محمد الشيخ
في شأن "العدل" والقانون" لعب الفلاسفة أكثر من دور ودور؛ فقد كانوا "مشرعين" و"قضاة"و"محامين"، بل و"متهمين". ولعل أفضل صورة تدل على عنايتهم بشأني "العدل" و"القانون" -قلباً وقالباً- ما رواه الأقدمون من أن الحكيم بياس مات وهو يرافع في محاكمة؛ فقد أوقف لِلَحظةٍ خطابَه، واتكأ على كتف حفيده، وفي أثناء ذلك قام الخصم بتقديم دفاعه، وأصدر القضاة حكمهم لصالح المتهم الذي كان يدافع عنه بياس، ثم انفضت المحكمة، وآنها فقط انتبه الجميع إلى أن بياس مات متكأ على كتف الطفل. وبالجملة، خَبِر الفلاسفة الإغريق العدل والقانون سلباً وإيجاباً، فاعلين ومنفعلين. وما اكتفوا بذلك؛ بل ألفوا في القانون والعدل والدستور التآليف: فقد نسب القدماء إلى الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس كتاب "في الدستور"(1)، ونسب إلى أكريتون ـ تلميذ سقراط ـ كتاب "في القانون"(2)، ونسب إلى سيمون ـ من تلامذة سقراط ـ كتاب "عن [الأمر] العادل"، وكتاب "في القانون"(3). وهذا تلميذ سقراط إشين ألّف كتاب "المرافعات القضائية"(4) وعديد من الفلاسفة الكلبيين كتبوا في القوانين وفي العدالة وفي الدساتير؛فهذا زعيم المدرسة ـ أنتستينوس ـ ينسب إليه وحده كتاب "في العدالة والشجاعة"، وكتاب "في القانون"، وكتاب "في الدستور"، وكتاب "في القانون أو في الجميل والعادل"، وكتاب "في العدالة وفي الكفر"(5)، وينسب إلى تلميذ أفلاطون في الأكاديمية سبوسيبوس كتاب "في العدالة"(6)، وكتاب حول "إصدار القوانين"(7)، مثلما ينسب إلى تلميذ أفلاطون الآخر ـ زينوقراطيس ـ كتابان في العدالة، فضلاً عن كتاب "في قوة التشريع"(8). وقد نسبت إلى أرسطو تآليف عدة عن "العدل" و"القانون" منها: "عن العدل" (أربعة كتب) و"نواميس أفلاطون" (ثلاثة كتب)، و"عن الأمور العادلة"، و"عن قوة القانون"، و"عن القوانين"(9). وكتب تلميذه المباشر ـ ثيوفراسطوس ـ كتابين جمع فيهما القوانين(10)، ونسبت إليه ثلاثة كتب عن المشرعين (مؤلفة من أربعة عشر كتابا)، كما كتب "في المظالم"، وكتب "في القوانين"، وكتب في "الأمور المخالفة للقانون"(11). وكتب تلميذه الآخر ستراتون ثلاثة كتب في العدالة وكتاباً حول الأمر غير العادل(12)، وكتب تلميذ ثيوفراسطوس ـ ديمتريوس ـ خمسة كتب حول قوانين أثينا، وكتابين حول القوانين،وكتابا حول الحقوق(13). وكتب تلميذ آخر لأرسطو ـ هيراكليدس ـ في العدالة (ثلاثة كتب)، وفيما له صلة بالقانون كتابا(14). كما ينسب إلى زينون الرواقي كتاب في القانون، وسبعة كتب في نواميس أفلاطون(15). وأخيرا، ينسب إلى كليانتس كتاب "في القوانين"(16)، وإلى سفيروسكتاب "في القانون"(17).
1- النواميس بين التقديس والتشكيك
في البداية حدث أن كان الإغريق قوماً أخذتهم العزة على استقلالهم، لكنهم أيضاً كانوا قوماً شديدي الفخر بطاعتهم للقوانين. وما كانوا يطلبون من المدينة أن تهبهم حقوقا- على نحو ما أمسى يفعل المحدثون- وإنما كانوا ينشدون أن تحكم المدينة بقوانين لا بحاكم. وبهذا كان القانون "دعامة" و"ضمانة" الحياة السياسية الإغريقية برمتها. وبالقانون كانوا يرغبون في الاعتراض على فوضوية الحياة المتوحشة، كما على خضوع الشعوب-شأن شعب فارس- إلى ظلم الأمير وإلى عسفه(18).وكم تفاخروا بأنهم يملكون "قوانين"، بينما ما ثمة لبقية الشعوب سوى "عوائد"، وما زالوا يفعلون حتى تفاخر هيرودوت أنه لئن كانت لبقية الشعوب من "قوانين"؛ فإن "قوانين" الإغريق توجد طوع أيديهم، بينما "قوانين" الشعوب الأخرى ـ على زعم أنها "قوانين" ـ توجد بين يدي الطاغية. ولا يكاد يستثنى من هذا التفاخر إلا يوربيدس الذي كان يرى أن "عوائد البرابرة" -وإن اختلفت عن "عوائد الإغريق"- ليست أقل منها شأوا.
على أن هذا القانون الذي كانوا يفخرون به لم يكن ليؤدي دوره -في نظرهم- إلا لكونه كان من عمل أيديهم، وإلا لأنه كان يستمد سلطته من موافقتهم ومن توافقهم. فلم يكن له من "ضامن" اللهم إلا هم؛إذ لم يكن قانونهم نظير الناموس الموسوي؛ناموسا موحى، وإنما كان قانونا قد نشأ عن مواضعات ـ موافقات، ملاءمات، اصطلاحات ـ بشرية وعن عوائد إنسانية، وكان الإغريق يدركون هذا الأمر حق الإدراك.
غير أن نقط قوة القانون الإغريقي تشكل في الوقت نفسه نقط ضعفه: أين "الضامن"؟ "لو كان القانون عند الإغريق -كما لدى العديد من الحضارات- قد عُدَّناموساً موحى ومضمونا من لدن سلطة [=مرجعية] دينية، فإن طبيعته-بوصفها كذلك- لم تكن لتوضع أبدا موضع تساؤل"(19) وكان أن حدث تفكير في أمر القانون "جماعي" و"حواري" و"موصول". وبحسب هذا الأمر، يمكن القول: إنه لدى الإغريق "لم يتوقف أبدا التفكير في القانون"، فلا شيء فيما يخص "القانون" تم تقريره أو إيقاف التساؤل عنه. وما كان أفلاطون -عند بعضهم- سوى البداية؛ بداية النظر النقدي في القانون، كما لم يكن أرسطو، عند بعضهم الآخر- سوى الفاتحة، فاتحة عهد النظر في القوانين نظرا(20)
وهكذا، فإن هذا القانون شكّل محل جدل ونقاش وتفكير. ومن ثمة وفرة النصوص الإغريقية حول القانون. والحال أنه في القرن الخامس قبل المدينة بأثينا- مع ازدهار الفكر النقدي وتأثير السفسطائيين- تم تحليل كل المفاهيم وتحديدها والتجادل حولها. وما كان مفهوم "القانون" -ومعه مفهوم "العدل"- من هذا باستثناء، فقد عرف القانون بدوره "أزمته"، وهي أزمة عبرت عنها إحدى أهم الباحثات في الحضارة الإغريقية باسم "أزمة القانون"(21) وهي أزمة كانت حاسمة بالقياس إلى تاريخ المدينة الإغريقية، كما بالنسبة إلى المذاهب السياسية اليونانية بعامة.
وبهذا، فإن ابتهاج الإغريق الساذج باكتشاف وابتداع قوانين المدينة سَرعان ما أعقبته الكثير من الصعاب، وقد بدأت بالظهور مبكرة خلال القرن السابع قبل الميلاد، ثم سرعان ما تزايدت أزمة المدينة وما رافقها من أزمة أخلاقية ومن انهيار إمبراطورية أثينا. وكان من أشهر هذه الأزمات أزمة سقراط التي وصفها أفلاطون في لحظة تمويت الفيلسوف (بين القرن الخامس والقرن الرابع قبل الميلاد). ولقد حدث أن حاول أفلاطون أن يعيد للقوانين مجدها الغابر وبهاءها الأول(22)، بحيث أمست تعبيراً عن علم الخير، وبحيث أصبحت ثمة قوانين مثالية لدولة مثالية.
تأسيساً عليه، فإنه نظراً لأن القوانين الإغريقية كانت -منذ البدء- مفصولة عن كل أساس متعال [=غيبي]، فإنها سرعان ما اعتبرت من زاوية النسبية، وسرعان ما تجودل في أمر مبدئها، إذ كان لا بد من تثبيت سلطانها؛ إذ هي التي عُدَّت في الأصل أمراً وقَّع عليه الشعب، فكان ينبغي لها أن تحتمي من كل ما من شأنه أن يجردها من جلالها وبهائها.
2- من الأعراف إلى النواميس
في البدء -البدء الهوميري- لم يكن الإغريق ليشهدوا على ميلاد "قوانين"، وإنما كانوا يشهدون على "أعراف"(23). كانت السلطة بين يدي الملوك، وكان المجتمع فيوداليا، وكان العدل يقام داخل الأسرة، إما إثر نقاش أهل الحل أو بحكم قاض عرفي. ومع بداية القرن الثامن قبل الميلاد سوف تنتظم المدن نظامها. وقد وصف أفلاطون كيف أن ممثلي المدن ائتلفوا بغاية تمييز مختلف عوائد الجماعات، والتمييز فيها بين ما يستحق أن يحفظ باسم المصلحة وما لا يستحق (كتاب النواميس، الكتاب الثالث: الفقرة861c). وترافق ذلك مع اندثار النظام الملكي ومجيء أنظمة أرستقراطية. وبهذا "نشأت حياة سياسية حقة"(24). وكان من شأن تشاطر السلطة إقامة قواعد مشتركة تحدد حقوق كل واحد. وبهذا، تبدى القانون إذن لما أصبح للمواطنين مدخل إلى الحياة السياسية. وقد تزامن ذلك مع إعادة اكتشاف الكتابة، بحيث أمست"وسيلة تحرر سياسي؛ فق صار بفضل الكتابة من اليسير تقييد -مرة واحدة وإلى الأبد ومن أجل استعمال الجميع- قواعد ما كانت تمثل إلى حينها سوى تقاليد غير يقينية خاضعة إما إلى السر أو إلى اعتاف التأويلات. وما كان بإمكان القانون السياسي أن يتخذ شكلا، اللهم إلا في اليوم الذي أمسى بالإمكان تقييده بالكتابة"(25). وهذا ما أكده أفلاطون في الكتاب الثالث من نواميسه: "لم تكن الكتابة موجودة في تلك الحقبة: كان [الإغريق] يحيون بحسب العوائد وما نسميه أعرافا" (النواميس، الكتاب الثالث، الفقرة: 680a). وقد أشار يوربيدس إلى ذلك في البيت 432 من مسرحيته "الضارعات": "ما إن دونت القوانين حتى أمسى الضعيف والغني يتمتعان بحقوق متساوية".
وهكذا، فإن التحرر السياسي الذي نشأت عنه المدن، وانتشار الكتابة الذي سمح بمنح وجود موضوعي للقواعد مشترك بين الجميع، سرعان ما نشأ عنهما عمل تشريعي كامل. وإنه لانبثاق عهد "المشرعين" الذين وهبوا إلى مختلف المدن "دساتيرها": ليكيركوس (إسبرطة)، زالوكوس (لوكريس)، خرونداس (كاتانيا) واستعارته مدينة طيبة، فيلولاووس (دراكونا)، صولون (أثينا)؛ هذا الذي فتح عهداً للديمقراطية بأثينا، حيث اتخذ القانون الدلالة التي صارت رمز أصالة الفكر الإغريقي: القوانين أفضل من بعض المبادئ العامة المدونة باسم وحي إلهي، وأفضل من مجرد قواعد عملية بسيطة لمعاقبة بعض الجرائم. إنما النواميس هي- في النظام الديمقراطي- ما كان عليه أن ينظم، بموافقة من الجميع، مختلف مناحي الحياة المشتركة، وإن سلطانها لينبغي أن يعوض كل سيادة سواء أكانت لفرد أم لجماعة. وبهذا أمسى القانون يتعارض مع الأمر القهري ومع الشأن الاعتسافي، صار القانونفي العهد الديمقراطي قانوناً سياسياً ـ بعد إصلاحات كلستين الشهيرة؛أي صار "ناموسا".
وإذ أمست القوانين رمزاً لمقاومة الطغيان وترسيخ المثال الديمقراطي، فقد أمستأيضاً رمزاً للصراع ضد "البرابرة" ومثالاً لحياة منظمة. وقد كتبيوربيدس ـ في مسرحية "هلينة" ـ فيما بعد: "إنما البرابرة كلهم عبيد [للطاغية]، اللهم إلا واحداً [الطاغية نفسه]"، وكتب في مسرحية "إفجينيا" أن على الإغريق أنيحكموا البرابرة، وما كان الأمر على العكس؛وذلك لأن: "البرابرة عبيد والإغريق أحرار". وفي الكتاب الثامن من تاريخ هيرودوت ينقل إلينا حوارا بين داريوس البربري وديماراتس الإغريقي حول الخضوع إلى الحاكم والخضوع إلى القانون، وقد اندهش الأول من هَبَّة الإسبرطيين عليه وهم الأحرار الذين لا يخضعون إلى حكم الواحد: "لو كانوا -على نحو ما هو سائد عندنا- خاضعين إلى سلطان واحد، فإنه كان يمكنهم-مهابة لهذا السيد- أن يظهروا أكثر شجاعة مما هم عليه حقيقة، ولكانوا مجبرين بضربات السوط على أن يزحفوا -على الرغم من قلتهم- على الكثرة الكاثرة، ولو تُركوا أحراراً في التصرف لما عرفوا ما إذا كان عليهم أن يقدموا أم أن يحجموا". ولم يحر الإغريقي جوابا: "لأنهم لئن هم كانوا أحرارا في كل شيء ، فإن لهم سيدا. وما كان سيدهم سوى القانون الذين يهابونه أكثر مما يهابك رعاياك. ومهما يكن من أمر، فإنهم يمتثلون إلى كل ما يأمرهم به هذا السيد [=القانون]". وقد ورد في مسرحية "ميديا" ليوربيدس خطاب عتاب إلى "جاسون": "[لقد حللت يا هذا بأرض] الإغريق، بدل أن [تحل] ببلد بربري، فأمست هذه البلاد مقامك. لقد تعلمت فيها العدالة، وكيف أن تحيا طبقاً للقانون، وليس حسب القوة". وفي المناظرة التي تجمع ـ في مسرحية "الضارعات" ـ بين الأثيني "تيسيوس" وأحد مبعوثي مدينة طيبة، يتفاخر الأول بأن الطغيان لا يوجد عندهم: "من أول كلمة تلفظت بها بان خطؤك ـ أيها الغريب ـ بالبحث عن طاغية. مدينتنا لا تقع تحت سلطان حاكم واحد. هي مدينة حرة شعبها يحكمها". وحين يجيب الرسول بنقد صارم للديمقراطية ـمن حيث هي نظام تحكم فيه الدسيسة والجهالة ـ يرد تيسيوس: "لا شيء أخطر على الدولة من طاغية. وذلك-بالأساس-لأن معه لا تكون القوانين متشاطرة بين الناس: إنسان واحد يحكم، ويمسك القانون بين يديه، ولا وجود للمساواة. وبالضد، عندما تكون القوانين مدونة، فإن الضعيف والغني معا يتمتعان بحق متساو". ويشير سوفوكليس في مسرحية "أوديب في كولونا" إلى أثينا من حيث هي "المدينة التي لا شيء فيها يُفعل بلا قانون". حتى أفلاطون ـ عدو الديمقراطية ـ يقر في الرسالتين السابعة والثامنة بأن "القانون هو الذي كان يحكم البشر، وليس البشر هم الذين جعلوا من أنفسهم طغاة القوانين". القانون إذن- كما تقول الباحثة الفرنسية جاكلين دو روميلي- هو "متمم" الحرية،وهو في الوقت نفسه "ضامنها". وبهذا تكتمل التوليفة التي ميزت الإغريق(26).
