د. إبراهيم البيومي غانم | مستشار ـ المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ـ مصر
لا تزالُ المصادرُ التاريخية والفقهية القديمة تكشف عن الجديد بشأن عوامل النهضة الحضارية في الأزمنة الوسيطة للمجتمعات الإسلامية؛ أي منذ بدايات العصر العباسي إلى نهايات العصر العثماني على وجهِ التقريب. ومن هذا الجديد: أن منظومة العمل الخيري ومؤسساتِها قد أسهمت بنصيب معتبر في تلك النهضة. وتشمل هذه المنظومة فريضة الزكاة، والصدقات غير المفروضة وأهمها: الوقف، والهبة، والوصية، والنذور، وكذلك الكفارات التي يؤديها بعض المذنبين في شكل إحسانات أو مساعدات مادية للفقراء وذوي الحاجة. وقد أدرجنا هنا "الزكاة" ــ رغم فرضيتها ومسؤولية السلطة العامة عن جمعها وصرفها ــ ضمن موارد العمل الخيري باعتبار مآلات مصارفها الثمانية المعروفة، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وابن السبيل، وفي سبيل الله؛ إذ تكاد هذه المصارف تتطابق مع مصارف الصدقات الأخرى، وأهمها على الإطلاق: "الصدقة الجارية"، أو "الوقف".
وإذا كانت المصادر تحدثنا بشيء من التفصيل عن تطبيقات فريضة الزكاة وممارسات سنة الوقف وأثرهما في والتنمية العمرانية والاجتماعية والحضارية؛ فإنها تكاد تخلو من الحد الأدنى من البيانات والأخبار التي توضح كيف كانت تطبيقات الوصايا والهبات والنذور والكفارات والصدقات غير المفروضة، وكم كان حجمها في حقبة زمنية معينة ومجتمع معين؟ ومن ثم ستظل معرفتنا بإسهامها في النهضة والبناء الحضاري معرفةً نظرية، نستقيها فحسبُ في نُورِ الاجتهادات الفقهية والاختيارات المذهبية في عمومياتها، أكثر منها معرفة عن التطبيقات التاريخية؛ إذ إن مثل هذه المعرفة عن التطبيقات ستظل في عتمة التاريخ إلى أن يتمكن باحث ما، في وقتٍ ما، من العثور على مصادر تكشف عن شيء من تلك الوقائع والممارسات التي تخص ما سوى الزكاةِ والأوقاف من منظومة العمل الخيري.
ورغم تنوع الصيغ التي تحتويها المنظومة الخيريةِ، ورغم اختلاف مقاصد كل صيغةٍ منها؛فإنها تتحدُ في كونها تعبر في جملتها عن عمق الارتباط بين النزعة المادية والنزعة الروحية والأخلاقية في السلوك الاقتصادي المرتكز على مرجعية إسلامية، كما تعبرُ عن التأثير المتبادل بين ما هو مادي، وما هو معنوي وروحي وأخلاقي في بنية التنظيم الاقتصادي بمستوييه: الكلي العام، والجزئي الخاص. وتكشفُ هذه الصيغ المتعددة أيضاً عن التداخل العضوي بين مستويات الأحكام الشرعية: (الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام) على صعيد التطبيق الذي تجلى في الممارسات الاجتماعية والاختيارات المؤسسية، بحسب ظروف الزمان والمكان. وهذا مبحث جديد يحتاج إلى دراسة قائمة بذاتها.
الأنساق الثلاثة لاقتصاد المجتمعات الوسيطة
لم تأخذ منظومةُ العمل الخيري حقها ــ للآن ــ من الاجتهاد في تبيانِ وظائفها الاقتصادية، وما كان لها من إسهام في تشييد نهضة المجتمعات الإسلامية الوسيطة في مسألتين محددتين:الأولى هي: بيانُ تكامل مكونات منظومة العمل الخيري وتساندها فيما بينها، وبيان فلسفتها العامة. والثانية هي: بيانُ آليات تفاعل تلك المنظومة وتكاملها مع بقية مكونات النظام الاقتصادي العام.
وهذا القصور لا يزال قائماً؛ رغم مضي أكثر من نصف قرن من الاجتهادات النظرية والجهود التطبيقية الرامية لتأصيل نظرية عامة للاقتصاد الإسلامي في كثير من مجتمعات العالم المعاصر، ورغم اشتداد حاجة الحكومات والمجتمعات معاً لإسهام هذا القطاع الخيري في سياق سياسات الإصلاح الاقتصادي. ويتعمقُ هذا القصور في ضوء أهمية إسهام المنظومة الخيرية ذاتها في تكوين قطاع "الاقتصاد الاجتماعي" ــ حسب المصطلحات الحديثة ــ أو ما نفضل تسميته باسم نسق "مكارم الأخلاق وعاطفة الشفقة"(1)، وهو نسق وليد الهداية الإيمانية، وليس وليد التفكير العقلي أو الوضعي الذي يقوم على حسابات المكسب والخسارة؛ إلا أنه يأتي في الترتيب الثالث بعد نسق الرشادة والمنافسة الحرة، ونسق العقلانية والعدالة الاجتماعية.
أما "نسق الرشادة والمصلحة الخاصة" فهو الذي يأتي أولاً، وهو الذي تحركُه عوامل الربح والخسارة وقواعد السوق الحر، ويخضع لاعتبارات مادية بالأساس، ومن المفترض إسلامياً ألا يخرج عن نطاق الأخلاقيات الدينية الحميدة والمبادئ الإنسانية القويمة. وأما "نسقُ العقلانية والمصلحة العامة" فهو الذي تحركه اعتبارات العدالة ورعاية السلطة الحكومية للمرافق والخدمات العمومية. وتلك ــ من وجهة نظري ــ هي الأنساق الثلاثة التي نهض عليها الاقتصاد الإسلامي في عصور الازدهار الحضاري، وفي لحظات فعاليته وخدمته للمقاصد العامة للشريعة في واقع المجتمعات الإسلامية في أزمنتها الوسيطة على وجه الإجمال.
هذه الأنساق الثلاثة ـ في جملتها ـ لم تكن منفصلة عن الواقع في التجربة التاريخية؛ وإنما تفاعلت مع وقائع الحياة، وتطورت بتطورها. وبإنعام النظر في مكونات نسق مكارم الأخلاق ــ محل اهتمامنا هنا ــ يتبين أنها تجمعُ بين إسهامات الدافع الفردي التي أخذت صيغ: الوقف، والهبة، والوصية، والنذر، والكفارة، والصدقة غير المفروضة في كفة، وإسهامات الدافع الجماعي الذي ترعاه الدولة - وهي الزكاة - في كفة أخرى. فبينما تعتبر الزكاة من الاختصاصات السيادية للدولة في جمعها وتوزيعها في مصارفها؛ وجرى العمل بذلك فقهاً وقضاءً(2)؛ فإن الوقف وبقية مكونات هذا النسق يعدُّ ـ بتعبيراتنا المعاصرة ـ من صميم اختصاصات المجتمع المدني، ومن تقاليد الضمان الاجتماعي بتطبيقاته الاختيارية أو التطوعية غير الحكومية.
ونظرياً؛ لا يستقيم أداء تلك الأنساق الثلاثة إلا في سياق عام يجعلُ كل نسق منها متمايزاً وظيفياً وليس منفصلاً عن الآخر، ومكملاً له في آن واحد.
فنجاح "نسق الرشادة"، مرهون بالكفاءة والمنافسة الحرة والإتقان والمبادرة، وبتفاعل قوى السوق دون تدخل مهيمن من جانب السلطة. وهذا النسق يتسبب حتماً في وجود فجوات بين فئات المجتمع وجماعاته وطوائفه المختلفة؛ بحكم اختلاف مهاراتهم، وتباين قدراتهم على الابتكار والإنتاج والبقاء والمنافسة والكسب.
ومن هنا يأتي دور النسق الثاني وهو: نسقُ العقلانية والعدالة ورعاية الدولة للمصالح والسلع العامة. وفي قلب هذا النسق؛ نجد فريضة "الزكاة" إلى جانب أنظمة الرسوم والعشور والخراج والضرائب والمكوس الجبرية التي فرضتها، وتفرضها، السلطة الحكومية ــ في كل زمان ومكان ــ لتحقيق قدرٍ من العدالة العمومية عبر توفير الحماية الاجتماعية للفئات غير القادرة على العمل والكسب، وأيضاً للإسهام في توفير السلع العامة وتمويل الخدمات التي لا يُقبلُ عليها أصحابُ المبادرة الخاصة؛ طبقاً لآليات عمل نسق الرشادة والمنافسة، ووفقاً لقوانين الربحِ والخسارة.
ثم يأتي دورُ النسق الثالث؛ وهو "نسقُ مكارم الأخلاق وعاطفة الشفقة"؛ لينهض بما لم ينهض به النسقان الأول والثاني. وقد ذهب قدماء العلماء إلى أن الأوقافَ والتبرعات الخيرية إنما شُرعت لكي تسد ما لم تسده الزكاةُ المفروضة من فجوات هنا وهناك، وما تعجز الدولة عن معالجته بالضرائب والرسوم وما في حكمها.
