محمَّد حلمي عبد الوهَّاب(*)
وضعه الأستاذ الإمام محمَّد عبده (ت 1905م) "مقدمة فقهية"في بداية تفسير المنار؛ ليوضِّح الطريقةَ المثلى في فهم القرآن أولا، ويُبيِّن منهجه الخاص في ذلك الموضوع ثانيا، ويتناول بالنقد جملة التفاسير التي سبقتهثالثا(1)، والتي حالت في رأيه دون فهم القرآن الكريم بعد أن "صلُحتْ أنفُس العرب بالقرآن؛ إذ كانوا يتلونه حقَّ تلاوته في صلواتهم المفروضة، وفي تهجُّدهم، وسائر أوقاتهم"(2)
و يقطع الإمامُ الطريقَأمام مُنتقديه بتوضيح-الفارق الجوهريَ بين ما يمكن تسميته بـ "علوم الوسائل" و "علوم الغايات" في فهم التفسير،وهو ما عبَّر عنه بالقول: "نعم، إنَّ أكثر ما ذُكِر من وسائل فهْم القرآن: فنونُ العربية لا بدَّ منها، واصطلاحاتُ الأصول وقواعده الخاصَّة بالقرآن ضروريةٌ أيضًا، كقواعد النّحو والمعاني، وكذلك معرفةُ الكون وسُنن اللَّه تعالى فيه. كلُّ ذلك يُعين على فهم القرآن. وأمَّا الرِّوايات المأثورة عن النَّبي ﷺ وأصحابه وعلماء التَّابعين في التَّفسير؛فمِنْها ما هو ضروريٌ أيضا ... وأكثرُ التفسير المأثور قد سرى إلى الرُّواة من زنادقة اليهود والفُرس ومسْلمة أهل الكتاب ... وكان الواجب جمع الرِّوايات المفيدة في كتب مُستقلة؛ كبعض كتب الحديث، وبيان قيمة أسانيدها، ثم يُذكَر في التَّفسير ما يصحُّمنها دون سند، كما يُذكَر الحديث في كتُب الفقه"(3)
وأول ما يمكن استنباطه من هذا النَّص هو:أنَّ"تفسير المنار" لا يدخل قطعاً ضمن الصّنف المتعارف عليه بـ "التَّفسير بالمأثور"؛ وإنَّما يتم إدراجه ضمن "التَّفاسير العقلية الاجتماعية"،التي تؤمن بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم، أو ضمن "المدرسة العقلية الحديثة" في التفسير(4). فمن جهة أولى، يُعرِّف صاحبُ التَّفسير "تفسير المنار" بأنَّه: "هو التَّفسير الوحيد الجامِع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي يُبيِّن حكم التَّشريع، وسُنَنَ اللَّه في الإنسان، وكون القرآن هداية للبشر في كلِّ زمان ومكان، ويُوازن بين هدايته وما عليه المسلمون في هذا العصر وقد أعرضوا عنها، وما كان عليه سلفهم المعتصمون بحبلها، مُراعى فيه السُّهولة في التعبير، مُجتَنبا مزْجَالكلام باصطلاحات العلوم والفنون، بحيث يفهمه العامَّة، ولا يستغني عنه الخاصَّة؛ وهذه هي الطَّريقة التي جرى عليها في دروسه في الأزهر حكيمُ الإسلام الأستاذ الإمام الشَّيخ محمَّد عبده، رضي اللّه عنه"(5)
وهذا الملمح المهم يشترك فيه مع الإمام محمَّد عبده ومحمَّد رشيد رضا مُفسِّر آخر، وإن كان مُتأخرًا زمنياً؛ ألا وهو: محمَّد الطَّاهر بن عاشور؛ إذ يؤكِّد في "التَّحرير والتَّنوير" أنَّ اللّه تعالى "أنزلالقرآنكتابًالصلاحأمرالنَّاسكافّة؛رحمةً لهم. فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعُمْرانيَّة.فالصَّلاحُ الفرديُّ يعتمد تهذيبَ النَّفس وتزكيتها ... وأمَّا الصَّلاح الجماعيُّ فيحصل أولا من الصَّلاح الفرديّ، ومن شيءٍ زائد على ذلك؛ وهو: ضبْطُ تصرُّف النَّاس بعضهم مع بعض على وجهٍ يعْصِمهم من مُزاحمة الشَّهوات، وهذا هو علم المعاملات، ويُعبَّر عنه عند الحكماء بالسِّياسة المدنية. وأمَّا الصَّلاح العمرانيُّ فهو أوسع من ذلك إذ هو حِفْظُنظامالعالَمالإسلاميّ،وضبطُتصرُّفالجماعاتوالأقاليم،ورَعْيُ المصالح الكليّة الإسلامية، وحفظُ المصلحة الجامعة عند مُعارضة المصلحة القاصرة لها،ويُسمَّىهذابعلمالعُمرانوعلمالاجتماع"(6).
ومن جهة أخرى، فإنَّ التَّفسير يعدُّ امتداداً لما كان عليه الشَّيخ الإمام محمَّد عبده، وأستاذه جمال الدِّين الأفغاني، لجهة المنهج في مجلة "العروة الوثقى"، وهو ما أشار إليه محمَّد رشيد رضا بالقول: "وأهمُّ ما انفرد به منهج العروة الوثقى في ذلك ثلاثة أمور: أحدها بيانُ سُنَن اللّه تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشريّ، وأسباب ترقِّي الأمم وتدليها، وقوّتها وضعْفها. ثانيها: بيانُ أنَّ الإسلام دينُ سيادة وسُلطان، وجمعَ بين سعادة الدُّنيا وسعادة الآخرة؛ ومُقتضى ذلك أنَّه دينٌ روحانيٌّ اجتماعيٌّ، ومدنيٌّ عسكريٌّ، وأنَّ القوة الحربية فيه لأجل المحافظة على الشَّريعة العادلة ... ثالثها: أنَّ المسلمين ليس لهم جنسيةٌ إلا دينهم، وأنَّهم إخوة لا يجوز أن يفرِّقهم نسبٌ ولا لغةٌ ولا حكومة".(7)
وكما لاحظ طه جابر العلوانيّ، فإنَّ "كلَّ تلك الجهود قد حَوَّمت بالأمَّة حول بعض شواطئ ذلك الكتاب المجيد المكنون، وقدَّمَت شيئًا من الفوائد، ولكنَّها قد قصرَتْ عن الإلمام بِمُطلق الكتاب؛ إذْ هي من تنِسبيَّة البشَر على ذلك المطلَق، وقيَّدتْهُ إلى مُدركاتِها الظَّرْفيَّة ومُحدَّداتها الزَّمانيَّة والمكانيَّة، وسُقوفها المعْرفيَّة، وقاسَتْه على الكتب التي سبقَتْه من بعض الوجوه، فأدَّى ذلك كلُّه إلى بروز تفسيراتٍ مُتضاربةٍ، وتأويلاتٍ مُتناقضةٍ، وفقهٍ مُختلفٍ، وكلامٍ مُعتسِّفٍ، وأصولٍ تَمازجتْ بالفروع، وتحوَّلت الوسائلُ اللُّغوية إلى مقاصد، بحيث صارَتْ تتحكَّم أحيانًا في لغة القرآن، وصارت تلك المعارفُ مقْصُودةً لِذَاتِها، أو مَرْجِعِيَّاتٍ بديلةٍ يُسْتَغْنَى بالرُّجوع إليها عن الرُّجوع إلى القرآن، إلاَّعلى سبيل الاستِشْهاد، واتُّخِذت السُّنن النَّبويَّة – بدورها - مُعَضِّداتٍ، وشواهد سانداتٍ لما سبَرَه السَّابرون، وأصَّلَه المُؤصِّلون لتلك المعارف والعلوم"(8)
وفيما يتعلق بمسألة النِّسبة؛ فإننا نجد أنفسنا إزاء مؤلِّفين ثلاثة يتوزعون على أجزاء التفسير الاثني عشر، وهم(9):
- الإمام محمَّد عبده الذي استجاب لطلب تلميذه محمَّد رشيد رضا المتعلِّق بقراءة التَّفسير في الأزهر الشَّريف "فاقتنع وبدأ بالدّرس بعد ثلاثة أشهر ونصف؛ أي في غرّة المحرم سنة 1317هـ وانتهى منه في مُنتصف المحرم سنة 1323هـ عند تفسيره قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}.[النساء: 125] فقرأ زهاء خمسة أجزاء في ست سنين؛ إذ توفِّي لثمان خلون من جمادى الأولى منها، رحمه اللّه تعالى وأثابه"(10).وبهذا يتوقَّف تفسير الإمام عند مُفْتتح الصَّفحة رقم 441 من الجزء الخامس تحت عنوان: "آخر ما فسَّره الأستاذ الإمام"؛ ليبدأ محمَّد رشيد رضا استكمال تفسير الآية بعبارة: "يقول محمَّد رشيد رضا؛ مُؤلِّف هذا التَّفسير"(11).