لكن ثمة صعوبات واجهت المثال الذي حققه بعض الإغريق:
وأولها؛ ما صلة هذا "الناموس" ـ البشري ـ بالناموس الإلهي الذي هو نظام الكون. يشير هزيودس بأنه بسبب الناموس الكوني ـ نظام الطبيعة ـ تتهارش الحيوانات، بينما مُنح بنو البشر العدالة، ومن شأنهم أن يثابوا عندما يعرفون كيف يمتثلون إليها. ففي المدينة البشرية يحيا الناس بالعدل والقانون، وليسوا -كما في المرويات عن الكائنات الخرافية ذات العين الواحدة- "لا يعرفون لا حقا ولا قوانين"، حسب تعبير هزيودس.
والشيء بالشيء يذكر، طُرحت مسألة "أصل القانون"، وكان بعض من الإغريق يردون القوانين إلى أصل إلهي؛ فكان هويودس من الأقدمين يتحدث عن "ناموس زيوس"، وكان هرقليطس يتحدث عن "الناموس الإلهي"، وقد أعلن الفتى التقي في مسرحية "هيبوليتس" ليوربيدس أن "قوانينا سليلة الآلهة". لكن ما أن اكتشف الإغريق أن القانون نسبي ـ القانون/العادة ـ وأنه من ثم هش متغير، سيال بدال؛ حتى ظهرت فكرة رد القانون إلى "المواضعة البشرية". وقد عمل السفسطائيون على ترسيخ هذه الفكرة، حتى ذهب بعضهم بهذه الفكرة إلى حدودها القصية، وحتى أظهر كريتياس ، في كتابه "سيزيف" ـ أن القانون ما هو "إلا حيلة ماكرة من الإنسان للانفلات من الفوضى". وكان أن حاول أفلاطون ربط القانون ـ Nomos ـ بالعقل وبالنظام ـ Logos ـ تفادياً للمنعطف شبه العدمي الذي انعطف السفسطائيون به بالقوانين وبالعدالة بسبب غياب "ضامن صلب" [= الآلهة].
وثاني هذه الصعوبات تكمن في صلة الناموس البشري المدون بناموس آخر غير مدون هو عوائد الشعوب التي هي شديدة التغير من شعب لآخر، والتي هي أقل احتراما وأقل تبريرا وأقل معيارية من الناموس المكتوب. وهكذا يتضمن الناموس في ذاته توتراً بين قيمتين ـ معيارية ووضعية ـ مما سوف تنشأ عنه متاعب كبيرة، تدخل في صميم "أزمة المدينة" و"أزمة القانون". ذلك أن "القوانين غير المدونة" -سواء أكانت عدت من مصدر إلهي أم من خبرة بشرية، وسواء عدت كونية أم قومية، كانت تترجم- عند بعضهم- عن طموح إلى خير وإلى عدالة تكمل وتتجاوز القواعد التي وضعها المشرع [=القوانين المدونة].
في البدء كان "الناموس" ذا مسحة دينية، كان يعني الطقوس التي رتبتها الآلهة والقواعد الأخلاقية التي فرضتها، ونظام العالم الذي أقامته، وذلك منذ أيام هزيودس إن لم نقل قبل. وقد وجد في كتاباته -كما أسلفنا-أن الناموس كان منيحة من الأرباب إلى بني البشر، وأنه تمثل في ضرورة مراعاتهم ما يمنعهم من افتراس بعضهم بعضا (كتاب الأعمال والأيام، 276)، وكذلك تحدث هيراقليطس عن "الناموس الإلهي" وعن أن قوانين البشر مستملاة منه. لكن بعد هذا العهد بدأ التعارض. وقد أفلحت مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس في استشكال هذا الأمر بحيث صَوَّرَته على أنه صراع واجبات: وضع يكون فيه للدولة مطلب من جهة،وللضمير الأخلاقي أو الديني مطلب آخر من جهة ثانية. يتمثل الأمر في تمرد أنتيجونا ـ الشابة اليونانية الشجاعة ـ ضد حاكم بلدها الذي رفض دفن أخيها بحجة أنه استعدى على مدينته العدو، واستقوى به في صراع على السلطة مع أخيه؛ فكان أن خان بلده. والخائن لا يستحق أن يكرم حتى ولو كان ميتا بدفنه. ولذلك منح الحاكم كريون أحد الإخوة ما حرمّه على الآخر من كرامة القبر، فأمر أن يوارى إثيوكليس في التراب، وأن يؤدى إليه من الواجبات الدينية ما يسر نفوس الموتى، بينما أعلن الأمر ألا يدفن الشقي بولينيس وألا يُبكى، وأن يترك ـ من غير أن يُقبر أو تؤدى عليه فرائض الدين ـ نهبا لسباع الطير التي تتأهب لافتراسه. لكن أخت الأميرين عمدت ـ في مخالفة واضحة لتعليمات الحاكم كريون ـ إلى مواراة جثمان أخيها التراب إكراما له، فكانت المواجهة بين أنتيجونا والحاكم:
ـكريون: (...) أجيبيني عن غير محاولة: أتعلمين أني قد كنت حظرت مواراة يولينيس.
-
أنتيجونا: نعم، أعلم ذلك، لا وهل كان يمكن أن أجهله؟ وقد أعلن إلى الناس كافة.
-
كريون: وكيف جرأت على مخالفة هذا الأمر.
-
أنتيجونا: ذلك أنه لم يصدر عن "زوس" [رب الأرباب في العقيدة اليونانية]، ولا عن "العدل" مواطن آلهة الموتى، ولا عن غيرهما من الآلهة التي يشرعون للناس قوانينهم، وما أرى أن أمورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان، من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي لم تكتب، والتي ليس إلى محوها سبيل.لم توجد هذه القوانين منذ اليوم ولا منذ أمس، هي خالدة أبدية، وليس هناك من يستطيع أن يعلم متى وجدت. ألم يكن من الحق عليّ إذن أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس؟ قد كنت أعلم أني ميتة، وهل كان يمكن أن أجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ لئن كان موتي سابقا لأوانه، فما أرى في ذلك إلا خيرا".
وقد احتار فلاسفة الإغريق في هذا الأمر بأشد حيرة تكون، بين من جعل القانون غير المدون يعلو على القانون المدون، بحجة أنه القانون الطبيعي؛ ومن ثمة فهو كوني ومطلق وأبدي، بينما القانون المدونـ على النحو الذي أقرت به مثلاً ديمقراطية أثينا وافتخرت، غير كاف بذاته، وما كان بمكنته أن يستنفذ العدالة كلها، بل هو شديد النسبية، شديد المحدودية، شديد الجزئية، بله أحيانا شديد الانحيازية. ومن ثمة كان القانون المدون أقل قيمة من القانون غير المدون، وبين من قال بالعكس، وبين من تقلب بين الموقفين بأشد تقلب يكون.لكن، لئن هو كان القانون المدون يبدو نسبياً ومحدوداً بينما القانون غير المدون يبدو مطلقاً وكونياً؛ فإن هذا بدوره سرعان ما تعرض إلى ضربة النسبية التي لطالما سعى إلى الانفلات منها.
وبالجملة، المشكلة الرئيسة في الناموس الإغريقي ـ Nomos ـ أنهـوعلى خلاف الناموس الإلهي Themos ـ كان بلا "ضامن" متعال، بلا آلهة تحرسه، وبلا أرباب تسنده. لقد كان ـ في تصور العديد من مفكري الإغريق ـ قانونا "محايثا"؛ أي قانوناً نابعاً من داخل المدينة، ومن داخل الشعب، ومن داخل الجماعة السياسية، ولم يكن قانونا "متعاليا"؛ أي قانوناً نازلاً من السماء، من خارج المدينة، ومن خارج الشعب، ومن خارج الجماعة السياسية.
-
السفسطائيون ونقد "العدل" و"القانون"
الحال أنه من "محايثة" القانون هذه و"نسبيته" وجد السفسطائيون إليه مدخلا، لا سيما وأن ما ساعدهم على ذلك إنما هي بداية تآكل وحدة الكلمة داخل المدينة؛ مما شجعهم على النيل منه نيلاً إرادة تدميره. وهذا هو ما شكل ما عُرِف باسم "أزمة القانون" خلال القرن الخامس قبل الميلاد. ومن بين جوانب هذه الأزمة بداية تشكيك الكثير من مفكري الإغريق في الربط الذي أقامه أسلافهم بين "القوانين" و"الحرية". فلئن قال المجهول الذي أورده يامبليقوس باستحالة اكتفاء الإنسان في حال الطبيعة بنفسه أنيفسر: لِمَ الناموس كان والعدل هما: "مَلِكين متوَّجَين فوق رؤوس بني البشر"(27)، وأن البشر اجتمعوا تحت طائل الضرورة، وأنه كان من المستحيل عليهم أن يحيوا بلا قوانين، وأن القوانين–من ثم- مواضعات نافعة، بحكم أن الضرورات والحاجيات أملتها؛ فإن السفسطائي هيبياس- كما في حديث أرسطو عن بروتاغوراس- يعلن- بالضد- أن من شأن "الناموس" أن يتعارض مع "الطبيعة"؛ ومن ثمة يسمي الناموس "طاغية على بني البشر"، وليس ملكاً يقوم من بينهم وينصبونه، وإنما مستبد بهم بل وجلاد لهم، ومستكره لطبيعتهم. وهكذا، فإن السفسطائيَّيْن هيبياس وكاليكلس لا يريدان أن يعترفا بأن "الناموس" سيد على بني البشر، وإنما يريان فيه "الطاغية". وإذا كان ليسياس قد قال بأن على البشر أن: "يكون لهمالناموس مَلِكا واللوغوس هاديا"، وإذا كان أفلاطون ـ في الرسالة السابعة ـ قد قال بأنه تحت نظام صالح، فإن "الناموس يصير صاحب السيادة الذي يحكم على بني البشر، بدل أن يمسي البشر طغاة القوانين"(28)؛ فإن الكثير من السفسطائيين ما عادوا يرون في النواميس إلا طغاة ضد طبيعة بني البشر. ويثور هيبياس في وجه سقراط: "كيف لك -يقصد سقراط- أن تعدّ القوانين أو طاعة القوانين شيئاً جدياً، بينما عادة ما هؤلاء الذين سنوها سرعان ما يغيرون آراءهم ويبدلونها؟"(29) هكذا، سوف تمسي النسبية شائعة مع كبير السفسطائيين بروتاغوراس الذي عَلَّم الإغريق سحر النسبية الفلسفية الحقيقية، في حين علَّم باقي السفسطائيين هذا الشعب المعارضة بين القانون والطبيعة، وذلك في الربع الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد.