وتشير الخبرة التاريخية للمجتمعات الإسلامية في عصور نهضتها الوسيطة إلى أن تلك الأنساق الثلاثة كانت تعمل على التوازي، وأنها كانت متساندة في أدائها العام؛ بدليل أن أياً من تلك الأنساق لم يتم عزلُه، أو إبطالُ العمل به بحجة تمكين النسقين الآخرين أو أحدهما من العمل(3)؛ فلم تُصادر الدولة المبادرات الخاصة بحجة تمكين السلطة الحكومية من تحقيق العدالة الاجتماعية، ولم تدمجْ المبادرات الخيرية في بيت المال بحجة تمكين السلطة الحكومية من القيام بمسؤولياتها في الرعاية الاجتماعية، ولم تتخل السلطة الحكومية عن مسؤولياتها الاجتماعية بحجة تمكين المنظومة الخيرية من أداءِ رسالتِها.
لكن ذلك الانسجام والتوازي في الأداء اضمحلَّ باضمحلال الحضارة الإسلامية، وفقد القدرة على البقاء والترقي، ولم يتحول إلى صيغ مؤسسية تتمتع بدرجة عالية من المرونة والكفاءة والمحاسبية على نحو يستوعب متغيرات الحياة الاجتماعية ويتناسب مع تعقيداتها. ولم تفلح الاجتهاداتُ التي بذلت في الأزمنة الحديثة والمعاصرة لإعادة بناء "نظرية عامة" متماسكة للاقتصاد من منظور "إسلامي"، رغم مضي أكثر من نصف قرن على تلك الاجتهادات النظرية والجهود التطبيقية التي شهدها كثيرٌ من مجتمعاتنا. فهذه "النظرية العامة" التي يكثرُ الحديث عنها لا تزال غائمة الملامح، إن لم نقل: إنها غائبة عن الوجود. صحيح أن الأطروحاتِ الاجتهادية في هذا المجال لم تعُدْ قليلةً؛ لكنها مع كثرتها لا تزال مجزأةً، ومتناثرةً، ولا يكاد يربطها رباط يلم شملها، ويقيم منها بناءً نظرياً متماسكاً على نحو ما هو معروف في علم الاقتصاد الوضعي، أو الموصوف بأنه "غير إسلامي". والاستثناءات من هذا قليلة جداً، وأهمها أطروحة محمد باقر الصدر، التي لا تزال براقة رغم مضي أكثر من نصف قرن على ظهورها في كتابه "اقتصادنا"(4)، الذي كانت طبعتُه الأولى في سنة 1381ه/1962م.
الزكاة والوقف والصدقات وتقاليد الممارسة الاجتماعية
فيما عدا ما نعرفُه عن تطبيقاتِ الوقف والزكاة، لا نعرفُ الكثير عن تطبيقات الوصايا والهبات والصدقات الموسمية غير المفروضة، ولا عن النذورِ والكفارات. ولا تتوافر دراسات متعمقة توضح ما ارتبط بها من تقاليد اجتماعية في ممارساتها العملية، وما كان لها من دور في الحياة الخاصة أو العامة في الأزمنة الوسيطة(والحديثة والمعاصرة أيضاً).
أما الوقفُ فوثائقُه والمصادر التاريخية التي سجلت الكثير من أخباره وأخبار أداء الزكوات المفروضة كلها تُشير إلى أن الوقف كان أوفرَ حظاً في التطبيق من فريضة "الزكاة" في المحصلة النهائية خلال الأزمنة الوسيطة. ويدعمُ هذا الاستنتاج: كثرة الشكايات والقضايا التي ناقشتها كتب "الأموال"، و"الخراج"، و"الفتاوى"، وكتب "أدب القضاء" بشأن المنازعات بين عمال الزكاة وأصحاب الأموال المكلفين بأدائها(5)، حدث هذا مع الإقرار بأن تلك الأزمنة الوسيطة شهدت أيضاً فتراتٍ كانت الزكاة من الوفرة بحيث فاضت عن مستحقيها، وكانت ركناً من أركان بناء الحضارة الإسلامية(6).
وبغض النظر عن دلالات تلك المفارقةِ من جهة الالتزام الديني؛ بين زيادة الإقبال على الوقف(وهو مندوب في أقوى التوصيفات الأصولية له) بدرجةٍ أكبر من الزكاة (وهي فريضة وركن من أركان الإسلام الخمسة)؛ فإن من أهم النتائج العملية لهذه المفارقة: أن الوزنَ النسبي لإسهام الوقف في النهضة والبناء الحضاري كان أكبرَ من إسهام الزكاة. ويضاف إلى ذلك ــ ويؤكدُه ولو مؤقتاً ــ وجودُ فرقٍ نوعي بين الزكاة والوقف لا دخلَ له بالالتزام أو عدم الالتزام الديني، وهو: أن حصيلةَ الزكاة محددة المصادر والمصارف، وليست تراكمية بحكم وجوب صرفها شرعاً في سنة جمعها بشكل مباشر؛ بخلاف الوقف الذي خضع لقانون التراكم الرأسمالي/الاجتماعي والمؤسسي، وامتد أثرُه لعقود؛ بل لقرون طويلة، وخاصة أنه كان يتحول إلى مؤسسات أو مرافق عامة مثل: المساجد، والمدارس، والبيمارستانات، والحمامات، وأسبلة مياه الشرب، والمضايف، والجسور، والحصون، وغيرها.
ومن المؤكد أن مثل هذا الاستنتاج يحتاج إلى مزيدٍ من البحث والدرس والتوثيق التاريخي والتدقيق الموضوعي. ولكن ما لا يحتمل كثيراً من الجدل هو: أن الفئات التي شاركت في بناء نظام الوقف ومؤسساته المختلفة كانت أكثر اتساعاً وتنوعاً، مقارنةً بالفئات التي أسهمت في أداء فريضة الزكاة، وجعلتها مؤثرة فعلياً في النظام الاجتماعي وفي النهوض الحضاري بمعناه الموسع.
في أزمنة المجتمعات الإسلامية الوسيطة كان أغلبُ الذين يملكونَ نصاب الزكاة هم من مساتير الناس:(التجار والزراع وأصحاب الأموال، وقليل من أرباب الحرف والصنائع)، أو أصحاب العقارات المبنية التي تدر ريعاً. ومن هؤلاء وأولئك منْ كان لا يؤدي الزكاة؛ ليس إنكاراً لها بالضرورة؛ وإنما لأسباب أخرى تتنوع بين: الغفلةِ، والتساهلِ، والتفريطِ. وتتعلقُ تلك الأسباب أيضاً بضعف ثقتهم في المؤسسة الرسمية المعنية بجمع الزكاة، وخاصة عندما شاع أن الفساد قد ضربها في بعض فترات الأزمنة الوسيطة للمجتمعات الإسلامية(7).
ولا تتضمنُ المصادر التاريخية والفقهية أخباراً منتظمة يُعتد بها عن التزام طبقة الحكام من الأمراء والولاة والسلاطين بأداء زكاة أموالهم، وكان من العسير دوماً تمييز ذمتهم الماليةِ الخاصة عن الذمة المالية العامة للدولة. وثمة دلائلُ متناثرة تؤكد هذا الذي ذهبنا إليه بطرق مباشرة وغير مباشرة، ومنها بعض المسائل التي تتضمنها كتب "الفتاوى"، وكتب "أدب القضاء" بشأن المنازعات بين "سعاة" الزكاة أو العاملين المكلفين بجمعها، وبين أرباب الأموال المكلفين بأدائها، ومنهم من كان يتهرب من أدائها، أو يدَّعي زوراً أداءَها، أو يستغل نفوذه وقربه من السلطة ليلتمس شتى الحيل للإفلات منتزكيةِ أمواله(8).
لقد كانت حصيلةُ الزكاة أحد مصادر تمويل بيت المال. ومن بيت المال كان يتم الإنفاقُ على المصالح العامة، وعلى ما يسمى باللغة المعاصرة: شبكات الضمان الاجتماعي ورعاية أصحاب الاحتياجات الخاصة. ومن المرجح أن سياسة الإنفاق العام من بيت المال على تلك المصارف قد أسهمت في تعزيز قدرات الدولة على مستوى الاقتصاد الكلي، إلى جانب أنها أسهمت في تحقيق درجة من النهضة والرفاه العام. وقد اهتم أصحاب كتب "الأحكام السلطانية" و"السياسة الشرعية" اهتماماً خاصاً ببيان أنواع الأموال التي تدخل بيت المال، ومنها "الزكاة". ونظراً لما للزكاة من خصوصية فقد حرصوا على التنبيه في تلك الكتب إلى أنه لا يجوز الخلط بينها وبين الموارد الأخرى لبيتِ المال.
