زينب الكلبانية
شهدت الفترة ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين انقسامًا دينيًا حاداً في أوروبا، تحول على إثره وسط القارة وغربها إلى مسرح هائل للنزاعات والصراعات؛ فالتحولات التي بدأت تخترق النسيج الاجتماعي وتفرض نفسها كواقع جديد حينها – وهو ما لم تألفه الساحة – صاحبها بحثٌ قلقٌ عن سبل مُبتكرة للتعايش بين مختلف التعبيرات الدينية والسياسية الناشئة والقائمة.
وحدث هناك العديد من التداعيات والارتدادات العنيفة، لأمل الخروج من باراديغم القرون الوسطى إلى باراديغم الحداثة، ومن لاهوت منغلق إلى لاهوت منفتح، وشملت الأحداث حينها مختلف البلدان؛ فرنسا وهولندا وإنجلترا وأسكتلندا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى، وهذا ما ناقشه الباحث عزالدين عناية في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "الانقسام المسيحي ومعنى القبول بالتعددية الدينية". لقد ميز أوروبا طيلة القرون الوسطى، وإلى حدود حقبة الإصلاح البروتستانتي احتكار ديني جثم على قلب القارة، منع فيها أي تحول خارج الأطر اللاهوتية، التي ضبطتها الكنيسة الرومانية؛ لكن ذلك الاحتكار دبَّ فيه نوع من الانخزام جرّاء فتور داخلي، وتغيرات مسّت الحاضنة الاجتماعية والسياسية؛ فلطالما كان التحالف التاريخي بين الدين والسياسة – أو بالأحرى بين كنيسة روما والإمبراطورية الرومانية – حاجة تاريخية للطرفين، ولكن الإمبراطورية التي غربت شمسها توارثتها إمبراطوريات مُقدسة، لم تعمل على الخروج بالتحالف القديم بين الديني والسياسي إلى أفق أرحب؛ بل رسخت تلك الزيجة الأبدية سبيلاً للسيطرة والهيمنة والتمدد.
هناك العديد من الانقسامات الدينية ومنها سقوط الهيمنة المسكونية للبابا وتفتت سلطة الكنيسة، وثورة الطباعة وتحرر الكتاب المقدس من الاحتكار، واستشراء الفساد في أوصال الكنيسة، وسيطرة النبلاء على الإكليروس؛ وتدخل القانون الكنسي في الشأن الاجتماعي.
إذ لم يظهر التيار الاحتجاجي بغتة؛ بل سبقته إرهاصات دعت إلى الإصلاح، عبّر عنها جملة من اللاهوتيين والمُفكرين مثل أندريا كارلوستاديو وفيليب ميلانكتون ومارتن بوتزر، وغيرهم من المفكرين الآخرين.
ولكن اللحظة التاريخية الإصلاحية اللوثرية، التي عبّرت عن جوهر الانقسام في أوروبا ما كان هيّنا تطويقها، وما كانت هبة عابرة على غرار نظريتها السابقة، التي تعاملت معها روما بالحرمان، ونعوت الهرطقة والتجديف والانحراف والحرق، فقد مثلت نقيضا جذريا لروما استمر حاضرا إلى اليوم.
وفي تفسير ظهور الإصلاح في أوروبا تُطرح ثلاث فرضيات: أولها، فسر اللاهوتيون البروتستانت الأمر بأنَّ الكنيسة الكاثوليكية قد فقدت تدريجيًا تأثيرها جراء الفساد الأخلاقي والتردي القيمي الذي آلت إليه، وهو ما بات ملموسًا لدى العامة التي لحقتها آثار ذلك ابتزازا وإنهاكًا لاسيما بضريبة العشور وصكوك الغفران.
ثانيا، علل المؤرخون الحدث بأنَّ العوامل التاريخية أجبرت الكنيسة الكاثوليكية على الدخول في تحالفات، والمشاركة في سلسلة من الصراعات بين الدويلات الناشئة في أوروبا، حيث جرت الهزائم المتكررة تلك الدول الحليفة نحو الانحدار التدريجي لتأثير الكنيسة الكاثوليكية.
أخيرًا، بينت قراءة الاقتصاديين – التي عرضها آدم سميث 1776م – أن المسألة تتلخص في كون "المونوبولات" الدينية التي تدعمها الدول صارت تعرض نفسها بشكل غير لائق، مما فسح المجال لدخول منافسين يتمتعون بجدوى أوفر.
وفي واقع الأمر مثّل الإصلاح البروتستانتي كسرا لحاجز المشروعية الدينية، بعد التفاف تيارات عدة حول مطلبي "لا وسيط للخلاص إلا المسيح" و"كلٌ بنفسه كاهن"، الأمر الذي يسّر اقتحام السوق الواقعة في قبضة مؤسسة احتكارية وحيدة، تتمثل في الكنيسة الكاثوليكية.
لكن الوضع الجديد الذي برزت فيه كنيسة روما مشاركاً فاعلاً في تأجيج الخصومات الدينية ومباركتها، ما كان مقبولا لدى طائفة واسعة من المفكرين، فقد شكلت الإنسانوية المسيحية نقدا من داخل البيت المسيحي ومراجعة جادة للأفكار الداعمة للصراع.
قدّم إرازموس رؤية جديدة للحرب ومُوجباتها، ذاهبا فيها إلى أن الحروب المقدسة بمثابة عرض مجازي للصراع بين الفضيلة والرذيلة، وألغى بذلك مدلولها السياسي، وما يُمكن أن تستند إليه من مرجعية دينية. لكن ذلك الخط الذي نادى به إرازموس لم يلق ترحيبًا، لا سيما وأن التهديد التركي كان على الأبواب، ولكونه يلغي تراثا عريقا في الإكراه والإلزام طالما استندت إليه الكنيسة.
فقد أنشأت الحروب الدينية مناخاً جديدًا قطع مع الهيمنة الروحية والواحدية اللاهوتية اللتين سادتا طيلة قرون، وقلصت من ذلك التأثير الأخلاقي والسياسي الذي مارسه البابوات، ولذلك رفض الجانب البابوي التوقيع على معاهدة ويستفاليا.
فقد أوحى ذلك الصلح بشكل بين أنَّ الوقت قد حان لإقرار التسامح الديني، وهو ما قاد مع الوقت إلى حرية الضمير. ومن هذا الأفق دبّ التحول نحو إقرار الحرية السياسية، التي بدأت تترسخ في هولندا وإنجلترا وهو ما سيقود لاحقاً إلى تلك الحركة الفكرية الواسعة وإلى ذلك التقدم الكبير، الذي سيحضّر لاندلاع الثورة الفرنسية ولانبلاج العصور الحديثة.
وبشكل عام، انطلقت مع الحرية الدينية حركة ليبرالية قوية في جل القطاعات، وأساسا في المجالات السياسية والفلسفية والعلمية.
بحلول عام 2017م يكون قد مرّ على اندلاع أخطر فتنة دينية شهدتها أوروبا خمسة قرون، ولا تزال تبعات تلك الواقعة وتفاعلاتها سارية إلى اليوم، وفي محاولة لرأب الصدع ما فتئ العقلاء من الجانبين في مسعى دؤوب للتقريب بين الخصمين.
فالانشقاق بين الكاثوليك والبروتستانت – كما تعيش آثاره المسيحية – هو انشقاق اجتماعي ثقافي وتعليمي واقتصادي محموم إلى التاريخ الراهن. وبصرف النظر عما أحدثه الفعل البروتستانتي من تحرير للنشاط المسيحي من عديد الكوابح والجمود، ودفعه بالتحولات السياسية والاجتماعية في الغرب إلى آفاق أرحب.
على خلاف نظيره الكاثوليكي، وهو الرأي الذي بات مقبولاً في البلدان الكاثوليكية أيضا، مع انتشار طروحات ماكس فيبر ولفيف واسع من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع. مع ذلك لا يزال ثمة تصور غائم رائج إلى اليوم هو أنَّ البروتستانتية تتطابق مع الحرية والديمقراطية، وأن الكاثوليكية تتلاءم مع المحافظة والسلطة المطلقة.
وكما سبق أن أشرنا فإنه في عام 2017 استعاد اللوثريون والكاثوليك معاً ذكرى الإصلاح، بعد أن مرت على الحوار المسكوني بين الطرفين وعلى نطاق عالمي خمسون سنة، وسيدور التقارب حول الرسالة الإنجيلية للطرفين بوصف المسيح مركز الإيمان لديهما، ومن جانب آخر فمحاولة التعامل النقدي الذاتي مع ما جرّ إلى انقسام الكنيسة ليس في الماضي فقط بل في الحاضر أيضًا.
الكثير من الخلاصات اللاهوتية لمارتن لوثر باتت مقبولة من قبل الكاثوليك كما بين الحوار المسكوني. وصيغت خمسة عناصر لهذه الوثيقة تتمثل في ضرورة انطلاق الكاثوليك واللوثريين من منظور الوحدة لا من حال الانقسام لتدعيم ما يجمعهم معًا، حتى وإن كانت الاختلافات هي الأبرز، وعلى اللوثريين والكاثوليك أن يتهيأوا على الدوام للتحول أثناء لقائهم بالآخر تبعاً لشهادتهم الإيمانية؛ وعليهما أن يحددا معا الخطوات العملية، بما يقود إلى التطلع الدائم وبشكل متجدد نحو بلوغ ذلك الهدف.
لا ريب أن الانقسام كان صنيعة اللاهوت ولكن التعددية كانت نتاج ترسّخ المنظور المدني للدولة وزحف قيم الحداثة، فالتحولات الاجتماعية – ولا سيما في المجال السياسي – قد أجبرت الكنائس بمختلف لواهيتها على القبول بالتعدد كواقع اجتماعي تمليه الدولة المدنية بقوة القانون؛ إذ لم يأت القول بالتعددية كنضج داخل الدين، ولكن كواقع خارجي فرضته الدولة بوصفها حاضنة للجميع؛ فليست التعددية الدينية السائدة في الغرب اليوم متأتية جراء لاهوت ديني منفتح، وإنما هي عيش واقعي ألفه الناس وتواضعوا عليه داخل الدولة المدنية.