هاينز غاوبه
-
قاشان في المصادر الوسيطة العربية والفارسية:
قبل أن نُقبل على ذكر المصادر المكتوبة ينبغي لنا-بدءاً- أن نورد هنا بعض المعلومات عن موقع قاشان في حقبة ما قبل الإسلام. والحال أن أصل قاشانيعود إلى الأزمنة ما قبل التاريخية، وهي تقع على سهل خصيب تسقيه منابع ماء جارية، ومن أشهرها عين "فين" (كاشما سليمان) التي أدت إلى إقامة الموقع الأركيولوجي [المكون من هضبتين] المعروف باسم "تيبيسيالك"["تپه سیلک" بالفارسي] في نواحي الجنوب الغربي للمدينة الحديثة.
ولقد تم الكشف عن آثار الموقع الأركيولوجي "تيبي سيالك" أولاً من طرفجيرشمان ما بين أعوام 1933، 1934 و1937م [i]. وهو الذي- على غرار حالات عدة- عثر على ما أراد العثور عليه، وجعل من "سيالك" الحجة الأولى على الحضور الإيراني القديم على السهل الإيراني. وقد تم استئناف الاكتشافات الأثرية ما بين عام 1999 وعام 2004 م، وأسفرت هذه الاكتشافاتى-من بين ما أسفرت عنه- عن اكتشاف "زيغورات" (جبل اصطناعي أقيم عليه معبد) يعود إلى ما يزيد عن 5000 سنة، وعن آثار إقامة سكينة تعود إلى 5500-6000 قبل الميلاد.
والحق أننا لا نجد إشارة إلى قاشان في المصادر المكتوبة لما قبل الحقبة الإسلامية. على أن حضورها ما قبل الإسلامي يشهد عليه التقرير عن الفتح الإسلامي للمدينة من لدن الأحنف بن قيس عام 23 هـ/ 643 م[ii]. ولا شك أن أجزاء من مسجد جمعة المدينة يمكن أن تعزى إلى الحقبة ما قبل الإسلامية، كما أن أهمية منطقة قاشان في الحقبة الساسانية تدل عليها بقايا آثار معابد النار في ناطانزونياصار قرب قاشان. على أنه لا يمكن تحديد دور المدينة في النظام الإداري لآل ساسان على وجه الدقة؛ وذلك لأن النقوش النقدية الساسانية وكذا التوقيعات والكتابات التي تحمل اسم المدينة لا تزال غير معروفة إلى حد اليوم.
والحال أن الأخبار الأولى عن المدينة كما هي وعن حجمها وعن موقعها ... إنما نعثر عليها في كتب الجغرافيين "الكلاسيكيين" الوسيطين، من أمثال الإصطخري (توفي عام 975 م) وابن حوقل (ت. 988 م) والمقدسي (ت. 991 م)؛فالإصطخري وابن حوقل يوفران لنا أخباراً متناقضة عن قاشان في القرن العاشر الميلادي؛ إذ كتب الإصطخري أن قاشان مدينة صغيرة، وأن أغلب بيوتها مبنية بالطين[iii] (يعني بكتل من التراب وبلبنات من الطين)، بينما تحدث ابن حوقل عن قاشان بوسمها مدينة مهمة ذات عائد مكوس مرتفع[iv]. والأمر أجلى عند المقدسي، فقد كتب يقول:
"قاشان على تخوم المفازة، كبيرة الاسم قديمة الرسم، حولها مزارع حسنة، وبها قُنِّي عدة، ولهم حذق في عمل القماقم، ورأيت بها طلخونا مثل المرسين ناعما ما رأيت مثله وهي من معادن الخوخ الجيد، وبها عقارب عجيبة. سمعت أن أبا موسى الأشعري لما عجز عن فتحها حمل إليها من عقارب نصيبين في الجرار، ثم رماها إلى داخل الحصن فأشغلتهم وآذتهم فسلموا البلد"[v].
وفي المخطوطة (ب) من كتابه، نقرأ بأن قاشان كانت مدينة مزدهرة ذات حمامات عمومية بهية مريحة، وقنوات مياه مكشوفة (في مقابل قنوات المياه التي تجري تحت الأرض غير المكشوفة).
وفي فجر القرن الثالث عشر الميلادي، كتب ياقوت الحموي (ت. 1229 م) بأن
"قاشان مدينة قرب أصفهان تذكر مع قم، ومنها تجلب الغضائر القاشاني، والعامة تقول القاشي، وأهلها كلهم شيعة إمامية""[vi]. وقد ذكر القزويني (ت. 1283 م) بأن أهل قاشان من الشيعة الغالية، وأضاف:
"ومنها الآلات الخزفية المدهونة، ولهم في ذلك يد باسطة ليس في شيء من البلاد مثلهم. تحمل الآلات والظروف من قاشان إلى سائر البلاد.
بها مشمش طيب جدا يتخذ منه المطوي المجفف، ويحمل للهدايا إلى سائر البلاد، ليس في شيء من البلاد إلا بها"[vii].
والعمل الوحيد الجغرافي الفارسي المكتوب الذي يحمل نفس نظرة الأعمال الجغرافية العربية المكتوبة في العصور الوسطى إنما هو كتاب جغرافية حمد الله المستوفي القزويني [أو حمد الله مستوفي] (ت. 1394 م). وقد كتب بأن قاشان قد شيدتها أصلا زبيدة زوجة هارون الرشيد، كما أشار بإعجاب إلى قصر "فين" بصهاريج مياهه وبسواقيه التي يزوده بها نهر كهرود[viii].
كان المستوفي آخر كاتب شرقي في العصر الوسيط ذكر أخبارا عن قاشان. وكما رأينا، فإن مثل هذه الأخبار إنما هي أمر نادر؛ ذلك أن قاشان لم تكن مدينة هممة في تلك الحقبة، وذلك إذا ما نحن نظرنا إلىالإشاراتالنادرة التي خصصت إليها، وقارناها مع توصيفات "باذخة" لمدن فارسية أخرى نجد ذكرها في أعمال الجغرافيين العرب "الكلاسيكيين"؛إذ ما كانت المدينة بالمدينة الكبرى، وكان المنتج الوحيد المميز لها هو الفخار الذي صيَّر منها مدينة شهيرة في القرن الثالث عشر الميلادي؛ ثم بعد ذلك منحت اسمها "القاشي" إلى البلاطات الزجاجية في العالم الإسلامي برمته. فضلاً عن أنمطوي المشمش المجفف كان المنتوج الفلاحي الأكثر شهرة بالمنطقة،كما كانت عادةً ما تتم الإشارة إلى قناة وقصر "فين" بمسابحه ومجاري مياهه. وقبل ذلك- في القرن الثالث عشر الميلادي- كانت قاشان مركزا للمذهب الشيعي. ووجب التنبيه هنا إلى أن ذكر اسم زبيدة بوصفها بانية المدينة ... يوحي بأن أنشطة من التعمير وإعادته بالمدينة قد أنجزت في بداية الحقبة العباسية.
-
قاشان في دوريات الرحالة الغربيين
في عام 1474 م كان المبعوثان الفينيسيانيوسوفاباربارووأمبروجيوكانتاريني من أوائل الأوربيين من الذين نعرفهم الذين زاروا قاشان، وقد ترك الرجلان إلماعة قصيرة عن المدينة:
"بعد ذلك عثرنا على مدينة مأهولة إسمها قاسان [قاشان]. وكان أهلها في أغلبهم يصنعون الحرير والأثواب بأقدار عظمى بحيث من يحمل مبلغاً عظيماً من الدوقاتيجد ما يكفي من البضاعة ليقتنيه في يوم واحد. وهي تقع على بعد ميل بالبوصلة، مدينة محصنة، ونواحيها مترامية الأطراف شاسعة"[ix].
وهكذا فإن الرحالتين-في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي- وصفا مدينة واسعة نسبيا، بل حتى مزدهرة، محاطة بسور وموصولة بنواحٍ ممتدة خارج هذا السور.
وفي عام 1628- 1629 م زار السير توماس هربرت (1606-1682 م) ـ وهو رحالة ومؤرخ إنجليزي ـ بلاد إيران، وكان الرجل قد تلقى تعليمه بأكسفورد وبكامبريدج، وسافر عام 1627م-بوصفه عضوا في البعثة الإنجليزية- إلى بلاد فارس، حيث وصل إليها في عام 1628 م. وقد زار كلا من قزوين وقاشان وبغداد ومحالاًّ أخرى، وعاد إلى إنجلترا في عام 1629 م. وفي حديثه عن قاشان وصفٌ للمدينة، حيث كانت إحدى أعظم مدن البلد التي حظيت برعاية عظيمة من شاه عباس الأول،كان قد خصها بها. وكتب الرجل يقول:
(217) "من قم صعدنا إلى زن زن [سن سن] من زوارا العتيقة، ومن هنالك عرجنا على قاشان، مدينة من مدن قم، تقع على علو 36 ميلا. وكان الطريق إليها سهلاً منبسطا، على الرغم من امتلائه بالحصى وبالأتربة، ويمكن وصف شهرة قاشان بأنها لربما كانت المدينة الثانية في إقليم بارثيا التي تتسم بالفخامة والثروة والروعة. وهي تقع شمال أصفهان على بعد ستين ميلاً إنجليزيا، وجنوب قزوين بمائتين وعشرة تقريبا. وهي مدينة في الوقت نفسه فخمة وبديعة وعتيقة؛ وذلك لأن أودريكصيَّر منها مدينة نبيلة وشهيرة في زمانه. وهي في أيامنا هذه مدينة عتيدة محكمة البناء آهلة بالسكان، ولا تحيط بها أية هضبة، ولا يسقيها أي نهر عظيم من شأنه أن يزيد الحرارة عندما تقترب الشمس من مدار السرطان. على أن ما يكثر فيها ويشتد اشتدادا إنما هو العقرب، لا عقرب مدار برج العقرب، وإنما عقارب حقيقية تتوالد هنا توالداً ذريعا... (218) . وليست هذه المدينة النبيلة بأقل كثافة من مدينة يورك أو نورويتش؛ إذ تقطنها حوالي أربعة ألاف أسرة أحصيت هنالك. والبيوت بنيت بناء محكما، وكثير منها مصبوغ من الخارج، والمساجد والحمامات طليت قببها باللون الأزرق طلاء عجيبا، والسوق [البازار]واسع الأرجاء وموحد الأشكال، وتتوفر فيه الحريريات والأثواب الدمشقية والزرابي، من الحرير، والحرير والذهب، ومصطفات من الصوف؛ فلا يوجد مكان في العالم أفضل، ولا ألوان أجمل منه،كما أن ثمة دكاكين عطارة وبضائع أخرى. وفضلا عن هذا، فإن الناس هنا (وهذه ثمرة من ثمار تأثير الحِرَف في الطبائع) أكثر تحضراً، وما كان سكان هذه المدينةبالأقل نشاطا، وهم في لباسهم أهل فراهة لم ألاحظها في أي مكان آخر. ولهذا يبدو أنهم لا يعرفون تبطلاً ولا فراغاً؛ إذ ثمة مصانع تعج بالحرير، وبالصقيل منه على وجه الخصوص، وبالأغطية المزركشة بالذهب وقد تم صقله وتلوينه بحيث أمسى لا يوجد له في العالم مثيل، وبحيث إن رجلاًاسمه كارثورايت- وهو تاجر إنجليزي مَرَّ من هنا حوالي عام 1600م - شهد على أن ما كان يجلب من حرير في حول واحد إلى قاشان كان أكثر مما يصنع من مفارش في لندن. وهنا أيضا ينفرد أهل البلد بصنعة مخصوصة هي صباغة الحرير وتلوينه، وصباغة قماش الكتان كما يفعل صناع السراويل الهنود. كما أنهم يضعون عليها رسومأزاهير وعقدا جميلة عجيبة، ويهيئونألوانا جميلة على الجلد، تدوم مدة طويلة وتستعمل الاستعمالات العدة. وبالجملة هم قوم حرفيون مهذبو السلوك، وهي مدينة حسنة الإيالة، بحيث لا نظير لها في كل بلاد فارس. وهنا ما من حاجة إلى متعة أكبر، ولا إلى حدائق أخرى وإلى فواكه وإلى ذرة، بسبب توفر مشاتل مخصصة للأزهار التي يتم تعهدها بعناية والتي تستحق التقدير والإعجاب. أما الفنادق في هذه المدينة؛ فإنها شديدة البهاء، بل يمكنني أن أقول: إنه عَزَّ أن يوجد لها نظير، فهي تَبُزُّ كل النماذج التي شاهدناها في بلاد فارس؛ حيث إنها من الرحابة بمكان، ومن السعة بمنزلة، حتى إنه يمكنها أن تستضيف أكبر حاشية ملك بآسيا. فهي ذات بناء ملكي، وقد شيدها عباس للمسافرين حتى يستريحوا فيها بالمجان، كما فعل ذلك للتعبير عن سخائه فضلا عن إحسانه. وكل البناء مغطى بالرخام، من أعلاه إلى أسفله، وببقايا طوب مجفف في الشمس، مزركش ومُزَيَّن بعقد وزركشات عربية، بلون أزرق سماوي وأحمر وأبيض زيتيين، حسب النمط الفارسي. وإنه لمربع تام التربيع: من زاوية إلى زاوية أخرى مائتا قدم، والمجموع ثمانمائة. وفي قلب هذه الساحة يوجد صهريج مربع مملوء (بواسطة قناة) من الماء الصافي، ويطل هذا الفندق الملكي على حدائق تفوق كل وصف، تدل على أريحية من شيده"[x].
ونعثر أيضا على وصف طويل لقاشان في مدونة رحلة أدم أولياريوس (1599-1671)، وهو عضو في سفارة للإمارة الصغيرة شلويغ-هولشتاين-جوتروف في شمال ألمانيا إلى القصر الصفوي بأصفهان عام 1637 م وقد كانت السفارة من مهمة جوتورف، ولم تكلل بالنجاح؛ لكن كتابه هو أول كتاب لرحالة ألماني عن رحلة إلى بلاد فارس. والكتاب حافل بأوصاف تفصيلية للناس وعوائدهم وتقاليدهم، وللمدن وللنبات، ويعج بالتفاصيل الجغرافية والفلكية، وبالمقاييس المساحية ...إلخ. وسوف أقدم هنا ترجمة مختصرة عن اللغة الألمانية في القرن السابع عشر. وصل أولياريوس يوم 24 من شهر يوليو من عام 1637 م إلى قاشان، وغادر المدينة في يوم 26 من شهر يوليو. وقد خط يراعه ما يلي:
(493) "للمدينة شكل فيه طول بلا عرض كبير، وقياسها من الشرق إلى الغرب نصف ميل. ويحيط بها سور وأبراج نصف دائرية، وحواليها سهل ممتد ذو حقول حسنة، (414) إلى اليمين ترى جبال إلوند بعيدة. وخارج السور-أمام البوابة- ميدان سباق خيل طويل عريض وضعت عليه نصب بأهداف تُستهدف، وفي وسط الميدان نشاهد نصبا وُضع أعلاه طائر.
والحديقة الملكية بمنزليها الجميلين اللذين أُعدا للاستجمام توجد في الجانب الأيسر من هذه الساحة، ومن واحد من هذين المنزلين يُشاهَد المنظر العام للمدينة (III، 13 و14)، والمنزل الثاني وصف وصفاً مستقلاً (III، 12). ولهذا المنزل ألف باب، بما في ذلك النوافذ التي يمكن لأي شخص أن يلج منها إلى المعارض المفتوحة وإلى الممرات. وجدران هذا البناء شديد السمك. وبسبب هذا الأمر، نجد دوما بابين/نافذتين يواجه أحدهما الآخر. وقد اعتاد الملك -حين كان يزور قاشان- على الجلوس في هذه الحديقة.
وقاشان إحدى المدن المأهولة بالسكان، وهي إحدى المدن النبيلة ببلاد فارس، فيها بيوتات كبيرة جميلة، وفنادق عدة، وسوق وميدان جذابان، وبالفنادق معارض جميلة وقباب وغرف في الطابق السفلي وفي الطابق العلوي لم نر لها شبيها في أي مكان. وفي السوق ـ البازار ـ نجد -من سوى أهل فارس- أقواما أخرى، لا سيما الهنود الذين يشتغلون بالتجارة في ساحات غريبة عجيبة.
ونجد أيضاً صنّاعاً حرفيين (495)، لا سيما منهم نساجون يستعملون خيوطا من ذهب وحرير، ويشتغلون في أورشٍ مفتوحة، حيث يمكن لأي أحد أن يراهم وهم يزاولون نساجتهم. وهنا يلفي المرء فلاحة كثيفة، وزراعة للعنب،وحدائق. للفواكه ولكثير من الزراعات؛ وذلك كله لا لسد الحاجات الضرورية المتعلقة بالحياة العاديةفقط ؛ وإنما لذلك وللمتعة أيضا،ولا توجد عيون لماء الشرب. وعلى أهل البلد أن يحفروا الحفر العميقة حتى يعثروا على المياه الجوفية التي تبين أن مذاقها مالح عندما كنا موجودين هنالك، وبعض المياه كانت تجلب عبر القنوات إلى المدينة ...
ويعلم الفرس أن عليهم أن يشتغلوا؛ لأنهم ينجبون من الأبناء الكثير. ومهما يكن من أمر، فإن الكثير منهم -كما يقول أرسطو بعامة عن بني البشر- حيوانات اجتماعية، تفضل أنس الصديق في الميدان، والجلوس في الحوانيت، والكدح في الورش، حيث يوجد عبيدهم. والسبب في ذلك أن عامة الناس تعودوا على المشي على أقدامهم، ونتيجة لذلك يلتقي المرء بالكثير من البطالين والكادّين أينما حل"[xi].وتتلو هذا الحديث حكايات عن العقارب وعن العناكب وعن علي وعن عمر.
وفيما بين عام 1631 و 1668م زار بائع المجوهرات الفرنسي جون باتيستتافرنيي (1605-1689 م) إيران مراتعدة في طريقه نحو الهند. وما كان الرجل مجرد بائع مجوهرات، وإنما كان الأشهر في زمانه، وقد عُين فارساً، وأمسى بارون "أوبون"-وهي بليدة قرب جنيف (سويسرا)- كان قد اشتراها. وفي المجلدات الستة التي وصف فيها رحلاته أودع هذه الملحوظات عن قاشان التي كان قد زارها عام 1632 م:
"قاشان مدينة ممتدة الأرجاء فيها تتوفر كل سبل العيش الضرورية، ولها سور قديم قد تداعى إلى السقوط في محال عدة، ويقع البلد في الجانب المقابل لأصفهان، وهو ينتج العديد من الفواكه والخمور التي يعتني بها العديد من اليهود الذين يعيشون بقاشان. ويعيش بقاشان حوالي 1000 أسرة يهودية، ويعيش في أصفهانحوالي 600، وفي قم لا توجد أكثر من تسعة أو عشرة بيوتات يهودية. وثمة أيضاً يهود في مدن أخرى من مدن بلاد فارس، لكن بيوتاتهم في قم وقاشان وأصفهان تشهد على أنهم ينحدرون من سلالة قبيلة يهوذا.
ويعثر المرء بقاشان على العديد من نسّاجي الحرير الذين ينتجون أثواباً مزركشة بالذهب وبالفضة من الطراز الممتاز الذي يصدر من فارس، وهم يسكّون النقود هنالك، ويصنعون سفناً شراعية يربحون منها الربح الوفير،والأسواق ـ البازارات ـ بهية وذات قباب بديعة، والفنادق رحبة نظيفة منظمة؛ لكن يوجد واحد منها قرب حديقة الملك موال للمدخل إلى المدينة يبزها جميعا، وهناك أقمت خلال سفرتي الأخيرة. وهذا الفندق- كما الحديقة- مما شيده شاه عباس الأول، والذي كان قد أفنى فيه مالاً عظيماً، ومساحة هذا الفندق حوالي 100 في 100 وحدة قياس،وهو مشيد من طوب، وله طابقان و 26 غرفة مقببة ذات مقياس معقول، والبناية جميلة جداً، وهي تستحق أن تُتعهد التعهد الجميل. غير أنه تم إهمالها، وشرعت في التهدم، وفي وسط الساحة ثمة صهريج ماء شرب، لكنه أمسى ملوثاً الآن؛ إذ للفرس -كما للأتراك- عادة فاسدة في تفضيل بناء بنايات جديدة بدل تعهد البنايات القديمة. وفي قاشان شيدوا أربعة أو خمسة فنادق جميلة ومريحة، مثل ذاك الذي شيده عباس، والذي تركوه عُرضة للتداعي بلا مراعاة وبلا إحساس. ولسوف تستمر هذه العادة دهرا لأن الأبناء لا يهتمون بتعهد وإصلاح البيوتات التي كان آباؤهم قد شيدوها. وهم يعتقدون أنه لا يشرف المرء أن يعيش بها بعد وفاة آبائهم، ويرغبون في تحصيل مجد بناء بيت جديد لأنفسهم"[xii].
وهذا أيضا جون شاردان (1643-1713م)، وهو تاجر مجوهرات نظير الأول، غير أنه أشب منتافرنيي باثني عشر حولا. تعدّ، "رحلة إلى بلاد فارس وإلى أماكن أخرى من الشرق" ـالأكثر اهتمام بالأخبار،والأثرى وصفا لبلاد فارس في القرن السابع عشر الميلادي. وقد زار الرجل قاشان في صيف عام 1673 م، ونقل إلينا عنها الأخبار التالية:
(426) "على بُعد فرسخين (قبل الوصول إلى قاشان) أقبلنا على منطقة ممتعة وخصبة توجد بها العديد من القرى ... ومدينة قاشان تقع في سهل واسع قرب جبل شاهق ومساحتها فرسخ طولا وربع فرسخ عرضا ... (427). ولا تتوفر المدينة على نهر، لكن توجد بها قنوات باطنية عدة، ولبعضها الضباب عال، كما بها عيون مياه، كتلك التي توجد في قم، وصهاريج عدة. ويحيط بها سور مزدوج ذو أبراج مستديرة وخمسة أبواب. والباب الذي يوجد شرقاً يسمى "الباب الملكي"؛ لأنه قريب من القصر الملكي الذي يوجد خارج سور المدينة. والباب الذي يوجد بالغرب اسمه "باب فين" ؛لأن من يغادر من هناك يدلف مباشرة إلى قرية واسعة تحمل الاسم نفسه، وتقع على بعد نصف فرسخ من المدينة،ومن يدخل من الجنوب الغربي يدخل عبر "باب بيت مليك". وهو يحمل هذا الاسم لأنه يؤدي إلى حديقة نزهة بناها رجل ظريف يحمل الاسم عينه، والبابان الباقيان يوجدان في أماكن متقابلة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الشرقي، ويطلق عليهما اسم "باب قم" و"باب أصفهان"؛ لأن من يغادر المدينة عبر هذين البابين إنما يفعل ذلك إقبالا على هاتين المدينتين. وفي المدينة، كما في ضواحيها، والتي هي أكثر متعة من المدينة نفسها-توجد ستة ألاف وخمسمائة من البيوت-كما أكد لي ذلك أحد الأشخاص، كما يوجد أربعون مسجدا، وثلاث مدارس، وأكثر من مائتي مزار لأضرحة لذرية علي. والجامع الرئيس يوجد بجانب السوق الكبير، وله منارة مجصصة بالأحجار، والجامع والمنارة من بقايا أمجاد زمن المسلمين الأوائل الذين فتحوا بلاد فارس.
وبيوتات قاشانبنيت بالطين والطوب، وليست هي بالجميلة، بينما البازارات والحمامات أكثر جمالاً، وبنيت بناء حسناً، وهي مرعية رعاية خاصة،كما توجد ثمة فنادق شتى. واحد منها -وهو المسمى "الملكي"- يوجد بظاهر المدينة قرب الباب الشرقي، وهو الأجمل من بين فنادق قاشان جميعاً، بل ومن بين فنادق الفرس كلها ... وله تخطيط مربع. وكل جهة تبلغ مائتي قدم هندسية، وهو مكون من طابقين ومشرع في الطابق السفلي على شرفة مفتوحة فوق الساحة على ارتفاع ثمانية أقدام، مجصصة برخام أبيض جميل شفاف يشبه الرخام السماقي. وللطابق السفلي خمسة عشر جناحاً من نفس الشكل على واجهتين وعشرة على الواجهات الأخرى مع واحدة واسعة في الوسط ذات غرف خمس. والأجنحة الأخرى تتوفر على غرفة واحدة (428) ذات خمسة عشر قدما طولا وعشرة أقدام عرضا، عالية، ذات قبة، بمدفئة في الوسط، وفي مقابلة غرفة مربعة حيث يقيم الخدم، وعشرة أقدام عرضا، وهي منفصلة بشبه قبة مع معابر من الجانبين. ويشبه الطابق العلوي الطابق السفلي. وفي مقابل الغرف التي تقع على الواجهة يوجد عمود درابازين طوله أربعة أقدام. ولمدخل الباحة شكل خماسي بحوانيت من كل جهة حيث يبيعون كل أشكال الصفائح والخشب والعلف. ويقع المدخل تحت باب عال بديع مزين بالبلاطات شأنه شأن باقي المباني. ويمكن للمرء طيلة النهار أن يجلس هنالك جلسة مريحة، بل حتى أكثر راحة من جلسة الفندق. ويرتفع صهريج الماء المتواجد وسط الساحة خمسة أقدام عن الأرض .. والمنطقة التي توجد خلف الفندق تستحق أن تشاهد وأن يحكى عنها. ذلك أننا نعثر بها على اصطبلات شاسعة وعلى محلات لبيع الأكياس وللحمالين بنيت بنفس الشاكلة كما الأجنحة التي وصفتها من قبل، كما توجد متاجر ومحلات للفقراء والفلاحين الذين يأتون من ظاهر البلدة لبيع منتجاتهم. وفضلا عن هذا، توجد ثمة حديقة واسعة الأرجاء يشاهدها المرء من الفندق. وكان عباس العظيم هو الذي شيد هذه البناية البارزة. وقريب منها جدا يقع القصر الملكي، ويقع مقابله قصر آخر منذور إلى ضيافة السفراء. وكلاهما يتوفر على حدائق جميلة خلابة خلفه أقيمت من لدن هذا الملك العظيم. وفي وسط المدينة توجد ساحة فيها أماكن للهو والتنزه والتفرج.
وكل ثراء وقوت قاشان يأتيانها من صناعة كل أشكال أقمصة الحرير والطرز المذهب والمفضض، فلا يوجد مكان آخر ببلاد فارس يوجد فيه هذا القدر الهائل من الحرير الصقيل والمخملي والتفتي والتابتي والمطرز (429) بأزهار، والحرير المطرز الممزوج بالذهب والفضة المصنوع بهذه المدينة وبضاحيتها. وثمة إقامة واحدة بضواحي المدينة تحتوي على ألف بيت لعمال الحرير، وإن اسمها لهارون، وهي تبدو من بعيد كأنها مدينة تامة الأركان، وفيها ألفان من البيوتات، وأكثر من ستمائة بستان، وهي توجد على بعد فرسخين من قاشان.
وهواء قاشان طيبجميل ، إلا أنه حار بحرارة شديدة، يختنق فيها المرء في فصل الصيف، وسبب شدة حرها يعود إلى موقعها قرب جبل شاهق في الجنوب حيث يشتد الحر إلى حد أن المرء يكتوي به في يونيو. وثمة من أسباب عدم الراحة ما هو أشد وأخطر: العقارب ... وفي قاشان لا يشاهد المرء الكثير من قطعان البقر والغنم والدجاج، لكن ما يعوض على ذلك هو وفرة الحبوب والفواكه، حيث يتم هناك جلب بواكير الشمام والبطيخ إلى أصفهان إذ تستهلك هناك بكثرة،وفي وقت من الأوقاتتُجلب الفواكه الطازجة من قاشان إلى أصفهان"[xiii]. (ثم تعقب هذا الكلام ملاحظات ومرويات تاريخية غير ذات بال).
وبعد مضي إحدى عشرة سنة على رحلة شاردان هذه، زار الرحالة الألماني إنغلبيرتكايمبفر (1651-1716 م) قاشان في طريقه إلى أصفهان. والحال أن كايمبفر هو الأكثر شهرة بين الرحالة الذين أشير إليهم إلى حد الآن، ففي خلال رحلته الطويلة لم يزر فقط روسيا وبلاد فارس، إذ من بندر عباس جنوب فارس شرع في السفر بعيداً في الشرق إلى الهند وجافا وسيام (تايلاند) واليابان. وقد عدَّ وصفه لليابان ولنباتاتها ولأناسها لزمن طويل أفضل مصدر للأخبار عن ذاك البلد، وقد نشر مقتطف من تدويناته من طرفه هو نفسه تحت الاسم اللاتيني:
“AmoenitatumExoticarum,Politico-Physico-MedicarumVariaeRelationes, observationes&DiscriptionesRerumPersicarum&UlteriorisAsieain”
في مسقط رأسه ليمغو عام 1712 م، وحفظت مخطوطته الكاملة صعبة القراءة في المكتبة البريطانية، ونشرت على يد كارل مايير ليمغو، ومنها نقرأ (وهذه ترجمتي الشخصية عن النسخة الألمانية):
(78) "تقع قاشان على نصف ميل من جنوب غرب جبال على السهل،ثمة إلى جهة الشمال حقول حسنة وقرى شاسعة تمتد إلى الجنوب على سفح الجبال، وللمدينة سور متداع وسور أصغر قبالته شيد في الضواحي في أماكن عدة، وهي حاضرة أوسع من مدينة قزوين، وتستغرق الجولة فيها أربع ساعات على صهوة جواد.
ومن شأن من يدخل إلى المدينة أن يعبر ميدان فروسية تحيط به من جهتين حدائق ملكية، وما إن يقدم المرء إلى المدينة حتى يصل إلى قبة شاسعة، هي القبة الأولى للبازار. وبعد البازار يلفي المرء الميدان، وهو ساحة غير شاسعة- على خلاف الأولى- محفوفة من الجانبين بدكاكين (79)، ويستمر الفندق ومن جانبيه فنادق ذات قباب رملية رائعة على امتداد خطي.
وتكمن مزية قاشان على قزوين في كون كل بازارات البلاد المقببة والميدان متعهَّدة أحسن التعهد، ومطلية بالبياض ونظيفة. وعلى وجه المداومة يجول رجل في المدينة يحمل معه كيساً واسعاً مفتوحاً يلقي فيه الناسببعض المال، بما في ذلك أصغر عملةتكونمعهم،ويرش الماء على الدوام على الأرض غير المبلطة، بحيث إن التجار لا يعانون من تطاير الغبار. ويوجد بالبازار بائعو الأطعمة وتجار الحرير والمطرزات. والخيرات التي يبيعونها تنتج في المدينة وفي قرية تقع على بعد ثلاثة أميال، وسكان قاشان أكثر نشاطاً من سكان قزوين؛ لأنهم يستمرون في التنقل عبر صهوة الجواد أو على أقدامهم في الميدان المشار إليه أعلاه كل مساء. وهم لا يفهمون اللسان التركي ـ أقل مما يفهمه سكان قزوين. والماء- الذي يتوفر في عدد من الأماكن في الأزقة- يأتي من بعيد من تحت الأرض، ويجمع في صهاريج ذات قباب. وقد نزلت 58 خطوة، كل واحدة منها بنصف ذراع ألماني، نحو أسفل واحد من هذه الصهاريج، و68 في آخر إلى أن أدركت الماء ...
على أن منارات قاشانومساجدها- باستثناء البعض- في حال سيئة. ولقد زرت جامعا ذا مائة قبة صغيرة، وقد زين وقبب بقبة قوقعية. وفي جامع آخر شاهدت برجا دائريا بلغ 103 قدما إلى الأعلى؛ لكنه لم يكن يبلغ علوه علو صهاريج الماء. ومزار بير سلطان حبسبي بن موسى هو الأجمل والأكثر تقديرا، ويجلس أربعة قراء يقرؤون القرآن في مدخل القبة. وقد زُينت القبة بمصابيح وبيض نعام موضوع على أعمدة، وزينت القاعة الأساسية من المبنى بقبتين.ويوجد ضريح الولي على اليمين تحت قبتين أخريين، وقد سيج بسياج من خشب تتدلى عليه مصابيح، وقد خفت نورهما خفتا وعلاهما الغبار. وعلى الجدار الأيمن في هذا المكان غير المتسق نقشت مروية عن هذا الولي باللون المذهب وبألوان أخرى. وعلى اليسار ثمة باحة مربعة الشكل وضريح أبوابه الأمامية والخلفية مزينة بسلاسل مزدوجة من حديد. لقد كان ثمة ضريح آخر مشهور [ضريح شاه عباس العظيم]، وثمة ضريح آخر هو ضريح بير حسن. وكان ضريحا مميزا شبيها بضريح قم بثمان وست عشرة شمعة، ومرصعا ببلاطات زرقاء.
وأشهر ما يمكن رؤيته هو ميدان سباق الخيول قبالة باب المدينة، على يمينه توجد حديقة ممتدة الأطراف ذات أشجار، عبرها يتساقط الماء مجتازا بصخور شكلت قنوات. وحيث نشاهد نباتات وأشجار صنوبر وأشجارا أخرى مثمرة، وأزهارا صفراء وزرقاء وبيضاء. ويسارا توجد حدائق ملكية وفندق هندي عظيم، وهو من أجمل ما رأيت، واسمه فندق أهاسكر، وقد كان شيده شاه عباس الأكبر، وهو يحتوي على أزيد من 100 غرفة في طابقيه العلوي والسفلي، وأمام الطابق السفلي بهو ـ شرفة ـ عالية، والممر [عبر الباب؟] توجد فيه محلات تجارية هندية صغيرة، وفي وسط الساحة توجد نافورة عالية لا تعمل. (ويقدم أولياريوس وصفا أوفى).
(80) ليست الحديقة الأولى في هذا الجانب شاسعة؛ وإنما هي منضودة نضدا حسنا. وفيها قصر صغير عال، كما فيها بيت جميل في وسطها،(ويقدم لنا أولياريوس وصفا دقيقا له وفيه 100 نافذة وباب التي يتوفر عليها). ومساحة الحديقة 180 وحدة قياسطولا، محاط من الجوانب الثلاثة بمائة شجرة صنوبر على امتداد الأسوار، وتوجد قرب البيت 40 شجرة من أشجار السرو. وتوجد الصهاريج على الجانبين ووسط الحديقة. وعلى يمين الجانب الشرقي كان هناك باب صغير على الجدار الذي يصل إلى حديقة الحريم. والأرض المحيطة بالبيت مبلطة بالحجارة، ولكن البيت نفسه مبني بلبنات طين"[xiv].
وتماما شأنه شأن كايمبفر، سافر الهولندي كورنيليوس لوبرين (1652و 1726-1727 م) من فارس إلى الشرق ووصل إلى جافا، ولم يكن لوبرين دارسا شأن كايمبفروإنما كان فنانا، وقد اتُّهم في رحلته بالانتحال، على أن أرسوماته عن مدينة برسوبوليس كانت التمثلات الأولى الحقيقية عن الموقع، وقد استعملت مرجعا مدة طويلة بعد وفاته. والأمر نفسه ينطبق على أرسوماته عن النباتات وعن الآثار الفردية وعن البنايات،ولقد وصل إلى قاشان في شهر نوفمبر من عام 1703 م وهو في طريقه إلى أصفهان. وكتب يقول:
(IV، 63) "كاسيان، كاسان، كاسييانوقاشانيس [مدينة] تقع على جانب سهل يمتد قريبا من جبل شاهق، وقد رسمت رسمي هذا للبلد من هضبة صغرى من خلالها يشاهد المرء معظم البلد ... وتبلغ أسوار هذه المدينة حوالي 36 قدماً علواً، وثمة سبعة أبواب من بينها واحد إسمهدانليت [دولة]. (64) وفي الشمال الغربي توجد ساحة واسعة، 770 قدم طولا و100 قدم عرضا، ومن هناك يشاهد المرء عمودين صغيرين، وفي الخلف يوجد عمود يحمل علما يضعونه عندما تكون هناك دورة مباريات. فإذا ما غادرنا نحو الباب الأيمن للساحة نصل إلى الحديقة الملكية، وهي محاطة بسور طوله 30 قدما، وهي حديقة مترامية الأطراف تعبرها قناة اعتُني بها أشد عناية تكون. وتوجد بالحديقة أشجار من بينها أشجار الصنوبر وأشجار الرمان، وفي هذه الحديقة يوجد بيت استجمام ومتعة بناه عباس العظيم.
ولسور الحديقة أبواب أربعة كبرى وبابان صغيران، وعبر الأول- الذي يوجد قرب باب المدينة- يصل المرء إلى الفندق الذي يقيم فيه الهنود. وهذه البناية واسعة الأطراف، وذات جمال أخاذ، ومدخلها [الدهليز] مساحته 36 قدما طولا و7 عرضا، وهو متوج بقبة ذات فانوس على الطريقة الإيطالية يقع أعلاها، ولها قوسان يرى من خلالهما المرء الأجنحة/المتاجر، وبعد عبور باحة المدخل يلج المرء إلى ساحة ذات 100 قدم طولا و80 قدم عرضا. وهي محاطة ببناية من طابقين أحدهما فوق الآخر، وثمة أجنحة صغرى ساحرة من تلك التي تبز كل تلك الغرف التي رأيتها من ذي قبل. ومن باب الفندق يصل المرء إلى باب آخر ذي ممر مقوس. ولقد كان مفتوحا، فدخلت إليه. كانت ثمة حديقة ممتلئة عن آخرها بأشجار تم تعهدها بأشد تعهد يكون. والباب الثالث باب بناية واسعة عالية مقامة فوق سور الحديقة. وعن طريق الباب الرابع نصل إلى ساحة كبرى توجد فيها إصطبلات. والأبواب الصغرى الأخرى تقود إلى الحديقة المشار إليها. وعلى الجهة الأخرى توجد ساحة تحيط بها أسوار، وهي ليست كبيرة مثل الأولى، ولا هي جميلة شأن سالفتها، وقبالة الفندق نعثر على سلم من 50 درجا من حجر (66) تأتي في أغلب الظن من بئر أو من صهريج؛ وذلك لأن الجدران والقباب بنيت بحجارة صغيرة.
وباب المدينة- الأقرب إليه [الفندق]- ذو قباب أيضا، وطوله حوالي 80 قدما، وله قبة تشبه قبة الفندق. وبعد ذلك يلج المرء إلى بازار جميل حسن القبة حيث يعثر على كل أنواع المتاجر الخاصة بصناع المربى وبباعة العقاقير والحلويات والصاغة والصباغين والطباخين، حيث نجد كل أشكال المشويات والمقليات والمطبوخات، وباعة الفواكه ... ولكل متجر قبة. وكل شيء محكم التنظيم جذاب التنظيف. والحال أن هذا البازار يخترق المدينة كلها من باب إلى آخر. ودار السكة توجد في الوسط. وثمة مماشي بازار أخرى تتفرع عن الممشى الرئيس. وأحد هذه البازارات مغلق عن الآخرين، وله أبواب خاصة به. وهناك يبيعون الأغطية والستائر وكل ألوان الثياب الحريرية والأشياء التي تتصل بها. وثمة سوق خاص بصباغة الحرير حيث يشاهد المرء ألوانا منها تحوز الإعجاب. وهذه الأسواق مغطاة متقنة التغطية. وهناك يكون المرء دوما عن الأمطار بمنجى. والكثير من المقاهي في البازار تعج بالناس الذين يدخنون بشدة.
وتوجد الفنادق خلف متاجر البازارات، ويلج المرء إليها عبر أبواب عظيمة ذات قباب، وتوجد من بين هذه ما هي جميلة من ذوات طابقين ومن ذوات خمس أو ست خطوات في مقابل الأجنحة. وفي هذه المدينة يعثر المرء على عدد لا يستهان به من هذه البنايات، حيث ينتجون أساسا ملابس من حرير مزركشة بالذهب أو الفضة، وهي من الوفرة بحيث يصدرون سبع دفعات أوزان من ملبس الحرير كل يوم تصل قيمتها الإجمالية إلى 1512 جنيها. والساحات العمومية صغيرة، ويعثر المرء على هذه الساحات في أماكن عدة من المدينة إلى جانب الأحواض المائية العمومية التي تشبه الصهريج القريب من الحديقة الملكية التي ذكرتها من ذي قبل. وللمساجد منارات عالية بعلو نسبي، لكن لها قليل من القباب الواسعة. وتلك التي يعثر المرء عليها منها غير ملونة [بل مغطاة ببلاطات زجاجية].
ويجد المرء في قاشان الفواكه والورد طيلة السنة، وتنضج الفاكهة قبل أوان نضجها في مناطق أخرى، وفي الربيع يبيعون البطيخ والعنب والمشمش والتوت والرمان والخيار وبالخصوص الشمام العجيب. ويقال: إن ثمة 70 قناة تجلب الماء إلى المدينة، و120 حماما عموميا، وعددا كبيرا من الصهاريج ينزل الإنسان فيها بخطى عديدة، وعدد من السواقي يصل إلى 120، وعدد من البيوتات يبلغ إلى ما يزيد عن 3000. وهي منقسمة إلى ثلاثة أحياء، في كل حي 1000 بيت. وتتبع هذه المدينة ستون قرية.
وفي "فين" يعثر المرء على بيت ملكي للضيافة، يقال: إنه شيد أيام حكم (68) سليمان، ومياهه تنحدر من جبل شاهق يسمى روشيت ساحل، وقد جُلب الماء إلى قاشان عبر 27 ساقيةفي سبيله، وكانت شيدت في زمن شاه عباس.
(هامش (أ) للصفحة 64: "أضاف المؤلف بأن الأسوار والبازار والبناءات الجميلة الأخرى التي كانت قد شيدت من لدن شاه عباسبدءا تهدمت كلها تقريبا، وأن ثمة عددا من نساجي الحرير بقاشان يمهرون في صنعتهم، وينتجون أجمل الثياب المطرزة ببلاد فارس كلها، وأن المدينة ممتدة الأرجاء ومأهولة بالسكان وتوفر الحاجات الضرورية للحياة. وأن المنطقة التي تقابل أصفهان تنتج العديد من الفواكه والخمور التي يتعهدها اليهود ويعتنون بها، وأن في هذه المدينة يعيش حوالي 1000 أسرة يهودية يدَّعون أنهم ينحدرون من قبيلة يهودا، شأنهم في ذلك تماما شأن أولئك الذين يحيون بقم وبأصفهان"[xv].
وفي عام 1717م -قبيل سقوط الصفويين- زار الإسكتلندي جون بل الأنترموني (1691-1780 م) قاشان، وكان الرجل قد زار بلاد فارس ما بين 1715 م و1718 م، وما بينعام 1719 م و1721 م سافر من موسكو إلى بكين. وقد ترك لنا فقط إشارة مختصرة عن قاشان:
(91) "قاشان مدينة مترامية الأرجاء مأهولة بالسكان، وهي تقع على سهل خصب يؤَمِّن بالتمام والكمال كل الحاجيات، وهي تحتوي على عدة جوامع مبنية وفنادق مشيدة، وتضج ساحة السوق بالبضاعة من كل لون، وتوجد مصانع فارس المعتادة هنا؛ أعني مصانع قماشات الحرير والقطن والزرابي، فضلا عن بضائع أخرى تجعل هذه الساحة ذات رواج تجاري كبير. وهذه المدينة موبوءة بالعقارب، فهي مكان معقرِب..."[xvi].
والدبلوماسي الإنجليزي جيمس جوستينيانموريي (1780-1849 م) هو مؤلف رحلتين قيمتين ومؤلف روايات "استشراقية"، أشهرها "مغامرات حاجي بابا أصفهان". وفي عام 1808 م قدم لأول مرة إلى بلاد فارس، ومنذ عام 1810 م عمل كاتبا ومكلفا بمهام في السفارة البريطانية التي كانت آنها قد شيدت حديثا بطهران. وقد صادف زمن تواجده ببلاد فارس الحقبة القاجارية المبكرة، والتي كانت فيها بلاد فارس قد شرعت في استرداد عافيتها بعد عقود من الاضطرابات والحروب الداخلية. ونتيجة لذلك، ليس من المفاجئ أن توجد هوة تقرب من 100 عام بين ملاحظات "بيل" الوجيزة وملاحظات موريي الأكثر توسعا عن قاشان. ههنا نقرأ:
(161) " [قاشان] توجد حوالي نواحي شيراز، وهي محاطة بخندق جاف، لكن أسوارها في حالة تهدم بحيث يبدو أنها لن تتحمل دكساعة. وحواليها ثمة مساحات مزروعات واسعة من أشجار التوت، أعدت لغذاء دود القز، والتي مع ذلك لا توفر ما يكفي من الحرير لتزويد مصانعها، ويتم سد الحاجاتمن جيلان. وقد لاحظنا مظهر جلبة ورواج أكبر مما كنا لاحظناه حتى في أصفهان؛ وذلك لأنه فضلا عن الحرير ثمة تجارة كبيرة للنحاس. فالمناجم القريبة من شيفاس تزود مصانع قاشان بالنحاس الذي يصلهم عن طريق روم آزر وتبريز، والذي يصنعون منه كل الأواني بالوفرة التي تستجيب إلى كل طلبات بلاد فارس برمتها. وهم يبيعونه بالزنة كل زنة مقدارها (7 - 1/2)بما قيمته 15 ريالا أو حوالي 17ريالا و10 سنتات. والبضاعة الأعم التي يصنعونها هي حزمة أواني مطبخ على شاكلة عش، تشكل مكوناته، التي تبلغ ما بين 20 إلى 50 فردا؛ لكي تتحلق جميعها حول وعاء واحد متعدد الأجزاء متضامها. وهي أواني تستخدم من لدن كل المسافرين في بلاد فارس، حيث إن كل إنسان مجبر على حمل وعاء أوانيه الجامع. كما أن فانوسهم يستحق أن يذكر؛ وذلك بفضل فرادته وطابعه الملائم للاستعمال. فأعلاه وأسفله مصنوعان من نحاس، وهما يتداخلان فيما بينهما. والأول-الذي عادة ما يكون مزركشا بأشكال صغيرة على الطريقة الفارسية- يحمل ثقوبا صغيرة، كما أن له يدا حمالة. وهي مجعولة لتشكل موضع حمل الشمعة، وبينهما خيط عندما يمتد يجعل الفانوس يبلغ مترا طولا بحسب قطره. ولهذا عادة ما يثبتون قماشا شفافا أو قطعة قماش شمع أبيض تعكس نورا ذا سناء عندما توضع الشمعة بالداخل.
أما قطع قماشهم الحريرية فإنها تدل على مهارة كبيرة عند صانعها، وثمة نوع خاص منهامعروف باسم "شال قاشاي" بديع جدا. والنماذج القشميرية هي ما تتبع تقليده مصانع قاشان؛ لكن لا شيء يمكنه أن ينافس دفءوجمال شالات قشمير. كما تتم صناعة شرائط الحرير والمطرزات والمخمليات أيضا بقاشان، والأخيرة منها على وجه الخصوص تستحق بالفعل سمعتها الطيبة التي تحظى بها.
ويمكن لهذه المدينة أن تفخر بالكثير من الفنادق الواسعة، والتي تم تشييد بعضها حديثا. واحد منها، وهو فندق شاه أو الفندق الملكي- والذي لطالما مدحه شاردا - أهمل وترك نهبا ليلقى نصيبه من التهدم. وفي هذا دليل على نزوع الفرس إلى بناء أماكن جديدة بدل إصلاح القديم منها. وأجمل مباني قاشان إنما هي مدرسة شيدت حديثا من لدن الملك الحالي، والتي يبدو أنها سوف تحتل المنزلة الأولى من بين الأعمال العمرانية التي أنشأها جلالته.
وعلى بعد حوالي ثلاثة أميال شرق المدينة توجد حديقة تسمى باخ ـ إي ـ فين، يحتفي بها الفرس بسبب مجرى ماء بها أصفى من الكريستال يصب في مجموع قنوات اصطناعية. ويقال: إن له العديد من الفضائل الشفائية الطبيعية، والفرس عادة ما يشربون منه طلبا للعلاج. وقد استمتعنا غاية الاستمتاع لما رخص لنا بزيارة داخل بيت الضيافة الذي ينزل به الملك عادة في فصل الربيع، وفي إحدى غرف بيت الضيافة هذا توجد صور للملك ولعشرين من أبنائه"[xvii]. (يلي ذلك مقطع طويل [ص. 162-164] ومهم عن القنوات وعن حفرها. انظر الفصل 2-1).
وفي عام 1850 م زار روبير بينيغ-عضو خدمة مادراسالمدينة-قاشان، وقد عرج على منطقة قاشان عند عبوره سد كوهرود الذي أنشأه شاه عباس العظيم والبحيرة الاصطناعية التي ترتبت عن هذا السد. ولقد كان ماء هذه البحيرة يسقي قسما من سهل قاشان.
(186) "هذا السهل تقطعه قنوات ووديان ... والأشجار والمحاصيل أكثر وفرة من تلك التي توجد بأصفهان، بما ينبئ عن طقس أشد حرارة ... وقاشان مدينة بنيت بناء غير منتظم، وقد أحيطت بأسوار من طين. ومن حيث حجم المدينة وحجم نسمتها: تقارب شيراز إن لم تكن تضاهيها،ولها ثمانية أبواب، لكن لا أحد منها أُحكم بناؤه، فلا باب منها إلا وهو يشبه سوء بناءالسور الآيل للتداعي، والذي يتخذ مدخلا إلى المدينة. وبجنبات المدينة، توجد ركامات من الهدم وأطلال تفتقد إلى كل حس جمالي.
وزبيدة هي من بنى قاشان، وكانت الزوجة المفضلة (187) للخليفة هارون الرشيد ... وقاشان محل كبير للمصانع، لا سيما منها مصانع النحاس وقطع الحرير، وسكانها حرفيون حسنو السلوك، إلا أنهم مشهورون بالجبن، حتى إنه يقال: من بين كل مائة قاشاني يصلح واحد فقط أن يكون جنديا. وفي ضواحي المدينة- بالقرب من الباب الذي دخلنا منه- شاهدت هرمين من تراب عظيمين، وقد علمت أنهما مخزنان للثلج. ويقود إلى قلب المدينة طريق بمثابة متاهة مليئة بحفر عبارة عن آبار جافة، وثقوب وركامات حجارة. وقد اتخذت لي مسكناً بفندق كبير حيث فضلت الإقامة بالبلكونة بما أن حر الجو كان خانقا. ولقد قررت أن أتوقف هنا لكي أتفرج على الساحة ...
في صباح الغد ذهبت لكي أزور حديقة وقصر "فين"، وهما قريبان بفرسخ عن المدينة، ويقعان قرب سفح مجموعة من الهضاب ... وكان المكان محل استجمام مفضل لدى فتح علي شاه. وفي كل مرة كان الملك أو شخصية عظمى تزور قاشان كانت تقيم هنا. والمكان أشبه شيء يكون بباغي ناو بشيراز. ويتضمن ثلاثة أجنحة، مع صهاريج ماء صاف، مليئة بأسماك صغرى تأتي - حسب ما أعتقد- عبر مصب ماء من الهضبة المجاورة، بينما أربع شرشورات أو قنوات حجرية بنيت على شكل منحدر، تتخللها شلالات صغيرة تصب في كل صهريج وتقود التيار نحو اتجاهات البوصلة الأربعة. وأجنحة الغرف الأساسية شارعة على أحوال الجو، والمياه تخترق الصالات السفلى، أما الطبقات العليا فهي مبنية حسب أشكال غريبة، على نحو ما نراه في رسم صيني. وفي غرفة من الغرف لمحت رسومات لفتح علي شاه وللكثير من أنجاله. وفي الحديقة أغراس لصفوف من أشجار السرو ولأشجار أخرى، مع صفوف من شجيرات للورد. والإقامة أميرية وجميلةلكنها-كما في بلاد فارس بأكملها-آيلة إلى التهاوي بسببقلة العناية. وقرب "فين" توجد قرية صغيرة أراضيها فلاحية متعهَّدة تعهدا حسنا، والمياه بها وفيرة. وقد شاهدت عددا كبيرا من أشجار التوت وقد غرست من أجل تربية دود القز. ومناطق زراعة القمح والشعير تقع في حدودها صفوف الباقلاء، وهي نبتة تحمل وردة جميلة تشبه الترمس. والحرير ينتج هنا، إلا أنه بحجم كبير، وأغلب المنتج الذي يستخدم في مصانع المدينة يُجلَب خاما من مزندران وجيلان.
وعديدة هي أسواق ـ بازارات ـ قاشان وعظيمة هي، لكنها غيرمتعهَّدة ،وأغلبها (189) طويلة جدا، ضيقة جدا، وسخة جدا، تحدث ضجيجا عالياً بحيث لا مزيد، وبحيث إن أصوات مطارق النحاس لا تحتمل. وعديدة هي أواني النحاس المصنوعة ههنا وأكثر من أي مكان آخر ببلاد فارس. والزاربي والشالات والأثواب الحريرية كل ذلك يصنع هنا، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى قماشات القطن العادية والكاداك والكرباس والجرمسوف، وهي مزيج من الحرير والقطن، تنسج بتعاقب بين الإثنين: كبة خيط من هذا وأخرى من ذاك. وملابس الحرير محرمة على المسلمين. ورغم أن العديد منهم يلبسونها من غير حرج، فإنهم ينزعون عنهم كل ما خيط من حرير أثناء تأديتهم لصلواتهم؛ إذ تعتبر مادة الحرير كما لو أنها "بي – ناماز" (تبطل الصلاة)؛ أي نجسة وغير قابلة أن تلبس في أوقات الخشوع. أما الجرمسوف، فبما أنه ليس بالحرير الخالص، فإنه مستثنى من التحريم، ويمكن أن يصلى به. على أن التمييز بين هذه الملبوسات ـ الحريري منها وغير الحريري ـ مجرد حيلة فقهية. أما البلاطات المزججة المختلفة الألوان-التي تستعمل في البيوتات والمباني الأخرى- فإنها تصنع هنا أيضا بمقادير عظيمة. وخبز قاشان لذيذ جدا، وقد حصلت هنا على أفضل زبدة رأيتها في هذه البلاد.
على أنه ما كان لي وقت كاف لزيارة المدينة، لكن في الحقيقة قليلة هي الأماكن التي يمكن أن تزار بها؛ لأن قاشان لا تضم بنايات جميلة، ومساجدها لا تتميز بأناقة معمارها، ولا توجد (190) أية مبان مشيدة أخرى تستحق أن تشاهد. ثمة فنادق شاسعة عدة في المدينة، وواحد خارج قريب من الباب الجنوبي.
وحر هذه البلاد في الصيف شديد، وفي هذا الفصل تظهر الكثير من العقارب السامة"[xviii].
وفي عام 1854 م عين آرثيرغوبينو (1816-1882 م) ـ وهو دبلوماسي فرنسي وكاتب ـ الكاتب الأول للبعثة الفرنسية في بلاد فارس، وقد بقي في منصبه إلى عام 1858 م، وبعد ذلك أمسى القنصل العام بطنجة، وأُرسل إلى كندا عام 1860 م، وفي عام 1861 م عاد مرة أخرى إلى بلاد فارس بوصفه يشغل منصب "وزير فرنسا كامل الصلاحية" إلى عام 1864 م. وفي تلك السنة نقل إلى أثينا ليشغل المنصف نفسه. وقد عين بريو دي جانيرو (1869 م) وبستوكهولم (1872 م) بعد ذلك. وقد تقاعد الرجل عام 1877 م، وعاش بعد ذلك حياة غير مستقرة ومضطربة إلى أن مات بطورينو عام 1882 م. ومن بين مؤلفاته العدة ثمة كتاب "بحث في عدم تساوي الأعراق البشرية" الذي أكسبه سمعة مريبة؛ ففي هذا الكتاب ادعى تفوق العرق الأبيض، وقد قيض للنازية أن تستلهم هذه الآراء.
في كتابه "ثلاثة أعوام في آسيا"- الذي نشر أولا عام 1872 م- وصف دو غوبينو رحلته الأولى من فرنسا إلى فارس عام 1855 م. وهنا نقرأ:
(224) "كنا نوجد على سهل قاشان، أحد أعلى الأماكن بآسيا. (225) وقد أخذ منا الوقت نصف ساعة من هناك إلى قصر يدعى "فين"، والذي هو في ملكية الملك. وحدها بعض الحدائق القليلة يمكن أن تقارن بهذه الحديقة [تلا ذلك وصف موجز لحديقة "فين"، وقصة بروز أمير كبير ومقتله بفين، والقصص الشهيرة عن عقارب قاشان وعن جبن القاشانيين إلى الصفحة 237].
(237) "وقد ألحَّ الحاكم على مشاهدة قاشان، وبالفعل كنا لا نرغب في أن تفوتنا زيارتها، لأن قاشان إحدى أشد مدن الإمبراطورية شساعة، وسمعتها ممزوجة بأمور جميلة وقبيحة، وثمة أشياء عدة تستأهل الحديث عنها؛ فهي إحدى أهم المدن المتحضرة في بلاد فارس إذ تعلق الأمر بالتصنيع. وهم يصنعون أشياء بصنعة عالية الجودة متقنة، ويصبغون قماش الحرير صباغة رائقة، بحيث يمكن غسلها وإعادة غسلها من غير أن تزول ألوانها. وهم ينتجون أيضا العديد من الأواني المنزلية النحاسية. وأصفهان وقاشان يوفران لشرق فارس برمته أواني النحاس من كل الأشكال والأحجام، سواء أكانت معلبة أم لا، وسواء أكانت بسيطة أم مزركشة بأشكال وأزهار. ويمكن للمرء حتى أن يشاهد كؤوسا وصحونا ذات أشكال جذابة، مصبوغة بالأزرق وبالأحمر وبالأخضر محاكية المينا. والمشكلة السلبية الوحيدة أنها لا تقاوم النار. لكن لها شكل جذاب جميل. وكل هذه الأنشطة التجارية لها تاريخ طويل وتقليد عريق. بعضها يعود إلى 150 عاما أو أكثر. وما كان الحرير فحسب ما ينتجونه، وإنما هم يصنعون -فضلا عنه- الأثواب الدمشقية، وهي أثواب مزركشة بالذهب والفضة والمخمل ذات جمال رائع ونظارة بهية. وما هو استثنائي هنا إنما هو الثمن البخس لهذه المنتجات. هذا غيض عن فيض عما أمكن لأهل قاشان صنعه وما لا يزالوان يصنعونه.
وليست السمعة الطيبة تطال فحسب منتوجاتهم الجيدة وصنعة أيديهم المتقنة ، وإنما ترافق هذه السجايا تفوقهم في الآداب أيضاً؛فقد أنجبت قاشان شخصيات شهيرة في مضمار الشعر والفلسفة، وفوق هذا وذلك أنجبت أسامي في حقول علم الكلام،وفي قاشان مطبعة حجرية تطبع منشورات جيدة، وعدد الأشخاص المتعطشين إلى تثقيف أذهانهم كبير. وأخيرا، تنبغي الإشارة إلى أن أهل قاشان أناس من ذوي الرفقة الحسنة والانبساط والأنس. لكن كل شيء في العالم فُهم بالعكس، بحيث أمسى أهل قاشانيتهمون بأنهم محاربون من الصنف الرديء ... [تتلو هذا حكايات معروفة عن جبن أهل قاشان وعن العقارب].
(241): "وبغاية الترويح عن النفس زرنا البازار، والذي اكتشفنا أنه شديد الانتعاش كثيف النشاط، وليس ثمة شيء أشد جاذبية في مدن آسيا من تلك الدروب المغطاة المليئة بالمحلات التجاريةحيث مجمل السكان يفضلون أن يرتادوها صباح مساء. فالمرء يشاهد على وجه الدوام زمرة نساء يقفن أمام محلات بيع الملابس، ومحلات النحاسين بضجيجهم الدائم، وباعة الأسلحة بزبنائهم المحاربين، ومحلات الكتب بالملالي الجادين، ومحلات بيع الأكلات المليئة خلال النهار، حيث اللحم اللذيذ المشوي على فحم الخشب، وحيث لحم الخروف يطهى في أوانٍ خزفية سوداء، وحيث حساء اللحم الذي يعشقه كل الناس. كل هذا يجذب إليه جماهير الناس. وفي وسط هذه الدروب يسير الفرسان بتؤدة، وكذا الحمير والبغال المثقلة بالأحمال. فليس من شيء أحب إلى الفرس من الذهاب إلى السوق،وهذا أمر لا يفاجئني أبدا،ولو كنت محلهم لفعلت الأمر نفسه؛ فالسوق هو المكان المفضل للحديث ولتبادل النكات والكلام الطيب منه والخبيث، وهو مضمار كل ما يستحق أن يتحدث عنه أو يذكر. وأخيرا، هو مكان العطالة والبطالة والفراغ والمزاح الذكي لأناس سعداء لا يفعلون إلا ما يريدون وطبيعتهم تنضح حياة.
وقد زرنا أيضا المدرسة التي بنيت حديثا، ومعمارها جميل وغير معهود،وحدائقها مصممة تصميما جيدا ومتعهَّدة تعهدا حسنا، وقد قيل لنا: إن المدرسين بها كانوا من الحكماء، وهو ما لم نستطع أن نتأكد منه. فعلى الرغم من سمعة المدينة الفكرية، لا أعتقد أن الأمر كما قيل لنا. وإن كان من سوء حظنا أن نغادر حديقة "فين"، فقد سافرنا أربع ساعات لكي نصل إلى سواب، وهو مكان بئيس"[xix].
وفي عامي 1860 م و1861 م رافق هانريشفردناند كارل بروغش (1827-1894 م)-وهو عالم مصريات ألماني شهير- بعثة بروسية إلى بلاد فارس، وعين رئيس التمثيلية البروسية في البلاط الفارسي. وفي عام 1870 م اختير من لدن نائب ملك مصر لكي يمسي رئيس مدرسة الدراسات المصرية بالقاهرة، ونال لقب "باي" عام 1873م، كما نال لقب "باشا" عام 1881 م.
وقد كتب يقول: (260) "عبرت قافلتنا عبر السهل وقاربت أسوار المدينة، وقد شاهدنا ثلاث منارات بقباب وأخرى ذات زوايا بسقف أخضر، وقد مررنا عبر سبل وعرة غير معبدة وذات حفر مليئة بالأنقاض، مما جعلنا لا نستبشر بالمدينة خيرا. وقرب الباب رأينا جناحا ذا ألوان، وبعد دخولنا إلى المدينة فوجئنا بأننا أخطأنا التقدير في أحكامنا المسبقة؛ وذلك لأن قاشان هي المدينة الآنق والأنظف في بلاد فارس كلها. على أن الأنقاض كانت قد تركت أثرها هنالك أيضا.
والأبواب، والدروب المغطاة، والبازارات بمحلاتها التجارية، وصهاريج المياه، والمساجد والساحات: كل شيء نظيف، مستقيم، مصمَّم بإتقان، ومنفذ بذوق، ومصبوغ بصباغة حسنة، ومطلي بالجبس الأبيض [الجير]. وأرصفة شوارعها مبلطة تبليطا أفضل مما هو موجود في مدن أوربية عدة. أَلَا كم كانت متعتنا غامرة ونحن نجرب مثل هذه النظرة غير المعتادة إلى بلاد فارس!وقد مشينا مشيا بطيئا عبر مدينة قاشان، والسكان ينظرون إلينا بحذر وبفضول. ونحن نقوم بجولتنا عبر قاشان، لم نر أية عملية "شنق"، وهي العملية التي كانت قد عرفت تحت اسم "شنق اللوطي"، والتي يشاهدها المرء في معظم مدن فارس (261). في كل مكان، كان ثمة ما يدل على قيام صناعة.
يحتاج المرء إلى حوالي نصف ساعة ممتطيا صهوة جواده لكي يعبر المدينة من نهايتها إلى نهايتها من باب إلى آخر. وفي الطريق يلاحظ المرء على جانبي الطريق أضرحة ومزارات شديدة النظافة، جميلة البناء، تعود إلى أولياء، مصحوبة بنقوش ذهبية على خلفية لون أزرق. وقد عبرنا أولا حي الصباغين. وكانوا منشغلين في ورشهم بصباغة الأقمشة. وكانت ثمة ملابس طويلة مصبوغة بالأزرق قد علقت على طول الشارع على جدران البيوتات. بعد ذلك، جاء دور حي عمال الحرير. وإنتاج الحرير هو العامل الأساسي في اقتصاد قاشان. وأشجار التوت المغروسة بغاية إنتاج الحرير تغطي كل المنطقة الممتدة ما بين قاشان وفين. وعندما غادرنا سوق عمال الحرير دخلنا إلى سوق النحاسين. وكانت ضوضاء المطارق وأصوات أخرى منبعثة من حوالي 200 ورشة في الحي ،بحيث إن المرء يعجز عن فهم كلمة واحدة مما يقال له أو مما يسمعه.
وقد أقمنا في بيت فاره تابع إلى خدمة البريد،يحتوي على غرف جميلة حسنة الترتيب معتدلة الهواء في فصل الصيف. لكن مع نوافذها الخشبية التي تفتقد إلى الزجاج سوف تكون لا محالة شديدة البرودة في فصل الشتاء. وعلى الرغم من نظافة المدينة، لم نستطع أن نشتري للأكل حتى دجاجة أو أي حيوان أليف صالح للأكل. وبالبدل من ذلك، وهب إلينا التجار أشياء كثيرة، لكنها غير صالحة للأكل. وما إن وضعنا أقدامنا في بيوت الخدمة البريدية، حتى امتلأت الساحة بالدلالين الذين حاولوا أن يبيعوا إلينا أشياء من حرير بكل الأثمان الممكنة. كان ثمة منديل حرير بخس بأقل من عشر فلسات فضية بروسية. وضمن البضائع المعروضة بهذا الثمن كانت ثمة أقمشة من مخمل ومن ريش، لكنها لم تكن متقنة النسج. وقد كانوا ماهرين في إعطاء الأنسجة المخملية بريقا لم أحب تزاويقه. وفي قاشان-كما في طهران- كانت المجاعة آخذة في الزحف. وقد بيع إردب حبوب قمح ب 14 شاهي"[xx].
ولقد كانت جين ديولا فوني (1851-1916 م) أول امرأة- رفقة زوجها مارسيل ديلافوني- تقود أعمال حفريات موسعة في بلاد فارس، وقد اشتهر الزوجان ديلافوني بما حققا من اكتشاف في شوش (في شوش (1884-1888. يوميات الحفريات، باريس 1888 م). وكانت أول رحلة لهما إلى بلاد فارس -من بين ثلاث رحلات- رحلة عام 1881 م. والحال أن كتبهما عن فارسـ وأكثرها شهرة كتاب: "بلاد فارس وبلاد الكلدانيين وبلاد شوش (1881-1882) باريس، 1897"، وكتاب "الشرق تحت الحجاب: من شيراز إلى بغداد 1881-1882، باريس، 1989 م" ـ ذات قيمة لا تقدر من حيث المعلومات التي تنطوي عليها. وقد زار الزوجان قاشان في شهر أغسطس من عام 1881 م، وكتبا:
(178)البادية التي تنحدر من نصرباد جافة ومغبرة. لكن لا تزال التلال المخروطية تدل على حضور قنوات الري. وشيئا فشيئا يمسي السهل خصبا. وقد شاهدت على سفح الجبال العديد من القرى وقد استقرت في وسط مخضر. والحدائق تغص بالشمام والبطيخ والخيار، كماتمتلىء بزراعات أخرى شاسعة للقطن والتبغ تمتد في كل الاتجاهات.
ثمة فندق ممتد الأرجاء أمام باب قاشان، وبينما هممنا بالدخول إليه، إذ بخادمين يقدمان أنفسهما، وقد بعث بهما سيدهما، رئيس شركة التلغراف كما قالا، وقد بلغانا بضرورة البقاء بالمحطة حيث هيأ لنا السكن بأمر من العقيد شميث، وهو رئيس الخط التلغرافي الإنجليزي الذي يصل بين الهند ولندن.
وحسب العديد من المؤلفين الشرقيين، فإن قاشان شيدت من طرف زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد. ويلمح هؤلاء المؤلفون إلى الأصل الإسلامي للمدينة، بينما مؤرخ شهير -هو ابن العاصم-يؤكد بأن قاشان وقم زودا جيش آخر ملك ساساني بما قدره 20000 من الجند. وتاريخ قاشان شديد الارتباط بتاريخ أصفهان جارتها الشهيرة. وقد دمر الأفغان قاشان في القرن 18 الميلادي، وأعيد بناؤها من لدن حاجي حسين خان الذي أعاد تشييد القصور والبنايات الدينية لعاصمة الملوك الصوفيين [الصفويين].
واليوم المدينة أشد ثراء وأشد تصنيعا من باقي مدن بلاد فارس. وهذا ما يشهد عليه منظرها المزدهر؛ فالبيوتات المبنية بالطين تبدو معتنى بها. والأردام المغبرة لا تتساقط من جدران البيوتات؛ وذلك أيضاً بسبب أن معظم الزقاقات والدروب مبلطة ومزودة بمجاري مياه تأخذ مياه الأمطار إلى مجامع السيول. وثمة حجارة موضوعة على مجامع السيول لكي تسمح للراجلين وللفرسانبالتجول بالمدينة من دون خشية الوقوع. والشوارع تنظف تنظيفا موصولا. وهذا التدقيق ينبغي أن يبدو غريبا لرحالة اعتادوا على الاتساخ الشهير الذي يصم المدن الشرقية.
والسوق المقسم والمغطى بقباب صغار واحدة تعقب الأخرى، يفتح بمسافات متعادلة على أبواب فنادق شاسعة لا ينبغي للمرء أن يخلط بينها وبين نقط وقوف القوافل التي تحمل الاسم عينه [الفنادق]. فالأخيرة تصلح لتجمع المسافرين في القوافل، بينما الأولى مناطق توقف واستجمام حقيقية لا تستعمل للخدمة العابرة للمسافرين ولرواحلهم. وبينما بناء الثانية بسيط ورخيص، فإن بناء الأولى بناء ترفيهي فخم ومزين.
والحق أن فندق "طازا" (الجديد) من أجمل البنايات من هذا الصنف، وقد بني على نفقة جمعية التجار. وله شكل ساحة ذات زوايا مقطوعة (180)، والجانبان الأساسيان يشغلهما بابان بمثابة مدخل، والقاعات المستطيلة الشكل تنتهي إلى أشكال نصف مثمنة منتظمة وموصولة بعضها ببعض. والقباب والبناء برمته مبني بطوب. بعضها مزججة بالأزرق، وهي تزيد من حدة انقسامات القباب. وينفذ النور إلى هذا الفندق من خلال كوات دائرية الشكل تقع أعلى القبة الرئيسة ومن نصف القبتين الاثنتين. وإن لمن شأن بناية هذا حالها أن تحكي عن علو كعب هذه المدينة وعن ازدهارها التجاري أكثر مما يمكن أن تحكي عن ذلك الإحصاءات. وتباع في فندق "طازا" قماشاتالحرير والأثواب المطرزة من لدن نساجي قاشان الذين يشتهرون بمهارة عملهم وبنقاوته.
أما ورش النساجين فتبدو شيئا ما غريبة للزائر؛ فالنساجون مجبرون بسبب شدة جفاف هوائهم على العمل في ورش تحت الأرض مضاءة بنور لا يكاد يكفيهم في إقامة شغلهم، وذلك لحماية خيوط الحرير من أن تنكسر. وكل عامل يجلس عاريا إلى خصره أمام نساجة خيوط الحرير إلى أن ينهي مهمته.
وقطع القماش على ضربين: الأولى-وهي رقيقة وخفيفة- تصلح للزينة. والثانية -وهي ثخينة وثقيلة- تصلح للتغطية على المضارب الصغرى التي يضعها الفرس على جدران بيوتاتهم وسادات لكي يتكئوا عليها. ورسومات هذه القطع من القماش الحريري بالأبيض والأخضر والأصفر تكون عموما ذات خلفية حمراء.هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الفارسي -بما أنه شرقي قح-لا يضع أبداً قطعة تكون بقطعة أخرى شبيهة. ولئن كانوا ينقلون التصميم، فإنهم لا يفلحون أبدا في إيجاد اللون المناسب؛ لأنه لا توجد لديهم طريقة مضبوطة لتهيئة لون الصباغة.
ولئن كان فندق "طازا" هو الأغنى فيما يتعلق بالمعاملة التجارية، فإن سوق النحاس هو الذي يشهد على أكبر الإقبال؛ذلك أن ما يناهز أربعمائة إلى خمسمائة نحّاس يشتغل في الدروب الطويلة، وقد أنعشهم المرور الموصول لقوافل الإبل التي تحمل النحاس في لفافات من روسيا، أو تأتي لتحمل الكثير من السفن ذات الأشرعة من قاشان إلى مختلف مدن بلاد فارس. وإن الضوضاء غير المحتملة للمطارق النازلة على القطع النحاسية على الفترات المنتظمة التي تأتي لكي تدق على المعدن لا تؤذي آذان الأوربيين وحدهم؛ فالفرس أنفسهم لا يمكنهم أن يبيعوا ويشتروا وسط مثل هذا الضجيج، وعادة ما يأمرون بأن تنقل القطع التي يؤثرونها إلى بيوتهم حيث هنالك فحسب يتداولون حول شرائها.
ثمة مروية عتيقة -حتى وإن كان مبالغاًفيها- تعطينا فكرة عن هذا الضجيج المهول: لما كان ابن سينا يحيى بأصفهان، راح ذات يوم يشتكي إلى الملك: "إن نحاسي قاشان- كما قال للملك- يتسببون في ضوضاء تبلغ من الشدة بحيث إنها في بعض الأيام تفرض عليَّ أن أوقف دراساتي" [أوقف الملك النحاسين عن العمل، وتمكن ابن سينا من إنهاء فصل من كتابه في الطب" [كتاب القانون]".
(182) ... أغسطس 6: لكي يكوّن المرء فكرة جيدة عن الطبوغرافيا وعن حسن العناية بالمدينة، عليه أن يصعد إلى منارة رائعة بنيت في القرن 13 الميلادي، وهذه البناية الأنيقة المبنية بالآجر ذات الثلاث سنتمترات عرضا تعلو إلى 47 مترا. ثمة درج ملفوف في حال جيد يسمح للمرء بالصعود إلى الكورنيش وقد أمنه واق زجاجي، وإذا ما نظرنا من هذا العلو إلى التعزيزات بدت لنا حلقة كاملة، وسطها نشاهد تراتبا غامقا من الأشجار والشرفات والقباب المغطاة بالبلاطات الزجاجية تشبه كتلة فيروزية. والمدينة تعج بالحياة في كل مكان. ولا يشاهد المرء أحياء ممتدة الأرجاء مهجورة، كما في تبريز أو في قم. [تروي الباحثة مروية حول هذه المنارة التي يقال: إنها استخدمت لإعدام النساء الكافرات برميهن من الأعلى نحو الأسفل].
وفي طريق عودتنا إلى مركز البريد، مررنا على المسجد الجامع، أمام الشوارع تقوم منارة قديمة ذات قطع فسيفساء أنيقة موحدة الألوان [لم يكن بإمكانهم الولوج إليها في ذلك اليوم]. [184-184: زيارة إلى الحاكم]
(188) ... أغسطس 8: مسجد ميدان: إن بناء هذا المبنى-الذي يوجد في مركز المدينة في أشد أماكن السوق أهلية- يعود إلى القرن 14 الميلادي، وكل المساجد تولي وجهها نحو الكعبة التي على كل المسلمين الأتقياء أن يتوجهوا نحوها في صلاتهم،ولقد أُجبر المعماري على وضع المدخل الرئيس في وضع يشكل زاوية مع محور الشارع. وبغاية تفادي هذه الثغرة، فتح في واجهة موازية لمسجد ميدان مدخلا لمدرسة شيدت على الزاوية التي نجمت عن التقاء الجدارين، فكان أن أتت موازية لواجهات باقي البنايات [في الشارع].
الجامع واسع وحسن التصميم، لكن الفائدة الفنية تكمن في محرابه الذي يقضي بالعجب، والمغطى ببلاطات ذات بريق معدني، يشبه محراب إمام زادة يحيى في فيرامين. وليس من المفاجئ أن نعثر على مثل هذه القطعة الفنية هناك؛ لأن قاشان هي البلد الأصلي للخزف المزخرف بالبريق المعدني المسمى "قاشي" في اللسان الفارسي ...
(193) أغسطس 10: خلال الصيف، يُصَيِّف سكان قاشان أو يزورون باستمرار قرية "فين" التي تبعد بحوالي فرسخ من المدينة. والموقع ساحر جذاب: منابع تجري بالمياه التي تحركها حوالي أربعون نافورة، مغذية حديقة جميلة حول قصر بني من لدن أخلاف عباس العظيم. في هذه الخلوة الهادئة، قتل ميرزا ناجي خان [المصلح أمير كبير]، الأخ صهر الشاه [نصير الدين شاه]، بأمر من الشاه[xxi] [مدار الكلام على نصير الدين شاه إلى حدود الصفحة 195].
وجورج نتانئيلكيرزون (1859-1925 م) هو مؤلف خلاصة قيمة حول حال الأعمال في بلاد فارس أواخر القرن 19 الميلادي. ولقد شغلالرجل- وهو رجل دولة بريطاني-منصب نائب كاتب الدولة في الهند (1891-1892 م)، ومنصب نائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية (1895- 1898 م)، ومنصب كاتب الدولة في الشؤون الخارجية (1919-1924 م)، ومنصب نائب الملك بالهند (1899-1905 م). والحال أن شخصيته الألمعية المقنعة المتكبرة، بل حتى الواثقة من نفسها بأشد وثوق يكون، والتي توشك أن تلوح من كل صفحة كتبها وتوشك أن تتبدى من كل خطاب ألقاه، قد استعْدت عليه الكثير من الخصوم. كل هذا يرشح من الكتاب الذي ننقل منه ههنا. فما قدمه إنما هو عبارة عن خلاصة لامعة ومتعجرفة، وهي خطوة أولى مهمة نحو مهمته الأخيرة، لكنها أيضا مصدر قيم للمعلومات.
(12) "ومن هنالك، على سهل منبسط بتمام الانبساط حثثنا السير نحو قاشان. ولقد كانت أعمدة دخان كثيف تلوح في الأفق مؤذنة عن وجود مدينةعلى قاعدة ما يسمى أحيانا، في غياب اسم يعم، نطاق كوهرود (من القرية التي سوف أتحدث عنها الآن)، لكنها في الواقع مهماز من نفس السلسلة الجبلية التي تتصل بلا انقطاعمن قاشان إلى يزد، ومن ثمة إلى كرمان.
يعزو التقليد المحلي تأسيس قاشان إلى زبيدة، زوجة هارون الرشيد؛ لكن يبدو ثابتا أن المدينة كانت توجد من ذي قبل بكثير؛ وذلك لأنه توجد لدى مؤرخ من أهل البلد إحالة على قاشان وقم بوصفهما شاركتا بقوة 20000 جندي في جيش آخر ملوك بني ساسان، وبعضهم رأى في اسم المدينة نحت من (13) قاي-أشيان، أو مسكن الملك. من بعيد تبدو قاشان قد اشتهرت بسبب أمور خمسة: مهارة سكانها في الصنعة، مصانع حريرها، أوانيها النحاسية، خزفها المزخرف، عقاربها.
سافرجيوفريدوكيت- وهو واحد من السعاة الإنجليز الذين أبحروا إلى بلاد فارس في المغامرة الخامسة للشركة البريطانية الموسكوفية في القرن 16- إلى قاشان عام 1573 م، وذكر أنها: "مدينة تكمن أهميتها في البضاعة، وفيها أفضل تجارة في البلد، وقد زارها مرات عدة على نحو موصول تجار الهند. والمدينة ممدوحة بسبب حكمها المدني القائم بها. وإن من شأن شخص بطال ألا يعيش بين أهلها. والطفل الذي ليس له من العمر إلا خمسة أعوام منذور للاشتغال بشغل ما. ولعب النرد أو الأوراق يؤدي بحكم الناموس إلى موت محقق" (كول 1866 م، II ، 428). وقد وصف جون كارتوراين، وهو واعظ كان بها عام 1600 م- هذه المدينةبأنها "هي مخزن ومستودع مواد وسلع كل مدن بلاد فارس". أما السير ت. هيبرتين، فقد قال عام 1627 م: "هذه المدينة النبيلة لا تقل قيمة عن يورك أو نورويتش؛ ففيها تعداد الساكنة أربعة آلاف أسرة. ولا تضاهيها أية مدينة فارسية أخرى في حسن إيالتها أو في أناسها المدنيين المهرة، والمصانع بها تضاهي وتبز كل المصانع التي شاهدتها ببلاد فارس" (بورشاس، الكتاب الثاني، 9، الفصل 4).
ولقد أتى شاردان أيضا على ذكر الفندق الملكي الذي بناه عباس الأعظم بوصفه "الأبهى في كل بلاد فارس". وذكر أنه على عهده كان للمدينة سوران، وخمسة أبواب، و6500 من البيوتات (بما في ذلك بيوتات الضواحي)، وأربعون جامعا،وثلاث مدارس، و20 ضريح ولي. ولقد كان لحرير قاشان وثوبها الصقيلومطروزاتها شهرة ذائعة في الشرق.في الأزمنة السابقة كانت تتم تربية دود القز في الضواحي، كما كان- فضلا عن ذلك- يتم استيراده. فضلا عن أنه كان يتم استيراد المادة الخام من جيلان. وكثير من الحرير الممتاز ومن الحرير الممزوج بالقطن لا يزال يتم تصنيعه هنا (ومن بينها أنواع الشالات المدعوة شالات حسين كلكخاني، وهو اسم أحد مصمميها الأوائل أو صناعها، والتي تعدّ لربما من أفضل القماشات الجمالية المصنوعة في بلاد فارس)، وكذلك الثياب المخملية ذات التصميم المميز، والأواني النحاسية مثيرة هنا أيضا. كما أن قاشان هي المصنع الأهلي المشهور للأواني المنزلية النحاسية. وفي السابق كان يجلب المعدن من شيفاس بالجانب الآسيوي من تركيا، عبر إرزرموموتبريز؛ لكنه الآن يستورد قضبانا أو رقائق من إنجلترا. وأما الأسواق ـ البازارات ـ والأماكن التي تشهد الرواج فتتوفر في الحي الجنوبي، حيث توجد المباني الأساسية هنالك أيضا، والمتمثلة في جامع الميدان، الذي يحتوي على محراب بديع ذي الفيسفساء وذي الشكل المنقوش البراق، كما يحتوي على منارة مائلة، وفي فندق شاسع الأركان لتخزين البضائع أو لمقايضتها.
وفي عام 1870 م، ذكر العقيد إوان شميث أن المدينة كانت تشمل 24 فندقا لبيع البضائع، وخمسة وثلاثين لإيواء الغرباء، وأربعة وثلاثين حماما عموميا،وثمانية عشر جامعا واسعا، وتسعين ضريح ولي صغيراً. وقد قدر عدد السكان بـــ 90000 نسمة ـ وهو عدد قد يبدو مبالغا فيه رغم أن الجنرال غاشتايغر خان كان قد حصر العدد في 5000نسمة عام 1881 م في تقليل لعدد السكان قد يكون مبالغا فيه في الاتجاه المضاد. وفي عام 1885 م، قدر شيندلرعدد السكان بالعدد 30000، حيث إن السكان يوجدون بخارج البلدة، مما يجعل المرء حائرا لا يستطيع تمثل ما يبدو ظاهرا أنها أكثر المدن تشتتا في بلاد فارس. ولم أر لحد الآن مكانا أكثر شؤما. فنادرا ما وجد مكان للترميم في ذاك البناء، ولو حتى جدار واحد مصون. فالطرقات غير مبلطة والبيوتات التي توجد بجنباتها كانا في حال من الإهمال، بحيث يبدو محزنا أن تشاهد المنازل، كما أن تسير عبر الطرقات غير المعبدة.
لقد تم ولا يزال اليوم اشتقاق اسم الفخار الفارسي ، المدعو "قاشي-قاري" من اسم مدينة قاشان. وهذه المدينة- التي يوجد الطين الجيد في نواحيها، كما المواد الملونة- كانت إحدى المراكز الرائدة في الصنعة. وإن العدد الأكبر من الأواني الفخارية الجميلة الشديدة اللمعان- والتي هي المفضلة بين المتذوقين للفن الفارسي-وجد بقاشان أكثر من أي مكان آخر، لكن لا توجد أية حجة وجيهة بأنها كانت قد صنعت هناك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكثير من البلاطات -التي تستعمل بكثرة وبفعالية في تزويق المساجد- إنما أنضجت في أفران قاشان.
ولربما تعود السمعة الواسعة لطبائع أهل قاشان -التي تتسم بالأريحية- إلى العادات التجارية التي اكتسبوها عبر قرون موصولة. ولقد تعدت شهرتهم في هذا المضمار تعديا أن ضرب بها المثل، وذلك في بلاد لا تعد فيها الشجاعة كما تبدو لي شائعة. ومن بين العديد من القصص التي رويت عنهم، لربما كانت الأفضل حكاية أن من بين 30000 رجل من رجال قاشانوإصفهان (وهي مدينة تتسم بنفس السمات) الذين عندما حل نادر شاه جيشه عند عودتهم من الهند، فإنه كان قد أعد 100 فارس لكي يخفروهم بسلام إلى بيوتهم. ولربما تسبب الحر الشديد في الصيف في قلق المرء، وهو الحر الذي كان عزاه شاردان إلى "الجبل الشاهق في الجنوب واشتداد أجواء السخونة أيام الشعرى لتحرق من جديد". وفيما يتعلق بأمر العقارب، فإن النوع الأسود منها الموجود بقاشان قد اكتسب شهرة كبيرة، وقد ذكره الإصطخري في أوائل القرن العاشر الميلادي ... (16) وتقريبا على بعد أربعة أميال من جنوب غرب قاشان، على سفح الجبل، يوجد قصر "فين" والمنابع التي جعلت منه منتجعا منذ الأزمنة الأولى. ولقد شيد شاه عباس إقامة هنا، لكن البنية الحالية، التي توجد في حال خراب مهول، إنما هي من عمل فتح علي شاه الذي جعل منها إحدى أماكن استراحته المفضلة، رغم أن قصده كان أن يخصصها لأخيه حسين كولي خان. إن شوارع أشجار السرو، والماء السائل عبر قنوات الرخام، ونافورات الماء كانت تزين حدائقه، وصورة فتح على وأبنائه، ومشاهد القنص والمعارك معلقة على جدرانه. إن السير ج. مالكولم وخفره كانوا قد أقاموا هنا في مسيرة صعوده إلى طهران عام 1810 م. وفي الأزمنة اللاحقة، ارتبطت بقصر "فين" ذكريات حزينة؛ لأنه في عام 1852 م، قتل ميرزا تقي خان، الوزير الأول الأكبر لمملكة الشاه وصهر الملك، بأمر ملكي؛ إذ تمت تصفية دم عروقه في الحمام. والمكان اليوم مهجور"[xxii].
[i]Ghirshman, R.:Fouilles de Sialkprès de Kashan 1-2. Paris 1938-9.
[ii]al-Baladhuri, Abu ‘l-Abbas Ahmad: Kitabfutuh al-buldan. Ed. M. de Goeje. Leiden 1863-66, 312.
[iii]al-Istakhri, Abu IshaqIbrahim:Kitabmasalik al-mamalik. Ed. M. de Goeje. Leiden 1927, 201.
[iv]Ibn Hauqal, Abu ‘l-Qasim Muhammad:Kitabsurat al-arḍ.Ed. M. de Goeje. Leiden 1873, 264.
[v]al-Muqaddasi, Abu AbdallahMuhammas: Ahsan al-tahasim. Ed. M. de Gooeje. Leiden 1906, 390-392.
[vi]Yaqut, Abu Abdallah b. Abdallah: Mujam al-buldan. Ed. F. Wüstenfeld. Leipzig 1866-1873, III, 13.
[vii]al-Qazwini, Abu Yahya Muhammad: Athar al-bilad. Ed. F. Wüstenfeld. Göttingen 1848, II, 289.
[viii]HamdallahMustaufiQazwini:Nuzhat al-qulub. Ed. G. Le Strange. Leiden-London 1916, 150.
[ix]Barbaro, J. and A. Contarini: Travels to Tana and Persia.Translated by W. Thomas and S.A. Roy.New York 1967, 72.
[x] Herbert, T.: Travels in Persia 1627-1629. London 1928, 217-219.
[xi]Olearius, A.: VermehrteNeweBeschreibung Der Muscowiitschen und PersischenReyse.Schleswig 1656, 493-498.
[xii]Tavernier, J.B.:The Six Voyages. London 1678, 30-31.
[xiii]Chardin, Jean:Journal du voiage du Chevalier Chardin en Perse et aux Indes orientales.Amsterdam 1686, 426-429.
[xiv]Kaempfer, Engelbert.: Die ReisetagebücherEngelbertKaempfers. Bearbeitetvon Karl Meier-Lemgo.Wiesbaden 1968, 78-80.
[xv]Le Bruyn, C.:Voyages de Corneille Le Bruynpar la Moscovie, enPerseet aux IndesOrientales. Paris 1725, IV,63-68.
[xvi]Bell, J.: Travels from St. Petersburg in Russia to Diverse Parts of Asia. Glasgow 1763, 1, 91-92.
[xvii]Morier, J.: A Second Journey through Persia, Armenia, and Asia Minor, to Constantinople, between the Years 1810 and 1816. London 1818, 161.
[xviii]Binning, R.: A Journal of Two Years’ Travels in Persia, Ceylon, etc.London 1857, II, 186-190.
[xix] De Gobineau, A.:Trois ans en Asie. Paris 1905, 224-241.
[xx]Brugsch, H.: Reise der K. PreussischenGesandtschaftnachPersien 1860 und 1861. Leipzig 1863, 260-261.
[xxi]Dieulafoy, J.: UneAmazoneen Orient. Paris 1989, 178-195.
[xxii]Curzon, G.N.: Persia and the Persian Question. London 1892, II, 12-16.