أ. د. محمد كمال الدين إمام | أستاذ بكلية الحقوق- جامعة الإسكندرية
(1)
يبدو مفهوم المواطنة واحدًا من أكثر المفاهيم الجدلية سيولة في الحوار الدائر حول إصلاح الوطن وأزمة المواطن، والمصطلح في حد ذاته قديم حديث، جسد في دولة المدينة الإغريقية أداة التمييز بين سكان الجغرافيا الواحدة في أثينا، وهو تمييز في درجة الإنسانية قبل أن يكون تميزًا في الحقوق والجدارة السياسية، ولم تكن المواطنة في هذه العصور ناقصة؛ بل كانت مواطنة بائسة بالمعنى المادي والمعنوي للبؤس. وكرست القسمة الضيزى بين القانون الروماني وقانون الشعوب مفهومًا للمواطنة ظل قرونًا عدة حبيس فلسفة نفي الآخر.
«ولا أظن أننا نتعسف في تفسير التاريخ- كما قيل بحق- إذا قررنا صراحة أن دستور المدينة الذي أنشأ الدولة الإسلامية الأولى كان بالتعبير الحديث أول دستور تعاقدي في التاريخ، وأن التاريخ لا يعرف بعده مثالاً للتعاقد الحقيقي في نشأة الجماعة السياسية إلا ما كان حين اتفق المهاجرون إلى الأرض الأمريكية فوق سفينتهم «مايفلاوز» على إقامة مجتمع سياسي جديد على أساس بيعة مشتركة بينهم.
وبغض النظر عن الأساس النظري لفكرة التزام الدولة باحترام حقوق الأفراد وحرياتهم فإن التصور الإسلامي للحقوق والحريات يتميز بخاصتين تحتاجان إلى ملاحظة:
الأولى: إن الإسلام يعدّ أداء الحقوق كأي واجب ديني آخر، ومن المؤكد أن إضافة الحافز الديني إلى الحوافز السياسية والدوافع الطبيعية يشكل ضمانًا إضافيًا إلى ضمانات الحرية المعروفة.
الثانية: أن الإسلام ينظر إلى الحقوق من زاوية المكلف بأدائها لا من زاوية المطالب بها، ولهذا فإن تعاليمه في هذا الشأن تأمر بأداء الحقوق لأصحابها».
والمعضلة التي نواجهها أننا نستدعي مفهوم المواطنة مستجلبًا من التجربة الغربية تحت شعار تنحية الدين، وهنا أحب أن أوجه الأنظار إلى ما يقوله أحد المعاصرين من علماء الاجتماع الكبار وهو «أنتوني جيدنز» في كتابه الضخم «علم الاجتماع» عند حديثه عن الغرب ، يقول:«لا يختلف علماء الاجتماع فيما بينهم عمومًا بأن سطوة الدين على المؤسسات الاجتماعية الغربية بما فيها الدولة آخذة في التناقص والانحسار،... كما أن أثر الدين آخذ بالتناقص مع تعاظم دور العلمنة في أكثر المجتمعات وفي مؤسساتها السياسية، والتشريعية، وفكرها القانوني على حد سواء. غير أن مثل هذه التطورات لا تعني بأي حال من الأحوال انتشار العلمنة أو انتصارها حتى في المجتمعات الغربية، كما أنها لا تعني ترادف العلمنة والحداثة في المجتمعات المعاصرة كافة، ويجدر بنا في هذا السياق أن نأخذ بالاعتبار عددًا من الظواهر المهمة:
الأولى: أن موقع الدين في المجتمعات الغربية أكثر تعقيدًا وتشعبًا مما يظن أنصار أطروحة العلمنة؛ فما زالت المعتقدات الدينية والروحية تؤثر تأثيرًا بالغًا في حياة الكثير من الأفراد والجماعات، وتكون منظومة واسعة من الحوافز والدوافع التي تحدد مسارات السلوك الفردي والجماعي فيما بينهم، بصرف النظر عن مدى مشاركتهم في العبادة الشائعة في المؤسسات الدينية، إن أعدادًا هائلة من الغربيين يؤمنون بالله أو بقوة علوية، غير أنهم يمارسون هذا الإيمان خارج إطار المؤسسات الدينية التقليدية.