والحال أن متاعب القانون بدأت عندما انفرد التحليل الفلسفي بالمفهوم لكي يعارضه بفكرة "الطبيعة". في البدء كان أرخلاوس، الذي قال عنه ديوجين اللائرتي-في سيره- بأنه "تفلسف في القانون". وقد نسب إليه القول: "ما كان الأمر العادل والشأن المخزي في حكم الطبيعة، وإنما هما من وضع الناموس". وقد مهد ذلك إلى إعلان كبير السفسطائيين بأن الإنسان ـ واضع النواميس ـ هو معيار كل شيء؛ ومن ثم هو معيار الأمر العادل ومقياس الشأن الظالم. ثمة إذن نظامان متعارضان: واحد طبيعي عن كل حكم بشري أو تقويم إنساني بمعزل، وآخر صنعي مفروض من الخارج فرضاً اعتباطياً. وبدءاً من هذا التصور فقد مفهوم "الأمر العادل في ذاته"كل وجود وثبات، فما عاد يمكن تحديد ما الأمر "العادل" اللهم إلا بدءا من "اصطلاحات" و"اتفاقات" و"تواضعات" خاصة بكل جماعة جماعة. وبالجملة، أمسى "العادل" هو "الشرعي" أو "القانوني"؛ أي الاصطلاحي والاتفاقي والتواضعي ـ Nominon . وبهذا أمسى "الشرعي" أو "القانوني" أو "الناموسي" إنسيا وبشريا وآدميا، وما عاد ربانياً وإلهياً كما كان عند سوفوكليس (أفلاطون: محاورة بروتاغوراس، الفقرة 327a). وهنا نصل إلى الموقف الذي ينسبه سقراط إلى بروتاغوراس في محاورة ثياتيتوس لأفلاطون: "فإذن، في السياسة أيضا، جميل وقبيح، وعادل وظالم، ومؤمن وكافر، كل ما تعتقد مدينة ما على أنه كذلك وتضعه بوصفه سُنَّة لها، هو سُنة في تقديرها هي، ولمدينة أخرى سنة أخرى. وهكذا، فإنه في كل ميدان من الميادين لا تعلو حكمة على حكمة، ولا يسمو فرد على فرد، ولا تمتاز مدينة على مدينة" (أفلاطون: محاورة ثياتيتوس، الفقرة: 172a). تُعلقُ جاكلين دو روميلي: "إن تحليل بروتاغوراس يطرح للمرة الأولى -بقوة لا تضاهى- مسألة القانون وأسسه؛ ومن ثمة، يجعل من التعارض بين القانون والطبيعة سلاحاً يدسه بين يدي أناس من ذوي الفكر الجريء"(30)
يتدخل هيبياس ـ في محاورة بروتاغوراس لأفلاطون ـ لكي يوفق بين سقراط وبروتاغوراس حول منهج الحوار الذي ينبغي تبنيه، وفي معرض حديثه يشير إلى ما يلي: "أنتم كلكم الموجودون هنا أحسبكم إخوة أقرباء ومواطنين بالسليقة والطبيعة، فالشبيه أخ للشبيه وهو لهقريب، لكن القانون "طاغية البشر" هذا هو الذي يفرض قسره على الطبيعة" (محاورة بروتاغوراس: الفقرة 337c-d). فإذن، القانون هو من يصير الأقارب أباعد والأُلَفاء غرباء؛ فهو "فضلة" خارجية استكراهية قسرية تمارس طغياناً على الطبيعة البشرية. ويضيف السفسطائي أنتيفون في مقطع اكتشف له: "الحقيقة أننا كلنا بالطبيعة متساوون بالمولد: إغريقاً وبرابرة"، ويضيف: "لا أحد من بني البشر مُيِّز منذ الأصل على أنه بربري أو إغريقي: كلنا نتنفس الهواء بالفم وبالخياشيم"(31). ومن ثم لا فخر لليوناني بقوانينه على عوائد البربري. أكثر من هذا، ما العدالة نفسها سوى "عدم خرق أيٍّ من القواعد الشرعية الوضعية التي قبلتها المدينة التي نشكل جزءا منها". وهكذا، لا يقول الرجل بأنه يلزم الخضوع إلى القواعد نظرا لعدالتها، وإنما يضع معياراً وضعياً واصطلاحياً واتفاقياً؛ أي عرضياً: "ما ينتسب إلى القانون عرضي، وما ينتسب إلى الطبيعة ضروري، وما هو قانوني أقيم باتفاق واصطلاح ومواضعة، ولم يقم من تلقاء ذاته، بينما ما هو طبيعي لم ينتج عن اتفاق ومواضعة، وإنما أنتج نفسه بنفسه عفوا"(32).
على أنه لايَنبغي المبالغة في تصوير السفسطائيين على أنهم "هُدَّام القوانين" و"مقوضو النواميس"، وإنما هم من تساءل حول القوانين، وتشكك وتحير دون أن يترك المدينة من كل نواميس عارية؛ وإلا كيف نفسر ما تداولته أخبار القدماء من أن بروتاغوراس راح إلى مدينة "توريوي" لكي يصوغ قوانين المستعمرة الجديدة؟ إذ أجمع أغلب السفسطائيين على ضرورة القوانين وإن كانت لا أساس طبيعي لها، وأنه في حال الطبيعة كان ثمة غياب أساس عيش مشترك ترجم عنه غياب قوانين عيش ـ Anomia ـ مما كان يدعو إلى وضع قواعد للعيش المشترك. كل ما فعل السفسطائيون أنهم أنكروا أن تكون للقوانين قيمة مطلقة. لكن بالموازاة مع ذلك أعادوا بناء الأخلاق على أساس الرباط الاجتماعي الذي يضمن الحفاظ على الجميع. فموقفهم ما كان رفضا للقانون بإطلاق، ولا رفضا للأخلاق بإطلاق، وإنما كانوا يسعون فقط إلى تحديد الأسس التي يقومان عليها. وبهذا، ما كانوا مدمرين هدامين، وإنما كانوا يريدون -بالاستعانة بمفهوم "الطبيعة"Physis- إعادة تأسيس الحق والأخلاق. فلطالما أسيء فهمهم، وليس يبعد أنهم هم أنفسهم أسهموا في إساءة الفهم هذه(33).
لربما كانت الحالة الوحيدة الاستثنائية هي حالة تراسيماخوس كما صورها أفلاطون، وهي حالة التمرد الراديكالي على القانون. كان أنتيفون قد قال: إن ما هو قانوني إنما أقيم عن مواضعة، لكنه لم يوضح علة أو أصل المواضعة. يمكن أن نتساءل: من الذي سيشرع القانون؟ وعلى أي أساس؟ لئن تفاهم المواطنون فيما بينهم بغاية اختيار أفضل المبادئ للجماعة، يمكن آنها للقانون أن يكون جميلا وقيما. لكن ما القول فيما إذا فُرض القانون فرضا من لدن فريق أو آخر لا يهدف إلا إلى صون مصلحته الخاصة؟ بهذا ننتقل من فكرة "المواضعة" إلى فكرة "المؤامرة". وعلى هذا النحو يؤكد تراسيماخوس ـ في الكتاب الأول محاورة جمهورية أفلاطون ـ أن الحكم إنما يقيم من القوانين ما يراه الأصلح له، وينتهي إلى هذا التعريف للعدالة شديد الجرأة: "ما كانت العدالة سوى مصلحة الأقوى ليس إلا" (محاورة الجمهورية. الفقرة: 338c)؛ ومن ثمة فإن "ما من حكم إلا ويقيم القوانين التي هي لصالحه: الحكم الديمقراطي يقيم قوانين ديمقراطية، والملكي ملكية، وهكذا في سائر النظم السياسية؛ ثم ما إن تقام هذه القوانين حتى يعلن أن العادل ـ بالنسبة إلى الحكام ـ هو ما يكون في صالحهم، وإذا ما خرق بعضهم هذه القوانين يعاقبونه بوصفه خارقا للقانون وللعدالة" (محاورة الجمهورية. الفقرة: 338e )
4-الرد على السفسطائيين: العدل والقانون عند سقراط وتلامذته
كم أدان الكاتب المسرحي والشاعر الإغريقي أرستوفانس الريبة في القوانين التي انتشرت في بلاد الإغريق، وكم حمَّل المسؤولية إلى الفلاسفة! والعجيب أن الرجل حمل قسما من المسؤولية إلى سقراط، جاعلا منه سفسطائيا بين السفسطائيين. وقد صور حالة ابنٍ عاقٍّيختلف مع أبيه فيعمد إلى ضربه، ويبرر فعله بآراء الفلاسفة: "ما أجمل أن يحياالمرء في معاشرة للأمور المستحدثة الفريدة، وأن يحتقر القوانين القائمة السائدة!" اتهم أرستوفانس سقراط بدفع تلامذته إلى احتقار القوانين القائمة. وهكذا أمسى افتخار الإغريق بقوانينهم عينا بعد أثر. ما بقي ثمة مطلق إلهي يحمي القوانين ويضمنها، وما بقيت هناك سوى أزمة سياسية وأزمة فكرية عصفت بالقوانين. فبعد عصر الافتخار الساذج كان لا بد من أن يأتي زمن التبرير العقلي.
والحال أن سقراط هذا يعلن ـ في محاورة أكريتون (46d) ـ أن: "القانون ما كان أبداً لعبة أطفال أو مجرد ثرثرة"، وإنما هو أمر يستحق أن نفكر فيه التفكير. أكثر من هذا، يستحق أن نطيعه؛ ذلك أن سقراط يُعدّ من أكبر المدافعين عن "القوانين" ضد الهجمات التي كالها إليها السفسطائيون، بل إنه دفع بطاعة القوانين -حسب ما ذهب إليه زينوفان وأفلاطون- حد الاستشهاد والبطولة، وذلك في واقعتين: معارضته للأربعين طاغية في تكليفه بإيقاف مواطن بريء، وفي أثناء محاكمته الشهيرة التي امتنع فيها عن التماس أي سبيل مخالفة للقوانين. ثم إنه اختار ألا يهرب حتى لا يتحايل على العقاب الذي ينزله به القانون في حالته: لقد كان سقراط يحترم القوانين حد قبوله الموت احتراما لها. ومعنى هذا عند سقراط -وردا على اتهام أرستوفانس-: لئن كانت القوانين نسبية وقابلة للنقد؛ فإن احترام القوانين- بحسبانها قوانين- أمر له قيمة مطلقة. ولكن، لماذا احترام القوانين؟ ثمة تفسيرات شتى، منها ما ذكره تلميذه زينوفان من تبني سقراط لتصور ساد على العهد الديمقراطي: القوانين رمز السيادة الشعبية، وفكرة أن سلطانها على النفوس يقوم على اتفاق ويصدر عن جماعة المواطنين فكرة كانت طبيعية لهذا الشعب الغيور على امتيازاته. والحال أن أزمة القانون سوف تتساوق مع أزمة الديمقراطية.ميزة سقراط عن السفسطائيين أنه أعطى للفظ "مواضعة" -الذي حدد بها هو والسفسطائيون أجمعون "القانون"- دلالة معيارية. كان السفسطائيون يقولون: ما "القانون" سوى "مواضعة"، وكان سقراط يجيب: أجل، ما "القانون" إلا "مواضعة"، ومن ثمة فهو يلزمنا. وقد اختار أفلاطون ـ من خلال طرحه لمشكلة سقراط مع قوانين بلده ـطرح مسألة "القانون" في "حالة حدية": لم يخاطر سقراط بطاعة قانون عادل وفي صالح الدولة سهلِ التسويغ؛ وإنما المشكلة التي طرحها أفلاطون من خلال حالة سقراط أعقد: افترض قانونا ظالما، أو بالأحرى وضعاً قانونياً ظالماً، وهذا الظلم هو الأسوأمن بين كل المظالم في نظره؛ لأنه يتمثل في إدانة بالموت غير مستحقة تمس سقراط نفسه وفي نفسه. أكثر من هذا، كان يمكن لسقراط أن يتفادى تطبيق الحكم من دون أي ضرر عليه أو على أي شخص آخر. باسم ماذا لم يفعل ذلك؟ باسم ماذا أطاع وضعا قانونيا ظالما؟ كان سقراط قد قرر فحص سؤال ما إذا كان من العدل أن يتلافى عقاباً ظالماً. من أجل هذا، وضع مبدأ أولاً: لا ينبغي أن نجيب عن ظلم بظلم آخر: "ليس ينبغي أبداً أن نرد على ظلم بظلم، ولا أن نلحق ضرراً بشخص، بما في ذلك ذاك الذي ألحق ضررا بنا" (49c)، ثم سرعان ما يدخل القارئ في صلب النقاش: "عندما نتفق مع شخص على أمر عادل، هل ينبغي الإيفاء بما اتفقنا عليه أم ننكث العهد؟" ذلك أن من شأن فرار سقراط من السجن أن يخرق اتفاقاً، هذا بينما أكريتون تلميذه الذي اقترح عليه فكرة الفرار لا يفقه هذا الأمر. فمن شأن هروب سقراط أن "يدمر" القوانين، ومن ثمة أن "يدمر" الدولة من جهة نظر القوانين. ذلك أن أحكام الدولة تصير بلا قوة، ومن شأن القانون الذي لا يطاع ألا يكون قانونا، ومدينة لا تطاع فيها القوانين تسعى سعيا إلى دمارها. ولئن كان سقراط يدعو إلى طاعة "عمياء" للقوانين، فإنه "عمى" ببصيرة وبقصد مبني على التحليل الفلسفي. ما إن نقبل بنظيمة قوانين، حتى يتوجب علينا أن نقبل كل القوانين، وأن نقبل الأوضاع الناجمة عنها، وإلا فتمردنا يعني تدمير ما تقوم عليه المدينة. وقد أدرك سقراط هذا الأمر، لا سيما وأنه شاهد آخر أيامه كيف كانت تُحتقر قوانين أثينا. وكان عند سقراط أن يحيا الإنسان في أثينا، معناه أن يلتزم اتجاه وطنه الذي هو مدين له طوال عمره؛ ذلك أن المدينة تقوم على عقد ضمني يجمع كل فرد بالجماعة، عقد لا يمر يوم دون أن يعضده. وفي حال سقراط، نادراً ما غادر بلده، وقد اختار أن ينجب أبناءه في بلده، وكان بمكنته أن يقبل الحكم عليه بالنفي، ولكن رفض، وكان البقاء يعني قبول العقد والعهد والميثاق. وهكذا، فإنه حين يتوسل أكريتون إلى سقراط عارضاً عليه عزم أصدقائه تهريبه خارج أسوار السجن والمدينة، يكون من جواب سقراط: تظهر القوانين أن محاولة الهروب من حكم بالموت قد تقرر شرعا إنما هو عقوق مثل عقوق الوالدين؛ أي أنه استعمال للقوانين إن كانت في صالحنا، وهجرٌ لها إن لم تكن. وليس ثمة من بديل إلا واحد: لا ينبغي للمرء لا التنازل ولا التراجع ولا هجران موقعه: في الحرب، كما في المحكمة، ينبغي أن نمتثل لما تأمر به المدينة والوطن، وإلا إقناع المدينة بطبيعة العدل الحقة. بمعنى آخر: إما الخضوع إلى القوانين أو الإقناع بما يبدو أنه الأفضل إذا ما بدا ما تم الأمر به جائرا. ومن شأن الإخفاق في الإقناع أن يفرض لزوم الطاعة. هذا هُوَ وجه الإحراج: لربما كانت القوانين غير عادلة، لكنها هي ما تجعل المدينة تحيا، ورغم بيان حدود القوانين (تسمح بأحكام بغيضة) فإنه لا يمكن تجنبها(34). عاش سقراط إذن في زمن "أزمة القانون" و"أزمة المدينة"، وما رام هو لا تأزيم الأول ولا الثانية، عاش في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، في زمن بداية احتضار المدينة الطويل.
نشعر بتحفظ لدى أفلاطون على دفاع شيخه المستميت والسخي عن قوانين المدينة وإن كانت ظالمة. نشعر أنه لم يغفر أبداً لأثينا تمويت سقراط، وقد حدث بينه وبين المدينة ضرب من القطيعة. يصرح في الرسالة السابعة: "لقد أحبطني ذلك الأمر، وأشحْت بوجهي عن مظاهر بؤس تلك المرحلة"؛ ذلك أن المدينة القادرة على قتل سقراط ما كانت المدينة التي نحن مدينون لها بكل شيء. في محاورة الجمهورية، يؤكد أنه في المدن الناقصة من الطبيعي أن يولي الفلاسفة ظهرهم إلى الدولة، فهم ينبتون كالنوابت من دون أن يساعدهم أحد، مما يجعلهم في حِلّ من كل التزام اتجاه المدينة والدولة. فإذن ينبغي إعادة تأسيس المدينة العادلة بقوانين عادلة، بحيث إنه في محاورة جورجياس، كما في محاورة الجمهورية، لا يهاجم خصوم سقراط القوانين وحدها وإنما العدالة أيضاً، وحول مسألة العدالة هذه يدور جواب أفلاطون. وهو يفكر في الأمر ضمن إطار "أزمة المدينة"، وأمام أزمة المدينة يجيب بنظرية في المدينة. تقول الباحثة جاكلين دو روميلي: الحق أنه منذ أزمة سقراط لربما أمسينا في القرن الرابع قبل الميلاد أمام مفارقة: إما الدفاع عن قوانين مرتبطة بالمدينة ولكنها غير فلسفية، وإما الدفاع عن قوانين فلسفية لكنها قد فقدت الصلة بالمدينة.
5-أفلاطون: العدل والقانون
في محاورات أفلاطون عادة ما يعود الرجل إلى ذكر الهجمات التي يتعرض إليها القانون، وعادة ما يدرؤها؛ مما يدل على أن هذه الهجمات كان أمرها خطيراً جليلاً. وقد تنبه أفلاطون إلى أن هجمات السفسطائيين لم تكن تتعلق بالقانون وحده، وإنما تشمل العدل أيضاً. فما القانون -في نهاية المطاف- سوى تعبير عن "الشأن العادل". ففي محاورة جورجياس لا يذكر كاليكلس الفرق بين القانون والطبيعة إلا لكي يميز بين الأمر العادل حسب القانون والأمر العادل حسب الطبيعة، بل لم يساو بين القانون والعدل إلا لكي يهاجم العدل. ولهذا عمد أفلاطون إلى الدفاع عن العدل في ذاته، وقد حدد بمعزل عن القانون وصياغاته وصعوباته. هذا هو الموضوع الذي تعالجه محاورتا "جورجياس" و"الجمهورية". ودلالة ذلك أن العدل في ذاته يمكن أن يحدد ويطالب به ويوضع معيارا، فهو لا يعرف التبدلات التي تطال القانون، وهو أحق بالتزام به يكون التزاما شاملا.
ويمكن أن نفسر هذا الأمر بالتعالق الذي حدث في سيرة أفلاطون نفسه ـ كما ترويها الرسالة السابعة ـ بين أزمة حدثت في حياته وأزمة القانون. وهما على التدقيق تجربتان: الأولى تجربة خيبة أمله في الطغاة الثلاثين الذين كان قد أمل فيهم كثيراً بسبب من صحبته للعديد منهم، وكانوا مثله يدينون بعض تجاوزات الديمقراطية، والثانية تجربة الديمقراطية نفسها التي انتهت بالحكم على شيخه سقراط بالموت. مما حدا به إلى مساءلة نسق القوانين والعوائد الذي بدا له فاسداً ظالماً.
وقد ظهر واضحاً أنه ما كان بمكنة أفلاطون أن يكتفي بوجهة نظر سقراط في محاورة "أكريتون". ما كان بمكنته أن يدافع عن القانون من حيث هو قانون؛ لأن قوانين وأعراف أثينا -وقد تعاقبت عليها شتى النظم السياسية: أرستقراطية وطغيانية وديمقراطية وأوليغارشية ـ بدت له وقد أصاب روحها الأصيلة قدر هائل من التلف. لقد أدت به هذه التجربة المريرة لا إلى القطع مع السياسة النشيطة فحسب،وإنما إلى القطع مع المدينة ومعاييرها أيضا. وما كان بمكنته إلا أن يتنكر للمدينة التي أماتت سقراط، وأن يظن بأنها لا هي ولا قوانينها تستحق إما أن يراد العيش فيها، أو أن تقبل أن نموت من أجلها. كان لا بد من تصور مدينة أخرى. كان لا بد من خلق "سبب عيش" جديد و"طعم حياة" مستحدث. فلا غرابة أنه لئن كان المنطلق ـ في محاورتي "جورجياس" و"الجمهورية" ـ الهجمات ضد القانون؛ فإن الجواب كان باستعمال تصورات للعدل لا للقانون. كان لا بد من الوقوف عند المنطلق ـ العدل ـ ثم المضي إلى الحديث آنها -وآنها فقط- عن القوانين في محاورتي "السياسي" و"النواميس".
دلالة العدل
استعرض أفلاطون ـ في الكتاب الأول من الجمهورية تصورات "العدل" و"الأمر العادل" السابقة، وهي سلباً: عدم الاستيلاء على ملك الغير، عدم الحصول عليه من غير استحقاق، عدم الدوس على امتيازات الغير. وهي إيجاباً: رد الأمانة، الإيفاء بالدين. هذا هو الموقف العدل أو موقف العادل. بعضهم كان يساوي بين العدل وبين المعاملة بالمثل، فيرى ضرورة إنزال العقوبة على قدر الجرم المرتكب. وعند هؤلاء أجمعين ما كان العدل يعدّ فضيلة جوانية، وإنما معيارا ينظم العلاقات بين الكائنات البشرية. أما استقصاء أفلاطون فينتهي إلى تصورات متباينة: العدل يظهر في عدة أجزاء، وهو يُحقَّق عندما ينهض كل جزء بالمهمة التي انتدب إليها، ولا يعمد إلى أن يستفرد بما ليس من شأنه. والعدل عدلان: عدل في الدولة وعدل في الفرد. فأما العدل في الدولة فيكمن في إقامة نظام منسجم ثلاثي الطبقات، كل واحدة تقوم بالمهمة الموكولة إليها، وتحترم مهام الأخريين. وأما العدل في الفردفيكمن في تعامل وتوازن وتراتب أجزاء النفس الثلاثة ـ العاقلة والغضبية والشهوانية ـ إما بحيث يتم احترام كل جزء لمهام الآخر، وهو العدل:أو يقع اختلال التوازن بتعدي جزء على مهام الجزء الآخر، وهو الظلم. وأصالة الموقف تكمن في التطبيق المرافق: ينهض العدل أو الكمال الخلقي على بعض الصلات بين العناصر المكونة للدولة أو للفرد البشري: على القوة العاقلة أن تحكم، بينما على القوة الغضبية أن تخضع إليها وتكون لها نصيرا، وهما معا سوف يكون عليهما أن يحكما القوة الشهوية التي لا تسعى إلا إلى إرضاء الشهوات وإلى الانفراد بالسلطة [الجمهورية، الكتاب الأول، 441 e). إن إحقاق العدل يقتضي إخضاع الجزئين الأدنيين إلى الجزء الأعلى طبقاً للطبيعة، ومن شأن الظلم أن يكون تمرداً يلجأ فيه طرف جُعل لكي يكون عبداً إلى الانفراد بالحكم، بما يعني قلباً للتراتبية الطبيعية[الجمهورية، الكتاب الأول، 444d).
معاطب القانون
هاجم السفسطائيون القانون والعدل دفعة واحدة، وباختياره الدفاع عن العدل قبل القانون -بل وبدله- أدخل أفلاطون ـ جملة ـ تمييزا لم يكن في صالح القانون: لقد تجاوز القانون لكي يرتقي إلى نظام أعلى. وقد وجد أن الداء كل الداء أتى من التربية الأثينية التي لا تعمد إلى التربية؛ أولاً وقبل كل شيء على الفضيلة، ثم بعد ذلك وبعده فقط على احترام القوانين. إن من شأن التربية على الفضيلة أن توفر على النشء اللجوء إلى نصوص قانونية شديدة التجريد. فمع التربية الحسنة تمسي القوانين فضلة لا عمدة؛ وذلك لأن من شأن النشء أن يجد القوانين في نفسه [= وازع من داخل] لا في غيره [= وازع من خراج]، إذ يبقى التكثير من النصوص القانونية بلا جدوى، ما دامت المدينة فاسدة. ومن هنا سعى أفلاطون إلى رسم صورة مدينة بديل، يمارس فيه الحكم من أجل الخير. وقد أثبت في محاورة "جورجياس" أن العدل وحده يشكل السعادة الحقة. هذا بينما في محاورة "الجمهورية" شرع في توضيح طبيعة هذا العدل، وذلك سواء على مستوى الفرد أم على مستوى الدولة. وقد وضع الكتاب الشرط الكافي لكي يسود العدل في المدينة: على الحكام أن تكون لهم معرفة بفكرة "الخير". ومن الأفضل أن يمسي فيلسوف ملكا، وعلى أية حال ينبغي تكوين حكام، ذوي تربية مديدة وذات مدارج، حيث يترقون على سبيل التدرج حتى فكرة "الخير" نفسه، وآنذاك يتدلون إلى ما بين الناس لكي يهتموا بأمور المدينة.
وهكذا، بسعي أفلاطون إلى تحقيق فكرة "الخير" أبان عن سعي إلى "العقل النظري"؛ أي إلى "المثال العقلي". وهنا ينمحي القانون أمام المعرفة الجلية الفلسفية بما هو الخير. وعنده أنه لا يمكن للقانون أن يكون شيئاً آخر سوى انعكاس للمعرفة بالخير هذه. وهو الأمر الذي اتضح على نحو أفضل في محاورة لاحقة هي محاورة "السياسي". هنا يتم الحديث عن "علم المُلْك" أو عن "العلم الملكي"، وما هذا العلم سوى علم الخير المبني على الجدل، والذي يقام على أسس معرفة بيِّنة بالغايات المنشودة. وما كان هو على التحقيق علما نادر الوجود فحسب، وإنما هو على التدقيق علم ممتنع الدرك على أفناء الناس، وإنه لعلم – حد، علم كامل، علم مستعصٍ، بل وأعوص علم يمكن لإنسان بلوغه (محاورة السياسي، الفقرة:292d).
وما الدور الذي يوكله هذا العلم إلى القوانين؟
ما كانت القوانين سوى شرط ثانوي وليس شرطاً محدداً. ذلك أن من شأن من يملك العلم الملكي ـ على ندرة وجودهم ـ أن يكونوا زعماء حقيقيين يعلون حتى فوق القانون؛ "سواء حكموا برضا رعاياهم أم على الرغم منهم، وسواء كانوا يستلهمون قوانين مدونة أم لا، وسواء كانوا مترفين أم معدمين" (محاورة السياسي، الفقرة: 293a). هم من يطُب للناس بطبّ حسنٍ ، فما حاجتهم إلى كتابة وصفات؟ والذي عند أفلاطون أنه لا ينبغي أن يوضع على مالكي العلم الملكي أي قيد: بمكنتهم أن يقتلوا، ينفوا، ينشؤوا مواطنين جددا، يتصرفون بكل حرية، حكمهم أفضل نظام، بل هو النظام الجيد الوحيد، وذلك "ما داموا يستعينون بالعلم وبالعدل للحفاظ على المدينة، ولجعل المدينة الفاسدة أفضل ما يمكن أن تتحسن" (محاورة السياسي، الفقرة: 293d).
يتساءل سقراط الشاب مستنكرا: "في كل ما عدا هذا -أيها الغريب- تبدو أفكارك معقولة؛ لكن، أن نحكم بلا قوانين هذا أمر يصعب الإصغاء إليه" (محاورة السياسي، الفقرة: 293e)، ويضيف: "ما نريد أن نناقشه هو مسألة معرفة ما إذا كان حكم بلا قوانين أمرا مشروعا". ويخصص أفلاطون ست صفحات لعرض الحجج على أطروحته المفارقة والتي-كما لاحظت جاكلين دو روميلي- تبدو لإغريقي بمثابة فضيحة؛ إذ تذهب إلى أن وجود القوانين لا يسمو إلى مستوى السيادة المباشرة والاعتسافية لمن يملك العلم الملكي. ومجمل هذه البينات ينزع إلى إظهار أن القانون -بسبب من طابعه العام والنهائي- لا يمكن أن يتكيف مع تعدد الحالات الخاصة، لا ولا مع تطور الأوضاع: "التعدد الذي يوجد بين بني البشر، وكون لا شيء بشري يكون إن ساغ القول ثابتا: هذان أمران لا يتركان مجالا -في أي فن وفي أي أمر- إلىأي مطلق يصلح لكل الحالات ولكل الأزمان"(37). من شأن القانون أن يبقى دائما تقريبيا، ومن شأن من يُشَرع أن يُشرع بما يناسب أغلب الحالات ومعظم الأفراد ... ويعلن أفلاطونى -في محاورة السياسي- علو كعب العلم السياسي لا على القانون المدونفحسب ، وإنما أيضا على العرف. ذلك أن العلم كوني؛ أي قادر على الولوج إلى الحالات الخاصة، بينما القانون عام ولا يمكن أن يقدم إلينا سوى عبارات عامة وتقريبية. والقانون ينزع إلى إقامة مساواة حسابية، لاغيا للفروق الفردية، بينما العلم [بالعدل] يعطي لكل ذي حق حقه، ولكل من يستحق استحقاقه، بحسب مساواة هندسية؛ أي تناسبية لا عددية. وأخيرا، للقانون من التحجر[التخشب] والجمود على المسطور والعمى كل ما يعيب المكتوب الجامد، بينما العلم عندما يكون حيا في روح السياسي عليه دائما أن ينتصر على تحجّر القانون. وما يقال عن القانون المكتوب أولى بأن يقال عن العرف. وبالجملة، لا إمكان لتشريع قانون لكل حالة... ومن شأن الشيء المدون ـ كما في محاورة "فايدروس" ـ ألا ينطبق على الحالات الفردية: إنما الكتابة [التدوين، التقييد] جمود على المسطور. وهي من ثم ناقصة. والحوار أفضل لقيادة الأنفس نحو الخير. ونظراً لأن القانون غير كامل، فإننا إن نحن أخذناه على أنه شأن أمري يصير آنهاً مزعجاً. وكيف لا نتركطبيباً يغير الوصفات التي تركها قبل تغيبه، والتي صار يرتئي الآن أنها غير منسجمة مع ظروف المريض بعد عودته؟فكما أن كفاءة الطبيب ومهارته علمٌ، فكذلك هو حكم الحاكم، بحيث إن على من يحكم المدينة أن يتمتع بحرية التصرف عينها، فعندما يتعلق الأمر في القوانين ـ سواء أكانت مدونة أم لا ـ بمسألة العادل وغير العادل، لا يحق لنا أن نتساءل: هل ينبغي أن نمنعه من أن يغير توجيهاته ووصفاته القانونية الأولى؟ أليس في هذه الحالة يشبه حالة طبيبنا الماهر؟ (محاورة السياسي، الفقرة: 295e- 296 a). يسوغ إذن للمشرع أن يبدل قوانينه، وأن يفعل ذلك من غير موافقة من طبق عليه القانون المعدل ـ لأنه وحده من يملك العلم الملكي، كما يمكنه أن يحمل الناس على خرق القانون المدون أو العرفي حتى يتصرفوا على نحو "أعدل وأفيد وأجمل"؛ إذ الشأن فيه أن يحكم كأنه ربّان سفينة ناموسه العلم (محاورة السياسي، الفقرة: 297a ). تُعلق جاكلين دو روميلي: "هذا هو -في صرامته- المذهب الذي ذهبت إليه محاورة "السياسي". أبداً لم يحدث أن لقي القانون مثل هذه الإدانة الصارم؛، وذلك لأنه أبداً لم تتم مجادلة القانون فيما كان يبدو على أنه يشكل مزيته؛ أي صلته المبدئية بالعدل وبمصلحة الدولة"(38) على أن ما قد يخفف من غلواء هذا الموقف هو أن صاحبه يطرح حالة حَدِّيَة تقع في حدود الممكن، وليس حالة عادية تقع في بَدِيِّ الواقع: في الأحوال العادية يكفي تطبيق القانون السائد، لكن في حالة حَدِّية ـ شأن حالة سقراط مثلا التي يتعارض فيها القانون مع العدل ـ فإن الأولوية تعطى لمبدأ العدل. وفضلا عن هذا، فإنه في غياب المدينة المثالية- ومعها الفيلسوف الملك- يصير القانون في الواقع أمرا ضروريا-ففي غياب الفيلسوف الملك - الذي لا يوجد ولن يوجد ـفإن للقانون سلطة حاسمة. فمن شأن المدن العادية ـ لا المثالية ـ أن تمنع كل من يتجرأ على التصرف ضد القوانين، وإِنْ فَعَل عاقبته بالموت صبرا. ففيما عدا النظام المثالي، يوافق أفلاطون الإغريق على مبدأ أولوية القانون.
وقد وافق أرسطو أفلاطون على أنه فيما يخص صفوة الناس من ذوي العلم والمعرفة والحكمة: "لا يوجد قانون يناسبهم؛ لأنهم هم قانون أنفسهم" (السياسيات، الفقرة: 1284a)؛ لكنه كما سنرى كان أكثر واقعية في تصوره، بحيث اهتم أولا وقبل كل شيءبالأنظمة الواقعية، وأكد بلا مواربة على أن حكم القانون أفضل من حكم شخص واحد من المواطنين (السياسيات، الفقرة: 1287a). والذي يبدو أن تلك الفكرة كانت مشتركة بين العديد من فلاسفة الإغريق. هذا أرسطو نفسه ُروى أنه سئل ذات يوم: "ما الفائدة التي تجنونها من الفلسفة؟" فما كان منه إلا أن أجاب: "أن أفعل بلا قسر، وبوازع من نفسي ما يفعله الآخرون خوفاً من القوانين"(39) وكان قد نسب شيء قريب من هذا إلى الفيلسوف الإغريقي أريستيبوس ـ زعيم المدرسة القورينائية ـ لما قيل له: "ما الامتياز الذي يحظى به الفلاسفة؟" ما كان منه إلا أن أجاب: "لو أن القوانين اختفت، لظلت مع ذلك حياتنا هي هي ما تبدلت"(39). وذهب زعيم المدرسة الكلبية ـ أنتستينوس ـ إلى أن "من شأن الحكيم ألا يعيش وفق قوانين بلده، وإنما أن يحيا وفق الفضيلة"(40) ، كما نسب إليه القول: "كل ما هو غير عادل ينبغي أن نعده كأنه شيء غريب عنا"(41).
إعادة المكانة إلى النواميس
في محاورة "السياسي" كان أفلاطون قد خصص فقرات عدة إلى "دونية" القوانين في المدينة- المثال؛ لكنه في محاورة "النواميس" لا يشير إلا عرضاً إلى هجره ـ الدولة المثالية، ويركز بالمقابل على القوانين العملية بوصفها البدل الضروري والعوض الحاسم والبديل الأولي. ههنا ينظر إلى القانون نظرة أكثر إيجابية: إنه الوسيط بين عالم المثل وعالم البشر. ففي غياب دولة سياسية مثالية، يمثل القانون ما يقترب من هذه الدولة ويقرب منها، شريطة أن يكون القانون قد أقيم لأجل هذه الغاية. ذلك أن علو كعب العلم السياسي على القانون وعلى العرف لا ينبغي أن يعني إدانة هذين إدانة مطلقة. نظراً لأن السياسي ما كان هو بالإله، فإنه ليس بمكنته أن يمارس عنايته في كل مكان وفي كل وقت. فكما أن الطبيب يلجأ إلى وصفات يراعيها المريض أثناء غيبته، فإن السياسي يلجأ إلى قوانين ينبغي على المواطنين أن يراعوها. القانون بدل غير كامل؛ لكنه أمر صادر من السياسي نفسه، فهو يلزم المواطن دون أن يلزم المشرع[1]. للقانون إذن مشروعيته المستعارة من السياسة، إنه تقليد غير تام، لكنه غير اعتسافي أيضا، للمعيار العادل المحايث للكون. وذاك أساسه الميتافيزيقي. على أن هذا الأساس لا ينطبق إلا على القانون الذي وضعه من يملك العلم السياسي. وهو أمر صعب المنال لا مرية في ذلك. إن النظام الذي يفرضه القانون-حتى وإن كان فاسدا- أفضل على أي حال من العسف، وحتى وإن بقي القانون تقليدا غير كامل للنظام الكوني(42). لكن، كيف نحمل المواطنين على طاعة القوانين؟ لا يستبعد أفلاطون اللجوء إلى منطق الإرغام؛ لكنه يرى أن التربية - Paideia -يبقى لها الدور الأكبر في تنشئة المواطن على الأخلاق المدنية.
كيف ينبغي أن تقام القوانين؟ هذا هو موضوع كتاب "النواميس". وثمة مطلبان لهذه الحيثية: أ ـ أن يقام القانون لصالح المدينة برمتها، وذلك ضِدّ ما رأى تراسيماخوس الذي كان قد أكد في الكتاب الأول من "الجمهورية" على أن الحكومة إنما تقيم القوانين التي تخدم مصلحتها، وما زال يفعل حتى حدد معنى "العادل" في معنى "ما يصب في مصلحة الأقوى"، كما أنه ضد فكرة كاليكلسـ في محاورة "جورجياس" ـ الذي ذهب-على عكس تراسيماخوس-إلى أن القانون أمر يفرضه الضعفاء بالعسف للحفاظ على مصالحهم. وجواب أفلاطون: لا تعد حقا نظما سياسية، لا ولا قوانين جيدة السَّن، تلك التي لم توضع للمصلحة المشتركة للمدينة. وإذا ماسُنَّت لصالح البعض، فإنا نسمي هؤلاء من أهل الأحزاب لا من المواطنين، كما نسمي الحق الذي يمنح إليهم بموجب هذه السنن محض ادعاء حق وليس حقا حقيقيا (محاورة النواميس، الفقرة: 715b). وعن الاعتراض القديم المتعلق بنسبية القوانين، يجيب أفلاطون بوضع قاعدة ومبدأ: أحقا القوانين نسبية؟ طيب، علينا ألا نُصَيِّرها كذلك، وعلى المشرع أن يمنعها من أن تصير كذلك؛ ذلك أن من شأن القوانين التي أعدت أسوأ إعداد أن تخضع إلى الظروف والملابسات، وأن تعكس مصالح هذه الجماعة من الأفراد أو تلك. لكن، لئن استطاع كل واحد منا أن يكون حكما ذا بصيرة على نفسه وعلى مصلحته؛فإن السعي إلى الخير المشترك يتضمن إجراء تحليل عام لما هو الخير وللوسائل التي تسمح ببلوغه. ذلك أن الحديث عن "الخير المشترك" يتطلب الاعتداد بما هو مشترك وكوني ومطلق. وبهذا يدير أفلاطون الظهر إلى الواقعية البرجماتية وإلى كل نزعة محافظة تحن إلى ماضي القوانين. وبينما أرسطو يؤكد على هاجس مصلحة الحكم، فإن أفلاطون يؤكد على هاجس الخير.
ب ـ يؤكد أفلاطون ـ مخالفاً بروتاغوراس ـ أنه ليس الإنسان معيار كل شيء ومقياسه، وإنما الألوهية هي من يستحق أن يكون المعيار: "بالنسبة إلينا؛ الألوهية هي التي ينبغي أن تكون مقياس كل شيء شيء، في مستوى أعلى وأعلى بكثير مما يدعيه بعضهم من أن الإنسان هو المقياس" (محاورة النواميس، الفقرة: 716c). ههنا تصير القوانين ترتبط لا بفكرة "الخير" وحدها، وإنما أيضا بفكرة "الآلهة" الذين يُوَظفون هنا بوصفهم "الملهمين" لها و"الضامنين" في الوقت نفسه. وبهذا تحصل القوانين من جديد على تسويغ مزدوج. ها هو ذا من بدا أنه حمل في كتابه "السياسي" الإدانة الصارمة للقوانين، يظهر في النهاية أنه أحد من دفع إلى أبعد مدى بمزايا القوانين، حتى كاد يؤلهها: "إن القوانين الأفلاطونية لهي مما عرفته بلاد الإغريق، أقرب شيء إلى القانون الموحى"(43). ففي كتاب "النواميس" يظهر إلى أي حد يفرض احترام القوانين نفسه بوصفه فضيلة عظمى ومفتاحاً للتوازن السياسي. في الكتاب الرابع من هذه المحاورة يتم طرح التساؤلات التالية:كيف نعين حكام المدينة؟ وما هي المعايير؟ وما هي الفضائل الحاسمة؟ ويأتي الرد واحدا: طاعة القوانين. ومَن مِن شأنه أن يحمل في ذاته هذه الكفاءة يدعى إلى كل الوظائف السياسيةأو الدينية: "وإذ نقول هذا، فإن ذلك بنية ألا نولي مهام المدينة لا إلى الثراء ولا إلى أي امتياز من هذا القبيل، شأن قامة الشخص أو مولده؛ لكن من شأن من يطيع -على نحو أفضل- القوانين القائمة ويفلح في ذلك بالمدينة، هذا هو الذي ينبغي أيضاً أن نوكل إليه خدمة الآلهة، أولاً بأول، وهكذا على التناسب توزع بقية المناصب" (النواميس، الفقرة: 715c ).
وعادة ما يسمي أفلاطون ـ ومن بعده أرسطو ـ هؤلاء الحكام باسم "حفظة الناموس"، بل أكثر من هذا "سدنة الناموس": "لئن أنا كنت قد سميت أولئك الذين نسميهم اليوم حكاما باسم "سدنة الناموس"، فما كان مني ذاك حبا في استحداث الاصطلاحات، ولكن في رأيي لأن هذا الأمر يتعلق أكثر من غيره بخلاص المدينة أو بوارها. فحيثما في مدينة ما يكون الناموس مستَتبَعاً وبلا قوة، فإن ذلك مؤذن ببوارها الوشيك؛ لكن حيث يسود القادة، ويكون هؤلاء القادة عبيد النواميس، فإني أرى ثمة الخلاص حاصلاً، ومعه كل الخيراتالتي تمنحها الأرباب للمدن".
وهكذا، مع أفلاطون وبعد قرن من النقاش الطويل حول القانون شغل النفوس، وكشف عن نسبيته، وعن نفعيته العملية، وعن دلالته السياسية، وعن بعده الديني، وعن تأثيره وعن مزاياه، ها نحن أولاء من جديد أمام الثقة البدئية الأصلية الإغريقية في سيادة القانون. لكن الفارق بين ثقة البدء وثقة الختم أن الأولى كانت ساذجة وعفوية، بينما هذه فلسفية ومؤَسسة ومسوَّغة في قانون أنشئ فلسفياً.وفضلاً عن هذا، بينما كانت ثقة الماضي في القانون ثقة في حال قائم، ها هي ذي ثقة اليوم في القانون ثقة في مشرع مقبِل.
6- وأرسطو: العدل والقانون
لطالما نزع أرسطو ـ حتى على عهد التلمذة إلى أفلاطون ـ إلى تفضيل فحص "الواقع" ـ بكل تعقيداته ـعلى تأمل "المثال" ـ في وحدته وبساطته. وهو يرفض أن يعدَّ ما سماه أفلاطون "علم الحكم" علما واحدا يمكن تطبيقه ـ من غير تمييز ـ على سلوكات الدول والأسر وسائر المجتمعات البشرية. وقد لاحظ ـ بالضد من كل هذا ـ أن ثمة ألواناً من الجماعات البشرية المتباينة، وكل واحدة منها تتطلب فن حكم خاصاً بها. لقد اعتقد أفلاطون أنه اكتشف العدل في دولة مثالية أنشأها من عنده، ويبدو أن "واقعية أرسطو الصلبة" قد صدمت لهذا التصور المثالي. إن الاعتقاد بأن العدل لا يوجد إلا في دولة ينشئها الذهن من عندياته أمرٌ يصعب تطبيقه في الواقع وتنزيله عليه، وهو يساوي إنكار وجود هذه الدولة، بله الارتياب من أمر إمكان أن تتحقق في يوم من الأيام. إذ قد تكون ثمة-بلا مرية- دول عادلة لا تطابق المدينة الأفلاطونية، وحتى ولو كانت تلك لا تشكل بالضرورة أنموذج أو طراز الدولة العادلة بإطلاق، فإنه يمكن بدءا منها أن نتصور تنويعات عليها تكون أعدل وأكمل. فإذن، ردا على "التوحيدية المثالية"، الباحثة عن العدالة في دولة مثالية واحدة واعتماد علم واحد هو ما يوافق كل ماسك لزمام السلطة، وجد أرسطو نفسه مدفوعا ـ بحكم واقعيته ـ إلى استبدالها بتعددية أكثر واقعية وأكثر قابلية للتكيف مع التعدد المشاهد في المجتمعات البشرية. فقد كان الرجل شديد الوعي بواقعة التعدد ذاكراً لها لا ناكراً، يرى في التوحيد استكراها. وصنف أنواعا من الحكم تبعا لأنواع الجماعات البشرية، ومن ثم عدّ العدل أمراً مختلفا بين هذه الأنماط: بين دولة ملكية وأخرى ديمقراطية وثالثة أرستقراطية ورابعة أوليغارشية. في دولة أفلاطون المثالية والعادلة، كل طبقة سوف تمارس، بأفضل ما يمكن، مهمتها الخاصة. وطبيعة هذه الوظائف سوف تحدد بحاجيات الكل وبالمؤهلات الطبيعية لأعضاء كل طبقة. هذا بينما في الأفق التعددي الأرسطي، تتغير كفاءات أعضاء كل مجتمع، وبالتبع الوظائف التي عليهم شغلها، حسب طبيعة البشر الذين يشكلون هذا المجتمع. وبهذا يتخذ العدل لوينات متباينة بحسب أحوال الجماعات. ونظراً لأنه في نهاية المطاف ممارسة السلطة والخضوع إليها هو ما يحدد عدل جماعة، ولأن توزيع السلط والواجبات-لكي يكون سليما- يجب أن يراعي مواهب الزعماء المحتملين وحاجات المحكومين، فإن هذا الضرب من توزيع السلط سوف يكون عادلا في هذه الحالة، كما أن نوعا آخر سوف يوصى به في حالة أخرى. ثمة مثلا عدل ملكي وعدل أرستقراطي يختلف عن عدل ديمقراطي أو سياسي. فبحسب تعدد أنواع الجماعات يكون تعدد أنواع العدل.
وهكذا، فإنه في العلاقات الاجتماعية يتخذ العدل ثلاثة أشكال متباينة: المساواة في الحرية؛ حيث يجتمع الناس ويحيون جماعيا بغاية بلوغ الاكتفاء بالذات، ويتمتعون بالحرية وبالمساواة المطلقة أو النسبية، حيث المواطنون الأحرار يمارسون السلطة كل بدوره. وفي الأسرة يمارس عدل الآباء اتجاه الأبناء. وفي المجتمع يمارس عدل السيد اتجاه عبده. ويحقق العدل بين أعضاء مدينة حين يحدث تناسب بين المساواة الطبيعية والمساواة في الحق: مساواة مطلقة أو حسابية. وفي الحالات الأخرى حيث ثمة عدم مساواة بالطبع بين الحاكمين والمحكومين، يتحقق العدل من تناسب حقوق مع علو مرتبة طبيعي، فالعدل لا يكون هنا حسابياً وإنما تناسبي. وأخيرا، إذا كان توزيع الحقوق يتعارض مع ما يتطلبه أعضاء الجماعة، فإنه لن يكون ثمة عدل إطلاقا، وسنكون أمام طغيان هو استعباد لمواطنين أحرار ومتساوين بالطبع.
بناء عليه، يميز أرسطو في المدينة بين مَن مِن شأنه أن يخضع إلى القانون ـ المواطنون الأحرار ـ ومَنْ مِن شأنه ألا يخضع إلى القانون وإنما إلى رب البيت :العبد والمرأة ـ ومهما يكن من أمر، فإنه لا بد لرب البيت نفسه من أن يخضع للتربية وللقانون. وهو يرى أن الساكنة الحرة الذكورية تقع تحت سلطان القانون وقوعا مباشرا. ويميز في الأحرار الذكور بين الأشراف والعوام. فأما العوام ـ وهم أهل الصنائع ـ فإن لا فضيلة لهم اللهم إلا فضيلة ممارستهم لصنائعهم. وهم من معدمي التربية، بما يشكل تهديدا للمدينة وللنظام العام. ومن هنا، فإن على القانون أن يتدخل، وأمام هؤلاء لا يمكن للقانون إلا أن يمارس وظيفة قسرية قهرية، ما دامت العوام تحيا حياة الأهواء ولا تقع تحت طائلة العقل، فللقانون إذن أن يستعمل القوة لكي يفرض احترامه. وبهذا يبين أن موجه العامة إنما هو الخوف من العقاب (الأخلاق إلى نيقوماخوس، الفقرة: X9, 1179b11). والقانون هنا هو القانون المكتوب الآمر المانع. وهو ما يسمح للعوام بالعيش المشترك في المدينة، من حيث إنهم موجودون أولا، ومن حيث إنهم يعدمون الفضيلة الأخلاقية والسياسية ثانيا. ويكتفي القانون هنا بمنع المظالم المتبادلة، ويسمح بإجراء التبادلات الضرورية (أرسطو: السياسيات III، الفقرة:9, 1980,b.7-10) . وهو يضمن وجود المجتمع؛ أي التعايش بين الأفراد على أرض واحدة من دون أن يسمح بَعْدُ بتشكيل جماعة سياسية. وبمعنى ما من المعاني: الناس الذين لا يحترمون القانون إلا تحت طائل العقوبة يبقون غرباء بعضهم عنبعض، تربطهم فحسب مواضعات، والقانون يسمح لهم بالعيش عيشاً اجتماعياً من غير أن يكونوا قادرين على وجود أخلاقي وسياسي. ودور القانون هنا هو منع العوام من اقتراف ظلم شرعي. أما الأشراف، فإنه لا يتم في حالهم تصور القانون كما لو كان قهرا خارجيا، وإنما بوصفه حثا على القيام بأعمال عمومية صالحة: هنا تصير المدينة جماعية "أخلاقية". وما كانت المدينة-بحسب أرسطو- مجرد اجتماع أفراد حيث يتعايشون، وإنما هي جماعة يشارك فيها مواطنون بغاية العيش الجماعي السعيد. وأساس هذه المدينة التربية المشتركة.
وثمة جانب مباينة آخر لأرسطو عن شيخه: فبالرغم من أنه لا يتخلى عن البحث عن دولة أفضل من الدول التي يعايشها، إلا أن الطراز الذي يقترحه لا صلة تجمعه بطراز دولة أفلاطون المثالية. وهو يعتقد أن الدولة الأفضل هي دولة عدد أقل، مشكَّلٍ من الناس الفضلاء، الذين يكونون فيها مواطنين في خدمتهم عمال غير مواطنين، وإذ يكونون متساوين في الفضيلة، فإنهم من حقهم أجمعين ممارسة السلطة. والحل هو أن يتولوا المهام الأهم بالتناوب (السياسيات، الفقرة: H, 9-10-14). مما يتحقق عنه ضرب من العدل قائم على المساواة بين المواطنين: لمواطنين متساوين في عدالة جيدة حقوق وسلطات متساوية. هنا يلتقي العدل مع المساواة. أما أشكال العدل الأخرى فليست تستحق اسمها إلا بالمماثلة.
والحق أنه كان العدل موضوع استقصاء رئيس عند أفلاطون، ولم يفقد مكانته عند أرسطو؛ لأنه يعد عنده ـ في محاورته الضائعة والمعاد ترميمها جزئيا ـ أساس وجود كل مجتمع. العدل عند أرسطو ـ ومنذ محاورته الأولى المفقودة، والتي حملت العنوان نفسه "في العدل" ـ شرط ضروري للحياة المشتركة. ونحن نجد في هذه المحاورة محاوراً يمدح العدل الذي يتصوره على أنه الخضوع التام للقانون. ويظهر كيف أن هذه الفضيلة تتضمن في جوفها كل الفضائل الأخرى. ويمدح الطابع الإيثاري الغيري لهذه الفضيلة، ويشدد على أن الجماعة لا يمكن أن تكون سعيدة ومزدهرة وموحدة اللهم إلا بممارسة العدل. وفي هذه المحاورة أيضا لا زالت آثار أفلاطون بدية: في الفرد كما في الدولة يتمثل العدل في توازن داخلي، في توزيع متعادل للحقوق وللمسؤوليات، في علاقة تبعية بين الأجزاء متطابقة بمقتضى الطبيعة. إذ يعيد أرسطو كلام أفلاطون عن أن العدل يسود في جماعة عندما تقوم علاقات مضبوطة بين أجزاء الكل. وهذا تعريف ينطبق على الإنسان بوصفه مُزْجَة من الأجزاء يمكن أن يتصرف بعضها البعض بشتى ضروب التصرف، كما ينطبق على المدينة أيضا. وهي آثار تبقى بدية حتى في كتابه المتأخر الأخلاق إلى نيقوماخوس.ومن ثمة كان "دين أرسطو نحو أفلاطون لا يمكن إنكاره بأي وجه"(44) والشاهد على ذلك- فضلا عن المماثلة بين بنية الفرد وبنية الدولة المشار إليها سابقا-أن كليهما عرض التصور العامي للعدل ونقضه، وكليهما رد على التصور السفسطائي وفنده.
يطرح أرسطو مسألة "العدل" ـ في كتابه المفقود "محاورة في العدل" ـ من وجهة نظر سياسية ـ العدل السياسي ـ لكنه لا ينسى العدل في الفرد. فهو يناقش أفكار أريستيبوس ــ الذي يجعل من المتعة الفضيلة الأولى، ويرى أنه لو كانت المتعة هي الخير الأسمى، فإن فضيلة العدل سوف تختفي، ومع اختفائها تختفي كل الفضائل الأخرى. فالعدل الفردي أو الخاص فضيلة أسمى، وفي غيابه لا يمكن أن تقوم أنواع الفضيلة الأخرى. العدل الفردي هنا ـ أو العدل في الفرد ـ يقوم على طراز حاكم/محكوم بين العقل والشهوة، والفضائل الأخرى شأن الاعتدال مثلا -تقوم على هذه العلاقة نفسها. فإذا نحن أطلقنا العنان للشهوات- بجعل المتعة أو اللذة الغاية الأسمى، فإن العلاقات بين أجزاء النفس سوف تضطرب، ويتوقف العدل، ومعه بقية الفضائل، عن أن يكون ممكنا.
وقد كان كتب الخطيب الروماني لاكتانتيوس (250-325) ـ الملقب شيشرون المسيحي ـ في رسائله: "إن معظم الفلاسفة-ولا سيما منهم أفلاطون وأرسطو- تحدثوا عن العدل الحديث المستفيض؛ فقد دافعوا عن هذه الفضيلة وأشبعوها مدائح لم يسبق إليها مثيل، قائلين بأنها إيفاء كل ذي حق حقه، وأنها هي من تقيم في كل الأشياء المساواة". والحال أن أول هذين التعريفين للعدل يطابق تصور أفلاطون ـ في محاورة "الجمهورية" ـ حيث العدل هو الفضيلة التي بفضل منها كل فئة من فئات المجتمع -كما كل جزء من أجزاء النفس- يؤدي-على الوجه الأكمل- وظيفته التي أوكلت إليه، من غير إن يتطاول على الوظائف التي أسندت إلى الأجزاء الأخرى (الجمهورية، الكتاب الثاني). وفي ثاني هذه المدائح التي أغدقت على فضيلة العدل تناسب مع تصور أرسطو للعدل، من حيث أن "العدل السياسي" يقوم على المساواة بين أعضاء الجماعة، والذي كان قد افتتح فيه أرسطو القول في محاورته المفقودة عن العدل، ثم طوره في كتاب السياسة وفي مختلف أخلاقياته (كتاب الأخلاق الكبير، الأخلاق إلى أوديموس، الأخلاق إلى نيقوماخوس).
في كتابالأخلاق إلى نيقوماخوس يعالج أرسطو موضوع "العدل". وطبقاً لقصده العام، يسعى إلى اكتشاف ما هي الأفعال المتعلقة بهذه الفضيلة، وما نوع الوسطية ؟ وبين أي طرفين قصيين تقع؟ وحسب المذهب المعروض في كتاب (ب) والمطبق بعد ذلك على الفضائل الخاصة، فإن العدل-شأنه في ذلك شـأن بقية الفضائل الأخلاقية- حال معتاد يحملنا على اختيار تشاوري لوسط عدل، سواء في أحوالنا الوجدانية أم في أفعالنا العملية التي هدفها تحقيق أوضاع عادلة. ونحن نقتدر على ذلك، ونحققه بالفعل، ولنا إرادة فعل ذلك. وأرسطو ينظر أولا في الفعل نفسه ـ فعل العدل: ما الفعل العادل؟ وثانيا في الفاعلـ فاعل العدل- من هو الفاعل العادل؟ وإذ يفحص المسألة الأولى، يقف عند تداول لفظ "عادل" عند الإغريق. ويجد أن الفعل العادل ذو تعدد في المعاني: أولا أن يكون المرء عادلا معناه أن يخضع إلى القانون، وألا يكون عادلا ألا يخضع إليه. ثانيا: يتضمن مفهوم "العادل" دلالة المساواة، بينما مفهوم غير العادل يتضمن دلالة عدم المساواة. ومن هنا جاء ارتباط العدل- من جهة- بالشرع : الفعل العادل فعل شرعي [=قانوني]؛ أي يستجيب لمطلب القانون ـ وتعلقه- من جهة أخرى- بالمساواة: الفعل العادل فعل تسوية.
