القيمة ومقاصد الله

زينب الكلبانية

تعني مقاصد تحقيق القيمة في العالم الدنيوي، وتفعيل مسألة الغايات الكلية ملاءمة الحاضر أو وضعه في سياق القيمة في المستقبل القريب أو البعيد. إنّ القيمة هي جزء لا يتجزأ من الواقع، وإنّ كونك فردا، فهذا يعني أن تلك مصالح خاصة. والمصالح الخاصة هذه هي إحساس بالقيمة الفردية، وهي في جانب منها عاطفي؛ أما قيمة الأشياء الأخرى - خارج الذات – فإنما متفرعة عن الأصل، لأنها عناصر تضيف أمورا أو أشياء على الحاجات الأساسية. والمصالح الذاتية هذه هي عبارة عن الاهتمام بما يعني الوجود الذاتي أو الفردي في هذه الحقبة أو البرهة من الزمان. ويعد ذلك ذروة المتعة بالتحقق.

وهذا ما ناقشه الباحث ألفرد نورث هوايتهد في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" وأضاف أن الواقع هو المتعة، وهذا الاستمتاع هو اختبار أو تجربة قيمة. ذلك أن الحد الزماني هو عبارة عن كون صغير، يضم في ثناياه الكون الأكبر. وهذا التوحيد للكون - والذي تتلاقى عناصره المختلفة ذات الوجوه المتعددة - يشكل ذرة واحدة في العالم الحقيقي.

إنَّ هذا الحدث الواقعي الأساسي يمتلك طبيعة كونه فعلا للقدرات الإدراكية. لكن نتحدث عن الوقائع غير العقلية، وحينها تصبح القدرات الإدراكية عمياء؛ ذلك لأنها لا تمتلك وعياً شفافاً بل إنها ليست أكثر من القيمة الذاتية للإدراك الكوني الأصغر.

فالقيمة الذاتية هي الواقعة الموحدة في الواقع، وينم عن ذلك ظهورها. وعندما يحصل ذلك نسميه إدراكا أو فهما. ويكون ذلك عندما نحللها في علائقها بكل جزء من أجزائها، والتي تشكل بمجموعها هذا الشيء الظاهر.

إن كل وجود فردي حقيقي هو عبارة عن تنظيم لكل الكون الحقيقي والمتصور، ومن خلاله تتعلل الثيمة الذاتية، التي هي عبارة عن الذات الفردية نفسها.

إن كل حدث زماني إذن يمتلك جانبين اثنين؛ فهو من جانب أول عبارة عن حالة من الخلق والإبداع، من أجل وضع الكون في سياق واحد، وهذا الجانب من الحدث أو هذا الوجه من وجهيه عبارة عن العلة الذاتية، أو أنه هو إبداع ذاتي. وهنا ندرك الخلق باعتباره ناتجا لتحليلنا؛ ذلك أنه خلال وصفنا ندع العناصر منفصلة، أما في عملية الخلق فإننا نضم العناصر كلها معًا.

ومن جهة ثانية؛ فإنَّ الحدث هو المخلوق، وهذا المخلوق هو الواقعة الظاهرة، وهذه الواقعة هي القيمة الذاتية للخلق الفاعل؛ لكنهما في الحقيقة ليسا وجودين فرديين حقيقيين؛ الخلق والمخلوق. إنما هما وجود فردي، يعني أنهما المخلوق ذاته.

إن النظام هو علة هذا العالم؛ وليس صحيحاً أنه يمكن أن يكون هناك عالم واقعي، يشكل مصادفة نظاما للطبيعة. هناك عالم حقيقي، لأن هناك نظاما للطبيعة، وما لم يكن النظام موجودا فلن يكون العالم موجودا أيضا، ولأن العالم موجود فنحن على يقين أن النظام موجود. إن انتظام الوحدات الفردية هو عنصر أساس في الموقف الميتافيزيقي، الذي يعرض العالم الحقيقي.

إن الجسد والروح بهما أسس ديكارت فلسفته على رسم ميتافيزيقي مختلف للعالم الواقعي؛ لقد انطلق من العقول المفكرة ومن الأجسام الممتدة، والتي تتكون من المواد العضوية وغير العضوية، واليوم فإنه لا أحد ينكر تقريبا وجود أجسام وعقول؛ بيد أن التساؤلات ترد عن العلاقات بين الأجسام والعقول في نظام الأشياء.

ويدعي ديكارت أنها جميعًا جواهر فردية أومفردة، بحيث تكون كل مادة جوهرا، وكل عقل جوهرا أيضا. وقد سأل أيضا ماذا يعني بالجوهر، وأجاب: نعني بالجوهر الشيء الذي يقوم بنفسه، ولا يحتاج في وجوده إلى غيره.

