الأمير شكيب أرسلان: من التفسير السياسي الديني إلى التفسير الجغرافي للأوضاع العربية والإسلامية الحديثة

david-monje-8vyCtLPlEBo-unsplash.jpg

د. محمود حداد (1)

         عندما يذكر اسم الأمير شكيب أرسلان فإنّ أول ما يتبادر إلى الذهن كتابه الذي نشره مسلسلاً عام 1929 ، ثم مستقلاً عام 1935 ، وصدر في عدة طبعات بعد ذلك : " لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟" (2) و كان الجواب الذي قدمه الأمير الأرسلاني في هذا الكتاب أو الكتيب الصغير يتلخص في تقديم أسباب دينية لسؤاله، حيث إنه رأى أن المسلمين تخلوا عن مبادىء دينهم الاسلامي بينما تمسك الأوروبيون بمبادىء دينهم المسيحي على الرغم من انتصار العلمانية في الغرب. فهناك فارق رئيس بين مسلمي الشرق -وخاصة نخبهم الحديثة- ومسيحي الغرب ونخبهم الحديثة. فبالنسبة للأمير شكيب اعتبر المثقفون المسلمون المتغربنون أن " الإسلام هو المشكلة" ، وأن الحداثة والعلمانية تكمن في التخلي عن الدين بصورة مطلقة عملياً وإن لم يكن كذلك نظرياً. أما المثقفون الغربيون فرأوا أن الحداثة تعني العلمانية بمعنى الفصل الإداري بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الدين المسيحي، وظلوا على إيمانهم الديني لم يتزحزحوا عنه قيد أنملة، بل زادوا من إيمانهم به. فالعلمنة فُسرت إلحاداً عند النخب الإسلامية؛ بينما لم يكن الأمر كذلك عند الذين قالوا بالعلمنة أولاً في الغرب.

  وصف المؤرخ الراحل ألبرِت حوراني،البريطانيP اللبناني الأصل، في أحد أعماله حركة التجديد الإسلامية الحديثة التي نشأت في القرن التاسع عشر متأثرة بالغرب، وصفها بأنها تنتمي إلى ثلاثة أنواع من الدعاة: أولئك الذين ركزوا على توحيد وتوجيه "جهود الشعوب الإسلامية للدفاع عن العالم الإسلامي في وجه الاختراق الغربي"، وهم على صلة بأفكار جمال الدين الأفغاني (1839-1897) وبإسلامه الشامل. وأولئك المشدِّدون على ضرورة إعادة النظر في قراءة العقائد الإسلامية  والشّرع الإسلامي، وهم على صلة بأفكار الشيخ محمد عبده (1848-1905)، وقد سُمّوا في بعض الأحيان بـ"الحركة الإسلامية الحديثة". وأولئك الذين "يرون التحديث ليس فقط بواسطة العمل السياسي، بل كذلك في إعادة إحياء الحياة الدينية في الإسلام"، وكانوا على صلة بالحركة الوهابيّة. ويقول حوراني: إنّ كل واحد من هذه النماذج يعدّ "نموذجاً مثاليا"، ويضيف بأنّه قد يتبين أن لا مفكر عربياً قد تبنى أياً من تلك النظريات بكاملها، بل مزيجا واضحاً من كل عناصرها". وفي الواقع وصف حوارني بذاته الشيخ رشيد رضا (1865-1935) بأنه كان في بداية سيرته "مصلحاً دينياً، ثم صار مؤيداً للأُصولية الوهابية في الفترة اللاَحقة من حياته. إضافة إلى ذلك، حاول رضا الجمع بين رأي الأفغاني في الشأن السياسي وبين رأي عبده المصلح الديني. ورأى الباحث الأميركي مالكوم كير أنّ رضا توسع في شرح القانون والسياسة الإسلاميين على نحو أكثر دقة وتماسكاً عن أي عمل حاوله عبده. مع ذلك، وخلافاً لعبده الذي ابتعد عن العمل السياسي المباشر بعد عام   1888 ، واتخذ موقفاً معتدلاً إزاء الاحتلال البريطاني لمصر، اتبع رضاً نهجاً مختلفاً بعد وفاة عبده في عام 1905، معتنقاً النشاط السياسي قبيل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، تأييداً للتحرّر العربي والإسلامي من الدول الأجنبية.

         ليست الغاية من هذه الدراسة القصيرة والمختصرة البحث في سيرة الشيخ رشيد رضا، بل في سيرة شخصية أخرى كانت ذات صلة به: الأمير شكيب أرسلان (1869-1946)، وهو أحد المفكرين العرب المسلمين الذين حظيت أنشطتهم وأفكارهم -خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى- بأقل قدر من الدراسة. وقد ركّز وليم كليفلند في كتاب أصدره عنه على عمله في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، علماً بأنه خصص فيه فصلاً واحداً لنشأته. وقد كان شكيب أرسلان سليل أسرة درزيَّة بارزة من جبل لبنان. عُرف بأنه اعتنق الإسلام السنيِّ دون التخلي عن درزيته لاعتقاده أن الدرزية مذهبٌ إسلامي، وأنَّ بينها وبين السنية كثيراً من الأمور المشتركة. فقد كان الأمير شكيب يمارس فرائض الإسلام الرئيسة (كالصوم والصلاة والحج) التي يتجاهلها معظم الدروز إجمالاً. وقد رسم حوارني صورة للعلاقة بين شكيب أرسلان والشيخ رشيد رضا على الوجه التالي:

         إنَّ عنصر القوميَة العربية قوي في كتابات رشيد رضا، وأقوى منه في كتابات صديقه شكيب أرسلان؛ فعندما يتكلمان عن قضايا الإسلام فإنهما إنما يفكران قبل كل شيء في الإسلام العربي، ويعدّان المسلمين الآخرين- وبتعبير أرسلان نفسه- "تلامذة العرب". غير أن هذا التناقض ظاهري فقط؛ ذلك أنهما كانا مؤمنين بإمكان التوفيق بين القومية العربية -نظراً لموقع العرب  في الأمة- وبين الوحدة الإسلامية على نحو يستحيل على الآخرين . بل والأكثر من ذلك (آمن) بأن إعادة إحياء الأمة (الإسلامية) يحتاج إلى إعادة إحياء العرب. فالفكر الإسلامي لا يستطيع الازدهار إلا بازدهار لسان العرب؛ ذلك أنها اللغة التي تمكن بها دراسة الإسلام وسبر غوره، وعليه فإنّ من واجب أيّ مسلم أن يتعلم العربية إن كان قادراً على ذلك.

 

         ومع أن ألبرت حوراني أدرك الخلاف بين رضا وأرسلان، حين كان الأول يؤيد التحالف العربي- البريطاني ضد الأتراك، إبانَ الحرب العالمية الأولى ، بينما كان الثاني يستنكره، فإنه لم يتعرض لدراسة معمقة للعلاقات الفكرية والسياسية التي كانت قائمة بين الرجلين  إبان تلك الحقبة. إنَّ محاولة تمهيدية لمثل هذا البحث تستدعي قسمة تفكير أرسلان إلى مرحلتين متمايزتين: الأولى تنتهي مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتمتد الثانية حتى وفاته في 1946.

         كان عمل أرسلان قبل نهاية الحرب يدور حول الحكم العثماني في جبل لبنان وسوريا؛ ففي 1902 عيَّن قائمقاماً لمنطقة الشوف في جبل لبنان لفترة قصيرة جداً، ثم عيَّن مجدداً في المنصب عينه في  1908 وشغله حتى 1910. وعلى العكس من الشيخ رشيد رضا، لم يكن أرسلان قبل 1908، حين أجبر ضباط "تركيا الفتاة" السلطان عبد الحميد الثاني على العودة إلى دستور عام 1876، لم يكن من نُقَّاد السلطان، ولكنه تحالف بعد انقلاب 1908 مع "جمعية الاتحاد والترقي"، وانتُخِبَ نائباً في بداية 1914 في مجلس المبعوثان العثماني (البرلمان) عن حوران، وهي منطقة سورية خارج جبل لبنان ذات أكثرية درزية. وكان قبل ذلك ببضعة أشهر قد انضم إلى حزب عربي تشكل في دمشق باسم "حزب الإصلاح الحقيقي"، وكان من أهدافه دعم الحكومة العثمانية "في صراعها مع الأخطار الخارجية من دون إزعاجها بالخلافات الداخلية". والواقع أنَّ الغاية من هذا التجمع كانت الوقوف في وجه حزب عربي آخر هو "حزب اللامركزية الإدارية  العثماني" الذي كان قد تأسس  في القاهرة في أوائل عام 1913.ولعل  الجدير بالملاحظة هو أن الشيخ رشيد رضا كان أحد قادته الأولين. وقد سعى ذلك الحزب لتحقيق الإصلاح عبر المطالبة بحصول الولايات العربية على حكم ذاتي وعلى اللامركزية، في حين بدت جمعية الاتحاد والترقي مصممة على المركزية الشديدة وعلى التتريك. من هنا يبدو أنّ أرسلان ورضا كانا آنذاك ينتميان إلى معسكرين سياسيين متناقضين.

         بعد انتخابه عضواً في البرلمان العثماني نشر أرسلان كتاباً عنوانه "إلى العرب،  بيان  للأمة العربية عن حزب اللامركزية"، هاجم فيه كل  مادعا إليه "حزب اللامركزية الإدارية العثماني". وكان الكتاب رداً على كتاب "وقائع المؤتمر العربي الأول" الذي انعقد في باريس في عام 1913، وحرره رئيس المؤتمر الشيخ عبد الحميد الزهراوي، وكان عنوان الكتاب "بيان إلى الأمة العربية من حزب اللامركزية الإدارية العثماني". ففي رأي أرسلان  ذاب الرابط القومي العربي، أو بالأحرى الرابط العرقي (العصبية الجنسية) في الرابط الديني الأوسع (العصبية الدينية) منذ أيام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وكانت نتيجة هذا الرابط الديني المثالي أن استطاع المسلمون العرب الانتصار على الفرس وعلى البيزنطيين. وكان رضا يقبل بهذا الموقف؛ لأن غاية فكره السياسي النهائية كانت – في رأي حوراني – قيام  دولة إسلامية حقيقية، وكونه "يعارض جميع المحاولات الرامية إلى قيام دولة في العالم الاسلامي يكون أساس الترابط فيها غير الدين". ولكن الرجلين اختلفا في كيفية تحقيق هذا الهدف؛ ذلك أن رضا أعطى الأولوية الأولى للغة والحضارة العربيتين وللدفاع عن سوريا في وجه خُطط الاستعمار الفرنسي المعروفة جداً  آنذاك والرامية إلى السيطرة عليها. وعندما أصرت "جمعية الاتحاد والترقي" القومية التركية الحاكمة على اتباع سياسات التتريك تغلب على تردده السابق، وذهب إلى حد التحالف مع "دولة أوروبية مسيحية (بريطانيا) للدفاع عن سوريا في وجه "دولة أوروبية مسيحية (فرنسا) أخرى" ؛ للدفاع عن الحضارة العربية في وجه الدولة العثمانية المسلمة. ومنذ فترة مبكرة تعود إلى  عام 1900 أخذ يبدي آراء كقوله:

إن الشغف بتاريخ العرب والسعي لإحياء مجدهم يساويان العمل من أجل وحدة الإسلام التي تحققت في الماضي فقط عبر العرب، والتي لن تستعاد في هذا القرن إلا بواسطتهم.

إن قاعدة هذه الوحدة هي الإسلام نفسه، وما الإسلام إلا كتاب الله القدير على كل شيء وسنة رسوله، وكلاهما بالعربية. فما من أحد يستطيع فهم الإسلام إن كان لا يفهم العربية الفهم الصحيح، وما من أحد يمكنه فهمهما الفهم الصحيح إن كان لا يفهم لغتهما النبيلة.

 

لم يكن الخلاف حاداً بين دعاة اللغة التركية وبين أولئك المنادين باللغة العربية قبل بروز القوميتين التركية والعربية في الإمبراطورية العثمانية؛ نظراً لاعتبار الأولى لغة الدولة والثانية لغة الدين والشريعة.

ولم تكن ميول أرسلان بالطبع إلى جانب التتريك، ومع ذلك اختار التغاضي -في تلك الحقبة على الأقل- عن دور اللغة العربية في الأمة الإسلامية. أمّا فيما يتعلق بالاستعمار الأوروبي اللائح في الأفق لغزو المزيد من الولايات العربية العثمانية- وخصوصاً سوريا- فكان الخلاف بين رشيد رضا وشكيب ارسلان تكتيكياً؛ ذلك أنَّ الأخير أولى الأهمية القصوى للدفاع عن قلب القوة السياسية العسكرية الإسلامية – أي الدولة العثمانية في إستانبول -وشدد على "أخطار الانقسام، وعلى أهمية الدولة  بوصفها ملجأً واقياً للعرب". أما رضا فكان يشعر بأن الملجأ العثماني الواقي فقد  مكانته، وعلى الأخص بعد فشل إستانبول في انقاذ طرابلس الغرب من الاحتلال الايطالي في عام 1911. وفي مجابهة بين أرسلان وعبد الحميد الزهراوي- أحد زعماء حزب اللامركزية العثماني المذكور آنفاً- والذي تألف في مصر قبيل الحرب العالمية الأولى- دافع أرسلان عن الدولة العثمانية- ودعا كل عربي إلى الوقوف بجانبها في حال نشوب حرب. وكان جواب الزهراوي على شكل سؤال: "وأين هي الدولة" [العثمانية]؟ لقد انتهت".  ففي هذا السياق الفكري، كانت الإمبراطورية العثمانية قد زالت بعد سلسلة من الهزائم بين عامي 1911 و1913 في طرابلس الغرب وفي البلقان. فاتكال العرب على أنفسهم بأنفسهم وتخلي العثمانيين عن المركزية هما السياستان الأشد إلحاحاً. وكان رضا يوافق أرسلان الذي رأى في أزمة الانحدار العثماني مجابهة بين الإسلام والمسيحية. ذلك أنه اعتبر أنّ أي نصر لأوروبا "المسيحية" هزيمة للإسلام، حتّى إلى حد اعتبار مفهوم القومية العرقية سلاحاً في ذلك الصراع، إذ قال:

"بعد محاربة أوروبا الدولة العليّة [العثمانية] بجميع أصناف الحروب تأتي لكي تحاربه بحرب جديدة تذكي الرابط القومي (الجامع العرقي) في الشعوب الإسلامية. إنها تفعل ذلك لكي تتلاشى الروابط الإسلامية، فلا يبقى مجال للألفة بين المسلم الصيني والهندي، والتركي والعربي". وكان اندفاع أرسلان في الدفاع عن الإمبراطورية العثمانية قد حمله على وصفها بأنها "أقدم سلالة دافعت عن الإسلام طيلة حقبة امتدّت طوال ستمائة عام، تقاتل دول أوروبا بالمسيحية على جهة، والدولة الصفوية الفارسية، على الجهة الأخرى". وأصرّ على وجوب عدِّ الدولة العثمانية مقدسة عند العرب؛ إذ إنها رفعت شأن الدين الذي كانوا هم الأولين في إهدائه للعالم. والواقع "أن أصل الدولة عربي، وقوتها قوة للعرب ولأولئك الذين صار دين العرب دينهم"؛ بل إنه أشار إلى أكثر من ذلك، وهو أن "الأتراك هم تلامذة العرب في الإسلام".

بالعودة إلى جماعة إحياء الحياة الدينية الإسلامية الذين سماهم حوراني "النوع المثالي"، يبدو جلياً أن الجوامع بين أرسلان ورضا كانت قليلة جداً في الجزء الأول من حياة أرسلان، خصوصاً على الصعيد الفكري، فنادراً ما أعرب [أرسلان] عن رأي يتعلق بالحداثة في الإسلام، أو بإحياء الحياة الدينية الإسلامية. أمَا لجهة آرائهما السياسية فثمة كثير يمكن قوله؛ فقد سعى الرجلان لبلورة نظام سياسي عثماني موحد يتشارك فيه العرب والأتراك. ولكن، وفيما كان رضا يشدد على مركزية الحضارة العربية وعلى إنشاء قوة عربية سورية عسكرية، كان أرسلان يصر على مركزية قوة إستانبول السياسية والعسكرية. باختصار، حملت الظروف والمواقف الشخصية كلاً منهما على التشديد على وجهة، والتقليل من أهمية الأخرى. كما انطوى إصرار أرسلان على مكافحة النفوذ الغربي على عناصر من دعوة جمال الدين  الأفغاني إلى الإسلامية الشاملة، إنما بملامح عثمانية.

 

ما بعد الحرب الأولى: التقارب

 

أحدثت الحرب العالمية الأولى تغيرات سياسية مهمة في المنطقة؛ إذ باتت بريطانيا وفرنسا الدولتين الحاكمتين الشرق العربي بموجب ما سُمي بنظام الانتداب الفرنسي الذي فُرض على لبنان وسوريا، والانتداب البريطاني الذي فُرض على فلسطين والعراق. جعل الوضع الجديد رضا وأرسلان ينسيان خلافهما القديم ويشبكان الأيدي في مقاومة الدول الأوروبية. كان رضا في المراحل الأولى من الحرب العالمية الأولى مستعداً للتعاون مع بريطانيا، إن هي ساعدت العرب على تحقيق الاستقلال؛ ولكن يبدو أنه استنتج من تطورات الحرب أن لندن ليست جادة في الوفاء بوعدها لجهة استقلال العرب، هذا في حين كانت مواقف أرسلان المناهضة لأوروبا معروفة. وفي عام 1921 كان رضا وأرسلان على رأس المؤتمر السوري الفلسطيني الذي عُقد في جنيف- سويسرا. وقد سعى المؤتمر إلى تنسيق أنشطة الوطنيين السوريين والفلسطينيين، وطالب بالوحدة السورية وبالاستقلال. إنتُخب رضاً نائباً لرئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر، وكان عضواً بارزاً في وفد المؤتمر إلى عصبة الدعم ومقرها جنيف. كما كان كل منهما عضواً في إحدى فئتي المؤتمر أي الفئة التي كانت تشدد على السمة الإسلامية للقومية العربية. وبعد انهيار الدولة العثمانية استمرّ أرسلان ورضا في رؤية وجود أرضية مشتركة بين تركيا والأقاليم العربية. فالجهتان مسلمتان وكلتاهما تكافحان لحماية أراضيهما من المخططات الأوروبية. أما في عام 1924 فزال من مخيلتهما أي أمل بإمكان قيام تقارب عربي- تركي يوم تخلت تركيا عن منصب ومؤسسة الخلافة الإسلامية، ثمّ أَسقطت في عام 1928 المادة القائلة بأن "الاسلام دين الجمهورية التركية"، وتبنت أيضا الحروف اللاتينية بدلاً عن العربية.

ألمح أحد الأكاديميين إلى أنّ الرجلين "اكتشفا وجود تقارب فكري عميق بينهما". وفيما يعدّ هذا القول صحيحاً على وجه العموم، لابد من الإشارة إلى أن أرسلان -خلافاً لرضا- ابتعد عن الخوض في التعاليم والشرع الإسلاميين، حتّى إنه عند مواجهته بعض المسائل السياسية ذات الصلة بالمسائل الدينية جاءت آراؤه غير متماسكة، كما لم تكن دوماً متناسقة مع آراء رضا. في عام 1922 نشر رضا كتابه "الخلافة أو الإمامة العظمى". وفيه هاجم نظرية ابن خلدون المشهورة عن أن العصبية الطبيعية (رابط الدم) أساسٌ لكل دولة، وفي رأيه أن تاريخ صدر الإسلام يبين أن تلك العصبية تابعة لدين الإسلام. إضافة إلى ذلك، ومع قبوله بكون الخلافة العثمانية "خلافة ضرورة" أصرّ رضا على أن أحد ميزات الخليفة المثالي أن يكون من قبيلة النبي، أي من قريش. وكان الأساس المنطقي لهذا الشرط يعود إلى الحديث الشائع القائل بأن "الإمامة  في قريش". وفي 1936- أي بُعيد سنة واحدة على وفاة رضا- نشر ارسلان طبعة جديدة من الـ مقدمة – وفي دراسة في التاريخ للمؤرخ وعالم الاجتماع الكبير ابن خلدون (1332 – 1406) أعرب في مقدمتها عن بالغ إعجابه بمؤلفها دون أن يأتي على أي ذكر ما إذا كان جوهر طرحها متوافقاً مع وجهة نظر الإسلام القويم، أم لا. كان في ذلك انسجام مع سياق تفكيره في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى؛ إذ إنه كان هو نفسه قد شدد على الرابط الديني لا على الرابط العرقي في تشهيره بالقوميين العرب في عام 1913. والأكثر إفصاحاً من ذلك أنه خالف القائلين بوجوب كون الامامة قرشية الأصل، زاعماً أن الحديث المذكور إنما يقول: "الإمامة قرشية ما أقامت الدين". وبأسلوب واضح الدلالة على محاولة تبرير مواقفه في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، راح أرسلان يحاول الإقناع بجواز إقامة خلافة غير قرشية إن كانت أشد قدرة وشوكة، بقوله: "لو كان هناك غير قرشيين أشد قدرة على استلام الخلافة، وأكثر حماساً وأكثر قوة في الحفاظ على تخوم الإسلام في وجه الأجانب، من القرشيين، فهل ينبغي عندها حصرها في قرشي ضعيف؟!"

وإذا صحّ قول الباحث الفرنسي الراحل هنري لاوست بأن رشيد رضا كان "عربياً مسلماً أكثر منه مسلما عربياً"، فإن وصف حوراني لأرسلان بأنه كان أكثر اهتماماً بعروبة الإسلام لا يؤيده التدقيق. فمن أجل ما ذهب إليه، استشهد بمقطع من أحد أعمال ارسلان العائدة إلى عام 1930، قال فيه: إن المسلمين هم "تلامذة العرب". إن هذا الدليل ليس مقنعاً؛ ذلك أن أرسلان كان آنذاك يشدد على دور الإسلام في استنهاض العرب، لا على دورهم البارز في الإسلام في حد ذاته.

"إن علة تقدم المسلمين هي: تلك المنبثقة من الإسلام القادم من شبه الجزيرة العربية، الذي جمع ووحد الأعراق والقبائل المبعثرة في بلاد العرب، وخرج بهم من الهمجية إلى المدنية. ولولا مجيء الإسلام لما اكتسبوا [العرب] استقلالاً، ولولا مجيء النبي محمد لما عُرفوا بين الأمم الأجنبية؛ إذ اعتبروا عرقاً منفصلاً أو أمة فاتحة. فعلينا دراسة سبب استفاقتهم وفتوحاتهم وبلوغهم السيادة والعظمة. إنه [السبب؛ أي الاسلام] ما زال موجوداً عند العرب الذين صاروا متخلفين، ومعهم تلامذتهم وهم باقي المسلمين الذين أصبحوا أيضاً متخلفين. لقد ضيعوا تلك العلة بحيث لم يبق من إيمانهم غير عنوانه، ومن الإسلام غير طيفه، ومن القرآن غير هدهدة موسيقاه، دون اتباع شرائعه".

بغض النظر عن شكوكنا، يجب أن نبقي في ذاكرتنا أنَّ أرسلان وصف الأتراك بأنَّهم "تلامذة العرب في الإسلام" يوم كان على خلاف مع رضا في عام 1913، إِضافة إلى ذلك، كتب أرسلان مقالاً قصيراً في عام 1933 حول "المساواة في الشريعة الإسلامية" موضحاً طبيعة الإسلام المساواتية، وتساوي تعاطيه مع العرب والفرس والأتراك والبيض والسود. كما انتقد بصراحة أولئك العرب والأتراك والفرس الذين يلقون على بعضهم وعلى الإسلام باللوم على حالهم المؤسفة.

وفي الواقع، وبينما كان رضا في الشطر الأخير من حياته عضواً بارزاً في حركة السلفية الحديثة منهمكاً بـ "عروبة الإسلام" ؛كان أرسلان يفكر بـ "أسلمة القوميين" العرب والأتراك والفرس، وليست هاتان المقاربتان على حصرية متبادلة، أو متناقضة لدى الرجلي؛ فقد كانا منهمكين بتأطير الهويتين الإسلامية والعربية. ولكن هناك فجوة بين المقاربتين؛ لقد انفرد رضا بالتوفيق بين الإطارين لأنه – حسب قول حوارني – آمنَ بأنه "نظراً لموقع العرب الخاص في الأمة يمكن التوفيق بين القومية العربية وبين الوحدة الإسلامية على نحو يستحيل على الآخرين .بل والأكثر من ذلك [آمن] بأن إعادة إحياء الأمة يحتاج إلى إعادة إحياء العرب ". أما أرسلان فبدا على أنه أبقى- إلى حد ما- الإطارين: الإسلامي والعربي/الإسلامي منفصلين، واستعملهما الواحد محل الآخر.

يوضح العرض السابق لماذا قيّم بعض الدراسين مساعي أرسلان تقييماً متبايناً وشبه متناقض. اعتبر مجيد خدوري أولوية المطالبة بالوحدة الإسلامية في عمل أرسلان أوضح من المطالبة بأولوية الوحدة العربية في عمل رضا. وفي جهته رأى أيلي كيدوري أن أرسلان يحاول أن يبرهن "أنَّ الإسلام هو بالضرورة أساس القومية العربية". أما حازم زكي نسيبه، فرأى أنَّ آراء أرسلان تقع في مكان ما بين أفكار الأفغاني الشاملة وبين رؤية عبد الرحمن الكواكبي لنهضة إسلامية قوامها العرق العربي". والواقع أنًَ الباحثين نظروا إلى أوجه متنوعة من الأوجه المتعددة لعمل أرسلان.

أما الأكثر جدارة بالاهتمام، فهو أن أرسلان رضي بإطار ثالث للهوية، "القومية العلمانية":

بعض الناس يقول: لماذا العودة إلى القرآن في دعوة المسلمين في تكريس أنفسهم للعلم، النهضة يجب ألا تكون دينية التوجه، بل قومية التوجه مثلما كانت الحال في أوروبا. فنجيب بأن الغاية يجب أن يكون هناك نهضة بصرف النظر عما إذا كانت قومية أو دينية، شرط أن تقود إلى الإخلاص في تحصيل العلم... (التشديد من عندنا).

 

ومع ذلك تستلهم "قوميته العلمانية" المنحنى الذي لا يُبعد الدين عن الحياة الاجتماعية، ويضيف موضحاً:

ولكننا نخشى أن يؤدي تخلي النهضة عن تعاليم القرآن إلى اإالحاد، والفسق، والشهوانية، وهي شرور تطغى على المكاسب المنتظرة. لذلك يجب أن يكون الإرشاد الديني جنباً إلى جنب مع التعليم العلماني. هل يظن الناس في الشرق بأن النهضة في أوروبا حصلت من دون إرشاد ديني؟ وهل حصلت نهضة اليابان من دون إرشاد ديني؟ إضافة إلى ذلك، عندما يتكلم الأوروبيون في النهضات القومية، فإنهم لا يعنون بالقومية الأرض والمياه والأشجار، ولا بالأمة عرقاً منحدراً من سلالة دموية مشتركة. فالأمة والوطن عند الأوروبيين مفهومان يحتويان على مجموع الجغرافيا والتاريخ والحضارة والدين والأخلاق والتقاليد، كلها في آن معاً.

 

لاشك أن استخدام أرسلان لتعابير متعددة -واحداً محل الآخر- في عرضه لأفكاره السياسية ظاهر حتّى ضمن تأطيره للوحدة العربية. ومع أنه أقام في جنيف بين الحربين، أصدر وصديقه إحسان الجابري دورية لانسيون آراب (الأمة العربية) باللغة الفرنسية. وبكونه كاتباً غزير الإنتاج باللغة العربية أعرب عن آرائه في عدة صحف ومجلات ودوريات كان أهمها "المنار"، وهي الدورية التي ظل يصدرها رشيد رضا في القاهرة حتّى عام 1935. إضافة إلى ذلك حرر وترجم عدداً من الكتب في تاريخ العرب، وذهب في عام 1924 إلى حد استعمال كلمة "الشعوبية" (الكره العرقي للعرب) في الرد على أدباء مثل طه حسين وسلامة موسى درجوا على احتقار اسهام العرب في الحضارة. عُرف ارسلان أيضاً بصلته بمنظمات متنوعة تنادي بالوحدة العربية. وهنا أيضاً لم يخرج أو يلتزم بمبدأ اساسي متساوق، ومن ثمّ فقد نادى -حسبما أشارأحمد الشرباصي- أولاً إلى "اتحاد عربي" ، وثانياً إلى "تحالف عربي"، وثالثاً إلى"جامعة عربية، ورابعاً إلى "وحدة عربية".

قد يتيه المرء في تبديل استعمال أرسلان لأُطر الهوية؛ ولكن في نهاية المطاف يبقى أنه كان في ذهن أرسلان منحنى متساوق: الالتزام الصلب لناشط سياسي حاول عموماً الجمع بين نظريات متنوعة بغية تحقيق غاية واحدة: طرد القوى الأوروبية من مواقع السيطرة على بلدان العرب والمسلمين. يمكن في هذا السياق الربط بين أرسلان وبين مناداة الأفغاني بالإسلام الشامل، أو على نحو أكثر دقة، بتوجيه الأفغاني المناهض للغرب. وعبر ذلك فقط يمكن العثور على صلة بين الشطر الثاني من حياة أرسلان وبين رضا؛ فانسجام تفكيره في الشَطر الأخير من حياته مع تفكير رضا يعود فقط إلى الفترة التي أخذ رضا يحاول فيها التوفيق بين طبيعة المصلح الديني محمد عبده، وطبيعة الناشط السياسي جمال الدين الأفغاني. ومن الدلالة بمكان أنه عندما ركّز رضا على التعاليم الإسلامية السنيَّة في نقده لما كان يقول به مجتهدو الطائفة الشيعية، بعث أرسلان اليه برسالة طلب إليه فيها ألاّ يبالغ في ذلك، آملاً، فيما يبدو، الحفاظ على التضامن الإسلامي. وفي مثال مشابه، عندما بدأت تظهر في عام 1922 آراء – غير صحيحة في نظري – بأن رضا يقول بوجوب تمتع الخليفة بجميع الشروط النظرية الشرعية الإسلامية، بعث إليه أرسلان كتاباً شدد فيه على الضرورات العملية المخالفة.

الخاتمـــة:

 

تمحور طرح أرسلان الرئيس -خلال مرحلتي حياته- حول إنقاذ المسلمين والعرب من السيطرة الغربية. ولئن كان هدفه واضح المعالم؛ فإنه لم يتبع استراتيجية متساوقة؛ فقد كان يتصور أنَ القومية العربية نقيض العقيدة الإسلامية إذا تعرضت مفاهيمها للإمبراطورية العثمانية وجعلتها قابلة للتفكك. ومن ناحية أخرى، فإنه تصرف بطريقة تهدف إلى إقامة "توافق إيديولوجي" بين المفهومين، ما كان يعني استنفار القوى العروبية والإسلامية ضد الاستعمار الغربي. بكلمة أخرى، بينما أجازت موالاته للإمبراطورية العثمانية طريقاً واحداً للتحرك، أجازت معارضته لبريطانيا وفرنسا بعد الحرب الأولى استعمال عدة طرق في آن معاً.

يبقى أنَّ الأمير شكيب قدم تفسيراً لا دينياً ولا ثقافياً فيما بعد وبالتحديد عام 1937 عندما حاول الإجابة عن سؤال :"لماذا تأخر الشرق الأدنى عن الأقصى؟ " وكان جوابه سياسياً وجغرافياً أكثر من أي شيء آخر فقال:

"إن كان الشرق الأدنى قد تأخر عن الأقصى في درجة الرقي العصري؛ فلم يكن ذلك كما يتوهم بعضهم من جمود الأمم الشرقية العربية وتفوق اليابانيين عليهم في حب العلم ونشدان وسائل القوة، وإنما كان الموقع الجغرافي للبلاد العربية قد عرّضها من هجوم الأجانب وغاراتهم المتوالية لما لم يتعرض له اليابانيون، بسبب تقاصي ديارهم وبعد مزارهم، بحيث خلا لهم الجو، وتمكنوا من أن يتعلموا ويتهذبوا آمنين على حوزتهم، وهذا فرق طالما غفل عنه الناس ولم يتفطنوا لخطورته، فحملوا بسبب غفلتهم عنه على الشريعة الإسلامية وجعلوها -ظلماً وعدواناً- هي المسؤولة عن هذا التأخر، والمسؤول الحقيقي في الواقع هو الاعتداء الأجنبي المتواصل الذي يتيسر في الشرق الأدنى ما لا يتيسر في الشرق الأقصى".

.............................

هوامش:

 أستاذ التاريخ الحديث و المعاصر في جامعة البلمند في لبنان

الأمير شكيب أرسلان، " لماذا تأخر المسلمون و لماذا تقدم غيرهم؟" ، قدم له د. سعود المولى؛ تحرير سوسن النجار نصر، (المختارة: الدار التقدمية، 2008).

 

أخبار ذات صلة