-
العدل بحسبانه طاعة للقوانين وفضيلة تامة:
يبدو العدل -من حيث هو مراعاة القوانين- فضيلة تامة، هي عبارة عن جماع للفضائل الأخرى كلها؛ ذلك أن العدل يتطلب سائر الفضائل من شجاعة واعتدال وروية ... وبهذا المعنى يحتوي العدل كل الفضائل فيستغرقها بأكملها. فعند أرسطو ـ بل وعند الكثير من مفكري الإغريق ـ ما كان العدل فضيلة بين الفضائل، بل هو الفضيلة بامتياز وبلا مدافعة. هو الفضيلة التي بفقدانها تفقد الفضائل الأخرى. فإذن، تدور كل الفضائل الأخرى على فضيلة العدل وجودا وعدما، إيجابا وسلبا: إن وجدت وجدت وإن عدمت عدمت. ثم إنه لئن كانت الفضائل الأخرى فعلا لازما-بلغة أهل النحو- فإن فضيلة العدالة متعدية، تتعدى إلى الغير، حتى إنها تقدم مصلحة الغير على مصلحة النفس. وقد اعترض كارنيادس هنا بالقول: إنه لمن جنون المرء إيثاره مصلحة الغير على مصلحة الذات. وقال على وجه الاعتراض: "يقضي العدل بألا نقتل إنسانا، وبألا نعتدي على ملك الغير. لكن، لنر ما الذي سيفعل العادل في حال غرق سفينة، إذا كان إنسان آخر ضعيف القوة قد تعلق بخشبة،ألن يسارع إلى هذه الخشبة كي يتعلق بها، وينجو بنفسه بفضل هذا السند، لا سيما إذا كان المرء في لجاج البحر ولا يوجد شاهد على ما يفعل؟ لئن كان يدرك حق الإدراك مصلحته، فإنه سوف يتصرف-لا محالة- على هذا النحو من التصرف، لأنه سوف يهلك إن لم يفعل. ولئن كان-بالعكس من هذا- يفضل أن يهلك على أن يرفع يده على غيره، فإنه سوف يكون عادلا، لكنه مجنون؛ لأنه لا يملك الاحترام نفسه اتجاه نفسه الذي له اتجاه حياة الغير".
وبعد أن أظهر أرسطو الطابع الغيري للعدل ـ في محاورته في العدل -عاد في كتاب- الأخلاق إلى نيقوماخوس ـ ليحدد العدل من حيث هو طاعة القانون التي ذكر أنها مفيدة، الإفادة كلها- إلى الجماعة السياسية برمتها، والتي تسهم في تحقيق سعادة هذه الجماعة. وقد اعترض كارنيادس مرة أخرى على هذا التحديد بالقول: إن في بحث جماعة سياسية عن سعادتها بالضرورة ظلما لجماعة سياسية أخرى، ودوساً على المصالح الحيوية لشعوب أخرى، وهنا تنشأ مفارقة: يمسي المرء ظالما بقدر ما يسعى إلى أن يكون عادلا.
لكن العدل الذي يريد أرسطو الوقوف عنده بخاصة ما كان هو ما يستغرق الفضائل كلها ـ ليس الفضيلة المستوعِبةأو الشاملة ـ وإنما ما يهمه بالدرجة الأولى فضيلة بعينها مخصوصة: العدل بوصفه حدا وسطا ـ الوسط العدل ـ كما أن سائر الفضائل وسط [عدل] بين رذيلتين.
-
العدل والمساواة:
تقدم بنا أن العدل الذي سعى أرسطو إلى استقصائه ما كان هذه الفضيلة المستوعبة لكل الفضائل، وإنما هو فضيلة بعينها شأنها شأن سائر الفضائل. وقد بدأ أرسطو ببيان أن هذه الفضيلة موجودة بالفعل: فنحن-كما يقول- نَسِمُ تصرفات معينة بأنها "غير عادلة" حين لا يقودها سوى طلب الربح للنفس، وسعي المرء إلى الحصول على أكثر مما يستحقه. لكن ما "الأمر العادل"؟ لا يتعلق الأمر بفضيلة العدالة، وإنما بعلاقات موضوعية: وضع معين، حال بعينه، توزيع ما ـ يمكن أن توصف بأنها "عادلة". لا يتعلق الأمر إذن بفضيلة "العدل" في "ذات" العادل أو في الإنسان العادل، وإنما بوضع ما "عادل" وحال ما "عادل" وتوزيع ما "عادل".
وهذا "العدل الموضوعي" يتضمن نوعين: الأول يتمثل في توزيع التشريفات والمال وخيرات أخرى موزعة بين أعضاء الجماعة السياسية. وتلك هي "العدالة التوزيعية"؛ أي كون الأشياء موزعة على نحو عادل. ولا يدور الأمر هنا على فضيلةتنسب إلى الفرد، وإنما على صفة تُخلع على توزيعات. والثاني مرتبط بتصحيح وتقويم المبادلات، ونظراً لأن المبادلات تكون طورا عن استرضاء ـ أي برضا من الطرفين ـ على نحو ما يحدث في عمليات الشراء والبيع والكراء مثلا، وتكون طورا عن استكراه؛ أي من غير رضا طرف من طرفي التبادل، فتكون إما خداعا أو غصبا، فإن العدل يكون بحسب كل حالة.
والعدل في التوزيعات وسط، وهو وسط يتمثل في مساواة تناسبية أو هندسية. فنحن نجد العدل متحققا في مجتمعات سياسية، حيث الامتيازات الممنوحة إلى كل فرد تتناسب مع استحقاقاته المتحققة أو المفترضة.
وفي الشكل الثاني يفحص أرسطو أولا حالات "تبادل" تكون غير طوعية: هب –مثلا- أن "عمراً" غصب -خداعا أو استكراها- "خيرا ما" من "زيد"، شأن ماله أو شهرته أو صحته أو حياته، فإن العدالة سوف "تُقَوِّم" أو "تُصحح" حين يفرض القاضي على "عمرو" غرامة أو عقوبة جزائية تعادل ـ تساوي ـ الفائدة التي جناها "عمرو" من الإضرار بمصلحة "زيد". فالعدل هنا وسط بين ضرر ونفع، وهو يتمثل في مساواة خالصة وبسيطة؛ أي حسابية أو أرثميطيقية.
على أن الوضع يكون مختلفاً حين يتعلق الأمر بمبادلات طوعية؛ ههنا ضرب من التبادل ـ المعاملة بالمثل ـ هو الذي يحددسمة العدل: إذا ادعى "عمرو" لزيد "خدمة" أو أكسبه "خيرا" استهلاكيا، فإن من العدل أن يبادله الخدمة أو المكسبة، ليس الخدمة عينها أو الكسب نفسه، ولكن خدمة أخرى أو كسبا آخر يمثل بالنسبة إلى "زيد" نظير أو عديل أو مثيل ما شكلته الخدمة أو المكسبة الأخرى إلى "عمرو". ويكون النقد هنا معيارا مشتركا لتقويم الخيرات المتبادلة، وذلك هو التبادل التناسبي.
وبعد دراسة أرسطو أمر "العدل الموضوعي" هذا، يشير إلى ما هي فضيلة العدل المطابقة؛ ذلك أن "الأمر العادل الموضوعي" وسط بين إفراط وتفريط. وفعل التصرف تصرفا عادلا وسط بين أن يكسب المرء أكثر مما يستحق ـ فيقترف الظلم ـ أو يحرم مما يستحق ـ فيكون ضحية الظلم.
وما هي السمات التي ينبغي أن تتوفر في الفعل العادل أو في الفعل الظال؛م كي نستنتج أن الأمر يتعلق بعدل للفاعل أو بظلم له؟ الجواب هو: الفعل القصدي الدال على الاستعدادات الأخلاقية لصاحبه؛ فالفاعل يتصرف بعدل أو بظلم عندما يحقق -بمحض إرادته- العدل أو اللاعدل الموضوعيين، وهنا إما يوصف الإنسان بأنه "عادل" وتكون أفعاله تصدر عن فضيلة العدل عندما يكون فعله الإرادي قد صدر عن اختيار مقصود.
غير أننا لئن نحن نظرنا من أوقع الفعل ـ الفاعل ـ فلا مشكلة هنا، لكن إذا ما نحن نظرنا إلى من وقع عليه الفعل ـ المنفعل [= الإنسان الذي يجد نفسه ضحية وضع غير عادل] ـ فثمة مشكلة. ويعالج أرسطو أولا الحالة التي يكون فيها شخص ما قد خضع إلى معاملة تضر به. هل يحدث أنه يمسي بمحض إرادة منه ضحية ظلم؟ أم هل يكون المرء بالضرورة ضحية ظلم عندما يتلقى معاملة غير عادلة؟ وجواب أرسطو: أن الإنسان يكون ضحية ظلم ضد رغبته، لكن يمكن لإنسان أحيانا أن يقع عليه ضرر أو أن يجد نفسه في وضع غير عادل موضوعيا بموافقته وبرضاه. كما ينظر في حالة شخص يجد نفسه في وضع ظالم من الناحية الموضوعية؛ لكنه يستفيد منه، كأن يتلقى امتيازات أكثر مما يستحق، أو يتحمل نفقات أو خسائر أكثر مما يتطلبه وضع توزيع أعدل. فمن في هذه الحالة يقترف الظلم يا ترى؟ أهو فاعل التوزيع غير العادل أم المستفيد منه؟ وجواب أرسطو: هو فاعل التوزيع منذ اللحظة التي يتصرف فيه إراديا عن سبق علم، ثم إنه قد يحدث عادة أن يستفيد من التوزيع غير العادل الذي يقوم به لصالح الغير. ورغم أن أرسطو لا يصرح بذلك، فإنه من الواضح-تبعا للمبادئ التي يقول بها- أن المنفعلـ المستفيد من توزيع غير عادل انفعالا لا فعلا ـسوف يكون هو نفسه ظالما إذا ما قبل عن قصد وعن علم الامتيازات الظالمة، ولا سيما إن هو تآمر تواطؤا مع ذاك الذي يوزع الامتيازات غير العادلة.
ومشكلة ثالثة وهي: كيف نعتمد الحالات التي يُحدث فيها الإنسان الظلم على نفسه برضاه؟ أم كيف نعتمد الإنسان المنصف الذي يهب إلى نفسه أقل مما يستحق، ويخص بالفضل غيره، أتراه يقترف الظلم في حق نفسه؟ سوف يوضح أرسطو أن الإنصاف بدلاً من أن يكون ضرباً من الظلم- هو شكل أعلى من العدل، وذاك هو الفرق عند مفكري الأخلاق من المسلمين بين "العدل" و"الفضل"، كما نجده مثلا في كتابات الراغب الإصفهاني. ومن ثم يرى أرسطو أنه من المستحيل أن يقترف الإنسان الظلم في حق نفسه، لأنه لا يمكن للإنسان برضاه أن يروح ضحية ظلم. وإنه لفضل منه لا ظلم لنفسه.
بالجملة، فضيلة العدل "وسط" [بين إفراط وتفريط]، يسعى إلى تحقيق وسط [= العدل الموضوعي]. وهو يقع في الطريق الوسط بين طريقين كلاهما مذموم: ممارسة الظلم على الغير وسقوط المرء ضحية ظلم. فإن الإنسان الذي يحرص على العثور على السعادة إنما يقف في طريق وسط بين هذين الطرفين اللذيْن يضران به. لكن وحدها ممارسة الظلم رذيلة مذمومة، والخضوع للظلم هو بكل تأكيد ضار بالإنسان؛ لكنه لا يشكل بأي حال رذيلة أخلاقية. لكن نظراً لأن امتلاك بعض الخيرات الخارجية شرط لا يستهان به لتحصيل السعادة، فإن الإنسان الراغب في تحقيق سعادته سوف يتفادى ليس فقط اقتراف الظلم، وإنما أيضاً الوقوع ضحيته.
العدل السياسي
لا يهتم أرسطو -كما أسلفنا- بالعدل بإطلاق، وإنما يهتم بالأولى بالعدل بتقييد: العدل السياسي. وهو ينظر في التوزيع السليم ـ المتساوي أو المتناسب ـ للخيرات داخل الجماعة، وذلك بقطع النظر عن أنواع العدالة : توزيعية، تقويمية ...ـ كما لا ينظر فيما إذا كانت العدالة هنا فضيلة تامة -التي هي طاعة القوانين- أم فضيلة خاصة قائمة على المساواة، بل بالعكس تراه يقيم صلة بين العدالة-المساواة والقانون. ولن يكون القاضي هنا سوى حارس العدالة، وينبغي أن نولي للّوغوس ـ العقل المعبَّر عنه في قانون ـ السلطة العليا. والعدل-المساواة معتدٌّ به هنا بحسبانه الخير الأسمى. والمنتظر من فضيلة العدل هنا: الخير المشترك، السعادة، اكتفاء الجماعة بذاتها. ويستمد القانون قيمته هنا من العدل؛ وذلك من حيث إن القانون يقيم ضربا من المساواة بين أعضاء الجماعة ويصون هذه المساواة، وبينما فيما تقدم كان احترام القانون يؤدي إلى ممارسة فضيلة تامة، فإنه ههنا نجد أفضلية القانون مبررة تبريرا عقليا قائما على فكرة "العقل". بل يذهب أرسطو إلى حد القول: "أن نطلب من القانون أن يحكم معناه أن نطلب من الإله ومن العقل وحدهما أن يحكما" (أرسطو: السياسيات، الكتاب 16، الفقرة: 1287 a 29-30). ههنا تقديس للقانون، على أن "ألوهية القانون" لا تقوم على الإحالة إلى قانون إلهي: الإنسان يخترع القوانين لأن العناية الإلهية لا تسود في الشؤون البشرية(45). أكثر من هذا، العناية نفسها تقوم على قيمة "العقل": "القانون لوغوس [نظام] مصدره عناية ما وعقل" (أرسطو: الأخلاق إلى نيقوماخوس، الكتاب العاشر، الفقرة: 9, 1180a 21-22)، ثم إن القانون عقل من غير تشهي (السياسيات، الكتاب 16، الفقرة: 1287 a 32). ومن هنا للقانون فائدتان:
-
ما من إنسان إلا هو عقل ممزوج ببهيمة متوحشة، والتوحش الفطري في الإنسان هو توحش ملكة الشهوة؛ أي ملكة الطمع والحسد والجشع. وعلى الرغم من وجود الإنسان الفاضل بامتياز، فإن لا إنسان بمكنته أن يضمن وأن يطمئن الآخرين أنه لن يسيء أبدا استعمال سلطته، وألا تبقى ثمة في نفسه بقية خساسة. والأمر أولى أن ينطبق على الحاكم. ومن ثمة، فإنه السلطة المطلقة-من غير مانعمن قانون- تتضمن إغراءات الجنوح هذه ... ولا يقول أرسطو هنا بأن السلطة بطبيعتها مفسدة ـ كما لاحظ ذلك ليو-شتراوس ـ وإنما يقول بأن ممارسة السلطة محفوفة بالمخاطر.
-
من شأن الناس أن يقبلوا الخضوع عن طوع إلى قانون منه إلى إنسان؛ وذلك لأن القانون أمر غير شخصي؛من حيث إنه كائن ذهني أو عقلي إن ساغ التعبير، فإنه لا يؤدي إلى رد فعل شخصي. فليس القانون فحسب غير منحاز، وإنما يبدو كذلك إلى من يخضع إليه.
ما طبيعة العدل السياسي؟ يجيب أرسطو: "العدل سياسيا: من جهة طبيعي، ومن جهة أخرى اتفاقي" (الأخلاق إلى نيقوماخوس، الفقرة: V, 6, 1134a). ويعرف ما هو طبيعي على أنه ما يملك القوة عينها ولا يتعلق بالرأي، ويعرف ما هو اتفاقي على أنه على الضد.
لكن، إذا كان العدل فضيلة تامة مترتبة عن احترام القانون، فإن ههنا ينهض الاعتراض السفسطائي القديم [والذي أحياه كارنيادس ووجهه ضد أفلاطون وأرسطو]: فلأن القانون يتغير حسب الأزمنة والأمكنة، ولأنه -في نهاية المطاف- من وضع البشر، فإن الفضيلة المؤسسة على احترام القانون تصاب هي نفسها بهذه النسبية؛ ومن ثم ليس من المشروع أن نريد خلع طابع القيمة المثالية المطلقة عليه!
والذي كانه جواب أرسطو: تنبغي التفرقة بين "عدل طبيعي" له صلاحية كونية ومستقلة عن قرارات بني البشر، وثمة "عدل عرفي"ـ أو قُل: صُنعي، اصطلاحي، اتفاقي ـ يستمد قيمته من هذه القرارات، قواعده مواضعات ينهض بها بنو البشر، وليست تقوم على أساس طبيعي مطلق. فلا يهم-مثلا- أن نضحي بعنزة بدل خروفين، اللهم إلا حين يقرر المشرع ذلك. ههنا يدخل أرسطو ضمن "الحق الطبيعي" لا فقط المبادئ العامة الخالدة غير المدونة التي يُفترض أن على أساسها ينبغي أن يقام "الحق الوضعي"، ولكن أيضا كل ما في الحق الطبيعي ذو قيمة مطلقة وكونية. هذا بينما "العدل الاتفاقي" يشمل مجالا أقل مدى هو مجال "الحق الوضعي". وهو ليس مشكلا من مجمل القوانين الوضعية؛ وإنما فقط من تلك الغريبة عن الحق الطبيعي أو تعد تطبيقات خاصة لمبادئ عامة.
بناء عليه، يذكرنا أرسطو بالاعتراض الممكن: لا حق سوى الحق الشرعي أو الاصطلاحي؛ ذلك أن من شأن حق الطبيعة ـ إن وُجد ـ أن يكون أبديا وكونيا، لكن هاتين الصفتين لا توجدان في أي من الحقوق الموجودة، فتعدد القوانين في المكان وفي الزمان يثبت وجود حق وضعي غير طبيعي. يقول "فيلوس": "لو فرض أن الحق الطبيعي موجود، فإن العدل والظلم سوف يكونان هما هما لدى جميع بين البشر، تماما شأن الحار والبارد والمر والحلو" (من كتاب شيشرون في الجمهوريةIV, 8, 13(. وينقل أرسطو في الأخلاق إلى نيقوماخوس: "يعتقد البعض أن كل الحقوق اصطلاحية؛ لأن ما هو أبدي ويملك القوة في كل الأمكنة-كالنار- يحرق لدى الفرس كما لدينا، بينما ما يفتؤوا يلاحظون تنوع الحق" (الأخلاق إلى نيقوماخوس الفقرة: 134b24.27). وجواب أرسطو أن كون الشيء بالطبع لا يقتضي بالضرورة كونه أبديا، على الأقل في القسم من العالم الذي يسكنه بنو البشر، بينما الأمر على الضد في العالم الإلهي. فالأمر العَرَضي الزائل يوجد سواء في عالم الطبيعة أو في عالم الاتفاق. وهكذا، فإنه بالطبيعة تكون اليد اليمنى أكثر مهارة من اليد اليسرى، ولكن يمكن للإنسان بالدربة أن يمسي يستعمل يديه معا بالمهارة نفسها. وبالمماثلة، نستنتج أن ضربا من التنوع في الحق الطبيعي لا يمنع من وجوده، والأمر أشبه بمسألة المكاييل؛ ذلك أن مكاييل الحبوب ليست متساوية في كل الأمكنة؛ تكون أكبر حيث نشتري وتكون أصغر حيث نبيع، وكذلك بالمثل هي الحقوق التي ليست طبيعية وإنما بشرية لا تكون هي هي في كل مكان، ولا الدساتير هي عينها أيضا، لكن الدستور الأفضل-بالطلع- في كل الأحوال واحد. ذلك أن من شأن من يقيم مواضعة أن يسعى- سواء أقل ذلك أم كثر- إلى مصلحته، ومن مصلحة الباعة والشراة أن يستعملوا مكاييل متباينة. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الحق الوضعي، وفيما يتعلق بالدساتير أيضا: إن أولئك الذين يعتلون سدة الحكم يسعون إلى العناية بمصالحهم، لكن هذا لا يمنع من إمكان وجود مكيال جيد وعادل، ولا من وجود حق، ولا من إمكان وجود دستور جيد بالطبع. لكن ما سمة هذا المكيال، وهذا الحق، وهذا الدستور؟ لا يقول أرسطو ذلك صراحة، لكن من السهل تخمينه: المكيال الجيد ناتج عن توافق، عن "وسط عدل" بين مكاييل الطرفين: الباعة والشراة. والحق الطبيعي يستجيب إلى المثالنفسه؛ فهو لا يسعى إلى كسب الامتياز لشخص أو حرمانه من الامتياز. كما أن الدستور الأفضل ـ كما يصفه في كتاب السياسة ـ يضمن للمواطنين الحقوق والواجباتنفسها. ولئن كان أرسطو قد افترض ـ في محاورته حول العدالة ـ أسوة بشيخه أفلاطون دستورا مثاليا يصلح في كل مكان وزمان، فإنه ـ في كتاب السياسة ـ سوف يمسي أكثر واقعية؛ إذ سوف يقر بأن الشكل الأفضل للدستور ينبغي أن تتحكم فيه الظروف الملموسة، وأنه دستور من شأنه أنه يتغير بحسب الشعب الذي هو موجه إليه.
وإذ يقول السفسطائيون بأن القانون مواضعة بشرية تتغير بحسب العصور والبلدان، وإذا لم يكن العدلشيئا آخر سوى احترام القانون، فإنه سوف يتغير بالتبع ـ إذ ما يعد عدلا في بلد قد يعد جرما في بلد آخر ـ فإن أرسطو يجيب بأن التناقض ظاهري فحسب. ولئن هو حق أنه في كل تشريع ثمة سلسلة من الإجراءات الاصطلاحية المحضة والخاضعة إلى تغيرات عميقة في الزمان وفي المكان، فإنهيحق أيضا أنه إلى جانب ذلك ثمة حزمة استعدادات أخرى من الحق الطبيعي، والتي لا تخضع إلى أية مواضعات اتفاقية. وما يميز الحق الطبيعي هو أنه يسعى إلى احترام حقوق كل أعضاء الجماعة على نحو متساو، وضمان مصلحة الجميع، وإمداد الكل بوسائل تحصيل السعادة. فإنه من غير العدل بالطبع أن فريقا واحدا يزدهر وأن بقية الجماعة تعيش وقد ديس على مصالحها المشروعة. إن مطلب المساواة في المعاملة مطلب كل أعضاء الجماعة، ولن يتم تحقيقه إذا أريد تحقيق ادعاءات أنانية لأعضاء فرق. لا بد من البحث عن حل وسط بين طرفين كلاهما متطرف، وفي ذلك مساواة. والمساواة أنواع: خالصة بسيطة تتوافق مع ذوات متساوية بالطبيعة، ومساواة تناسبية تتوافق مع ذوات غير متساوية بالطبيعة.
وشأنه في ذلك شأن أفلاطون؛ يرى أرسطو ـ في الكتاب الرابع "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، الفقرة: (1137b) ـ أنه ليس بمكنة القوانين أن تتنبأ بكل الأحوال؛ إذ ثمة أحوال خاصة لا يمكن أن نضع لها قانونا يخصها، مما يلزم عنه إصدار مراسيم تطبيقية لعديد من الحالات التي لم تأخذها القوانين بعين النظر أو لم تتنبأ بإمكان حدوثها. ويستنتج أرسطو استنتاجا مثيرا بهذا الشأن: من الأفضل ألا نجمد على القوانين المسطورة جمودا أبديا، وذلك لأنه كما هو الشأن في كل الأمور المتعلقة بالتنظيم السياسي، من المستحيل تقنين كل شيء على وجه الدقة والصرامة، فالقواعد المدونة بالضرورة عامة، هذا بينما أفعال البشر تتعلق بحالات خاصة. لكن، لئن كان الرجل مع مبدأ تغيير القوانين، فإنه أيضا مع إعمال مبدأ الروية في هذا التغيير؛ وذلك لأنه كما يقول أرسطو: "من العيب المعيب أن نُعَوِّد الناس على إلغاء القوانين بخفة وطيش". وبالنظر إلى الثمن الذي ينبغي أن نؤديه لكي نعوّد الناس على احترام القوانين ـ قوة العادةـ وهي العادة التي لا ترسخ إلا عبر المدة المديدة، فإنه إذا نحن تقلبنا بين القوانين الراسخة والمستحدثة، من شأن ذلك أن يضعف سلطان القوانين في النفوس.
خاتمة
لم يتوقف النقاش حولالعدالة والقوانين بوفاة أرسطو، لا ولا باجتهادات تلامذته الذين كتبوا في الموضوعات كتابات، فهذا الحكيم الروماني شيشرون ـ في كتابه "عن الجمهورية" ـ ينقل حوارا بين متفلسفين حول استحالة الحكم من دون إقامة عدل. يقبل "فيلوس" الدفاع عن قضية الظلم من غير أن يتبناها ـ يلعب دور محامي الشيطان ـوسوف يستعيد حجج "كارنيادس" في محاضراته المشهورة بروما عام 156 م. لقد كان كارنيادس يوجه حجاجه ضد بطلي العدالة ـ أفلاطون وأرسطو ـ إن كانا هما المنافحين عن العدل، فإنه المنافح عن اللا عدل. ومن أهم حجج فيلوس ضد العدل: أن العدل لا يمكن أن يكون مطلباً من مطالب الحق الطبيعي، وذلك لأن الحق الطبيعي ما له من وجود؛ فلئن كان يوجد حقا، فكيف نفسر أن شعوبا مختلفة يمكن أن تكون لها تصورات دينية وأخلاقية متعارضة؟ لا توجد على الحقيقة سوى حقوق وضعية متباينة، وهي لا تقوم على قانون أخلاقي مزعوم، وإنما على مصالح من يمليها. والعدل الذي لطالما امتدحه الفلاسفة المدح، تلك الفضيلة المدعاة التي تتمثل في أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه، ما كان سوى مواضعة أراد بها الضعفاء حماية أنفسهم ضد الأقوياء. وإذا ما تحتم مراعاة هذه "الفضيلة" من لدن الدول والأفراد، فإننا سوف ننتهي إلى عواقب غير منتظرة، بله كارثية: الدولة العادلة بعدل أتم سوف تنتهي لا محالة إلى الإفلاس، والفرد العادل بأشد عدل يكون لن يتصرف تصرفاً يخالف تصرف الأحمق، وذلك لأن العدل هو إنكار المصالح الحيوية للفرد وللدولة! تذكرنا هذه الأفكار بأفكار كاليكلس، وهي لم تعدم من يرد عليها شأن الرواقيين الرومان الذين تحدثوا عن قوانين العقل المرقومة في العقل البشري، والتي مطالبها تتطابق مع الطبيعة، وتتجاوز كل الأمكنة وكل الأزمنة.
المراجع والمصادر:
(1)انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, traduction R. Genaille, Paris : Garnier Flammarion, 1965, tome 2, p. 186.
(2)انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 1, p. 148.
(3)انظر: Ibid, p. 149.
(4)انظر: Ibid, p. 125.
(5)انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 2, p. 12.
(6)انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 1, p. 200.
(7)انظر: Ibid, p. 200.
(8)انظر: Ibidem
(9)انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 1, p. 236-237.
- انظر: Ibid, p. 245.
- انظر: Ibidem.
- انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 1, p. 249.
- انظر: Ibid, p. 258.
- انظر: Ibid, p. 260.
- انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 2, p. 52 et 65.
- انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 1, p. 112.
- انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 2, p. 113.
- انظر: Jacqueline de Romilly, La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, Paris : Les belles lettres, 2001, p. 1.
- انظر: Jacqueline de Romilly, La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 25.
- انظر: Ibid, p. 7.
- انظر: Ibid, p. 2.
- انظر: Ibid, p. 4.
- انظر: Ibid, p. 10.
- انظر: Ibidem.
- انظر: Jacqueline de Romilly, La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 11.
- انظر: Ibid, p. 19.
- انظر: Ibid, p. 25.
- انظر: Ibid, p. 65.
- انظر: Ibid, p. 70.
- انظر: Ibid, p. 76.
- انظر: Antiphon cité par Jacqueline de Romilly, in La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 79.
- انظر: Antiphon cité par Jacqueline de Romilly, in La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 81.
- انظر: Jacqueline de Romilly, in La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 93.
- انظر: Jean-François Balaudé, Les théories de la justice dans l’antiquité, Paris : Nathan université, 1996, p. 69.
- انظر: Platon cité par Jacqueline de Romilly, in La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 190.
- انظر: Jacqueline de Romilly, La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 192.
- انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 1, p. 236.
- انظر: Idid, p. 128.
- انظر: Diogène Laërce, vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, op. cit., tome 2, p. 10.
- انظر: Ibid, p. 11.
- انظر: Solange Vergnière, Ethique et politique chez Aristote, Paris : Presses universitaires de France, 1995, p. 55.
- انظر: Ibid, p. 57.
- انظر: Jacqueline de Romilly, La loi dans la pensée grecque : des origines à Aristote, op. cit., p. 199.
- انظر: Paul Moraux, A la recherche de L’Aristote perdu : Le dialogue «Sur la justice», Louvain/Paris : Publications universitaires de Louvain, Editions Beatrice-Nauwelaerts, 1957, p. 141.
- انظر: Solange Vergnière, Ethique et politique chez Aristote, op. cit., p. 212.
[1] Solange Vergnière, Ethique et politique chez Aristote, Paris : Presses universitaires de France, 1995, p. 55.