أبو الحسن الماوردي الشافعي(ت: 450هـ) قسم هذه الموارد إلى ثلاثة وهي: الفيء، والغنيمة، والصدقة(الزكاة). وقسمها قاضي القضاة صدرُ الدين بن أبي العز الحنفي(ت: 677هـ) إلى أربعة أنواع هي: بيت للخمس والزكاة والعشور، وبيت للخراج والجزية وما يفرض على التجار من غير المسلمين إذا دخلوا بلاد الإسلام(جمارك)، وبيت للتركات التي لا وارث لها، وبيت لِلُّقطات التي لا صحاب لها. أما القاضي بدرُ الدين بن جماعة الشافعي (ت: 733هـ) فقسمها إلى سبعة وهي: الخُمسُ، والفيء، والخراج، والجزية، والعشر(الزكاة)، وإرث فرد لا وارث له، ومال ضل صاحبه".
وكثيراً ما نبهت كتب السياسة الشرعية السلاطين والولاة الأمراء إلى أهمية أداء الواجب تجاه الفئات الفقيرة والمحرومين، وأن من أهم واجباتهم:" الإحسان في الرعية؛ بأن يوصلَ آثار الكرم والمروءة إليهم، وبأن يحسن للفقراء، ويؤدب الأغنياء، ويداري بهم، ويعطي الصدقات للفقراء والمساكين وأبناء السبيل، خصوصاً للغرباء الذين جاءوا من بعيدٍ بالمشقة...، الراجين من إحسان الأمير وكرمه ليحصل لهم بذلك للملك في الدنيا الثناء الجميل، وفي الآخرة الأجر الجزيل"(9). ويبدو أن هذا التنبيه لم يكن يلق أذناً مصغية في كثير من الحالات. وما إن حلتْ نهاية القرن الثاني عشر الهجري، وبدأت نهايات الأزمنة الوسيطة؛ حتى صرخ أحمد بن علي الدلجي من بؤس "الفلاكة والمفلوكون"(10)، أو الفقر والتهميش وآثاره السيئة في المجتمع والدولة.
بالنسبة للوقف، نجد أنه ظل مستقلاً عن ذمة بيت المال (الخزانة العامة) طوال الأزمنة الوسيطة للمجتمعات الإسلامية. وسجل لنا أبو شامة صورة مشرقة من صور حرص الولاة على استقلالية الأوقاف عن بيت المال(10). وثبت لدينا من الاستقصاء التاريخي للوقف في تطبيقاتِه العملية أن ثمةَ أربع فئات كبرى شاركت في تكوين الإرث الاقتصادي والمؤسسي للوقف، حتى أضحى مركزَ قاعدةٍ مادية ومعنوية صلبة لنهضة المجتمعات الإسلامية في الأزمنة الوسيطة، وهذه الفئات هي(11):
"الأتقياءُ" الراغبون في القرب من الله وتحصيل الثواب بصدق وسلامةِ نية. وهؤلاء ليسوا من الأثرياء بالضرورة، وهم يمثلونَ ما يقربُ من ثلث أعداد الواقفين تقريباً. وتمثل إسهاماتهم العينية والمؤسسية ما يقرب أيضاً من ثلث القيمة الاقتصادية والمؤسسية لنظام الوقف على وجه التقريب.
ويلي الأتقياءَ "الأثرياءُ" من الطبقةِ الغنية، وكانت لهم أغراضٌ متنوعة من تحويل ممتلكاتهم أو أقسام منها إلى أوقاف؛ فبعضهم استهدف تحصيلَ الثواب شأنهم شأن الأتقياء، ولكن مع أغراض أخرى منها: المحافظة على أصول الثروة وصونها من التجزئةِ بفعل قواعد الميراث. وبعضهم استهدف حماية ثروته من المصادرات ومن أطماع ذوي الشوكةِ والمتغلبين. وبعضُهم استهدف توفير غطاء شرعي لأغراض غير شرعية كتمييز البنين على حساب البنات في الإرث بخلاف الأحكام الشرعية، أو حرمان الزوجة من نصيبها في التركة في حال تزوجت بعد وفاة زوجها، أو التهرب من الديون في بعض الحالات. وهؤلاء الأثرياء يمثلون نسبة تتراوح بين الربع والثلث من أعداد الواقفين، وتمثل إسهاماتُهم العينية والمؤسسية نسبةً تقل عن ربع حجم البنية الاقتصادية والمؤسسية لنظام الوقف.
ويلي الأثرياءَ"الأشقياءُ"؛ وهم فئةٌ كانت محدودةَ العدد مقارنة بأعداد الفئتين السابقتين؛ غير أن إسهامَها في التكوين الاقتصادي والمؤسسي يفوقُ نسبتَها العددية. وهؤلاء كانوا في أغلبهم من كبار أصحاب الأموال أو التجارة، أو من ذوي المناصب العامة التي تربحوا منها بطرقٍ غير مشروعة، ثم أدركهم الشعور بالذنب في لحظة متأخرة من حياتهم وقرب مماتهم، ولم يجدوا باباً للتوبة أفضلَ من الوقف، فقاموا بتحويل ممتلكاتهم أو أقسامٍ كبيرة منها إلى وقفيات خيرية؛ كثيراً ما أخذت شكلَ مؤسسات تعليمية أو صحية، أو بيوت وملاجئ للرعاية الاجتماعية لذوي الاحتياجات والخصاصة. ونسبةُ هؤلاء الأشقياء التائبين العددية لا تتجاوز العُشر، أما إسهاماتهم الاقتصادية والمؤسسية في بناء نظام الوقف فهي في حدود الربع على وجه التقريب .
وأخيراً تأتي فئة "الأُمراءِ" وحواشيهم من الوزراء والولاة وأكابر العلماء. ويحدثُنا ابن العديم عن كثيرين منهم في موسوعته الرائعة "بغية الطلب في تاريخ حلب"، وهو يرصد حوادثَ ووقائع القرنين السادس والسابع الهجريين(12)،ومما أورده يتبينُ أن كثيرينَ منهم قد أسهموا في التكوين الاقتصادي والمؤسسي لنظام الوقف؛ إما بطريق الإرصاد - أي التخصيص السلطوي لبعض أملاك الدولة للإنفاق على المرافق والخدمات العامة - أو بوقف ممتلكاتهم الشخصية، أو أقسام منها؛ رغم صعوب التمييز ـ كما نوهنا آنفاً ـ بين ما هو ملكية خاصة بأعضاء هذه الفئة، وما هو ملكية عامة للدولة(13). ونجد دلائل كثيرة تؤكد ما ذهبنا إليه أيضاً فيما سجله ابن بطوطة الذي بدأ رحلته من طنجة المغربية في سنة 725ه/ 1325م، وأنهاها في سنة 756هـ/1354م، وتوفي في سنة779 هـ/ 1377م. ومما أورده أثناء زيارته لبلدة قسطموني ببلاد الأناضول شمال تركيا حالياً على البحر الأسود، قال:" نزلنا في زاويةٍ عظيمة بإحدى القرى، هي أحسنُ زاوية رأيتُها في تلك البلاد، بناها أميرٌ كبير تاب إلى الله تعالى، يسمى فخر الدين، وجعل النظر فيها لولده، والإشراف لمن قام بالزاوية من الفقراء. وفوائدُ القرية وقفٌ عليها. وبنى إزاء الزاوية حماماً للسبيل يدخلُه الوارد والصادر من غير شيءٍ يلزمه، وبنى سوقاً بالقرية ووقفه على المسجد الجامع. وعيَّنَ من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يرد من الحرمين الشريفين، أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواها: كسوة كاملة، ومائة درهم يوم قدومه، وثلاثمائة درهم يوم سفره، والنفقة أيام إقامته وهي: الخبز، واللحم، والأرز المطبوخ بالسمن، والحلواء. ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام"(14).
وما أورده ابن بطوطة على هذا النحو ــ وليس علينا إلا أن نصدقه ــ يقدمُ صورةً معبرة عن بلوغ المجتمعات الإسلامية في تلك الأزمنة درجة عالية من الازدهار الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية والاستقرار الأمني،إضافة إلى دلالة القصة على إسهام بعض الأمراء والولاة التائبين في دعم الأوقاف ومؤسساتها.
وتتضافر الشواهدُ التاريخية على أن إسهامات هذه الفئة - التي سميناها بـ"الأشقياء" - في التكوين الاقتصادي والمؤسسي لنظام الوقف كانت مؤثرةً، وكانت أكبر من نسبتهم العددية قياساً إلى إجمالي الواقفين؛ حيث تراوحت بين الربع والثلث؛ رغم أن عددهم تراوح بين الخمس وأقل من العُشر من جملة أعداد الواقفين. وهذه تقديرات تقريبية في حدود البيانات والمعلومات التي اطلعنا عليها في المصادر التي تحت أيدينا.
تفاعل الزكاة والوقف والصدقات غير المفروضة
تداخلت مكونات نسق "مكارم الأخلاق والشفقة" في التطبيق التاريخي، وتفاعلت مع مكونات النسقين الأول:"الرشادة والمنافسة"، والثاني:"العقلانية والعدالة"؛ فالزكاة والوقف ــ مثلاً ــ هما من حصيلة الكسب والعمل(النسق الأول). ومعلوم من فقه الزكاة(وهي تدخل في خزانة العقلانية والعدالة) أن المالَ الذي تجب فيه يشترط أن يكون: مملوكاً ملكاً تاماً، ونامياً، وبالغاَ النصابَ، وفاضلاً عن الحوائج الأصلية، وسالماً من الدين، وحائلاً عليه الحول(15).
وقد اقتضت اعتباراتُ مراعاة المصلحة في بعض الحالات أن تدخلَ الزكاةُ على الوقف لتجعله من أوعيتها الواجبِ فيها الأداء؛ إذا كان ريع هذا الوقف مخصصاً للإنفاق على الأهل والذرية وأشخاص معينين(الوقف الذُّري)، أو يخرج الوقف من أوعية الزكاة؛ إذا كان ريعُه مخصصاً للإنفاق على وجوه البر والمنافع العامة(الوقف الخيري).
وللمذاهب الفقهية اجتهاداتٌ مختلفة في هذا الشأن؛ فأبو حنيفة يرى ألَّا زكاةَ على الوقف الخيري؛ لأنه مالٌ عام، والشافعية والحنابلة ذهبوا إلى وجوب الزكاة على الموقوف عليهم(16). أما المالكية فذهبوا إلى وجوب زكاة الوقف على الواقف؛ بأن يضاف إلى ماله ما دام حياً، فإن هو مات؛ فقد اختلفوا، فقالت طائفة من المالكية: تخرج الزكاة من أعيانه، وهذا الذي أخذ به جمهور أهل المذهب، وقالت طائفة أخرى: بل إذا مات فإن الزكاة تنتقلُ إلى الموقوف عليهم، فهم يخرجونها كما شاءوا: إن شاءوا استبقوا الأصول وأخرجوا الزكاة من خارجها، وإن شاءوا أخرجوها منها(17). وفي المسألة تفاصيل أخرى، أشار إلى بعضها صاحب "المبسوط" في الفقه الحنفي، فقال بشأن غلة الأرض الخراجية الموقوفة: " وإنما يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ؛ لأنه لا يتمكنُ من الزراعة إلا بذلك ، ولأن الغلةَ لا تطيبُ من الأراضي الخراجية إلا بأداء الخراج ، وإنما قصدُ الواقف أن يكون التصدق عنه بأطيب المال، وذلك عند أداء النوائب ؛ فلهذا يرفع الوالي من غلتها ما يحتاجُ إليه لنوائبها، ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة"(18).
ومقارنةً بالزكاة والصدقات الأخرى؛ حظي الوقفُ بقبول أوسع عقب فتح البلدان والأمصار مباشرة (19)، واتسع نطاقُه الاجتماعي والاقتصادي باطراد، ومن ثم اكتسب خصائص وظيفية متشابكة مع مختلف جوانب البيئة التي عمل فيها. وأظهرت الممارسة العملية مشكلاتٍ عديدة، وتحدياتٍ كبيرة أيضاً؛ فرضتها أوضاعُ ما بعد فتح تلك البلاد، واقتضتها طبائع أهلها وعاداتهم الاجتماعية، كما اقتضاها التقدم الحضاري والمدني على خلفية الإرث الحضاري القديم في بعض تلك البلدان، وبخاصة في الأزمنة الوسيطة الممتدة من أواسط العصر العباسي إلى النهايات المبكرة للعصر العثماني.
وكان على العلماءِ الذين عاصروا تلك الأزمنة أن يجتهدوا في تقديم التكييف الشرعي لكل ما عرض لهم ــ أو عُرض عليهم ــ من متغيرات وتحديات، وأن يقدموا كذلك الحلولَ العملية للمسائل والمشكلات التي لم تكن معروفة من قبل في مجال الوقف والزكوات والصدقات الموسمية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: ما سبقت الإشارةُ إليه بشأن مسألة وجوب أو عدم وجوب الزكاة في المال الموقوف، والمسائل المتعلقة بالوقف على الثغور وتجهيز المجاهدين في سبيل الله(20)، ومسائل جواز أو عدم جواز وقف أراضي البلاد المفتوحة، وبخاصة سواد العراق وأراضي مصر والشام التي استطال الخلاف بشأنها، واشتهر بين أصحاب المذاهب الفقهية، وانعكس في ذلك الخلاف كثيرٌ من العوامل السياسية والاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية. وتراوحت آراء الفقهاء بين القول بجواز وقف تلك الأراضي والقول بعدم الجواز(21)، ومن ثم تأثرت حركةُ الوقف اتساعاً وانحساراً في هذا النوع من الأراضي، طبقاً للرأي الذي جرى العمل به فترة زمنية معينة في هذا البلد أو ذاك.
ومن تلك المسائل أيضاً: ما تعلقَ بغصب الموقوفات من الأبنية والأراضي الزراعية، أو تعرضها للهدمِ أو البوار؛ أي: تفويت فرص استثمارها اقتصادياً، وهل يجوز استبدال غيرها بها؟(22)، وما الحكمُ في وقف الذمي، ووقف الحربي، والوقف عليه؟(23)، وغير ذلك من المسائل والمشكلات التي نجدها في كتب أئمة المذاهب الأربعة، وفي كتب سواهم من الأئمة والفقهاء الذين عاصروهم أو تتلمذوا على أيديهم.
ويبدو أن مرورَ الزمن، واتساع رقعة المدنية الإسلامية واستقرار قواعدها في الحواضر والأمصار، وزيادة الإقبال على الوقف، وتنوع أغراضه؛ كل ذلك قد أسهمَ في حث فقهاء البدايات الأولى للأزمنة الوسيطة على تقعيد القواعد الرئيسة لفقه الوقف،واتضح شيئاً فشيئاً شدة ارتباطه - منذ بدياته الباكرة - بمفهوم "السياسة المدنية"، التي قصدَ بها علماءُ الإسلام وفلاسفته: تدبير شؤون الحياة الاجتماعية على قاعدة جلب المنافع ودرء المفاسد ورعاية المصالح المعتبرة شرعاً. وقد تجلى هذا الارتباط في كثير من المناقشات والاجتهادات الفقهية بشأن الوقف على وجوه البر والخيرات والمنافع العامة والخاصة، وبشأن كيفية إدارة الأعيان الموقوفة، والرقابة عليها، وعلى المؤسسات التي يجري تمويلها من ريعها.
وشهدت حقبةُ الأزمنة الوسيطة من القرن الرابع إلى بدايات القرن الثالث عشر الهجري ــ تقريباً ــ نمواً مطرداً في التكوين المعرفي والفقهي للوقف والوصية والهبة(24)، وهي أهم مكونات "نسق مكارم الأخلاق" إلى جانب الزكاة كما عرفنا. وسجَّل المناوي الشافعي في مطلع القرن الحادي عشر الهجري ملامح التداخل والترابط بين مكونات هذا النسق. وفي كتابه الموسوعي "تيسير الوقوف" رصد المناوي وجوه الاتصال والانفصال بين الوقف وجميع أبواب الفقه؛ ومنها الهبةُ والوصية والزكاة وغيرها.
ويمكن أن نطلق على تلك الحقبة "مرحلة التفريع والتفصيل" في فقه هذا النسق من أنساق الاقتصاد الإسلامي. وكان هذا النمو المعرفي المبني على التفريع والتفصيل جزءاً من النمو الفقهي العام في المجتمعات الإسلامية خلال تلك الحقبة الطويلة نسبياً. كما كان ــ في أحد جوانبه ــ تعبيراً عن تطور الحياة الاجتماعية ونهضتها العامة، وتشابك جوانبها المختلفة، وتنوع متغيراتها، وتعقد مشكلاتها المدنية على نحو كثيف ابتداءً من العصر العباسي. ويظهر ذلك من تتبع نوعيات المسائل والقضايا الوقفية (كنموذج له دلالته) التي تناولها فقهاء المذاهب الذين عاشوا خلال تلك القرون، وتنقلوا بين المدن والأمصار الإسلامية.
فلا يكاد يخلو كتابٌ من كتبهم الفقهية من فصل أو باب خاص بكل من: الزكاة، والوقف، والوصية والهبة، والنذور، والكفارات(25). وزاد ميل العلماء في تلك الحقبة لإفراد بعض مسائل الأوقاف بمؤلفات مستقلة(26)، وبخاصة خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين اللذيْن شهدا نهاية العصر المملوكي وبداية العصر العثماني؛ مع مارافق نهايةَ "الأول"، وبداية "الثاني" من عدم استقرار انعكس على الحياة العامة، وعلى حياة الأفراد والجماعات المختلفة، ومن ثم انعكس على الأداء الفقهي المتعلق بالمشكلات والقضايا التي شهدتها تلك الحقبة، ومنها قضايا الزكاة والأوقاف والوصايا وغيرها من الصدقات.
ولا يتسع المجال هنا للنظر في تفاصيل إسهامات العلماء في البناء الفقهي للزكاة والوقف وبقية المنظومة الخيرية خلال تلكم القرون الثمانية (من بدايات الرابع إلى نهايات الحادي عشر الهجري). وللاختصار؛ نكتفي بإبداء الملحوظات العامة التالية:
1ـ أن كثرة التأليف الفقهي في أبواب منظومة العمل الخيري أو نسق "مكارم الأخلاق" عند مختلف المذاهب - التي انتشرت في المجتمعاتِ الإسلامية بنسبٍ متفاوتة - تدلُّ في السياق التاريخي لتلك الحقبة على اتساع تأثير هذا النسق في حياة المجتمع، كما تدلُّ على قدرة الفقهاء على استيعاب المستجدات الحياتية وتكييفها مع المبادرات الخيرية. ويظهر ذلك من استعراض نوعية مسائل باب الوقف (مثلاً)، ومنها: حكم وقف المنقولات، وحكم وقف النقود، وجواز أو عدم جواز الوقف على طلاب العلم، ووقف الكتب والمكتبات(27)، والوقف على أهل الطائفة، أو الحرفة، أو الطريقة...إلخ.
2ـ تطور التكوين الفقهي لنسق مكارم الأخلاق خلال تلك القرون باتجاه "الفقه المقارن" بين المذاهب المختلفة. وامتدت المقارناتُ الفقهية في هذا الباب عبر مراحل زمنية متتالية؛ من القرن الرابع إلى القرن الحادي عشر الهجري . والأمثلةُ على ذلك كثيرة منها: ما ورد في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي(ت620هـ)، وما ورد في كتاب فتح القدير لكمال الدين بن الهمام الحنفي(ت 861هـ)، وكتاب تيسير الوقوف للمناوي الشافعي(ت:1031هـ). وقد كشفت منهجية المقارنة في مسائل الأوقاف ــ على سبيل المثال ــ عن وجود قدر كبيرٍ من التنوع والتباين في الاجتهادات، ومن ثم "حرية الاختيار". وهذا أمر على درجة عالية من الأهمية إذا أردنا تحليل الاجتهادات الفقهية المتعلقة بمكونات "نسق مكارم الأخلاق" من منظور وظيفي اجتماعي واقتصادي مقارن.
3ـ شهد التكوين الفقهي لمنظومة نسق مكارم الأخلاق خلال تلك الأزمنة نفسها ظهور ما أُسميه "فقه التشدد" في بعض المسائل، وبخاصة مسائل "الاستبدال" في الأوقاف(28). وقد نحا معظمُ فقهاء المذاهب نحو التضييق في هذا الباب؛ سداً لذرائع الفساد وسوء النوايا، وحَدًّا من نزوات بعض الحكام والسلاطين وذوي الشوكة، الذين طمعوا في أموال الأوقاف، ولم يحترموا الملكيات الخاصة وأمعنوا في مصادرتها. وقد زادَ هذا المنحى قوةً في أواخر عهد المماليك، وإبان فترات الاضطراب خلال الدور الأخير من العصر العثماني. وفي مقابل التشدد الفقهي في بعض مسائل الأوقاف، نجدُ أن معظمَ فقهاء الحقبة نفسها قد اتجهوا نحو توسيع "فقه الحرية" الممنوحة للواقفين والمتصدقين في وضع الشروط التي تهدفُ لتحصين صدقاتهم، ودرء ما قد تتعرض له من اغتصاب وعدوان. وتجلَّى هذا الاتجاه بوضوح في إقرار الفقهاء "الشروط العشرة"(29) في نظام الوقف، رغم أن تلك الشروط كانت من وضع الواقفين أنفسهم، وليست من نتائج اجتهادات الفقهاء المجتهدين. وتجلى اتجاهُ توسيع " الحرية" أيضاً في قول الفقهاء: "شرطُ الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به"(30). ورغم أن هذه القاعدة لم تسلم من النقد الشديد من بعض العلماء قديماً وحديثاً (31)؛ فإنها ظلت محتفظةً بقوتها المعنوية والإجرائية في التأثير على السلوكيات الاجتماعية تجاه الأوقاف بصفة عامة إلى بدايات الأزمنة الحديثة في المجتمعات الإسلامية.
التكوين الاقتصادي لنسق مكارم الأخلاق في الأزمنة الوسيطة
مع اتساعِ الفتوحات الإسلامية ووصولها إلى مشارق العالم القديم ومغاربه؛ اتسعت الدائرةُ الاجتماعية لنسق "مكارم الأخلاق"، وارتفعت قيمةُ أصوله الاقتصادية والمؤسسية خلال العهد الأخير للعصر الأموي، ثم شهد طفرةً كبيرةً في العصر العباسي، ثم شهد طفرة أخرى أكبرَ من سابقتها كمياً ونوعياً خلال العصرين المملوكي والعثماني؛ حتى "كاد الوقفُ يستغرقُ أراضي البلدة العربية"(32). وأضحى يشكل قسماً كبيراً من الموارد الاقتصادية في أرجاء الدولة العثمانية وولاياتها. وهناك تقديراتٌ تشيرُ إلى أن نسبة تتراوح بين 30 بالمائة و50 بالمائة من الممتلكات العقارية غير المنقولة ( من المباني والأراضي الزراعية) في البلدان العربية كانت موقوفةً في ظل الحكم العثماني(33)، وظلت كذلك إلى مشارف القرن الثالث عشر الهجري(التاسع عشر الميلادي).
وبتدقيق النظر في مكونات هذا النسق الخيري، اتضح لنا أنه ظل متمتعاً بدرجة عالية من الاستقلالية عن نسق "العقلانية" والعدالة التي ترعاها الدولة، وأنه قد استمدَّ موارده الاقتصادية من أثبت مصادر الثروةِ التي قام عليها نشاطُ النسق الأول(الرشادة) في المجتمعات الإسلامية في أزمنتها الوسيطة؛ وهي الأراضي الزراعية، والعقارات المبنية؛ إضافةً إلى بعض المنقولات التي أجاز الفقهاءُ وقفها في حدود ضيقة. فالزكاة والوقف والهبة والوصية كلها قد ارتكزت على الأراضي الزراعية والعقارات المبنية بالدرجة الأولى؛ إذ لم يكن قطاع "المال/النقد" قد تطورَ أو انفصلَ بذاته كأحد قطاعات الاقتصاد الكلي، كما هو الحال في الاقتصاد المعاصر، وعليه لم يكنْ متاحاً سوى الأراضي والعقارات وعروض التجارة للتصرف فيها والانتفاع بها. وقد مضى وقتٌ طويل حتى أجازَ الفقهاءُ المجتهدون وقفَ النقود في العصر العثماني. وأفتى بعض المتأخرين بجواز وقف أسهم شركات الأموال المستغلة استغلالاً جائزاً شرعاً.
كانت أعيانُ الوقفيات الأولى في الجزيرة العربية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن مساحات محدودة من البساتين، وعقاراتٍ مبنية، وبعض ينابيع المياه. ثم ما لبثت الوقفيات أن زادت في العهد الأموي، وتركزت في الدور والحوانيت والرباع وما في حكمها(34). أما الأراضي الزراعية في البلدان التي جرى فتحُها تباعاً مثل: العراق، والشام، ومصر؛ فقد دارَ جدلٌ طويل بشأن جواز وقف الأراضي الخراجية في البلاد التي جرى فتحها عنوة؛فذهبَ بعضُ العلماء المجتهدين إلى جوازِ وقف الأراضي الخراجيةِ في البلاد المفتوحة عَنْوةً، وقال آخرون بعدم جواز وقفها. وحظي "سواد العراق" بنصيب كبير من ذلك الجدل(35).
وبعد سلسلة ممتدة من الإجراءات الإدارية والتحولات السياسية والاقتصادية؛ انحسرَ الخلاف حول وقف أراضي البلاد المفتوحة، وتغلبَ الرأيُّ القائل بجواز وقفها. وسجلت بعض المصادر التاريخية أن المقتدرَ العباسي (ت 320هـ) قد وقفَ الأراضي المحيطة بمدينة بغداد، ووقف أيضًا ضياعاً في السواد، وبلغ ريعها السنوي آنذاك مائة ألف دينار؛ خصَّصها المقتدرُ للإنفاق على الحرمين الشريفين، وعلى الثغور الإسلامية(36). أما في مصرَ ــ كمثالٍ آخر ــ فقد ظهرت وقفياتٌ زراعية قليلة قبل الدولة الإخشيدية التي حكمت مصر في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي. ثم كثرت الأوقاف ابتداءً من عهد تلك الدولة(37). وفي هذا دليل على مبلغ الازدهار الاقتصادي عموماً، ومن ثم ثراء الموارد التي تغذَّى منها "نسق مكارم الأخلاق" بمختلف مكوناته، وفي مركزها" الأوقاف ومؤسساتها.
