التفسير القرآني: نظرة في المأثور وأسباب النزول

باسم الكندي

في مقالها المنشور بمجلة التفاهم (ظهور التفسير القرآني: دراسة في المأثور وأسباب النزول) تؤكد فريدة زمرد أستاذة التفسير وعلوم القرآن بدار الحديث الحسنية في الرباط بالمغرب أنه لا يمكن فهم النص القرآني دون النظر في الروايات المأثورة عنه، داعية في الوقت نفسه إلى التمحيص والتثبّت من هذه الروايات لتكون إرثاً صالحاً للبناء عليها تحليلاً وتعليلاً ونقداً وإبداعا.

ترى فريدة زمرد في بداية مقالها هذا أنَّ هناك إجماعا من قِبل جُلّ من عرف التفسير على أنَّه علم قائم بذاته قسمّه المهتمون به إلى طبقات حسب المشاركين فيه بداية من عصر النبي، وعصر الصحابة، وعصر التابعين، بالإضافة إلى إضافة مؤشر ثانٍ لتمييز مراحل هذا التاريخ وهو مؤشر الرواية والتدوين، لكن هذه الدراسات في غالبها لم تراعي الخصائص العلمية لهذه المراحل لتؤرخه على أساس أنَّه لعلم التفسير وليس للتفسير بحد ذاته لذلك وجبَ التمييز بين تاريخ علم التفسير وبين تاريخ الممارسة التفسيرية، ونرى أنه رغم ظهور الممارسة التفسيرية لدى المُتقدمين إلا أنهم كانوا سبباً في التمهيد لتأصيل هذا الموضوع علميا لدى المتأخرين.

ومن خلال تتبع ما قالته الكاتبة نجدها تُركّز على فكرة تأريخ علم التفسير الذي يُختزل في ثلاث محطات، محطة التأسيس وفيها وُضعت أسس القول في التفسير على يد الذين عاصروا نزول القرآن وهم الرسول والصحابة، ثم محطة الجمع وهي التي ارتبطت بجمع الأقوال التفسيرية المنتمية للمرحلة السابقة، وجعلها مرتبة حسب ترتيب المصحف بعد أن كانت مُتناثرة وهي مرحلة اعتمدت منهجاً توثيقياً حَدِيثِيًّا، ثم مرحلة الترسيم وفيها تمَّ تداول ما جُمِع وتوظيفه في إنتاج تفاسير القرون اللاحقة وإضافة ما أمكنَ إضافته، وهي مرحلة مستمرة للآن لتفاعلها الدائم مع ما يستجد، وانطلاقا من هذا التحديد التاريخي لهذه المحطات تقول فريدة زمرد إن دراسة ظهور التفسير من خلال بحث المأثور وأسباب النزول تتعلق بشكل واضح بمحطتي التأسيس والجمع، وترى أن مصطلح المأثور هو مصطلح حادث في علم التفسير مع تأكيدها على أن حداثة المصطلح لا تعني غيابه عن المُتقدّمين. وعليه، نجد نحن أن تفسير الطبري (جامع البيان في تفسير القرآن) من أشهر كتب التفسير بل يعده البعض المرجع الأول للتفسير بالمأثور وهو ما يؤكد أهمية هذا النوع من التفسير، وترى فريدة زمرد أيضا أنه رغم ذيوع مصطلح المأثور وتداوله في العصور المتأخرة بالمعنى العام، لم يكن المصطلح بمأمن من التصحيح، وتقول إن إدراج (تفسير القرآن بالقرآن) ضمن المأثور ليس سليما؛ لارتباط المأثور بمقابلته مع الرأي والاجتهاد في التداول، وتفسير القرآن بالقرآن برأيها ليس من قبل المأثور بل هو محض اجتهاد، تتم فيه ربط الآية بآية أخرى تُفسّرها. لهذا؛ ترى ضرورة تصحيح التصنيف السائد للتفاسير المُتداولة المُقسَّمة إلى تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي، لصعوبة الفصل داخل المادة التفسيرية بين مكوّني المأثور والرأي، ونحن نرى أن التصانيف المتداولة الآن تُسّهل على المهتمّين دراسة جوانب التفسير بكل أريحية ما دام أن الذي يشتَغل بالتفسير تتوفر فيه شروط وآداب التفسير.