وقد اتّخذ الإمام محمَّد عبده لنفسه منْهجا يسير عليه في التَّفسير خالف به جماعة المفسِّرين، حيث أكَّد أنَّ فهم كتاب اللّه تعالى يكون من حيث هو دين يرشد النَّاس إلى ما فيه سعادتهم في الدَّارين، وأنَّ ما وراء ذلك من المباحث فهو تابِعٌ له، أو مجرد وسيلة لتحصيله. بمعنى أنَّ تفسير القرآن عنده يقع في قلب مشروعه التَّجديديِّ لفهم القرآن والدِّين من خلال التحرُّر من قيود التَّقليد، وإفساح المجال أمام العقل في التَّفسير. "فالأستاذ الإمام لم يجمد على ما كُتب عند المفسِّرين القُدَامى، ولم يلغ عقله أمام عقولهم، بل كان يُندِّد بمنْ يكتفي في التَّفسير بالنَّظر إلى أقوال المتقدِّمين، ... وكان حرًّا في تفكيره وفهْمِه للقرآن، وصريحا في نقده ونُصْحِه للتَّفسير والمفسِّرين، جريئا في ثورته على القديم، ودعوته إلى التحرُّر بما أحاط بالعقول من القيود وما أُوغلتْ فيه من الرُّكود والجمود"(12).
أمَّا طريقته التي مضى عليها فيه، فقد كان دأبه ألّا يرجعَ إلى كتاب من كتب التَّفسير قبل إلقاء دروسه حتَّى لا يتأثَّر بفهْم غيرِه من المفسِّرين، وإنْ كان يتوكَّأ أحيانا على تفسير الجلالين الذي هو أوجز التَّفاسير، فكان يقرأ عبارته ويتخيَّر منها ما يراه ملائما، ثم يتكلَّم في الآية أو الآيات المنزَّلة في معنى واحد بما فتح اللَّه عليه من هداية وعبرة(13)
- محمَّد رشيد رضا الذي تابع تفسير الإمام بدءا من الآيةرقم 125 من سورة النِّساء حتَّى الآية رقم 52 من سورة يوسُف:{ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}. وبهذا يشغل تفسيره بقيّة الجزء الخامس حتَّى نهاية الجزء الثاني عشر؛ أي أكثر من ثلاثة عشر جزءا من القرآن، والذي انتهى منه في العشر الأخير من المحرَّم سنة 1354هـ وكان البدء به في صفر سنة 1353هـ. كما فسَّر رشيد رضا أيضا بعض قصار السّور؛وهي: الكوثر، والكافرون، والإخلاص، والمعوذتيْن.
- الشَّيح محمَّد بهجة البيطار (1311- 1396هـ = 1894- 1976م) الذي أكمل تفسير سورة يوسُف وطبعها مُستقلَّة في جزء يحمل اسم السَّيد رشيد رضا، وقد شمل تفسير السُّورة كاملاً(14).
وبالعودة إلى مسألة حدود الاتفاق والاختلاف ما بين الإمام محمَّد عبده من جهة وتلميذه محمَّد رشيد رضا من جهة أخرى؛فإننا نلحظ تفاوتا في الحكم بذلك بين جموع الباحثين حيث يذهب محمَّد حسين الذّهبي إلى تقرير التَّطابق شبه التَّام بينهما إذ يقول عن التَّفسير: "وفيه تتجلَّى روح الأستاذ الإمام ممزوجة بروح تلميذه، فالمصادر هي المصادر، والهدف هو الهدف، والمنهج هو المنهج، والأفكار هي الأفكار، ولا فرق بين الرَّجلين إلَّا فيما هو قليلٌ نادر"(15). فيما يرى بعضهم الآخر أنَّ ثمة تفاوتا كبيرًا بينهما ؛حيث خالف رشيد رضا إمامه بعد وفاته، وهو ما عبَّر عنه رشيد رضا نفسه بالقول:
"هذا وإنَّني لما استقللتُ بالعمل بعد وفاته خالفتُ منهجه_ رحمه اللّه تعالى_ بالتوسُّع فيما يتعلَّق بالآية من السُّنَّة الصَّحيحة؛ سواء كان تفسيرا لها أو في حُكْمِها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السُّور المختلفة، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتدُّ حاجةُ المسلمين إلى تحقيقها بما يثبِّتهمْ بهداية دينِهم في هذا العصر، أو يُقوِّي حُجَّتهمْ على خصومِه من الكفَّار والمبتدعَةِ، أو يحلّ بعض المشكلات التي أعْيا حلُّها بما يَطْمَئِنُّ به القلبُ وتسْكُنُ إليه النَّفسُ"(16)
والواقع أنَّ رشيد رضا أكثر من الاستشهاد بالمأثور والاستدلال بالأحاديث النَّبوية، على خلاف ما كان يتَّبعه أستاذه(17).فضلا عن كثرة الاستطرادات التي تُشبه في كثير من الأحيان البحوثَ المستقلَّة، والعناية بالأمور اللغوية وتفصيلاتها على عكس ما كان يفعل الإمام، وغلبة الطَّابع الخطابيّ الوعْظيّ الإنشائيّ على لغة التَّفسير ومجلة المنار. ولا شكَّأنَّ ذلك التحول لم يكن الوحيد، ولا بد من قراءته في ضوء التحوُّلات الكبرى التي ألَمَّتْ برشيد رضا انتهاء بتبنّيه النَّسق السَّلفيِّ في صيغته الوهَّابية.
صحيحٌ أنَّبعضهم ينظر إلى محمَّد رشيد رضا بوصفه "يمثِّل آخر حلقات مدرسة السَّيد (جمال الدِّين الأفغاني) [1254ـ1315هـ/1838ـ1897م], والمرحلة الأخيرة لحركة الإصلاح الإسلاميّ, والفكر الإسلاميّ الحديث"(18)؛ لكنّبعضهم الآخر يرى أنّ مدرسة المنار تعدُّ بمثابة الجذور بالنِّسبة للأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة، وسببًا في "تعاظُم المدِّ السَّلفيّ واستمرار جدلية المواجهة مع الغرب في لحظتنا الراهنة ... [وأنَّها] مثَّلت قنطرة الانتقال بين الإصلاح الإسلاميّ التَّوفيقيّ السَّابق عليها وبين تيارات الإسلام السِّياسيّ الحركيّ اللاحق لها، التي كانت جماعة الإخوان المسلمين أنموذجها الأبرز"(19).
وفي الأحوال كلّها، فإنّه لن يكون في مقدورنا الإلمام بجميع المسائل التي وردت ضمن تضاعيف تفسير المنار، والتي تتعلَّق في الأساس بمسائل الشَّريعة والقانون والسُّنن الإلهية؛ وذلك بحكم إكراهات المساحة المتاحة هاهنا؛ وإنما سنقتصر على موضوع السنن الإلهية فقط؛ خاصَّة وأنها تكتسب أهمية وحضورا طاغيا في سياق النّقاشات الدّائرة حاليا على السَّاحة الفكرية الإسلامية بعد مرور نصف عقد من انتفاضات الربيع العربيّ وفشل الإسلاميين بُعيد وصولهم إلى السُّلطة في كلٍّ من: تونس ومصر بصفة خاصة.
وللأسف الشَّديد؛ فإنَّ العناية بالجانب المتعلِّق بجدل الشَّريعة والقانون في مدرسة المنار- مجلة وتفسيراً، يبدو غائباً تماماً؛ على الرَّغم من الدِّراسات العديدة التي خُصِّصتْ لدراسة صاحب المنار ومدرسته. حيث طغى الاهتمام بقضايا فكرية أخرى تتعلَّق بالمرأة، وعلاقة الإسلام بالمسيحية، والفكر السِّياسي عند رشيد رضا بالدرجة الأولى. أمَّا مسألة السُّنن الإلهية أو الكونية؛ فقد اقتصر بعضهم على الإشارة إليها في سياق الحديث عن مركزية المرجعية المقاصديةوالخلدونيةفي مشروع الإمام محمَّد عبده التَّجديدي(20).
السُّنَنُ الإلهيَّة في تفسير المنار
ورد التَّعبير عن "السُّنن الإلهية" بصيغ ثلاثة في القرآن الكريم:
أولها: صيغة المفرد مع نسبتها إلى المولى عزّ وجلَّ: "سنَّة اللَّه".وقد وردت هكذا في ثلاثة مواضع تكرَّرت فيها اللفظة في موضعين، ووردت بصيغة المفرد مرَّة واحدة في الآية رقم (38) من سورة الأحزاب: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّـهُ لَهُ } سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا}. أمَّا الموضعين الآخرين الذين تكرَّرت فيهما اللفظة مرَّتين؛ فهما قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا}.[الأحزاب: 62]وقوله:{سُنَّةَ اللَّـهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا}.[الفتح: 23]
ثانيها: التَّعبير بصيغة المفرد مع نسبة السُّنن إلى الأمم التي خلتْ من قبل، "الأولين"،أو الرُّسل. كقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.[الأنفال: 38]، وقوله: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا}.[فاطر: 43]، وقوله أيضا: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}.[الإسراء: 77]
ثالثها: بصيغة الجمع "سُنَن"؛ وذلك في موضعين: الأول هو قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.[آل عمران: 137] والثاني قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.[النساء: 26]
وكما هو ملاحظ؛ فإنَّ المواضع كلَّها تتعلق بالحديث عن الأمم السَّابقة من جهة، وتؤكِّد حتمية السَّنن الإلهية وعدم خضوعها للتَّبديل أو التَّغيير من جهة أخرى. فسواء تعلَّق الأمر بالجانب التَّشريعيّ الخاص بالنَّبي ﷺ؛ كما يتَّضح من سياق الآيات السَّابقة على النموذج الأول، أو بالمنافقين؛ كما في سياق الآيات السَّابقة على النموذج الثاني، أو بتشريع القتال دفاعا عن النَّفس؛ كما يتَّضح في سياق الآيات السَّابقة على النموذج الثالث- فإنَّ النتيجة لا تتغيَّر في الأحوال كلِّها؛ سواء تمَّ التَّعبير عنها بصيغة الفعل الماضي؛ دلالة على وقوع القدَر المقدور: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا}، أو بالصيغة الجازمة الدَّالة على سريان قانون "السُّنن الإلهية" في الحاضر والمستقبل، كما في الماضي: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا}.
والواقع أنَّ الآيات القرآنية تنقسم من حيث الدَّلالةُ إلى قسمين: آياتٌ قطعيَّة الدَّلالة، وآياتٌ ظنيَّة الدَّلالة" والآياتُ الواردة في السُّنَن هي من القِسمالأوَّل؛ سواء منها ما كان يتحدَّث عن السُّنَن بالجملة، وكذلك الآياتُ التي تتحدَّث عن السُّنن تفصيلاً؛ حيث إنَّها مبنيَّة على التَّكرار وإعطاء النَّظير حُكمَ نظيرِه، والتَّسوية بين الـمُتماثلين، ومِن ثَمَّ كان الاستدلالُ بالسُّنَن الإلهيَّة قطْعيّ الدَّلالة؛ مما يؤدِّي إلى قطْعيَّة الاعتبار"(21)وهذا الأمر يؤكِّد أهمية القراءة السُّنَنيَّة لكتاب اللّه عزَّ وجلَّ؛ لكونِها تُشدِّد على البناء الكُلِّي الحضاريِّ الذي دعا القرآنُ إلى تشييد هو إقامته، وتجاوُزِالقراءة التَّجزيئيَّة التي غلبَتْ على كثيرٍ من الدِّراسات القرآنية القديمة والمعاصرة.
وبحسب الإمام محمَّد عبده؛فإن "الاعتبار بسُنَن اللّه في الخلق" هو الأصل الرَّابع من أصول الإسلام التي أجملها الإمام في ثمانية أصول نذكر منها: النَّظر العقلي لتحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشَّرع عند التَّعارض، والبعد عن التَّكفير، والاعتبار بسُنَن اللَّه في الخلق، وقلْب السُّلطة الدِّينية...إلخ.(22) فالسُّنن هي "الطَّرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون، وعلى حسبها تكون الآثار. وهي التي تُسمَّى شرائع أو نواميس، ويعبّر عنها قومٌ بالقوانين. والذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية- وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يردّ إليها أعماله، ويبني عليها سيرته، وما يأخذُ به نفسَه. فإن أغفل عن ذلك غافلٌ فلا ينتظر إلا الشَّقاء؛ وإن ارتفع إلى الصَّالحين نسبُه، أو اتّصل بالمقرّبين سببُه"(23).
ضمن هذا السِّياق يمكننا أن نتفهَّم مركزية السُّنن الإلهية في تضاعيف تفسير المنار. فقد تحدَّث الإمام محمَّد عبده في مقدِّمتهعلى أنَّ "للتفسير مراتب: أدناها أن يُبيِّن [التَّفسيرُ] بالإجمال ما يُشْرِبُ القلبَ عظمةَ اللَّه وتنزيهه، ويَصْرفُ النَّفسَ عن الشرِّ ويجذبها إلى الخير... وأمَّا المرتبة العليا؛ فهي لا تتمُّ إلا بأمور: أحدها فهْمُ حقائق الألفاظ المفردة التي أُودِعها القرآن ... ثاينها: الأساليب ... ثالثها: علمُ أحوال البشر؛ فقد أنزل اللَّه هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبيَّن فيه ما لم يبينه في غيره. بيَّن فيه كثيرًا من أحوال الخلْق وطبائعهم، والسُّنَن الإلهيَّة في البشر، وقصَّ علينا أحْسَنَ القَصَص عن الأمم وسِيَرِها الموافقة لسنَّته فيها. فلا بدَّ للناظر في هذا الكتاب من النَّظر في أحوال البشر في أطوارهم، وأدوارهم، ومناشِئ اختلاف أحوالهم، من قوَّة وضعف، وعِزٍّ وذُلٍّ، وعِلْم وجهل، وإيمان وكُفْر، ومن العلْم بأحوال العالَم الكبير: عُلْويه وسُفْليه، ويَحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمِّها: التَّاريخ بأنواعه"(24)
والواقع أنَّ علم التَّاريخ وعلم العُمْران يحْتلان مكانة مهمَّة ضمن تضاعيف "تفسير المنار"؛ بل وفي القرآن الكريم نفسه. وليس أدل على ذلك من الحضور الطَّاغي لآيات السُّنن في القرآن الكريم لدرجة أنَّ "ثلاثة أرباع القرآن تقريبا قَصَص، وتوجيهٌ للأنظار إلى الاعتداد والعظة بأحوال الأمم، في كُفْرِهم وإيمانهم، وشقاوتِهم وسعادتِهم، ولا شيءَ يهْدي الإنسان كالْـمَثُلَات والوقائِع. فإذا امتثلنا الأمرَ والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السَّالفة، وأسباب علمهم وجهلهم ... وغير ذلك مما يعرض للأمم - كان لهذا النَّظر أثرٌ في نفوسنا، يَحْمِلُنا على حُسْن الأسْوة والاقتداء، وتجنُّب ما كان سبب الشَّقاوة أو الهلاك والدَّمار. ومن هنا ينْجلى للعاقل شأنُ علم التَّاريخ وما فيه من الفوائد والثَّمرات، وتأخذه الدَّهْشة والحيْرة إذا سمع أنَّ كثيرًا من رجال الدِّين من أُمَّةٍ هذا كتابُها يُعادون التَّاريخ باسم الدِّين، ويُرغِّبُون عنهُ، ويقولون: إنَّه لا حاجة إليه ولا فائدة له. وكيف لا يُدْهَشُ ويحارُ والقرآن يُنادي بأنَّ معرفة أحوال الأمم من أهمِّ ما يدعو إليه هذا الدِّين؟"(25)
ومن المعلوم أنَّ الإمام محمَّد عبده إنَّما يشير هنا إلى ما كان عليه المحافظون التَّقليديون في الأزهر من جمود، وكيف أنَّه فشل في إقناع الشَّيخ محمَّد الإنْبَابي - شيخ الجامع الأزهر آنذاك- بتدريس مُقدِّمة العلَّامة ابن خلدون فيه!(26).ولا شكّ أنَّ الأمر القرآنيَّ بضرورة تدبُّر الأمم السَّابقة وأحوالها ومآلاتهها "أمرٌ يتضمَّن الدَّليل على أنَّ في ذلك الخير والسَّعادة، على حسب طريقة القرآن في قرْن الدَّليل بالمدلول، والعلَّة بالمعلول، والجمْع بين السَّبب والمسبِّب ... وبيان أنَّ للكون سُنَنًا مُطردةً تجري عليها عوالِمهُ العاقلة وغير العاقلة، والحثّ على النَّظر في الأكوان؛ للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار التي يرتقي بها العقلُ وتتَّسعُ بها أبوابُ المنافع للإنسان"(27).
ونتيجة لذلك؛حرص الإمام محمَّد عبده - منذ الصَّفحات الأولى لتفسير المنار-على الاهتمام بفقه السُّنَن الإلهية، وبيان مركزيته في النُّهوض بأحوال الأمَّة الإسلامية. ففي معرض تأكيد رأيه القائل بأنَّ سورة الفاتحة هي أوَّل ما نزل من القرآن،لا ينسى أن يربط ذلك بمبدأ السُّنَن حيث يقول: "ومن آية ذلك أنَّ السُّنَّة الإلهية في هذا الكون - سواء كان كون إيجاد، أو كون تشْريع- أنْ يُظْهِرَ سبحانه الشيءَ مُجْملًا ثم يتْبَعْهُ التَّفصيل بعد ذلك تدريجا. وما مثل الهدايات الإلهية إلَّا مثل البذرة والشَّجرة العظيمة، فهي في بدايتها مادةُ حياةٍ تحتوي على جميع أصولها ثمَّ تنمو بالتَّدريج ... والفاتحةُ مُشْتملَةٌ على مُجْمل ما في القرآن، وكلُّ ما فيه تفصيلٌ للأصول التي وُضعتْ فيها"(28)
وفي السِّياق نفسه، توقَّف الإمام محمَّد عبده مُطولا أمام الآية القرآنية الكريمة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}[البقرة: 213]من أجل أن يُبرز جوانبَ السُّنن الإلهية المستفادة منها، حيث قال: "أنا لا أعْقل كيف يمكن لأحد أن يفسِّر الآية وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتّحدوا؟ وكيف تفرَّقوا؟ ... أَجْمَلَ القرآنُ الكلامَ عن الأمم، وعن السُّنن الإلهية، وعن آياته في السَّموات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمالٌ صادِرٌ عمَّن أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا، وأمرنَا بالنَّظر والتَّفكُّر، والسَّير في الأرض لنفهم إجمالَهُ بالتَّفصيل الذي يزيدُنا ارتقاءً وكمالا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرةٍ في ظاهرِه، لكنَّا كمن يعْتبر الكتابَ بلوْن جلْدِه؛ لا بما حواه من علمٍ وحكمة"(29)
ضمن هذا السِّياق، يُقارب الإمام مسألة العلاقة بين الأسباب والمسبِّبات، من منظور السُّنن الإلهية، فيتحدَّث عن أنَّ الجزاء من جنس العمل قائلا: "أمرنا اللَّه تعالى بألا نعبد غيره؛ لأنَّ السُّلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلَّا له دون غيره، فلا يُشاركه فيها أحدٌ فيُعَظَّم تعظيم العبادة... إنَّ كلَّ عمل يعمله الإنسان تتوقَّف ثمرتُه ونجاحُه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمةُ الإلهيةُ أن تكون مؤدِّية إليه، وانتفاء الموانع التي من شأنها - بمقتضى الحكمة- أن تحول دونه. وقد مكَّن اللَّه تعالى الإنسان - بما أعطاه من العلم والقوّة- من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه بعضها الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل في إتقانِ أعمالِنا كلَّ ما نستطيع من حول وقوَّة، ونفوِّض الأمر - فيما وراء كسْبنا- إلى القادر على كلِّ شيءٍ؛ إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكلِّ البشر على السَّواء إلّا مُسبِّب الأسباب"(30).
أيضا يشدِّد الإمام على تأكيد أنَّالمراد من الظَّواهر الطَّبيعية المذكورة في القرآن هو استنباط العِبَر، فيقول: "وإنَّما تُذْكَرُ الظَّواهر الطَّبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاسْتدلال، وصرْف العقل إلى البحث الذي يَقْوَى به الفَهْمُ والدِّين. والعلمُ بالكون ينْمو ويضْعفُ في النَّاس ويختلف باختلاف الزَّمان، فقد كان النَّاس يعتقدون في بعض الأزمنة أنَّ الصَّواعق تحْدثُ من أجسام مادِّية"(31)
كما ينطلق الإمام -في فهْمه لمسألة المعجزات- من التَّأكيد على أنَّ النَّبي ﷺ صدَّق الأنبياءَ؛ لكنه لم يأت في الإقناع برسالته بما يُلْهي الأبصار أو يحيّرُ الحواس؛ "فالإسلام في هذه الدَّعوة والمطالبة بالإيمان باللَّه ووحدانيته لا يعتمد على شيءٍ سوى الدَّليل العقليِّ والفكر الإنسانيِّ الذي يجري على نظامه الفطريّ فلا يُدْهِشُكَ بخارقٍ للعادة، ولا يغْشَى بصرَك بأطوارٍ غير مُعْتادةٍ، ولا يُخْرِسُ لسانَك بقارعةٍ سماوية، ولا يقْطَعُ حركةَ فكرك بصيْحةٍ إلهيّة"(32)
والمقصود بـ "النِّظام الفطري" هنا هو عين ما نريدُه بـ "السُّنن الإلهية" التي عبَّر عنها رشيد رضا بـ "مُوافَقَة الفِطْرَة البشرية"؛ فالإسلام -كدين- بُنِيأساسُه "على العقل والعلم، ومُوافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنْفُس الأفراد، وترْقية مصالح الاجتماع. وأمَّا آيتُه التي احتجَّ بها على كونه من عند اللّه تعالى فهي القرآن، وأميَّة محمَّد ﷺ؛ فإنَّما هي آيةٌ علمية تُدْرك بالعقل والحسِّ والوجدان ...وأمَّا تلك العجائب الكونية؛ فهي مثارُ شبُهاتٍ وتأويلاتٍ كثيرة في روايتها، وفي صحَّتِها، وفي دلالتِها. وأمثالُ هذه الأمور تقعُ من أُناس كثيرين في كلِّ زمان... وهي من مُنَفِّرَاتِ العلماء عن الدِّين في هذا العصر"(33)
أخيرا، وليس آخرا، يربط الإمام في تفسيره لآية العهْد والميثاق: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.[البقرة: 25] بين رفض السُّنَن الإلهيَّة وتحقُّق معْنيي: الفسُوق، والفساد(34؛ إذ يقول: "فإذا كان معْنى الفسوق: الخروج عن سنن اللَّه تعالى في خلْقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وعن هداية الدِّين بالنِّسبة إلى الذين أوتوه خاصَّة، فعهد اللَّه تعالى هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السُّننَ المعهودة للنَّاس بالنَّظر والاعتبار، والتَّجربة والاختبار. أو العقل والحواس المرشدة إليها، وهي عامَّة، والحجَّةُ بها قائمة على كلِّ من وُهِبَ نعمة العقل وبلغ سنَّ الرُّشد سليم الحواس. ونَقْضُهُ عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحا؛ حتَّى كأنَّهم فقدوها وخرجوا من حكمها ... فالعهْد فطريٌّ خلقيٌّ، ودينيٌّ شرعيٌّ، فالمشركون نقضوا الأول، وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقِّه نقضوا الأول والثاني جميعًا، وأعْني بالنَّاقضين: منْ أنكر المثل من الفريقين ... واللّه تعالى قد وثَّق العهد الفطريّ بجعل العقول بعد الرُّشد قابلة لإدراك السُّنَن الإلهية في الخلق، ووثَّق العهْد الدِّينيَّ بما أيَّد به الأنبياء من الآيات البيّنات، والأحكام المحكمات ... فمنْ أنكر بعثة الرُّسُل ولم يهْتد بهديهم فهو ناقِضٌ لعهد اللَّه، فاسِقٌ عن سُنَنِه في تقويم البنية البشرية وإنمائها، وإبلاغ قُواها وملكاتها حدَّ الكمال الإنسانيِّ الممكن لها"(34)
والواقع أنَّ هذا النصَّ مفتاحيٌّ للغاية في سياق فهم ما يعنيه الأستاذ الإمام محمَّد عبده بمفهوم "السُّنن الإلهية" من جهة، وارتباط ذلك المفهوم بمسألتين أساسيتين هما: آليةُ استنباط السُّنن الإلهية، وغائيةُ العمل بها. فمُقتضى السُّنن الإلهية يرتبط ارتباطا مباشرا بكل من: الإيمان، والنَّظر. أمَّا الإيمان؛فيشمل إلى جانب الإقرار بالوحي والنُّبوة ما يتضمَّنه الوحيُ من الأمثال التي يضربها اللّه للنَّاس من أجل استنباط العبر. وأمَّا النَّظر؛ فهو الوسيلة، أو الآلية، التي يتحقَّق بها فهْم المراد من سنن اللّه في الخلق والأمم. وأخيرًا تتمثَّل الغاية المثلى التي يتغيَّاها المسلم من وراء ذلك كلّه فيما عبّر عنه الإمام بــ "تقويم البنية البشرية وإنمائِها، وإبلاغ قواها وملكاتها حدَّ الكمال الإنسانيِّ الممكنِ لها".
ولذلك يلحُ القرآن الكريم أشدَّ إلحاح على ضرورة إعْمال النَّظر العقلي، والتَّفكير والتذكُّر والتَّدبُّر، فلا تقرأ منه قليلاً إلّا وتراه يعْرض عليك الأكوان، ويأمرك بالنَّظر فيها، واستخراج أسرارها، واستجلاء حِكَم اتفاقها واختلافها. وضمن هذا السِّياق يقول الإمام في معرض تفسيره للفظة "الأمر" في الآية الكريمة: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}:الأمرُ "نوعان: أمرُ تكوينٍ؛ وهو ما عليه الخلق من النِّظام والسُّنَن المحْكَمَة، وقد سمَّى اللَّه تعالى التَّكوينَ أمرًا بما عبَّر عنه بقوله: (كن). وأمرُ تشْريعٍ؛ وهو ما أوْحاه إلى أنبيائه وأمرَ النَّاس بالأخذ به. ومن النَّوع الأول [أمرُ التَّكوين، أو السُّنَن]: ترتيبُ النَّتائج على المقدِّمات، ووصْلُ الأدلة بالمدْلولات، وإفضاءُ الأسباب إلى المسبِّبات، ومعرفةُ المنافع والمضارِّ بالغايات. فمنْ أنكر نبوة النَّبي بعدما قام الدَّليل على صدقه، أو أنكر سلطان اللَّه على عباده بعدما شهدتْ له بها آثارُه في خلْقِه، فقد قطع ما أمر اللَّه به أن يُوصل بمقتضى التَّكوين الفطري"(35)
يتحصَّل مما سبق أنَّ حديث القرآن الكريم المتكرِّر عن أخبار الأمم السَّابقة ومصائرها يؤكِّد -بما لا يدع مجالا للشكِّ- أنَّ سُنَن اللّه التي أوْدعها في الكون لا تتغيِّر أو تتبدَّل. فقد "علَّمنا اللَّه تعالى هذا بما قصَّ علينا من أخبار الأمم، وأنعم على أمتنا -التي لا تختصُّ بشعبٍ ولا جنس- بهذا القرآن الكريم، فكان لهم به نِعَمٌ لا تُحْصى من الكتاب والسُّنَّة؛ منها: أنَّهم كانوا مُسْتضعفين فمكَّن لهم في الأرض وأوْرثهم أرضَ الشُّعوب القوية وديارهم، وجعل لهم السُّلطان عليهم. ومنها: أنَّه جعلهم أمَّة وسطا لا تفريط عندها ولا إفراط؛ ليكونوا شهداء على النَّاس الذي غَلَوْا وأفرطوا، والذين قصروا وفرَّطوا. ثم لما كفرتْ بأنعُم اللَّه أنزل بها ألوانا من البلاء والنِّقم ... ثمَّ إنَّ الفتن لا تزال تحلُّ بديارها، وتُنْقِصُهَا من أطرافها، وسوط عذاب اللَّه يصبُّ عليها، وقد مرت عليها قرونٌ وهي لا تعْتبر بما مضى، ولا تتربَّى بما حضر؛ بل جهلت الماضي فحارتْ في الحاضر، لا تعْرف سببه ولا المخْرج منه! أليس من العجيب أنَّ الجمهور الأعظم من المشتغلين بالعلم منها هم أجهلها بتاريخها؟ ... ويعتذرون بالقضاء والقدر عن معرفة الأسباب، ويكلون إلى القضاء والقدر النَّجاة منه، أو البقاء فيه؟!"(36)
فالسُّنن الإلهية تستند إلى مبدأ، أو إلى قانون عام، يقيم ارتباطا ما بين العمل والجزاء، بحيث ينطبق هذا القانون أو تسري مفاعيله على الجميع من دون استثناء؛فينطبق على الأمم كما ينطبق على الأفراد.ونتيجة لذلك؛ نجد أنَّ "كلَّ من أجرم كما أجرموا [بنو إسرائيل] سقط عليه من غضب اللّه ما سقط عليهم ... فاللَّه -جلَّ شأنه، لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختصُّ بهم على أنَّهم من شعب إسرائيل، أو من ملَّة يهود؛ بل:{ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ}.[البقرة: 61] وأمَّا أنساب الشُّعوب وما تدين به من دين، وما تتّخذه من ملَّة، فكل ذلك لا أثر له في رضاء اللَّه ولا غضبه، ولا يتعلَّق به رفعةُ شأن قومٍ ولا ضعتِهم؛ بل عِمَادُ الفلاح ووسيلةُ الفوز بخيْرَي الدُّنيا والآخرة إنَّما هو صدق الإيمان باللَّه تعالى بأنْ يكون التَّصديق به سطوعا على الأنفس من مشْرق البُرهان، أو جيشَانًا في القلب من عيْن الوجْدان"(37)
وفي الأخير، لقد ظلت رؤية الإمام محمَّد عبده، وتلميذه محمَّد رشيد رضا، المتعلِّقة بالسُّنن الإلهية محكومة بإطار العقلانية، ومتَّسقة مع الدَّعوة القرآنية لضرورة إعمال مبادئ: التَّدبُّر، والتَّفكُّر، والتَّذكُّر. وقد أوضح الإمام نهجه الذي اتبعه في التَّفسير وغيره حين قال:
"إنَّ العقل هو جوهر إنسانية الإنسان، وهو أفضل القوى الإنسانية على الحقيقة، ولقد تآخى العقل والدين لأوَّل مرة في كتاب مقدَّس على لسان نبي مُرسل بتصريحٍ لا يقبل التأويل، وتقرَّر بين المسلمين كافّة؛ إلَّا مَنْ لا ثقة بعقله، ولا بدينه... فاللَّه يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم دون قيدٍ ولا حدٍّ... والذي علينا اعتقادُه: أنَّ الدِّين الإسلاميّ دينُ توحيدٍ في العقائد، لادين تفريق في القواعد. والعقل من أشد أعوانه، والنَّقل من أقوى أركانه"(38)
-------------
المراجع والمصادر:
▪ باحث وأكاديمي من مصر.
([1]) يقول محمَّد رشيد رضا في كتابه "الوحي المحمدي": "إنَّ تفسير المنار قد أُلِّف لاستدراك هذا التَّقصير في كتب التَّفسير، ولكنه لا يُدرَّس في المدارس، ولا يُعتَمد عليه في التَّربية، ولا يخطر في بال منْ لم يقرأه أنه يجد فيه بيان كلِّ ما تحتاج إليه الأمَّة لتجديد حياتها ومجدها، ولا لدفع الغوائل عنها، ويوشك أن يكون أكثر من اطّلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما أُلِّف لأجله من الإصلاح والهدى، وتجديد ثورته الأولى، وإنِّما لكُلِّ امرئٍ ما نوى". قارن بـ السَّيد محمَّد رشيد رضا، الوحي المحمدي: ثبوت النُّبوة بالقرآن ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام دين الأخوة والإنسانية والسَّلام، الطبعة الثالثة، (بيروت: مؤسسة عزِّ الدِّين للطباعة والنَّشر، 1406هـ)، ص 6.
(2) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 6.
(3) المصدر السابق، الجزء الأول، ص 7- 8. ويُعقِّب محمَّد رشيد رضا على ذلك بالقول: "وغرضُنا من هذا كلّه أنَّ أكثر ما رُوي في التَّفسير المأثور، أو كثيره: حِجَابٌ على القرآن وشاغِلٌ لتاليه عن مقاصده العالية الزَّكية للأنفس، المنوِّرة للعقول. فالمفضِّلون للتَّفسير المأثور لهم شاغِلٌ عن مقاصد القرآن بكثْرَةِ الرِّوايات، التي لا قيمة لها سندًا ولا موضوعًا، كما أنَّ المفضِّلين لسائر التَّفاسير لهم صوارف أخرى عنه كما تقدَّم. فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجَّه العنايةُ الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتَّفق مع الآيات الكريمة المنزَّلة في وصفه، وما أُنزل لأجله من الإنذار والتَّبشير والهداية والإصلاح؛ وهو ما ترى تفصيل الكلام عليه في المقدِّمة المقتبسة من دروس شيخنا الأستاذ الإمام الشَّيخ محمَّد عبده، رحمه اللّه تعالى وأحسن جزاءه. ثمَّ العناية إلى مُقتضى حال هذا العصر، في سهولة التَّعبير، ومُراعاة أفهام صنُوف القارئين، وكشْف شبُهات المشتغلين بالفلسفة والعلوم الطَّبيعية وغيرها، إلى غير ذلك". نفسه، ص 10.
(4) قارن على سبيل المثال بـ: فهد بن عبد الرَّحمن بن سليمان الرُّومي،اتّجاهات التَّفسير في القرن الرَّابع عشر، الطبعة الثالثة، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1418هـ - 1997م)، ثلاثة أجزاء. حيث خصَّص المؤلِّفُ الباب الثالث من الجزء الثاني للحديث عن: "منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التَّفسير"؛ والتي كان من رجالها المؤسِّسين كُلٌّ من: "جمال الدِّين الأفغاني، وتلميذه محمَّد عبده، وتلاميذه: محمَّد مصطفى المراغي، ومحمَّد رشيد رضا، وغير هؤلاء كثير". وهذه المدرسة - برأي المؤلِّف- ترتكز على عشرة أُسُس هي: "1- الوَحْدة الموضوعية في القرآن الكريم.2- الوحْدة الموضوعية في السُّورة القرآنية.3- تحكيم العقل في التَّفسير.4- وإنكار التَّقليد وذمِّه والتَّحذير منه.5- والتَّقليل من شأن التَّفسير بالمأثور.6- والتَّحذير من التَّفسير بالإسرائيليات.7- وعدّالقرآن المصدر الأول في التَّشريع.8- والتَّحذير من الإطناب.9- والشُّمول في القرآن الكريم. 10-والإصلاح الاجتماعيِّ". الجزء الثاني. ص 719- 798.
(5) تفسير المنار، الجزء الأول، صفحة الغلاف.
(6) قارن بـ محمَّد الطَّاهر ابن عاشور، تفسير التَّحرير والتَّنوير، (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984م)، الجزء الأول، ص 38.
(7) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 11.
(8) قارن بـ طه جابر العلواني، نحو منهجية للبحوث والدِّراسات القرآنية، مجلة إسلامية المعرفة، السنة الثامنة، العدد الثلاثون، خريف 1423هـ/ 2012م، ص 7. وفي سياق نقده لكتب التفسير السَّابقة على المنار، أكَّد الإمام محمَّد عبده أنَّ التَّفسير كان عندهم: "عبارة عن الاطّلاع على ما قاله بعضُ العلماء كتب التَّفسير ... وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطْلبون لأنفسهم معْنى تستقر عليه أفهامُهم في العلم بمعاني الكتاب، ثم يَبُثُّونَهُ في النَّاس ويحْملونهم عليه. ولكنّهم لم يطلبوا ذلك، وإنَّما طلبوا صناعة يُفاخرون بالتَّفنُّن فيها، ويُمارون فيها من يُباريهم في طلبها، ولا يخرجون لإظهار البراعة في تحْصيلها عن حدِّ الإكثار من القول، واختراع الوجوه من التَّأويل، والإغراب في الإبعاد عن مقاصد التَّنزيل. إنَّ اللّه تعالى لا يسْألُنا يوم القيامة عن أقوال النَّاس وما فهموه؛ وإنَّما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا، وعن سُنَّة نبيه الذي بيَّن لنا ما نزل إلينا ...: هل بلغتكم الرِّسالة؟ هل تدبَّرتُم ما بُلِّغتم؟ هل عقلتمْ ما عنه نُهيتم وما به أُمرتمْ؟ وهل عملتُمْ بإرشاد القرآن، واهْتديتمْ بهدي النَّبي واتبعتم سُنتَّه؟". تفسير المنار، الجزء الأول، ص 25- 26.
(9) حول نسبة التفسير إلى رشيد رضا يقول محمَّد الفاضل بن عاشور: "إنَّ التَّفسير المسمَّى بتفسير المنار يقوم في حقيقة أمره على ثلاثة رجال: أوّلهم السَّيد جمال الدِّين الأفغانيّ الذي انقدحتْ عن فكره نظريةُ وجوب إصلاح المجتمع الإسلاميّ، برجوع المسلمين إلى منبع الدِّين وتلقّيه من هنالك صافيا مُبرًّأ عمَّا اتّصل به من الشَّوائب. والرَّجل الثاني - من الثلاثة الذين قام على كاهلهم تفسير المنار- هو الشَّيخ محمَّد عبدهـ الذي باشر فعلا تفسير القرآن العظيم على طريقة تطبيق النَّظرية التي دعا إليها السَّيد جمال الدِّين الأفغاني، وكان ذلك في الدروس التي قام بها الشَّيخ محمَّد عبده في بيروت بين سنة 1301 وسنة 1303هـ، ثمّ الدُّروس التي قام بها في مصر في السِّت سنين الأخيرة من حياته: ما بين سنة 1317 وسنة 1323هـ ... والرَّجل الثالث الذي تمتْ به سلسلة الثلاثة الذين يصحُّ أن يُنسب إليهم تفسير المنار هو أبو عذرته حقًّا؛ وأعْني به الشَّيخ محمَّد رشيد رضا الذي كان الدَّاعي للشَّيخ محمَّد عبده إلى أن يُواصل في مصر بجهد ذي بال ما كان ابتدأ في بيروت بجهدٍ ضعيف، ثمَّ كان هو المتولِّي لتقييد ما يمليه الشَّيخ محمَّد عبده وتلخيصه، ثمّ لنشره تباعًا في مجلته مجلة المنار التي اشتُهِر التَّفسير باسمها. ثمَّ كان الشَّيخ رشيد رضا أخيرًا هو المكمِّل للتَّفسير بما يدرجه من عمله وبيانه، أثناء تلخيص ما قرَّره الشَّيخ محمَّد عبده، وبما وصل به الكتاب من حيث انتهى الشَّيخ محمَّد عبده من تتمَّة التَّفسير استقلالا بما كمل به المجلد الخامس وتتابعت عليه بقية المجلدات حتى المجلد الثاني عشر". ثمَّ يُتابع قائلا: "فإذا كان هناك من بين الثلاثة: جمال الدِّين، وعبده، ورشيد رضا، مَنْ هو أحقُّ بأنْ يُنْسَبَ إليه تأليفُ هذا التَّفسير من الآخرين فلن يكون ذلك غير المؤلِّف الحقيقي له فعليا: وهو العلَّامة الشَّيخ محمَّد رشيد رضا". قارن بـ محمَّد الفاضل بن عاشور، التَّفسير ورجاله، (القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية، السنة الثانية – الكتاب الثالث عشر، ربيع الأول سنة 1390هـ - مايو سنة 1970م)، ص 167- 168.
(10) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 14.