وبنظرة عامة؛ نقرر باطمئنان أنهمنذ نهايات الدولة العباسيةِ، وطوال عصر المماليك والعثمانيين من بعدهم؛ غطت الأوقاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء البلدان الإسلامية، إلى جانب الموقوفات الأخرى من العقارات المبنية والمنقولات، وأوقاف النقود التي أخذت في الظهور ببلاد الشام بعد انضوائها تحتَ السيادةِ العثمانيةِ في مطلع القرن السادس عشر الميلادي(38). وتراكمت المؤسساتُ الوقفيةُ من المساجد والمدارس ودور الأيتام، والمضايف، والأسواق؛ وأسهمت بنصيب كبير في نهضة المجتمعات الإسلامية وتحضرها. وفي مرحلة لاحقة؛ عَرَفَ وقفُ النقود طريقَه إلى بلدان المغرب العربي؛ وبخاصة حيثما انتشر المذهب الإباضي الذي لا يرى فقهاؤه المجتهدونَ بأساً من وقف النقود (39)، على نحو ما فعل قبلهم فقهاء الأحناف المجتهدون في العصر العثماني.
وإذا أخذنا بعين الاهتمام الطبيعةَ الخاصةَ للزكاة ــ التي سبقت الإشارة إليها ــ وحللنا أداء "الأوقاف" وبقية مكونات نسق "مكارم الأخلاق"؛ يتبينُبأيسر نظر أن الوقفَ كان أكثر صموداً وديمومة؛ إذ بقي في مركز هذا النسق، كما يتضحُ أن التأثيرَ الكبير في النظام الاجتماعي العام يرجعُ إلى سبب أو أكثرَ من الأسباب الآتية:
أ ــ أن الأعيانَ الموقوفة من العقارات المبنية والأراضي الزراعيةِ زادت زيادة تراكمية بمرور الزمن. وكان من أهم أسباب ذلك: الأخذ بمبدأ "تأبيد الوقف"، وهو ما ذهب إليه جمهورُ الفقهاء(40) ؛ وبخاصة فقهاء المذهب الحنفي، الذي أصبح مذهباً رسمياً للدولةِ العثمانية وولاياتها. وفي بلدان المغرب العربي- حيثُ يسود المذهب المالكي - كان بعضُ الواقفين يرغبون في أن تكون وقفياتهم حسب المذهب الحنفي؛ حرصاً منهم على الابتعاد عن بعض القيود التي يضعها فقهاء المالكية في الوقف، وأهمها شرطان هما: حيازةُ العين الموقوفة بيد الواقف، وقبولُ الموقوف عليهم لأن يكونوا من مستحقيه(41) .
ولكن وقائعَ التطور التاريخي لنظامِ الوقف تشير إلى أن النموَّ التراكمي للوقف قد شهد موجات من المد والجزر في الفترات التي مرت فيها المجتمعات الإسلامية الوسيطة بالاستقرار، أو بالفتن والاضطراب؛ الأمر الذي تكرر حدوثه في عهد المماليك بشكلٍ لافت للنظر، وفي عهود أخرى بمعدل أقل؛ إذ دأبَ بعض الحكام من السلاطين والأمراء على مصادرة الأوقاف لتحقيق أطماعهم الشخصية، أو لتمويل أعمالهم الحربية أحياناً؛ ومن ثم كانت الأوقاف تقل ويصيبها الكساد في مثل تلك الحالات، ومن ثم ينقص إسهامها في البناء الحضاري والنهضة الاقتصادية. ثم ما تلبثُ الأحوال أن تستقرَّ، فيأتي حكامٌ آخرون يسعون لإصلاح الأوقاف، ورد ما اغتصبه منها ذوو الشوكة وأصحاب السلطة في الفترات السابقة. وكان الحكام يقصدون تعزيزَ شرعيتهم السياسية بانتهاج سياسةٍ إصلاحية تجاه الأوقاف وبقية التصرفات الخيرية؛ وعليه كانت الأوقاف تعود إلى النمو والازدهار.
ب ـ أن تنوعَ أساليبِ الانتفاع الاقتصادي من أعيان الموقوفات ومؤسساتِها أسهمَ في النهوض الاقتصادي؛ حيث جرى التعامل في أعيان الوقف عن طريق الإيجار، والحكر، والخلو، والمزارعة، والمساقاة، والمغارسة(42)، وغير ذلك من أساليب الانتفاع، التي إن اختلفت أسماؤها من بلد لآخر؛ فإن مضامينها متقاربة في جملتها، وبعضها - مثل الإجارة - لا يختلفُ كثيراً عن الإجارة في الأملاك غير الموقوفة. وفي بعضِ الفترات ظهرت سلبياتٌ كثيرة من جراء استخدام بعض تلك الأساليب، وبخاصة "الحِكر"(43)، وهو أسلوب انتفاع عانت منه الأوقافُ في معظم البلدان الإسلامية. وكذلك كان أسلوبُ "الاستبدال" في كثير من الحالات سبيلاً لتحقيق مآرب شخصية على حساب الأوقاف ومستحقيها.
ج ـ أن نموَّ التكوين الاقتصادي لنظام الوقف، وزيادةَ نسبةِ الذين يؤدون الزكاةَ لبيتِ المال؛ كان يعني في معظم المراحل التاريخية نمواً مطرداً لقطاع "الاقتصاد الاجتماعي"، أو "نسق مكارم الأخلاق" ضمن أنساق الاقتصاد العام من ناحية، وكان هذا النمو يَحدُّ من إمكانيات توسع اقتصاد السوق الرأسمالي في المجتمعات الإسلامية الوسيطة من ناحية أخرى؛ ذلك لأن دخولَ بعضِ الموارد الاقتصادية في دائرة "نسق مكارم الأخلاق" كان يعني خروجها من "نسق السوق/الرشادة"، وعدم خضوعها لآلياته المعروفة في الوقت عينه. وتجلى هذا بوضوحٍ في قطاع إنتاج السلع والخدمات العامة وتوزيعها؛ حيث كان الهدف الرئيس لنسق مكارم الأخلاق هو توفيرها مجاناً، أو بأسعار رمزية من خلال إنشاء وتمويل مؤسسات ومرافق عامة تقدم أنوعاً مختلفة من الخدمات لم يكن يقبل عليها أصحاب المشروعات الربحية الخاصة، ومن أهمها: المياه، وهي مرفق بالغ الحيوية لكل عمليات التمدن والتطور الحضاري(44)، وكذلك الخدمات التعليمية والصحية والترفيهية وبعض الخدمات الأمنية؛ إلى جانب تقديم مساعدات نقدية وعينية لبعض الفئات ذات الاحتياجات الخاصة. ويحفل السجلُّ التاريخي للأوقاف بنماذج كثيرةٍ تدلُّ على ذلك في مختلف البلدان الإسلامية.
إن بحثَ التكوين التاريخي لمكونات "نسق مكارم الأخلاق" ودوره في نهضة المجتمعات الإسلامية الوسيطة يؤكد على أن هذا النسقَ قد احتلَّ منذ نشأته الأولى موقعا تأسيسياً في صلب البناء الحضاري الإسلامي ونظمه الأساسية، وأنه لم ينشأ لاحقاً على وجود هذا البناء. وهذه ملحوظة فارقة يتعينُ أخذُها باهتمام عند إجراء أية مقارنات بين هذا النسق في خبرة المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات، وبخاصة الغربية التي عرفت نمواً للقطاع الخيري، أو غير الهادف للربح،أو "القطاع الثالث"،أو ما يسمى في التقاليد الفرنسية باسم: "الاقتصاد الاجتماعي".
إن اطرادَ الممارسة الاجتماعية لمنظومة العمل الخيري ومكوناتِها الرئيسة - بما فيها الزكاة والوقف وبقية الصدقات غير المفروضة - قد حولها إلى نسقٍ مدني فرعي كثيف العلاقات مع بقية أجزاء النظام الاجتماعي العام. وفي إطار هذه الوضعية كانت فاعليةُ هذا النسق هي الوجهَ الآخر لاقترابه من المقاصد العامة للشريعة، وكانت الوظيفة التاريخية الكبرى له في حال فاعليته هي الإسهام في بناء مجال مشترك بين الأمة والسلطة، أو بين المجتمع والدولة، ولمصلحتهما معاً. ولم يضعف أداء هذا النسق إلا في اللحظات التي كان يقعُ فيها ضحيةَ الفساد الإداري والأخلاقي، أو ضحيةَ أطماع السلطات الحاكمة، أو ضحية مركب من الفساد والطمع والاستبداد وعدم الاستقرار.
خاتمة
ثمة جوانب كثيرة تحتاج إلى مزيد من البحث والتحليل والتوثيق من المصادر التاريخية المعتبرة لمعرفة حالات هذا النسق وتحولاته وإسهاماته في نهضة المجتمعات الإسلامية الوسيطة بدرجة أكبر من الدقة. ويأتي هذا القول الذي قدمناه في هذا السياق لا ليكون أداةً للتغني بأمجاد الماضي، ولا ليكون أداةً للاستغناء عنه؛ وإنما ليكون مساعداً على تحليل وقائعه، والكشف عن القوانين الاجتماعية التي شكلته، واستخلاص العبرة منه، وتوظيف نتائج هذا كله في النظر إلى الواقع وفي التخطيط للمستقبل. ولا نزعم أننا وفيّْنَا هذا الجانب التاريخي حقه هنا.
ومما تكشفُه الممارساتُ الاجتماعية التاريخية في هذا الموضوع: أن سرَّ فعالية المنظومة الخيرية، أو "نسق مكارم الأخلاق" في بناء الحضارة الإسلامية بعامة، وفي نهضة المجتمعات الإسلامية الوسيطة بخاصة: قد تَمثَّل في اقترابها من المقاصد العامةِ للشريعة؛ ففي اللحظاتِ التي اقتربت فيها من تلكَ المقاصد وكانت عاملة في خدمتها؛ زادت فعاليتُها في النهضة الحضارية وتطورِها، ومن ثم زادَ إسهامها في تعزيز المجال العام بمرافقه وخدماته ومبادراته المنفتحة على كل ما فيه "نفع عام"، والعكس صحيحٌ.
وكان من علاماتِ ازدهار تلك المنظومة القِيَمية والمؤسسية الخيرية أنها أسهمت في بناء مجال تعاوني مشتركٍ بين المجتمع والدولة، أو بين الأمةِ والسلطة؛ على قاعدة معنوية ومادية صلبة؛ كانا يتشاركان في بنائها وفي الاستفادة منها معاً، وكانت تؤدي إلى تقويتهما معاً. وبانتهاء عصر ازدهار الحضارة الإسلامية ودخولها في طور التدهور والاضمحلال؛ أَمسَت المفاهيم الأساسيةُ لمنظومة العمل الخيري الإسلامي مشتتة في الوعي الجماعي العام من ناحية، وتفككت أواصرُ التكامل والتساند الوظيفي بين الدواوين والمؤسسات والممارساتِ المبنية على تلك المنظومة من ناحية أخرى. وقد بدأَ هذا التفكك وذاك التشتت عندما بدأَ الضعف يدب في أوصال الدولة العباسية في عهدها الأخير، ومن بعدها الدولة العثمانية في عهدها الأخير أيضاً. ولا تزال هذه المنظومةُ مجزأة ومتناثرة في أغلب الاجتهادات النظرية والممارسات التطبيقية الحديثة والمعاصرة.
ومن المفيد الكشف عن مكونات هذا النسق ومعرفة آليات عمله وعناصر فاعليته في الممارسة الحضارية للمجتمعات الإسلامية؛ كي نسهم في تجديد الوعي بهذا النسق من جهة، وبترابطه مع بقية أنساق "مجتمع النهضة والتحضر" من جهة أخرى، وكي نزيحَ الصورة النمطية السلبية عن مكونات هذا النسق الخيري،الذي آل في الواقع إلى صورة تختزله في أعمال إغاثية متناثرة هنا وهناك لا يربطها رابط، ولا تشملها نظرية عامة. هذا في حين أن التجاربَ الدولية الحديثة والمقارنة - وخاصة في: بريطانيا، وماليزيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، واليابان، وتركيا؛ وغيرها- كلها تؤكدُ على نجاح هذا النسق الخيري أو شبيهه، وأنه يحتلُّ مكانةً مرموقة في صلب التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، وبالإمكان أن يستوعبَ أفضلَ النظم الحديثة في مجالات الإدارة، والاستثمارِ، والحوكمةِ، ومعايير التميز في الأداء، وتحقيق الأهداف المجتمعية والمصالح العامة، وهو ما يبرهن على أن نسق "مكارم الأخلاق" يحمل بداخله عوامل بقائه وتطوره.
..........
المراجع والمصادر:
- سبق أن اقترح رضوان السيد إدراج الوقف ضمن مفهوم "الاحتساب"، واستدل باقتباس نقله عن السنامي صاحب كتاب "نصاب الاحتساب"، انظر وقارن مع ما ذهبنا إليه: رضوان السيد، فلسفة الوقف في الشريعة الإسلامية، في: إبراهيم البيومي غانم(محرر)، نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن العربي(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، والأمانة العامة للأوقاف بالكويت، 2003م)ص43 ــ67.
- عثمان حسين عبد الله، الزكاة:الضمان الاجتماعي الإسلامي(القاهرة: دار الوفاء للطباعة والنشر، 1409هـ/1989م).ص27ــ43. والمستشار عثمان حسين عبد الله هو من أعلام قضاة مصر المعاصرين، وقد فند في تلك الصفحات من كتابه حجج الذين ذهبوا إلى أن الدولة غير مسؤولة عن جمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية.
- هذا ما انتهيت إليه من قراءات متنوعة في كتب التراث التي ترجع كتابتها إلى الأزمنة الوسيطة للمجتمعات الإسلامية وأهمها كتب: الخراج، والأموال، وأدب القضاء، والفتاوى، والسياسة الشرعية، وتراجم المشاهير من الولاة والعلماء والقضاة. وانظر حيث يورد معلومات تؤكد ما انتهيتُ إليه: هاملتون جب، وهارولد بووين، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفى(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م)ج2/"الفصل السادس"، وهو عن الأوقاف، ص315 ــ338. وانظر أيضاً عما آلت إليه الأحوال في العهود المتأخرة من العصر العثماني: شوكت باموك، التاريخ المالي للدولة العثمانية(بيروت: دار المدار الإسلامي للنشر، 2004م).
- محمد باقر الصدر، اقتصادنا (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1408هـ/1987م، ط 20). تكررت طباعة هذا الكتاب عشرين مرة وأكثر.
- من تلك الكتب انظر مثلاً: ابن أبي الدم، شهاب الدين أبا إسحق إبراهيم بن عبد الله الهمداني ، كتاب أدب القضاء، تحقيق ودراسة: محمد هلال السرحان(بغداد: مطبعة الإرشاد، 1404هـ/1984م)، ج/1، ص502، وص503. وأبا عبيد القاسم بن سلام، كتاب الأموال، تقديم ودراسة وتحقيق: محمد عمارة(القاهرة:دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع،1430ه/2009م).
- عثمان حسين عبد الله، الزكاة، مرجع سابق، ص19، وص22.
- انظر مثالاً على ذلك تحدث عنه الطرسوسي، وهو من علماء القرن الثامن الهجري في كتابه ( تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك)، تحقيق ودراسة رضوان السيد(بيروت: مركز ابن الأزرق لدراسات التراث السياسي، ط2، 1432هـ/2012م)، ص45.
- ابن أبي الدم، مرجع سابق، ج/1، وج/2 مواضع متفرقة.
- محمود بن إسماعيل بن إبراهيم بن ميكائيل الخيرميتي، الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء، تحقيق: أحمد الزعبي، تقديم: رضوان السيد(بيروت: مركز ابن الأزرق لدراسات التراث السياسي1433هـ/2012م) ص182.
- انظر: شهاب الملة والدين أحمد بن علي الدلجي(ت:1210هـ تقريباً)، الفلاكة والمفلوكون، قدمت له: زينب الخضيري (القاهرة:الهيئة العامة لقصور الثقافة ــ الذخائر رقم 105 ــ 2003م).
- أبو شامة، شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي الشافعي، كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: إبراهيم الزيبق(بيروت: مؤسسة الرسالة، 1418هـ/1997م).
- لمزيد من التفاصيل حول أنواع ودوافع الفئات الاجتماعية التي شاركت في الأوقاف انظر كتابنا: مقاصد العمل الخيري والأصول الإسلامية للمشاركة الاجتماعية(القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2010م)، ص49 ــ52.
- ابن العديم،كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله العقيلي الحلبي، ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق المهدي عيد الرواضية (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 1438هـ/2016م). مواضع متفرقة من ج1، وج4.
- انظر في ذلك بعض التفاصيل: هاملتون جب، وهارولد بووين، المجتمع.، مرجع سابق، ج2، ص216، و217.
- ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة(بيروت: دار التراث، 1388هـ/1968م)، ص306.
- عبد الله ناصح علوان، أحكام الزكاة على ضوء المذاهب الأربعة(القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر،د.ت) ص11.
- انظرفي الفقه الحنبلي: المغني لابن قدامة، ج5/372. وعن رأي الشافعي ومالك انظر: الموسوعة الفقهية (الكويتية) ج/23، ص236. 14وانظر أيضاً حيث يذهب الجمهور إلى وجوب الزكاة على المستحقين في الوقف: دقائق أولي النهى: 2/ 408، ونهاية المحتاج: 5/266، والإنصاف: 7/ 45، وشرح الزرقاني على الموطأ، ص: 1360، والعقود الدرية: 1/11.
- هذه الآراء أوجزها المناوي الشافعي (ت:1031هـ) دون أن ينسبها إلى المذاهب المختلفة انظر: المناوي عبد الرؤوف بن تاج العارفين، كتاب تيسير الوقوف على غوامض أحكام الوقوف، تحقيق وإعداد: مركز البحوث والدراسات بمكتبة نزار مصطفى الباز(مكة المكرمة/الرياض: 1418هـ/1998م)، ج1/ص302، 303.
- محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، المبسوط(بيروت: دار المعرفة، 1409هـ/1989م)، ج12/ص 33.
- حول قبول أهل مصر لنظام الوقف عقب الفتح في سنة 21هـ، انظر: محمد محمد أمين، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، 648ـ923هـ/ 1250 ـ 1517م: دراسة تاريخية وثائقية(القاهرة: دار النهضة العربية، 1980م) ص33ــ 35 .
- انظر ما أورده: أبو بكر أحمد بن عمر الخصاف، أحكام الأوقاف (القاهرة: مطبعة ديوان عموم الأوقاف المصرية، 1322هـ/1904م) ص319. وانظر أيضاً: مالك بن أنس، المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد التنوخي(بيروت: دار الفكر، 1978)ج/4، ص342. وأبو بكر بن محمد البلاطنسي، تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال، تحقيق ودراسة: فتح الله محمد غازي الصباغ(المنصورة: دار الوفاء للنشر والتوزيع،1409هـ/1989م)ص102 ــ103.
- لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، انظر: زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب، الاستخراج لأحكام الخراج، دراسة وتحقيق مركز الدراسات والبحوث الفقهية المقارنة(الكويت: بنك التنمية الصناعي، 1418هـ/1997م)، ص5ـ7، و56 ـ61، وص78 من تمهيد المحقق.
- انظر بصفة عامة: جمال الخولي، الاستبدال واغتصاب أموال الأوقاف: دراسة وثائقية(الإسكندرية: دار الثقافة العلمية، 2001م).
- انظر أبواب فقه الوقف في: مالك بن أنس: المدونة، وابن قدامة: المغني، والشافعي: الأم، والسرخسي: المبسوط. وحول وقف الذمي والمسائل المتعلقة به انظر بصفة خاصة: الخصاف، أحكام الأوقاف، ص325،ـ344.
- انظر في ذلك مثلاً: ابن الشحنة الحنفي، أبا الوليد إبراهيم بن أبي اليمن، لسان الحكام في معرفة الأحكام (القاهرة: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2 ـ 1393هـ/1973م)، ص369 ــ374. والمناوي الشافعي، تيسير الوقوف،. مرجع سابق، ج/2 ص413، وص418 ـت422.
- يمكن الرجوع إلى "باب"، أو "فصل" الزكاة أو الوقف أو الهبة في المراجع الفقهية التالي ذكرها. وقد راعينا في اختيارها أن تكون من مؤلفات علماء الأزمنة الوسيطة، وأن تكون مرتبة زمنياً من الأقدم إلى الأحدث، وأن تشمل مذاهب فقهية متنوعة. وهذه المراجع على سبيل المثال لا الحصر، ومنها: أبو الحسن الماوردي(ت 450هـ)، الحاوي الكبير؛ السرخسي(ت 483هـ) المبسوط؛ أبو الوليد هشام بن عبد الله الأزدي(ت 606هـ)، المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام، ابن تيمية(ت 728هـ) الفتاوى الكبرى؛ والطرابلسي(ت 922هـ)، الإسعاف في أحكام الأوقاف؛ والبلاطنسي الشافعي(ت 936هـ)، تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال؛ وابن نجيم(ت 970هـ) رسائل ابن نجيم؛ محمد بن أحمد بن عرفة المالكي الدسوقي(ت 1230هـ)، حاشية الدسوقي.
- من ذلك على سبيل المثال: البرهان الطرابلسي: الإسعاف، وابن نجيم: الرسائل، وأبو عبد الله محمد بن محمد الحطاب: شرح ألفاظ الواقفين والقسمة على المستحقين، والمناوي: تيسير الوقوف...إلخ.
- حول وقف الكتب والمكتبات والمدارس والكليات ودور الوقف في تمويلها، وأثر ذلك في نهضة المجتمعات الإسلامية انظر بصفة خاصة: جورج مقدسي، نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، نقله إلى العربية: محمود سيد محمد(القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 1436هـ/2015م). وعن وقف الكتب والمكتبات خاصة انظر البحث القيم لصديقنا العلامة المغربي: أحمد شوقي بنبين: ظاهرة وقف الكتب في تاريخ الخزانة المغربية. مجلة مجمع اللغة العربية ـ دمشق ـ مجلد 36 جزء3 (دمشق: دار الفكر للطباعة 1408هـ/1988م)، ص35 ـ 56. وانظر أيضاً: يحيى محمود الساعاتي، الوقف وبنية المكتبة العربية: استبطان الموروث الثقافي(الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1416هـ/1996م).
- انظر: أبا زهرة، محاضرات في الوقف(القاهرة: معهد الدراسات العربية/جامعة الدول العربية، 1959م)، ص171ـ183، حيث يستعرض آراء المذاهب الأربعة في الاستبدال. انظر أيضاً: محمد أمين، الأوقاف .، مرجع سابق، ص314ـ 354. وانظر: ابن نجيم، "تحرير المقال في مسألة الاستبدال"، في ابن نجيم، المصدر نفسه، ص161ـ182.
- انظر: كتابنا، الأوقاف والسياسة، مرجع سابق، ص121، و122.
- كتب الفقه في معظمها تتضمن النص على القاعدة المذكورة؛ انظر على سبيل المثال: محمد أمين بن عابدين، ردالمحتار على الدر المختار شرح تنوير الابصار(بيروت: دار إحياء التراث العربي،[ د. ت])، ج3، ص 361.
- انظر: محمد رشيد رضا، محرر، "الوقف وأصح ما ورد فيه وأشهر أحكامه"، المنار، مج 29، ج 2(نيسان/ابريل 1928م)،ص 134ـ 136.
- انظر: حسن الضيقة، "الملكية والنظم الضريبية في الدولة العثمانية"، الاجتهاد ، السنة 9، العدد 36(صيف 1997م)، ص124.
- قدَّر المستشرق "كلافل" حجم الأوقاف في تونس بحوالي ثلث أراضيها، وفي الجزائر بنسبة النصف من أراضيها في مطلع القرن التاسع عشر: انظر: Jurist,”Waqf”, Moslem World, vol. 4, no.2(April 1914) p.173
- انظر: أبا زهرة، "مشكلة الأوقاف"، مجلة القانون والاقتصاد، السنة 5، العددان 1ـ2، و22 (1935م)، ص561.
- انظر: غيداء خزنة كاتبي، الخراج منذ الفتح الإسلامي حتى أواسط القرن الثالث الهجري: الممارسات والنظرية، سلسلة أطروحات الدكتوراه؛ 24 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994)، ص335 ـ 349. انظر أيضاً: ابن رجب، الاستخراج لأحكام الخراج، ص56 ـ61، وص77 ـ 80.
- انظر: بحر العلوم، الوقف في العراق: تاريخيا وإداريا، مرجع سابق، ص385.
- حول بدايات ظهور وقف الأراضي الزراعية في مصر انظر: محمد أمين، الأوقاف الحياة الاجتماعية., مرجع سابق، ص38 و47.
- انظر: محمد الأرناؤؤط، "تطور الوقف النقدي في العصرالعثماني "، في: دراسات في وقف النقود (زغوان، تونس: مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، 2001م)، ص82.
- انظر: عبد الله بن حميد السالمي، العقد الثمين: نماذج من فتاوى نور الدين(القاهرة: دار الشعب، 1332هـ/1913م)، ص229.
- انظر: أبا زهرة، محاضرات في الوقف.، مرجع سابق، ص70.
- انظر: أحمد قاسم، "أحباس العثمانيين الأوائل بتونس وجمعية الأوقاف والإنزال"، المجلة التاريخية المغربية (تونس)، السنة 12، العددان 37 ـ 38 (يونيو 1985م)، ص243.
- انظر: ابن الخوجة، "لمحة عن الوقف والتنمية في الماضي والحاضر"، مرجع سابق، ص178، و198. وانظر أيضاً: محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني، تاريخ المصريين؛44(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991م) ص141 ـ204.
- يعتبر عقد الحكر من ابتكارات المجتهدين؛ وهو في حقيقته عقد إجارة يعطي للمحتكر حق البقاء والقرار على الأرض المحكورة ما دام يدفع أجرة المثل: أي أجرة مماثلة لأرض مماثلة لتلك المحكورة، انظر: أبا زهرة، الحكر، مجلة القانون والاقتصاد، السنة 10، العددان 5 و 6 (أيار/مايو ـ حزيران /يونيو1940م) ، ص93 ـ 104.
- لمزيد من التفاصيل حول علاقة الوقف بمرفق المياه ودور هذا المرفق في البناء الحضاري انظر كتابنا: تجديد الوعي بنظام الوقف الإسلامي (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 1437هـ/2017م) ص296 ــ 317.