بعد ذلك فصّلت فريدة زمرد الحديث عن المأثور في مرحلة التأسيس، وقد اتخذ التفسير النبوي فيها مظاهر وأشكالاً مختلفة تدرجت ضمن مستوى البيان التبليغي العام، وأحيانا يأتي البيان النبوي للمعاني، وهناك أيضا مستوى البيان الفعلي وهو يُمثّل أنموذجاً للتفسير العملي التطبيقي للآيات وهو غالباً متعلق بالأحكام وهو القِسم الأكبر من التفسير النبوي؛ لحاجة الناس إلى معاينة أنموذج واقعي يُمكّن من فهم أحكام الدين وكيفية تنزيلها في الواقع، وأهم ما يُمكن أن يُسجّل من ملاحظات في تاريخ التفسير لهذه المرحلة أنّها تؤرخ لبداية الجهد الإنساني الخالص في فهم القرآن، كما أنَّ تفسير الصحابة اعتمد في معظمه على مصادر أخرى غير المأثور، لذلك اتسمت هذه المرحلة بأنَّ أهل هذه المرحلة من المفسّرين اعتنوا بضبط ما تلقوه من تفسير عمن سبقهم، كما أن السمة الغالبة لتداول التفسير في هذه المرحلة هي الرواية الشفهية، والرواية فيها لم تكن على نسق واحد من اتصالاً وانقطاعا. ورغم ذلك، تذكر فريدة زمرد أن هناك من الرواة من تمكّن من ملء فراغات الانقطاع في الرواية إلا أننا نرى من الضرورة بمكان للدارسين في هذا الجانب زيادة التمحيص والتثبـت من الروايات الواردة سعياً لفهم آيات القرآن بشكل صحيح.

أما مرحلة الجمع فقد عكست الحاجة إلى إخراج تفسير كامل مصنّف ومرتّب يُمكّن من فهم النص في مجموعه، لذلك نجد في علاقتها بقضية المأثور أنّها المرحلة الأكثر إبْرازاً لدور المأثور من الأقوال التفسيرية في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ التفسير، لكن هذا الجمع لم يَسلم من ظهور الإسرائيليات، أما المأثور في مرحلة الترسيم فهي ممتدة للآن واتسمّت بتخلّيها تدريجيا عن الإسناد منهجاً لتوثيق الأقوال المنقولة عن السابقين، الأمر الذي أدى إلى ظهور تفسيرات لم يتم التثبّت من أصحابها مما صعَّبَ من تطور التفسير، ونحنُ نُضيف أن هذه المرحلة وتأثر بعض المهتمّين بالمذهبية والأوضاع السياسية حالياً يجعل تطور التفسير عسيراً.

كذلك فصّلت فريدة زمرد ما يتعلق بأسباب النزول والتفسير القرآني، حيث وضّحت أهمية معرفة أسباب النزول وأثرها في فهم القرآن من خلال بُعدين: بُعد تاريخي أي ارتباط القرآن بالواقع أو بالحدث الذي كان سبباً في نزوله، وبُعد تداولي أي المعرفة بأسباب النزول معرفة بالسياق التداولي المحيط بالنص، والذي يُمكّن من فهم دلالاته وأبعاده، وفي كلا البعدين يجب ألا يُشكّل ذلك تعارضاً مع خصائص النص القرآني، وهو رأي نتفق معه حتى لا يُحمل القرآن على وجه لا يليق به.

ذكرت كذلك فريدة زمرد حول أسباب النزول وتجاذبات القبول والرفض بأّنَّه من المباحث التي أثارت الكثير من المواقف والآراء المتباينة، مؤكّدةً أنَّ القول بمبدأ سبب النزول لا يمكن أن يكون دون التسليم بطبيعة مصدره وهو الرواية لأنهما متلازمان، ولا يمكن قبول أحدهما ورفض الآخر إلَّا على وجه التحكم، ولا يمكن بحال إلغاء الرواية جملةً وتفصيلاً لمجرد ثغرات الضعف فيها، أما بالنسبة للمأثور وأسباب النزول وإشكال الرواية فالمعروف أن الرواية هي السبيل إلى معرفة سبب النزول ولا دخل للاجتهاد خارج الرواية للحصول على هذه المعرفة إلا من جهة الترجيح بين الروايات إن تعارضت مع تأكيد الحاجة إلى دراسة روايات أسباب النزول بمنهج النقد الحديثي ؛ لتمحيصها.

في الختام تُؤكد فريدة زمرد على أنَّ المأثور بمعناه العام يشكل أساس التفسير القرآني؛ لذلك يَصعُب إنتاج أي قول تفسيري دون النظر فيه، كما أننا ملزمون بإيجاد حل لمشاكل الرواية والنقل، وتهذيب كتب التفسير من الروايات غير المنسوبة، وهنا نقول إن أشكال الرواية ستظل حاضرة بين أخذ ورد بين العلماء لصعوبة الفصل فيها؛ وذلك لاختلاف الآراء في سند ومتن بعض الروايات.

 

أخبار ذات صلة