الثانية: أن العلمنة لا يمكن قياسها على أساس الانتساب إلى المؤسسات الدينية المتعارف عليها؛ فمثل هذا المقياس لا يأخذ في الحسبان الاتجاهات والحركات الدينية التي نشطت وترعرعت خلال العقود الماضية خارج المجتمعات الغربية على الصعيد العالمي، وأحيانًا داخلها.
الثالثة: ربما الأهم غياب العلمنة في أكثر المجتمعات غير الغربية، وهذا ليس وقفًا على المجتمعات التقليدية؛ فهي شائعة في المجتمعات الغربية بدرجات وأشكال متفاوتة، ولا تزال بعض هذه الحركات الدينية التي تدخل في عداد «اليمين المسيحي الجديد» وثيق الصلة بمواقع صنع القرار السياسي والاجتماعي خاصةً في الولايات المتحدة، وقد برزت في العقود الأخيرة نظريات تربط مفهوم المواطنة في القرون الثلاثة الأخيرة بظاهرتيْ الإقصاء والدمج، ويقول هؤلاء: إن القرن الثامن عشر قد تميز بظهور «الحقوق المدنية» التي تشمل أنواعًا مختلفة من الحريات الفردية مثل حرية التعبير، وحرية الرأي، والمعتقد الديني، وحرية التملك، والمحاكمة العادلة أمام القضاء، وشهد القرن التاسع عشر نشوء الحريات السياسية مثل حرية التصويت، وشغل الوظائف والمناصب العامة، والمشاركة في السيرورة السياسية، أما في القرن العشرين فقد ظهرت الحقوق الاجتماعية، وأصبحت حقوق المواطنين في النشاط الاقتصادي والضمان الاجتماعي والتعليم والرعاية الصحية والإسكان والتقاعد جزءًا لا يتجزأ من منظومة المبادئ لدولة الرفاهية، وأدى إدخال الحقوق الاجتماعية في مفهوم المواطنة إلى تمتع جميع الناس بالحق في حياة نشطة وكاملة مع وجود دخل معقول، بغض النظر عن منزلتهم الاجتماعية، ومن هنا فإن الحقوق المرتبطة بالمواطنة قد أسهمت في إعلاء مفهوم تحقيق المساواة للمجتمع.
(2)
وخلال هذه القرون الثلاثة لم تكن المواطنة جزءًا من القاموس السياسي في العالم العربي، ولولا الأزهر الشريف- الذي فُرض عليه دور سياسي إضافة إلى مرجعيته الرائدة- لاختفت الثقافة الوطنية بعناصرها المختلفة، خاصةً وقد أوصد الباب أمام الاجتهاد الفردي، وأُجهضت محاولات «التنوير» خارج دائرة التأثير الغربي، وأصبحت حركية الدين جزءًا من مؤسسة الحكم، وكما يقول جورج المقدسي- في كتابه عن «نشأة الكليات»: "دأبت السلطة الحاكمة باستمرار على محاولة جذب العلماء إلى دائرة نفوذها، وحبذا لو أمكن السيطرة عليهم، والإفادة من تأثيرهم على جماعة المؤمنين".
فما الجديد إذن في إستراتيجية الدولة الحديثة في مصر؟ «الجديد أنه للمرة الأولى- كما يقول شريف يونس- أصبح منطق الدولة يهمش المؤسسات الدينية التقليدية، ليس من منطلق العداء لها، بل من منطلق الحاجة إلى إعادة ترتيبٍ تاريخية وجذرية لآلة الدولة ومفهومها، كان انتقال الدولة من الجباية إلى استثمار السكان وتشعب أدواتها يعني اتساع مجال «السياسة» أي اهتمامات السلطة وتشعب أدواتها التدخلية، وظل الأزهر والقضاء الشرعي مستقلين إلى حد كبير؛ لكن المجال العام التابع للسياسة -أي الحكم- تضخم باستمرار متمحورًا حول جهات الدولة الحديثة بما جعل الحكم والتأثير والمكانة النسبية لمجمل المؤسسات التقليدية يتقلص».
وفي ظل هذا المشهد البالغ التعقيد وُلد مفهوم المواطنة في الدولة المصرية الحديثة، وكانت ولادة قيصرية جعلته قابلاً للحضور والغياب وفقًا لتطلعات غرب طامع، وسلطة حاكم طامح، وكلاهما يسعى إلى توظيف «الجغرافيا» لحماية مصالحه، الغرب يريد السيطرة على الأرض والثروة، والحاكم يريد الهيمنة على البشر والقوة، فلم تجد إرهاصات المواطنة طريقها إلى النمو، وقد أصبح محمد علي المالك الوحيد بعد تأميم الفكر والاقتصاد والسياسة لصالح مشروعه النهضوي بإيجابياته وسلبياته، ولم يستطع رفاعة الطهطاوي ورفاقه، وعلي مبارك وسياسته التعليمية، وقدري باشا ومدوناته القانونية، ومحمد عبده وتلاميذه ؛ لم يستطع هؤلاء جميعًا الإمساك بدفة القيادة، أو أن يكونوا جزءًا منها؛ لأن الدولة الحديثة في مصر قامت على أعمدة ثلاثة: جيش قوي، وإدارة رشيدة، ونخبة قائدة.
أما الجيش فقد ظل طوق النجاة في عوالم متغيرة.
أما الإدارة الرشيدة فقد تآكل رشدها لصالح بيروقراطية متسلطة تحولت إلى كابوس يقضي على حلم المصريين فيما يسمى بـ«الدولة العميقة».
أما النخبة القائدة فقد تناثرت قوتها، وتم تقزيمها وتقسيمها إلى نخب ثلاث:
نخبة معارضة لحمتُها وسُداها: المصالح الخاصة لا العامة.
نخبة مروضة تحولت إلى جوقة فاسدة في وسائل الإعلام تحمل المباخر حول التخبة السياسية.
نخبة محرضة لا تعرف قيمة الوطن وأهمية الاستقرار وضرورة الحفاظ على مقاصد الشريعة في حماية الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وهي نظرية للحفظ غايتها مصلحة الإنسان، وليس مصالح الأديان.
ومحصلة هذا كله أن المنظومة القيمية التي تمثل البيئة الحاضنة لثقافة المواطنة غائبة، ولأن الدين يصنع الثقافة، والثقافة تصنع التدين، فإن تغريب الدين أوجد ثقافة مغشوشة، وتدينًا مريضًا بسوء الفهم، ومريضًا باعتناق العنف، وهو مرض تتآكل تحت وطأته مقومات المواطنة الحصينة، وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير بدأنا نشعر بالمواطنة المأزومة، وتدفقت على الأزهر الشريف كل القوى الفكرية العاملة على الأرض بكافة انتماءاتها الدينية والسياسية والاجتماعية وكل مجموعة من هؤلاء من علمانيين وإسلاميين، ومن مسلمين ومسيحيين، ورجالاً ونساء، جاءوا إلى الأزهر الشريف ولديهم تخوف عام من الإقصاء أو تراجع منظومة الحقوق أو غياب الحريات، ولم يكن الخوف من المواطنة الناقصة، بل من المواطنة الغائبة، وتوالت وثائق الأزهر إحداها تبحث عن هوية الدولة ومقوماتها الدستورية، وأخرى تتفاعل مع الحقوق والحريات، وثالثة جوهرها حقوق المرأة، لقد كان الحوار تحت قبة الأزهر بلا سقف، وكان صريحًا، حتى وإن كان بعضه مؤلمًا وجارحًا، ومعبّرًا عن غيظ مكتوم، وشارك فيه سياسيون، ومفكرون، وعلماء، وأدباء، وصحفيون، وإعلاميون. وكانت المواطنة عند الجميع تعني المساواة في الحقوق والواجبات، والدفاع عن الحريات بكافة صورها وإقرارها دستوريًا، والحفاظ على استقرار الوطن وأمن المواطن وسلامته، وتُرجم ذلك في ورقات تم تظهيرها بتوقيعات، ومن خلال متابعة استوعبت كل جلسات الحوار أحسست- ربما لأول مرة- أن الجنسية شيء والمواطنة شيء آخر، الجنسية علاقة بالقانون يمكن تجسيدها في وثيقة السفر، أما المواطنة فهي انتماء إلى مكان ليس مجرد جغرافيا؛ ولكنه تاريخ ومشاعر وولاء وهوية، إنه ليس مجموعة الحقوق والحريات في كتاب الدستور، بل هو مجموعة العلاقات الفعلية بين المواطن والدولة، ومجموعة العلاقات بين المؤسسات والأفراد والمساواة في الحقوق: كيف يعامله القاضي؟ وكيف يعامله الأستاذ؟ وكيف يعامله رجل الأمن؟ وكيف يعامل الأخ أخته في الميراث؟... إلى آخره.
