زينب الكلبانية
بحسب منطوق القرآن فإنَّ الدين من عقائده الرئيسية التي تعني الإيمان بالوحدانية، والإيمان بالكتب والرسل، وأداء العبادة لله وحده، والإيمان باليوم الآخر، يوم الحساب بالمثوبة والعقاب؛ استنادا إلى سلامة الاعتقاد والعمل الصالح.
ولو تأملنا "نسب" الدين الواحد – إذا صح التعبير – لوجدناه يعود إلى نوح عليه السلام تدليلا على العراقة والتقدم، وكأن الأمة الواحدة التي تحدث عنها القرآن إنما دبّ الخلاف الديني بين صفوفها زمن نوح، فكانت تلك السلسلة من الأنبياء الهُداة ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويعيدوهم إلى عقيدة الوحدانية، وهذا ما ناقشه الباحث رضوان السيد في مقاله المنشور بمجلة التفاهم.
يقول السيد إن النسب الأقرب لدين التوحيد يعود إلى إبراهيم عليه السلام، والقرآن يخاطب أهل الكتاب الذين ينتسبون إلى إبراهيم بوصفهم شركاء المسلمين في الدين؛ لانتسابهم في العقائد الرئيسية إلى إبراهيم، ولذلك يقول مخاطبا الرسول الكريم والمسلمين: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
وقد جادل أهل الكتاب الرسول الكريم في أمرين: الانتساب إلى إبراهيم، والاحتكام إلى شرع الله. ولذلك قد أجابهم: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). فالمسألة ليست صلة نسب قربى، بل هو انتساب للدعوة؛ فكل من آمن بدعوة إبراهيم وما تضمنته هو إبراهيمي.
والمعروف أن المسيحيين يقولون بالنسب الروحي إلى إبراهيم مثل النبي صلوات الله عليه والمسلمين؛ في حين يصرّ اليهود على الانتساب القرآني بوصفهم أعقاب إبراهيم وأمة الله دون الخلق. أما الأمر الثاني – أي اتباع شرع الله – فقد أوضح القرآن الكريم أن لكل من أهل الكتاب شرعة ومنهاجاً بتقدير الله ومشيئته؛ لأنَّ الناس لن يعودوا أمة واحدة ذات شرعةٍ واحدة.
وكلٌّ من هؤلاء مكلفٌ باتباع شرع الله الذي أنزل على النبي من بني قومه. ففي سورة المائدة آيات من التوراة فيها هدى ونور، وكذلك الإنجيل. وهو يطلب من اليهود والنصارى أن يتبع كل منهم ما أنزل إليه، ولو فعلوا ذلك حقاً لما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم خلاف في الدين، بل اختلافٌ في الشرائع فقط.
إن منطق القرآن إذن أن الإسلام هو دين فكرة ودعوة. وأنه يعد نفسه ديانة إبراهيمية، ولذلك سعى للتواد مع أهل الكتاب أي (اليهود والنصارى) بالنظر إلى الشراكة في أصل الدين. على أن هذا المنطق الديني شاسع الجنبات؛ لأنه يريد أن يكون (في أصوله، أصول الفطرة) ديناً للناس جميعًا. وليس المعني بدين الناس الموافقة على الدعوة المحمدية بحذافيرها "لا إكراه في الدين" بل بالإيمان والعمل الصالح، وهما الصلة الوثيقة مع أهل الكتاب؛ لأنه لقاءٌ في أصل الدين. أما مع سائر البشر فهو التعارف.
إن التعارف هو الأقرب رشدا وهو الأقرب إلى الكلمة السواء التي يدعو إليها القرآن. ولذلك قال علي رضي الله عنه: الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.
إذا كنَّا نمتلك في معاني الوحدة والتعدد في الدين نصوصا قرآنية؛ فإننا نمتلك في التجربة السياسية للتعددية الدينية والإثنية أو القبلية تجربة النبي الكريم في المدينة؛ فهو عليه الصلاة والسلام لم يُشرف على إقامة كيانِ واحد فيه تعددية دينية وقبلية فقط؛ بل كتب في ذلك صحيفة أو كتابا أو دستورا تنظيميا عُرف باسم صحيفة المدينة أو عهدها. وهو كتاب "بين قريش وأهل يثرب ومن لحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون النَّاس".
ثم جاء في الكتاب أن "اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم". وقد اختلفت التفسيرات لمعنى كون اليهود أمة مع المؤمنين، ولا داعي للاختلاف. فالأمة تعني هنا الجماعة التي يجمعها دين واحد، وكذلك كان شأن اليهود، ولذلك فسّر الكتاب الأمة مباشرة بالقول: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. أما كونهم "مع المؤمنين" فهو أن يجمعهم كيان سياسي واحد لهم فيه حقوق وعليه واجبات والتزامات، ومن حقوقهم الاستقلال بدينهم، والمشاركة في الإدارة بمقتضى الدار الواحدة أو الكيان الواحد.