والجوهر بهذا المعنى – أي الذي يتفرد بذاته – هو الله. أما الأشياء الأخرى؛ فإنها تحتاج في وجودها. وعلى العكس من ذلك؛ فإنَّ الجوهر المادي والعقل أو الجوهر المفكر، كلها مخلوقة؛ وهذا لأنها أشياء تحتاج في وجودها إلى الله الخالق، وهكذا فإننا عندما نتحدث عن الصفات أو ندركها، نصل إلى الاستنتاج أن الشيء الحاضر أو الجوهر هو الذي تتعلق به الصفات، وتصبح ضرورية.

إنِّما المهم في كل هذه الفلسفات أنها تشترك أو تفترض وجود الجواهر المفردة، والجواهر واحدة في هذه الحالة أو متعددة، والتي تنوجد ولا تحتاج في وجودها إلى أشياء أخرى.

وهذه الفرضية أو المقدمات بالذات ترفضها المقولة الأفلاطونية؛ إذ ليس هناك وجود متفرد، بما في ذلك التصور الألوهي، الذي لا يحتاج إلى وجوده إلى شيء آخر. فبحسب الفرضية؛ فإن كل ذات أو نية هي في أصلها اجتماعية؛ أي أنها تحتاج إلى المجتمع لكي تستطيع الوجود؛ ذلك أن المجتمع هو لكل وجود حقيقي أو مثالي يشكل الكون الشامل، والذي يتضمن أشكاله النموذجية.

إن الإيمان بالوجود العقلي أو الروحي المحض يعني في هذه النظرية الميتافيزيقية أن هناك طرائق للتعقل، حيث تصبح الطرق المادية بدورها غير ذات قيمة. وفي الزمن الحاضر؛ فإن الإيمان الأرثوذكسي يذهب إلى أنَّ كل البشر بعد الموت لهم طرق محددة، أما بالنسبة للحيوانات؛ فإنِّه لا طريق لها من أي نوع.

وفي الحاضر أيضًا فإنه في الطريق الروحي يجري الادعاء أيضًا أن الوجود الروحي من خصائصه الخلود، ولكن ليس هناك دليل على ذلك الاعتقاد، وأن الوجود الروحي الخالص والخالد غير متصور إلى جانب الله، وليس هناك ما يفسر لماذا لا يمكن حسم هذه القضية من خلال اعتبارات دينية أو غير دينية؛ إنما ينبغي أن تكون تلك الأسباب أو الأدلة مدعاة للثقة.

إن هذا العرض المتعلق باستمرار وجود المادة والعقل يعلل هذا الاستمرار على النحو الذي يجعل من ذلك عملية التمثيل أو المسار للنظام. إن هذه الأرض تستمر في الوجود لأنَّ العملية (التفاعلية) تخضع لنظام، وهي تمد ذاك النظام بالقوة الخلاقة ثانية بعد ثانية، ودقيقة بعد دقيقة، وساعة بعد ساعة، وعامًا بعد عام، وقرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر؛ من خلال حفظ هذا التشكل المركب في تمركز للقدرات الإدراكية العارفة.

والعملية كلها هي التي تجعل من الكون وحدة قائمة، وهي تستمر لأن الكون هو عملية، ووقائع ناجمة عن عناصره الذاتية، وكل واقعة تتضمن الكل الشامل، بحيث لا يسقط شيء أو يهمل، وسواء أكان صيغة ذهنية أو واقعة حقيقية؛ بيد أنَّ هذا المسار الممتد والمتجدد يورد الوقائع على مراحل بحسب مراحل الأهمية أو عدم الأهمية ضمن وحدة المشاعر، ويصب بالنظر لهذا التحدد في التجربة الواعية، والتي هي المسار ذاته.

ولذا فإنَّ كل حالة من حالات الخبرة تصبح ممكنة، بقدر ما تسمح بها الوقائع السابقة، إذ إن هذه الخبرات والمعارف ضرورية للمسار والنظام؛ لأنها هي التي تشكله. إن حفظ هذه الخبرات ونقلها على مدى عصور من التاريخ الحي، ومن حالة إلى حالة، ومن خلال الأحداث المتتالية تستدعي؛ وجود نظام صارم للعالم الحقيقي.

إن نظام العالم ليس مصادفة؛ فليس هناك شيء حيقيقي من دون قدر معين من النظام. والحقيقة الدينية هي عبارة عن إدراك هذه الحقيقة؛ وهي أن نظام العالم هو عمق واقع العالم، قيمة العالم في شموليته، وفي أجزائه، وجمالية العالم، وحب الحياة، وسلام الحياة، والسيطرة على الشر، كل ذلك يتعلق ببعضه البعض. وكل ذلك لا يمكن أن يكون مصادفة، واستنادا إلى هذه الحقيقة: فإن الكون هو إبداع من حريات لا تنتهي، وأفق من الأشكال التي تسير إلى إمكانيات غير محدودة؛ بيد أنَّ هذه العملية الإبداعية وهذه الأشكال جميعاً ليست من المقام الملائم، للتوصل إلى الحقيقة، ومن دون الانتظام المثال، وهذا الانتظام هو الله.

 

 

 

أخبار ذات صلة