 2010.
-
انظر: Suzanne E. Rice and Stwart Patrick, Index of State Weakness in the Developing World (Washington: the Brookings Institution, 2008).
-
انظر: Marina Ottaway, ISIS: Many Faces, Different Battles, Wilson Center, Middle East Program, Occasional Paper Series, Winter 2015.
-
انظر: Hoashang Amirahmadi, The Dark New Geopolitics of the Middle East, The Cairo Review of Global Affairs, The American University in Cairo, School of global Affairs and Public Policy, March 30, 2015.
-
انظر: Joseph Rudolph, Politics and Ethnicity: A Comparative Study (New York: Palgrave Macmillan, 2003), pp. 1-5 and Stefan Wolff, Ethnic Conflict: A Global Perspective (New York: Oxford University Press, 2006), pp. 5-15.
-
انظر: Theda Skopcbol, "Bringing the State Back in: Strategies of Analysis" in Evans et al, Bringing the State Back In (New York and Cambridge: Cambridge University Press, 1985), p.27.
-
انظر: Joel S. Migdal, Atul Kohli and Vivienne Shue, eds., State Power and Social Forces: Domination and transformation in the Third World (New York: Cambridge University Press, 1994), pp.1-6.
-
انظر: Xu Wang, "Mutual Empowerment of State and Society. Its Nature, Conditions, Mechanisms, and Limits", Comparative Politics, Vol. 31, No.2 (January 1999), pp. 231-249, and Peter Evan, ed., State – Society Synergy; Government and Social Capital in Development, Research Series, No. 94, International and Area Studies, the University of California at Berkeley, 1997.
-
انظر: Anthony Oberschall, Conflict and Peace Building in Divided Societies: Responses to Ethnic Violence (Oxford: Routledge, 2007).