زينب الكلبانية
وضع الإمام محمد عبده مقدمة فقهية في بداية تفسير المنار؛ ليوضح الطريقة المثلى في فهم القرآن أولا، ويبين منهجه الخاص في ذلك الموضوع ثانيا، ويتناول بالنقد جملة التفاسير التي سبقته ثالثا، والتي حالت في رأيه دون فهم القرآن الكريم بعد أن صلُحت أنفس العرب بالقرآن؛ إذ كانوا يتلونه حق تلاوته في صلواتهم المفروضة، وفي تهجدهم، وسائر أوقاتهم.
ويقطع الإمام الطريق أمام منتقديه بتوضيح الفارق الجوهري بين ما يمكن تسميته بـ "علوم الوسائل" و "علوم الغايات" في فهم التفسير، وهو ما ناقشه الباحث محمد حلمي عبدالوهاب في مقاله المنشور بمجلة " التفاهم" إذ يرى أن أكثر ما ذُكر من وسائل فهم القرآن: فنون العربية، وإصلاحيات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن، كقواعد النحو والمعاني، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه، وهي كلها ضرورية.
وأمّا الروايات المأثورة على النبي وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير؛ فمنها ما هو ضروري أيضا، وأكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب، وكان الواجب جمع الروايات المفيدة في كتب مستقلة؛ كبعض كتب الحديث، وبيان قيمة أسانيدها، ثم يُذكر في التفسير ما يصح منها دون سند، كما يُذكر الحديث في كتُب الفقه.
وما يمكن استنباطه أن "تفسير المنار" لا يدخل قطعا ضمن الصنف المتعارف عليه بـ "التفسير بالمأثور"؛ وإنما يتم إدراجه ضمن "التفاسير العقلية الاجتماعية"، التي تؤمن بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم، أو ضمن المدرسة العقلية الحديثة في التفسير.
فمن جهة أولى، يُعرف صاحب التفسير"تفسيرالمنار" بأنه: هو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي يبين حكم التشريع، وسنن الله في الإنسان، وكون القرآن هداية للبشر في كل زمان ومكان، ويوازن بين هدايته وما عليه المسلمون في هذا العصر، وقد أعرضوا عنها، وما كان عليه سلفهم المعتصمون بحبلها، مُراعى فيه السهولة في التعبير، مجتنبا مزج الكلام باصلاحات العلوم والفنون، بحيث يفهمه العامة، ولا يستغني عنه الخاصة؛ وهذه هي الطريقة التي جرى عليها في دروسه في الأزهر حكيم الإسلام الإمام محمد عبده.
ومن جهة أخرى، فإنّ التفسير يعد امتدادا لما كان عليه الشيخ الإمام محمد عبده، واستاذه جمال الدين الأفغاني، لجهة المنهج في مجلة "العروة الوثقى"، وهو ما أشار إليه محمد رشيد رضا بالقول: وأهم ما انفرد به منهج العروة الوثقى في ذلك ثلاثة أمور: أحدها بيان سنن الله تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشري، وأسباب ترقي الأمم وتدنيها، وقوتها وضعفها.
ثانيها: بيانُ أنّ الإسلام دين سيادة وسلطان، وجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة؛ ومقتضى ذلك أنّه دين روحاني اجتماعي، ومدني عسكري، وأنّ القوة الحربية فيه لأجل المحافظة على الشريعة العادلة. ثالثها: أنّ المسلمين ليس لهم جنسية إلا دينهم، وأنّهم إخوة لا يجوز أن يفرقهم نسبٌ ولا لغة ولا حكومة.
كما أنّ كل تلك الجهود قد حومت بالأمة حول بعض شواطئ ذلك الكتاب المجيد المكنون، وقدمت شيئا من الفوائد، ولكنها قد قصرت عن الإلمام بمنطلق الكتاب؛ إذ هيمنت نسبية البشر على ذلك المطلق، وقيدته إلى مدركاتها الظرفية ومحدداتها الزمانية والمكانية، وسقوفها المعرفية، وقاسته على الكتب التي سبقته من بعض الوجوه، فأدى ذلك كله إلى بروز تفسيرات متضاربة، وتأويلات متناقضة، وفقه مختلف، وكلام متعسف، وأصول تمازجت بالفروع، وتحولت الوسائل اللغوية إلى مقاصد، بحيث صارت تتحكم أحيانا في لغة القرآن، وصارت تلك المعارف مقصودة لذاتها، واتخذت السنن النبوية – بدورها – معضدات، وشواهد ساندات لما سبره السابرون، وأصله المؤصلون لتلك المعارف والعلوم.
وقد اتخذ الإمام محمد عبده لنفسه منهجا يسير عليه في التفسير خالف به جماعة المفسرين، حيث أكّد أن فهم كتاب الله تعالى يكون من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين، وأنّ ما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو مجرد وسيلة لتحصيله. بمعنى أن تفسير القرآن عنه يقع في قلب مشروعه التجديدي لفهم القرآن والدين من خلال التحرر من قيود التقليد، وإفساح المجال أمام العقل في التفسير.
الإمام محمد عبده لم يجمد على ما كتب عند المفسرين القدامى، ولم يلغ عقله أمام عقولهم، بل كان يندد بمن يكتفي في التفسير بالنظر إلى أقوال المتقدمين، وكان حرا في تفكيره وفهمه للقرآن، وصريحا في نقده ونصحه للتفسير والمفسرين، جريئا في ثورته على القديم، ودعوته إلى التحرر بما أحاط بالعقول من القيود وما أوغلت فيه من الركود والجمود.
أما طريقته التي أمضى عليها فيه، فقد كان دأبه ألا يرجع إلى كتاب من كتب التفسير قبل إلقاء دروسه حتى لا يتأثر بفهم غيره من المفسرين، وإن كان يتوكأ أحيانا على تفسير الجلالين الذي هو أوجز التفسير، فكان يقرأ عبارته ويتخير منها ما يراه ملائما، ثم يتكلم في الآية أو الآيات المنزلة في معنى واحد بما فتح الله عليه من هداية وعبرة.
فالسنن الإلهية تستند إلى مبدأ، أو إلى قانون عام، يقيم ارتباطا ما بين العمل والجزاء، بحيث ينطبق هذا القانون أو تسري مفاعيله على الجميع من دون استثناء؛ فينطبق على الأمم كما ينطبق على الأفراد. ونتيجة لذلك؛ نجد أن كل من أجرم كما أجرم بنو إسرائيل سقط عليه من غضب الله ما سقط عليهم، فالله جل شأنه، لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختص بهم على أنهم من شعب إسرائيل، أو من ملة يهود؛ بل "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين، وما تتخذه من ملّة، فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم؛ بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة، إنما صدق الإيمان بالله تعالى بأن يكون التصديق به سطوعا على الأنفس من مشرق البرهان، أو جيشانا في القلب من عين الوجدان.
وفي الأخير، لقد ظلت رؤية الإمام محمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا، المتعلقة بالسنن الإلهية محكومة بإطار العقلانية، ومتسقة مع الدعوة القرآنية لضرورة إعمال مبادئ: التدبر، والتفكر، والتذكر. وقد أوضح الإمام نهجه الذي اتبعه في التفسير وغيره حين قال: إن العقل هو جوهر إنسانية الإنسان، وهو أفضل القوى الإنسانية على الحقيقة، ولقد تآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل، وتقرّر بين المسلمين كافة؛ إلا من لا ثقة بعقله، ولا بدينه. فالله يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم دون قيد ولا حد، والذي علينا اعتقاده، أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد، لا دين تفريق في القواعد، والعقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه.