زينب الكلبانية
في مقاله "النبوءات والرؤى والمراثي المتعلقة بفتح المسلمين للقسطنطينية سنة 1453م"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، يُشير الكاتب حاتم الطحاوي إلى قضية حساسة ومهمة، مرتبطة بأثر الصراع الإسلامي/المسيحي ليس على الصعيد السياسي والعسكري فقط؛ بل كان صراعا ثقافيا ودينيا اعتمد كافة الأدوات والآليات الثقافية. وهو الأمر الذي تجلى في الصراع العثماني/البيزنطي الذي حشد فيه الطرفان كافة أسلحتهما من أجل حسمه، ظهر فيها سلاح النبوءات والرؤى المتعلقة بمدينة القسطنطينية.
كان حديث الرسول الكريم: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش"، هو الوقود الذي قاد حملة مسلمة بن عبدالملك في حصاره للقسطنطينية سنة 717م، وقاد العثمانيين لحصاراتهم المتتالية لمدينة القسطنطينية 1394-1402م، 1422م، ثم حصار واقتحام المدينة سنة 1453م بقيادة محمد الثاني، الملقب بمحمد الفاتح؛ حيث كان الفتح لسببين؛ الأول: أنه ضمن خطة توسع الدولة العثمانية وامتدادها، والثاني: لاعتقاد محمد الفاتح أن المدينة مركز للتآمر الأوروبي على الدولة العثمانية والمسلمين، وسبب رئيسي للعديد من الفتن والحروب الأهلية، إضافة إلى كونها مدينة ذات موقع إستراتيجي مهم بين قارتي أوروبا وآسيا.
واستعدادًا لفتح القسطنطينية، عقد محمد الفاتح اتفاقيات مع البندقية، وجنوه، وفرسان القديس يوحنا في رودس، حتى لا يجد إمبراطور المدينة قسطنطين الحادي عشر حليفا له، وحاصر بعدها المدينة ببناء قلعة أورملي في البوسفور على الجانب الأوروبي، ثم منع التمديدات من الوصول إلى القسطنطينية، وأشرف على وصول السلع إلى الدولة العثمانية، كما بنى مدافع كبيرة للحصار أطلق عليها اسم المدافع الملكية. وعندما أرسل الإمبراطور قسطنطين مفاوضين لمنع محمد الفاتح من حصار المدينة قطع الأخير رؤوسهم، مما أذن بقيام الحرب. استمر حصار المدينة 45 يوماً في العام 1453؛ حيث هجم محمد الفاتح على المدينة من الشمال والغرب، وضربت المدافع الملكية أسوار المدينة، ودخل العثمانيون إلى المدينة من باب رومانوس، وقتل الإمبراطور قسطنطين، وفتحت الدولة العثمانية القسطنطينية في 29 من شهر مايو لعام 1453، وكان لهذا الفتح آثار كبيرة جدًّا في العرب والمسلمين وأوروبا كذلك.
أما عند الحديث عن النبوءات والرؤى المتعلقة بمدينة القسطنطينية، فهناك العديد من الأحاديث المتواترة من الجانب الإسلامي؛ أهمها: حديث رواه الإمام البخاري في صحيحه: "قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت: يارسول الله أنا فيهم؟ قال: أنتِ فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر (القسطنطينية) مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا".
كما ذكر أن الأحاديث المتعلقة بفتح القسطنطينية جاءت على نوعين: الأول مطلق وقبل فتح مدينة روما حسب حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. "عَنْ اَبُي قَبِيلٍ؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسُئِلَ: أيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ اَوَّلًا: الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ اَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُاللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حِلَقٌ؛ قَالَ: فَاَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، قَالَ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ اِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ اَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ اَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ اَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ".
أما النوع الثاني من أحاديث فتح القسطنطينية، فيقرن بفتحها قبيل زمن الدجال، ووقت الملحمة، ويكون بالتكبير، وينطبق على من يفتحها آخر الزمان. كما ذكر ابن تيمية أن البخاري قد روى في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له. قال: أول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
ولا يمكن إغفال دور الأحاديث النبوية الشريفة حول القسطنطينية في إثارة حماسة المسلمين لفتحها بداية من القرن الثامن الميلادي، وما الحملات التي قام بها الأمويون؛ إلا تجسيدا لمحاولة تحقيق حديث الرسول الكريم، ولعلنا وجدنا ذكرا فيما سبق للقائد الأموي مسلمة بن عبدالملك الذي ضرب حصاره حول المدينة خلال الأعوام 716-718م.
أما على الجانب المسيحي، فهناك العديد من النبوءات والرؤى المسيحية القديمة المتعلقة بمدينة القسطنطينية، منذ نشأتها، بأوامر الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، كما نشأت العديد من النبوءات المتعلقة بسقوطها على يد أعدائها، قبل أن تعود لدحرهم لتستمر دورة حياتها من جديد، كما نشأ العديد من الأساطير حول الإمبراطور ودوره في الدفاع عن القسطنطينية، وعودته لإنقاذ المدينة من جديد. وكان من الطبيعي أن تحظى مسألة سقوط القسطنطينية عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في قبضة العثمانيين المسلمين باهتمام بالغ من المؤرخين المسيحيين المعاصرين، وركز العديد منهم على تلك الرؤى السابقة. فضلا عن الالتفات إلى بعض الشواهد الغريبة والمعجزات التي واكبت سقوط المدينة. ولأنهم اعتبروا أن زوال العاصمة البيزنطية هو حدث استثنائي، فقد تصوروا ضرورة وجود أحداث استثنائية مواكبة لهذا الحدث الجلل.
وعلى سبيل المثال: سوف نجد أن رواية الروسينسطور -إسكندر- الذي عاصر أحداث الفتح العثماني للقسطنطينية قد تماهت أحيانا مع بعض روايات شهود العيان الآخرين، الذين تحدثوا عن حدوث علامات إعجازية أثناء حصار القسطنطينية أشارت إلى قرب سقوطها في أيدي العثمانيين.
من ذلك ما حدث من علامة أصابت السكان بالرعب يوم 21 من مايو 1453م، دون أن يوضح لقرائه طبيعتها، أو دلالات حدوثها. على أنه يمكننا -بعد مقارنة ذلك مع باقي المصادر المعاصرة- أن نفسر ذلك بأنه قصد ما سبق أن أشار إلى حدوثه الطبيب البندقي نيقولو باربارو في السابعة مساء من ليلة 22 من مايو، حيث كان القمر بدرا، قبل أن يتحول فجأة ليصبح هلالا على الرغم من صفاء الجو وعدم وجود أي غيوم بالسماء. واستمرت هذه الظاهرة لأربع ساعات، بعدها أخذ حجم القمر في العودة لطبيعته ليعود بدرا كاملا في منتصف الليل، ويبدو أن ذلك كان تأكيدا على النبوءة القديمة التي نسبت للإمبراطور قسطنطين العظيم مؤسس مدينة القسطنطينية، الذي ذكر أن مدينته لن تسقط في أيدي أعدائها إلا عندما يتحول القمر إلى بدر معتم، ويعكس هذا ثقافة المؤرخين المستقاة من الأساطير السابقة المتعلقة بنشأة وسقوط مدينة القسطنطينية في الفكر البيزنطي.
كان من الطبيعي بالنسبة لمؤرخنا المسيحي الأرثوذكسي -الذي بدأ رحلته من أجل زيارة الأماكن ذات القداسة المسيحية في مدينة القسطنطينية- أن يهتم بنبوءات العرافين حول المصير النهائي للعاصمة الأرثوذكسية الأوروبية؛ خاصة الجزء الذي علق منها بصحوة المسيحية من جديد، وقيام الإمبراطور البيزنطي بهزيمة المسلمين، ومطاردتهم حتى الجزيرة العربية.
والحقيقة أن تلك النبوءات مثلت ملاذا للسكان البيزنطيين، فمن ناحية قررت حتمية سقوط المدينة من قبل، كما أنها بشرت أيضا بإمبراطور مسيحي، سوف يقوم من جديد باسترداد القسطنطينية وطرد المسلمين حتى بلادهم.
وفي الختام، نجد أن النبوءات والرؤى التي ظهرت من كلا الطرفين قد أثرت عليهم تأثيرا بالغا، على الرغم من التشكيك في صحة هذه الرؤى.