أما عند الحديث عن التعددية التاريخية الإسلامية والتعددية، يمكن القول إنِّه لم تختف التعددية الدينية عن سائر الديار التي انتشر فيها الإسلام منذ زمن أبي بكر الصديق إلى انقضاء الدولة العثمانية عام 1924؛ فقد وجد المسلمون – فاتحين وتجارا ودُعاة – مسيحيين ويهودا في الديار التي دخلوها في القرون الثلاثة الأولى بعد وفاة النبي الكريم.
وبحسب المصادر التاريخية فإنَّ المسيحيين ظلوا أكثرية في العدد فيما بين الشام والعراق ومصر وإسبانيا حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وعندما فتح العثمانيون البلقان والقسطنطسينية ونواحي من أوروبا الشرقية كانت الأكثرية مسيحية، وظلت كذلك حتى جلائهم عنها.
وعندما فرَّ اليهود من إسبانيا مع المسلمين آثروا اللجوء إلى أقطار الدولة العثمانية (القرن السادس عشر)؛ لأنهم كانوا يخشون الملاحقة في أوروبا الغربية والوسطى وروسيا. فلهذه الناحية ما أُكره أحدٌ على مغادرة دينه واعتناق الإسلام لا في زمن الخلافة، ولا في زمن السلطنات.
لكن في الأزمنة الحديثة، بل في الأقطار البيزنطينة من قبل، جرى التشهير بالإسلام دائما بوصفه دين عنف وإكراه، ولا يقبل الآخر الديني. والواقع أن مسألة الدعوة غير مسألة الإمبروطورية. فالإمبراطوريات الضخمة التي قامت في ديار الإسلام اتسعت لتعددية الشعوب والأديان منذ البداية. لكن "التمييز" بالمقاييس الحديثة طبعا ظل حاضرا في كل مكان. وما كان ذلك بسبب مسألة الجزية فقط؛ بل وفي القدر الذي كان مسموحا به لأهل البلاد الأصليين في المشاركة السياسية، وليس في الحريات الدينية والحريات الاجتماعية والاقتصادية.
أما عند الحديث عن الإسلام والتعددية الدينية في الزمن الحاضر، كان من المتوقع أن يواجه الفكر الإسلامي مشكلة مع التعددية الدينية بالذات. فمجتمعاته تعددية منذ القدم، وقد تأسس الوعي بالتعددية على القرآن الكريم الذي يصف التعدد الديني والعرقي والاجتماعي ويشترع له.
ولئن كانت التعددية في التجربة التاريخية قد واجهت بعض القصور بسبب ظروف الإمبراطورية وأمجاد الإسلام الهائلة؛ فإن أصلها (رغم التمييز) ظل موجودا وواضحا. وما كان من المنتظر أيضا أن يواجه الإسلام بتأويلاته الإصلاحية الجديدة مشكلة مع التعددية في مجتمعاته وفي العالم؛ لأنّ الدولة الوطنية على النموذج الأوروربي قامت في سائر أرجاء العالم منذ حوالي قرن. وهي تقول بالمواطنة والتعددية الدينية والثقافية وأحيانا السياسية، وتنتمي إلى نظام العالم، ولا تبدو في معظم تصرفاتها متصادمة مع الدين أو مع متطلبات الحداثة.
وأخيرا يمكن القول في هذه المقالة أن النضال لا يقتصر اليوم على مكافحة العنف والإرهاب، وهو ضروري؛ بل يتعدى ذلك للدفاع عن الدين، وعن اعترافه بالعالم، واعتراف العالم به. وفي الأزمات كما هو معروف يعود المرء إلى الثوابت والأصول المستقرة، وهي أن الإسلام دين دعوة بالحسنى -كما نصّ الكتاب – ونحن لا نريد أن نُخيف العالم، ولا نخاف منه.
وإذا كانت مجتمعاتنا متنوعة أو تعددية، فكيف نريد أن يكون العالم كله على شاكلة المتمردين منا، وهي شاكلة غير سليمة؛ لأن معظم المسلمين ضدها. وإذا كنا نواجه مشكلة "الآخر" القريب، أي في ديارنا؛ فكيف نريد من العالم أن ينصف المقيمين منا في دياره أو ديارهم؟ فمن بين المسلمين البالغ عددهم مليارا وستمائة مليون، هناك حوالي الثلث منهم يقيمون في ديار وبلدان غالبيتها من غير المسلمين! لقد قال سبحانه في مثل هذه الحالة: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ).