عبد الجبارتشو وى ليه | جامعة شانغهاى للدراسات الدولية
يعلم الجميع أن مصدر الإرهاب هو التطرف الفكري، وأي دين أو مذهب سياسي أو علمي إذا كانت قراءته وتفسيراته يخالف روح العصر المتطور باستمرار، ويخطئ في اختيار صوره ويشوه معانيها وتعاليمها حتى يصل ذلك إلى حد الغلو والتطرف ؛يؤدى ذلك بالضرورة إلى نشوء أفراد وجماعات ومنظمات تميل إلى سلوك الراديكالية والعنف والإرهاب في مجتمعاتها، وفي هذا المجال لا يستثنى من ذلك أية دولة شرقية كانت أو غربية، على سبيل المثال الفاشية في ألمانيا، والعسكرية في اليابان عبر التاريخ ، والتطرف والارهاب في الشرق الأوسط حاليا .
إن العالم العربي في الوقت الحاضر يشهد مكافحة الإرهاب العسكرية ضد داعش في العراق وسوريا ،بخلاف اليمن وليبيا والصومال؛ حيث تضطرم نيران الحرب والصراع باستمرار ، أما معظم الدول العربية التي مرت باضطرابات " الربيع العربي " المتواصلة أكثر من خمسة أعوام، فقد دخلت مرحلة الانتقال من الفوضى إلى الإدارة، ومن ثم تُعدّ مكافحة التطرف من حيث المجال الفكري مهمة مشتركة يجب على الدول العربية والمجتمع الدولي- بما فيه الصين- أن تواجهها معا .
لاحظنا أنه منذ ظهور نظرية صراع الحضارات التي طرحها البروفيسور الأمريكيصوميئيلهانتينغتون عام 1993، سرعان ما كانت مصر والأردن وغيرهما من الدول العربية تقف موقف الرفض والدحض لها، وتدعو العلماء والخبراء العرب والمسلمين لتجلية الوسطية الإسلامية بشكل إيجابي من خلال مقاربات شتى، علميةوتعليمية وثقافية واعلامية لحل مشكلة التطرف من أساسها وتصحيح صورة الإسلام؛ حتى يُرسَم خط فاصل واضح بين الدين الإسلامي الحنيف وأقاويل التطرف والإرهاب الباطلة، وإقامة الحوار الحضاري لمواجهة نظرية صراع الحضارات والسياسة الأمريكية المترتبة عليها في الشرق الأوسط. ومنذ ذلك الحين أنشئت على التوالي في عدد من الدول العربيةمؤسسات العقل ومراكز الفكر المتخصصة للوسطية الإسلامية والثقافة الوسطية ،بل أدرجت الوسطية في سياستها الداخلية والخارجية المعلنة . والجدير بالذكر هنا أنني قد شرفت بزيارة سلطنة عمان في إبريل عام 2006 لإلقاء محاضرات في معهد الدبلوماسية في مسقط عاصمة الثقافة العربية حينذاك ، وقرأت توصية ندوة "الإسلام والعولمة " المنعقدة فيها. وهي توصي باعتماد خطاب إسلامي يراعي التوازن بين الوحيوالعقل ،وبين المادة والروح، وبين الحقوق والواجبات ، وبين الفردية والجماعية ، وبين الإلهام والالتزام ، وبين النص والاجتهاد ، وبين الواقع والمثالي ، وبين الثابت والمتحول، وبين الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر. ويتضح أن هذه التوصية تهدف إلىترسيخ الهوية الحضارية للعرب المسلمين، وتحفيز الأجيال الناشئة منهم على مزيد من الاتصال بتفاصيل تلك الهوية من أجل تنمية انتماء عميق ومتوازن في أبعاده الوطنية والعربية والإسلامية. في الواقعرغم أن منطقة الشرق الأوسط تعدّمنشأ التطرف والارهاب في الوقتالمعاصر ؛فإن الدول العربية هي الأشد تعرضا لويلات سوئهما ، وتلعب القوة الرئيسة والدور الحاسم في مكافحتهاحاليا بحكم موقعها كصاحبة الشأن، ونظرا لهذا، تحظى كل المجهودات المذكورة آنفا والمبذولة من قبل الدول العربية في دعوتها للوسطية الإسلامية وتجديد الخطاب الديني بتقديرنا واعجابنا ؛إذ تزودنا بطاقة ايجابية في مكافحة التطرف .
ولكن مع الأسفإن الربيع العربي المنطلق عام 2011 –والذي أحدث فوضى وعنفاً في كثير من الدول العربية – لم يَعقْ ويعرقل عمليتها في الإصلاح والتنمية فقط، وإنما أتاح للنفوذ المتطرف والإرهابي فرصة لتدب الحياة فيه من جديد أيضاً ، مما يؤديإلى تغليب الهوية الطائفية على الهوية الوطنية ، وتأخير تشكيل قيمها الجوهرية . ومع ذلك قد لاحظنا في الفترة الأخيرة أن الحكومة المصرية تتمسك باتخاذ الإجراءات لدفع تجديد الخطاب الديني، والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية قد وضعت كلتيهما التسامح والتعايش والانفتاح في قيمهما الجوهرية على مستوى الدولة ، فضلاً عن إقامة جائزة خاصة للتسامح في دبي ... الأمر الذي يدفعني إلىأن أشارك اليوم بجرأة في ندوتنا السابعة للحوار الحضاري بين الصين والدول العربية بمشروع التواصل بين القيم الصينية والعربية .
تعلمون أيها الحضور الكرام أن مبدأ الصين في مكافحة الإرهاب يدعو إلى التمسك باتخاذ الإجراءات المتعددة الأهداف، والقيام بمعالجة فرعية وجذرية معا . وبهذا الشأن يشير القول المأثور الصيني " لا بناء بلا هدم " إلى أنه يجب على كل دولة معنية بمكافحة الإرهاب أن تولي الاهتمام البالغ بتشكيل القيم الجوهرية لها ، بينما تحثّ على دحض ونبذ كل آراء مضللة ومفاهيم باطلة تشوه معاني وتعاليم القرآن الكريم والحديث النبوي . فقد أشار السيد الرئيس الصيني شي جين بينغ في كلمته الملقاة في مقر الجامعة العربية في يناير عام 2016 إلى أن لكل من الحضارة الصينية والحضارة العربية منظومتها وخصوصياتها ، إلا أن كلتيهما تحتوي على عقيدة ومساعٍ مشتركة جاءت متراكمة في مسيرة التقدم والتطور للبشرية ، وتؤمن كل منهما بقيم الوسطية والاعتدال والسلام والوفاء والتسامح والانضباط الذاتى، مما يدل على أن العمل على إحياء القيم الإيجابية في حضارتنا التقليدية الأصيلة وتشكيل قيمنا الجوهرية التي تتوافق مع عصرنا اليوم -يتفق مع موضوعنا اليوم تماما؛ لكونه من ضمن حدود المعالجة الجذرية؛ أي اقتلاع بواطن الإرهاب وهو التطرف الفكري .
إن تبني وتشكيل القيم الجوهرية في بناء الدولة الحديثة بمثابة عمل شاق طويل الأمد . كانت الصين قد بذلتجهودها الجهيدة في البناء والإصلاح والتنمية طوال عشرات من السنين حتى أعلنت في المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعىالصينى عام 2012 القيم الجوهرية الخاصة بالصين ، ألا وهي الرخاء والديمقراطية والتحضر والتناغم، وهي قيم على مستوى الدولة ، والحرية والمساواة والعدالة وحكم القانون وهي قيم على مستوى المجتمع، أما حب الوطن والتفاني والأمانة والصداقة فهي قيم على مستوى الفرد المواطن . وتعكس هذه القيم الصينية باختصار الروح الوطنية التي تكون نواتها حب الوطن، والروح العصرية التي تكون نواتها الإصلاح والابداع، وتوضح هذه القيم الجوهرية المتطلبات الأساسية للاشتراكية الصينية، وتحافظ على الثقافة الصينية التقليدية المتميزة، كما تستفيد من إنجازات البشرية الحضارية في العالم ، وكذلك تجيب على أسئلة خطيرة بوضوح؛ مثل: أي نوع من الدول سنبنيه ؟وما هو المجتمع الذي نريده؟ وأي نوع من المواطنين سنربيه؟
بطبيعة الحال إن هذه التجربة الصينية التي ألخصها هنا إنما أقصد تقديمها إلى العلماء والخبراء العرب الكرام كنمودج صيني للمراجعة . فإن الدول العربية -رغم امتلاكها صفة الوحدانية في اللغة والدين والقومية والثقافة والحضارة - تختلف أحوالها الوطنية بعضها عن بعض، من حيث النظام السياسي؟ أو مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي بدرجات متفاوتة ، ولا يمكن لكل منها إلا أن تتبنى وتشكل قيمها الجوهرية الخاصة بكل منها على حدةٍ . وإذا كان هذا الموضوع يستطيع أن يلفت نظر الطرف العربي، ويرغب في التواصل والتعاون معنا من خلال مشروع ترجمة الأبحاث والمؤلفات لطرفينا ، وإقامة الندوات العلمية ؛ فمن المؤكد أنه سيعود بالنفع على تعميق الفهم المتبادل بين الطرفين الصيني والعربي وإثراء محتويات حوارنا الحضاري في المستقبل.