الصراع بين القيم والتقدم العلمي في عصر العولمة

رية الخزيرية

إنّ التغيرات التقنية التي تحدثها العولمة في مجتمعاتنا والتي تحصر اهتمامها بالتطور التقني المتجرد من الدين والقيم الأخلاقية تعتبر المسبب الرئيس لشعور الإنسان المعاصر بالإحباط وخيبة الأمل والشعور بالاغتراب، وعدم الانسجام لانفصال العلم عن قيمه الروحية والدينية وفقدانه للحوار والتعايش المشترك بين الشرق والغرب في ظل هيمنة الحداثة. هذا أهم ما ورد في مقال الكاتب محمد حلمي عبد الوهاب الذي نشرته مجلة التفاهم بعنوان "الدين والعلم والقيم: الصراع على المجال العام في أزمنة متغيرة".

يذكر الكاتب تنبؤ بعض العلماء من القرن الماضي ومنهم العالم السيوسيولوجي هلموت شلسكس بظهور دولة من نوع جديد تعتمد على التطور الإلكتروني، حيث ستكون إحدى نتتائجها ظهور حكومة إلكترونية تفرض طاعتها على الجميع، وبالتالي تلاشي مبدأ الديمقراطية والحق في إبداء الرأي، ويعلل الكاتب ذلك بأن "كل معارضة ضد الحقيقة المضمونة تقنيا ستكون لا عقلية".

من ناحية أخرى، يرى الكاتب أنّ هناك بعض المخاوف التي تنتاب رجال الدين والفلسفة والعلم من أنّ التقنية والعلم الحديث أو بما يسمى (بالعولمة) تسيطر على الإنسان ويصبح متجردا من القيم والدين؛ وذلك لأنّها تنصب على الاهتمام التقني البحت، ويؤكد الكاتب أنّ قوة العلم في الوقت الراهن لا تكمن في صحته وموضوعيته، وإنما في كونه أصبح مصدرا للتشكيك وعدم اليقين، مستدلا على ذلك برؤية كثير من المراقبين اليوم الذين يحذرون من" العدمية"، و" ضياع المعنى"، و"زوال القيم".

 وليس أدل على ذلك من أننا نعيش اليوم في مجتمعات إنسانية انهارات بها نظم القيم بفعل التغييرات المتضمنة "العلاقات الأسرية، وأنماط الإنتاج" مما يزج بالإنسان المعاصر إلى الإحباط وخيبة الأمل والشعور بالاغتراب، وأوضح الكاتب ذلك بأنّ هناك قيم ما بعد الحداثة والمرتبطة بتحولات عارمة يشهدها المجتمع الحداثي المنسلخ من المجتمع التقليدي المتميز بقيمه المتوارثة.

إنّ المخاوف ترتبط بعدم وجود مرجعية للقيم بحد ذاتها حيث إنّ ظاهرة العولمة أدت إلى ضياع البوصلة الأخلاقية المحددة لتلك القيم، ويذكر الكاتب أنّ تطور التقنيات، وهو العامل الحاسم وغير المتوقع، يخشى أن يؤدي بنا إلى إنسانية لا نعرف ماهيتها.

ثقافة الأزمة وأزمة الثقافة

يتأتى ذلك بانتقال الإنسانية من الرؤية التأملية إلى الفكر التقني، ومن الاهتمام بالجوهر الروحي الديني إلى الانشغال بالدوافع الغريزية، حيث يذكر الكاتب مرجعية القيم في الزمن الراهن ما إذا كانت تعود إلى "ضمير الفرد بوصفه مواطنا مدينا يعيش في دولة علمانية" أو إلى "منظومة القيم الدينية الكبرى التي توارثتها الجماعات البشرية"، حيث إنّ مواطن المجتمع العلماني الذي سيتحول إلى وحده لا يفكر إلا في مصالحه ولا يرى إلا حقوقه الذاتية، في مقابل ذلك فإنّ الدين وحده يمكنه أن يساعد على "الحداثة المتكسرة". ثمّة من يرى أنّ الدين إنّما هو عبارة عن نسق قيمي؛ فهو الإطار المرجعي الذي ينطلق منه الإنسان في تصرفاته فتؤثر على علاقته بنفسه أولا، ومع خالقه ثانيا، ومع الآخرين الذين يشاركون حياته ثالثا.

من ناحية أخرى تطرق الكاتب للثقافة الاجتماعية التي تعد بالإضافة إلى الدين عاملا مؤثرا على الفرد؛ فهما اللذان يكونان معظم تصوراته، ويؤثران في تصرفاته العملية، فمن خلالهما ينظر للقضايا الكبرى: الخير والشر، السعادة والشقاء، وأحوال الوجود الإنساني وأولوياته.

ويرى الكاتب ضرورة تلازم التدين مع تطور المجتمعات وأنّ ذلك لا يتعارض مع نمو العقل البشري وأنّ الإنسان ينقاد بعقله إلى التدين، أمّا إذا خشي المجتمع أن ينحرف الإنسان بعقله إلى مصالح فردية وبالتالي يعيق مصالح المجتمع فإنّ الدين هو الذي يردعه إلى الطريق الاجتماعي السليم "الصراط المستقيم".

ويترتب على ما سبق بأنّ واقع العلمانية في الوقت الراهن أصبح غير مقنع للإنسانية جمعاء وهناك شك وجدل عند البعض حوله، وكما أنّ هناك انعدامًا في الحوار بين الإنسان الشرقي الذي تمسك بدينه واعتبره محور حياته ومحركه، وبين الإنسان الغربي الحديث الذي لم يحركه الدين، فإنّ هناك أيضًا انعدام في الحوار بين الشرق والغرب بفعل الهيمنة التي فرضها الغربي على الشرقي. وفي ظل هذه الأوضاع التي يعيشها المجتمع الحديث، تراجع دور الدين في تسيير هذه المجتمعات التي لم يصبح الدين مصدرا تستمد منه تشريعاتها ومصدرا موجها للأخلاق؛ حيث أصبح كل فرد مرشدا أخلاقيا لنفسه.

الصراع على القيم

يتساءل الكاتب هنا هل التراجع عن القيم في المعتقدات الدينية هو حل للخروج من أزمة العلم في العصر الحديث؟ حيث ندرك بأنّ العلم سلاح ذو حدين يمكن اعتماده لفعل الخير أو اعتماده لفعل الشر، ويضيف الكاتب نظرة العالم ألبرت ريتشل الذي دعى إلى شعار " الدين للقيم والعلم للظواهر والحقائق" وإن كانت نظرته هذه قاصرة؛ لأنّ القيم متضمنة في كل الممارسات الإنسانية.

من جهة أخرى، يمكن القول بأنّ القيمة الإنسانية تصدر من ذات الإنسان لا من دافع خارجي متسم بالإكراه أو القوة (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم).

 

 

 

أخبار ذات صلة