إن الوعي بالمواطنة هو جوهر المواطنة؛ الوعي بها من جانب الدولة والمؤسسات، والوعي بها من جانب الأفراد والجماعات، إن جوهر المواطنة يعني الوعي بعدم صلاحية التقسيم الديني أو الإثني أو النوعي ليكون أساسًا أو معيارًا في منظومة الحقوق والواجبات، والنص في الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع يعطي حجية لسلب المشروعية عن أي خطاب يعتدي فكريًا على صيغة المواطنة الكاملة.
خاصةً- وكما يقول سامح فوزي- أن هناك اتجاهاً- على الجانبين الإسلامي والمسيحي- يسعى إلى تمرير مشروعه الطائفي بوصفه مشروعًا بديلاً أو موازيًا للمواطنة، ويحكم سعيهم معادلة صفرية، بمعنى أن تحقق مشروع المواطنة يعني ضمن ما يعني زوال مبررات وجودهم، وهذا ما أسماه سمير مرقص بتديين المجال السياسي، وهو نوع من القراءة القلقة التي تؤدي إلى إضفاء المقدس على الشأن العام، «وعليه فإن المرء يدخل في مواجهة مع المطلق المقدس، ومن ثم يكون هناك إما صدام معه أو انسحاب تام عنه»، وهو ما يؤثر سلبًا على قضية التحول الديمقراطي والسياسي في مصر. ونحن في مفهوم المواطنة أمام محظورين: الفكرة الغربية العصية على النقل، والخبرة الوطنية المحدودة الفعل. والعودة إلى الماضي هنا ليس تقليدًا مرفوضًا بل هو بيان للتجربة الحيّة في زمان أكثر انفتاحًا، ومكان أكبر اتساعًا، حيث تفرض وثيقة المدينة نظامًا سياسيًا يخضع أهله لموقف قانوني متكافئ؛ لأن قاعدة المواطنة تغطي هامة الجميع، فحواها المساواة في الحقوق كلها، وفي الواجبات كلها»، وقد صارت هذه الوثيقة ذات فاعلية حضارية انعكست على خصائص الجماعة الوطنية في مصر، وهو ما عبّر عنه المفكر المصري المستشار وليم سليمان قلادة في كتابه «المواطنة المصرية حركة المحكومين نحو المساواة والمشاركة»بقوله:
«إن الإنسان والجماعة يأخذان مفهومًا متشابهًا ومتكاملاً في عمق التدين المصري المسيحي والإسلامي، والنتيجة المهمة لهذه الحقيقة هي أن التعدد الديني في -مصر في صورته الدينية والشعبية- نشأ وعاش في إطار فقه المحكومين؛ أي في مقومات التجانس الذي تصنعه مقومات الكيان المصري. وهكذا صار في الحياة المصرية قطبان يجري الجدل بينهما: التجانس، وتمثله الأرض وسيادة العرق المصري ووسيلة الإنتاج الرئيسة الزراعة، وعلى وجه الخصوص النظام السياسي من ناحية، والتعددية- ويمثلها الدينان: المسيحية والإسلام من ناحية أخرى. ولو أن واحدًا من هذين القطبين ساد لاندثرت مصر التي نعرفها، فلو أن التجانس ابتلع التعدد من خلال هيمنة أحد المطلقين لانمحى وجود الآخر، ولو أن التعدد صار كاسحًا يكرس الفرقة لما صار للكيان المصري مقومات وجود موحدة، ولكن الحياة الاجتماعية والإنتاجية والثقافية والحضارية حالت دون حدوث الاستقطاب، وأفرزت بديلاً ثالثًا (غير الاستيعاب والاستبعاد المتبادل) هو الحياة المشتركة من خلال جدل القطبين- التجانس والتعدد- هذا البديل يحتفظ بالمقومات الواحدة الموحدة ولا ينفي وجود الآخر، الجماعة تحيا التعدد على أرض الوحدة، خاصةً أنه في هذه الحياة المشتركة، لا تعطي الأرض- في مصر- الفرصة لعزلة فريق من مكونات الجماعة بعيدًا عن جسمها الشامل».
وأتساءل: إذا كان هذا هو الواقع فلماذا تطفو بثور النقيض على الوجه المصري المتألق تحت الشمس؟
(3)
إن التطورات الدستورية في مصر عززت وجود المواطنة الكاملة للجميع في مؤسسات كانت عنوان التميز مثل المؤسسات القضائية، والحقوق والحريات الدينية، وجاءت هذه التطورات مواكبة لمواقف مدعومة من الأزهر الشريف، وقد عرفت مصر خلال عقدين مضيا رئاسة للهيئات القضائية في مصر تسنمتها المرأة وكبار رجال القضاء من المسيحين في مجلس الدولة والقضاء العادي والنيابة الإدارية، وهيئة قضايا الدولة، وأصدرت المحكمة الدستورية منذ أيام حكمها بعدم دستورية أحد نصوص قانون الخدمة المدنية يعطي للمسلم إجازة لأداء فريضة الحج ولا يعطي ما يماثلها للمسيحي لأداء الزيارة الدينية إلى القدس الشريف، إضافة إلى استيعاب المجالس النيابية ومجالس الوزراء والمحافظين للمواطنين بعيدًا عن محاصصة الدين والطائفة والنوع، مرة ثانية لماذا إذًا تطفو بثور نقيض المواطنة على الوجه المصري؟ إنها الثقافة العاجزة الكليلة، التي تختبئ وراء التقليد والجمود، أو خلف العصبية المقيتة والطائفية المنبوذة، في مواجهة غير متكافئة مع قوى خفية وأخرى ظاهرة، وكما يقول بحق فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب في بحث نُشر منذ أكثر من خمسة عشر عامًا: «إن هذه المواجهة الجديدة قد أحدثت مفارقات في النظام الاجتماعي الإسلامي لم يُحسب حسابها من قبل؛ لأن زخمًا هائلاً من ثقافتنا لم يكن مؤسسًا على قيم وأصول إسلامية محررة، تؤهلها للتعامل مع هذا الوافد المكتسح، بقدر ما كانت أمشاجًا وأخلاطًا من عادات وأفكار تقليدية جامدة من ناحية، ومن أنماط متحررة أو منفلتة من ناحية أخرى، وكانت القيم الإسلامية هي الغائب المفتقد في هذا الخليط غير المتجانس، وكما كانت صدمة الغرب في القرن الماضي الشرارة التي أشعلت فاتورة التجديد، كانت العولمة أو قانون المركز والأطراف الصدمة الكهربائية التي وضعتنا- من جديد- في مواجهة جديدة، أو محنة من نوع جديد، وهي بلا شك تستدعي نوعًا من التجديد يختلف عن التجديد الذي ساد في القرن الماضي، وإن تماثل معه في البحث عن الهوية على أساس من العودة- الواعية الناقدة- إلى التراث، فالانطلاق من التراث شرط لا مفر منه لأية نهضة حقيقية تبقى فيها الأمة موجودة على قيد الحياة...
والذي يلقي نظرة سريعة على الساحة الثقافية الآن- يظهر له بوضوح أنها بصورتها الراهنة غير مؤهلة لمواجهة الرياح العاتية التي تهب علينا من وراء البحار، فما تزال مشكلة اللب والقشور تعمل عملها في توجيه ثقافتنا، وما تزال قائمة الأولويات منكسة على رأسها، وما تزال المرأة بعد أكثر من قرن ونصف من التجديد- نتساءل عن حكم خروجها من المنزل، عن صوتها وهل هو عورة، وعن تعدد الزوجات هل هو الأصل أو السُّنَّة؟ وما يزال الخلاف مستعرًا بين فريق من علمائنا ومفكرينا حول مشروعية دخول المرأة مجالس الأمة والشورى وهل يُعد ذلك من الولاية العامة أو لا يُعد».
هذه كلمات الإمام الأكبر وهي حديث عن التجديد والمواطنة معًا، فهل لا يزال بعضنا يرىحضور الإسلام العامل الرئيس في احتضار المواطنة؟ اسمحوا لي أن أقول بصوت جهير: إن غياب الإسلام والتخلي عن منظومته القيمية وأنظمته التشريعية هي الأسباب الكامنة خلف انسحاب المواطنة وتجلياتها بما يهدد استقرار المجتمع وأمن المواطنين، وإنها لخسارة فادحة بمنطق الدين والعقل، وبمنطق الصالح العام والسياسة الراشدة.
إن المواطنة في مفهومها الصحيح: واجبات نقوم بتفعيلها، وهي من واجبات الأعيان التي لا تقبل الإنابة، وحقوق نسعى إلى تحصيلها وهي –بالنظر إلى ضرورتها وكليتها وقطعيتها- من حقوق الله التي لا تقبل الإسقاط.