(11) المصدرالسابق، الجزء الخامس، ص 441.كما فسَّر الإمام محمَّد عبده بعض السُّور؛ مثل تفسيره المشهور لـ "جزء عمَّ" الذي ألفه بمشورة أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية ليكون مرجعا لأساتذتها في توضيح معاني ما يُحفِّظون من سوره للتلاميذ، وعاملا للإصلاح في أعمالهم وأخلاقهم، وقد أتمَّه في المغرب سنة 1321هـ/ 1903م، وبذل جهده "في أن تكون العبارة سهلة التَّناول، خالية من الخلاف وكثرة الوجوه في الإعراب، بحيث لا يُحتاج في فهمها إلا أن يعرف القارئ كيف يقرأ، أو السَّامع كيف يسمع، مع حسن النِّيَّة وسلامة الوجدان". قارن بـ محمَّد حسن خير اللَّه عبده، تفسير القرآن الكريم: جزء عمّ، الطبعة الأولى، (القاهرة: مطبعة مصر، 1341هـ- 1922م)، ص 2.
كما أنَّ له تفسيرا مطوَّلا لسورة "العصر"، كان قد ألقاه على علماء مدينة الجزائر ووجهائها في السَّنة نفسها (1321هـ)، قرأه في سبعة أيام: "وكان كلُّ درس لا يقل عن ساعتين أو ساعة ونصف، بيَّنْتُ فيها وجه كون الإنسان في خُسْرٍ إلَّا مَنْ استثنى اللَّهُ تعالى، وما المراد بالتَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، مما لو جُمِعَ لكان رسالة حسنة في تفسير السُّورة. وما علمتُ أحدًا كتب من ذلك شيئا". قارن بـ الشَّيخ محمَّد عبده والشَّيخ رشيد رضا، تفسير سورة الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن، (القاهرة: مطبعة المنار، 1353هـ). وتفسير المنار، الجزء الأول، ص 13. بالإضافة إلى بحوثه التَّفسيرية التي عالج فيها بعض مُشكلات القرآن، ودفع بها ما أُثير حوله من شكوكٍ وإشكالات. قارن بكلٍّ من: اتّجاهات التَّفسير في القرن الرَّابع عشر، الجزء الثاني، ص 804. ومحمَّد حسين الذَّهبي، التَّفسير والمفسّرون: بحث تفصيلي عن نشأة التَّفسير وتطوره وألوانه ومذاهبه مع عرض شامل لأشهر المفسِّرين وتحليل كامل لأهم كتب التَّفسير من عصر النَّبي صلى اللّه عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر، الطبعة السابعة، ثلاثة أجزاء، (القاهرة: مكتبة وهبة، 2000م)، الجزء الثاني، ص 593- 595. ومحمَّد بن لطفي الصّبَّاغ، لمحات في علوم القرآن واتجاهات التَّفسير، الطبعة الثانية، (بيروت: المكتب الإسلامي، 1410هـ- 1990م)، ص 316- 317.
(12) عبد الغفار عبد الرحيم، الإمام محمَّد عبده ومنهجه في التَّفسير، (بيروت: المركز العربي للثقافة والعلوم، 1400هـ- 1980م)، ص 177.
(13) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 15.
(14) قارن بـ السَّيد الإمام محمَّد رشيد رضا، تفسير سورة يوسُف عليه السَّلام، الطبعة الأولى، (القاهرة: مطبعة المنار، صفر 1355هـ - مايو 1936م), حيث يقول البيطار في تصديره: "وقد فسَّرتُ الآيات العشر الأخيرة من سورة يوسُف عليه السَّلام بما هو جهد المقلّ، ويراها القارئ في الصفحة 131 إلى آخر الكتاب [إلى ص 174]، ونسأله تعالى أن يلهمنا الصَّواب، ويُؤتينا الحكمة وفصْل الخطاب"، ص 14. ويقول في خاتمة الكتاب، ص 174: "هذا آخر تتمَّة تفسير السَّيد الإمام لسورة يوسُف عليه السَّلام، وقد وردت فيها على زاخِر بحْرِه، وعلَّقْتُ عليها من نفائس لآليه ودُرِّه، فرحم اللّه السَّيد الإمام، وجدَّد بمناره وتفسيره عهْد العروبة والإسلام، وكُتب في ذي الحجّة وتمَّ في المحرّم الحرام سنة 1355هـ، وسلامٌ على المرسلين والحمد للّه ربِّ العالمين". وقارن أيضا بـ التَّفسير والمفسِّرون، الجزء الثاني، ص 423.
(15) المصدر السابق، الجزء الثاني، ص 424.
(16) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 16.
(17) قارن بـ فضل حسن عباس، اتِّجاهات التَّفسير ومناهج التَّفسير في العصر الحديث، الطبعة الأولى، (الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، 2007م)، ص 97. وأيضا فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرُّومي، بحوث في أصول التفسير ومناهجه، الطبعة الرابعة، (الرياض: مكتبة التوبة، 1419هـ)، ص 160.
(18) قارن على سبيل المثال بـ زكي الميلاد، الشَّيخ محمَّد رشيد رضا وتحوُّلات الفكر الإسلاميِّ المعاصر، مقالة منشورة على موقع مركز آفاق للدراسات والبحوث، بتاريخ 19/12/2010، على الرابط التالي:
http://aafaqcenter.com/post/478
(19) قارن بـ أحمد صلاح الملا، جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة: رشيد رضا ومجلة المنار (1898- 1935)، الطبعة الثانية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015م)، ص 9. فمع وفاة محمد عبده 1905 وتحرُّر رشيد رضا من تأثيره، بدأ يستعيد العناصر التَّقليدية المحافظة من تكوينه الدِّيني، وهو ما انعكس سريعا على صفحات المنار التي ما لبثتْ أن ظهرت فيها – بقلم رضا وبأقلام أخرى- كتابات مُناوئة للعقل تميل إلى الحدِّ من دوره في فهم الدِّين، وتضعه في مرتبة أدْنَى في إطار العلاقة مع النُّصوص الدِّينية، مؤكِّدةً عدم اختصاصه بمناقشة أصول الدِّين وأحكامه، وعجْزه عن ذلك أيضا. وفي الواقع؛ فإنَّ هذا التحوُّل العميق في رؤية المنار وصاحبهالم يكن نتاج وفاة محمَّد عبده وانحسار تأثيره فقط؛ بل كان نتاجا لتحوُّلات المجتمع المصريّ، والإسلاميّ عامَّة في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، والتي اتَّسمتْ بدرجة عالية من التحرُّر الفكريّ والسُّلوكيّ وقبول المؤثرات الغربية، مما جعل المنار تبدو وكأنَّها الصَّوت الوحيد الذي يُدافع عن القيم الإسلامية التَّقليدية في مواجهة المجتمع الذي يتَّجه بشدة نحو عَلْمَنَةٍ ولَبْرَلَةٍ واضحة. وكان هذا المعنى الدِّفاعي لوجود المنار في هذه الحقبة سببًا في تخليها رُويدًا رُويدًا عن طابعها التَّوفيقيّ؛ خاصَّة بعد إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م، واتِّجاهها نحو سلفية صارمة ومُتشدِّدة، وجدتْ في مُنتصف العشرينيات دعْمًا قويا لها بانتصار الوهَّابيين الذين دعمهم رشيد رضا طويلا في مجلَّته. المصدر السابق، ص 55 بتصرف.
(20) قارن على سبيل المثال بـ أحميدة النيفر، النُّخب والوعي السُّنَني: مالك بن نبي ومحمَّد عبده .. قراءة خلدونية للنَّهضة، مقالة منشورة بموقع الملتقى الفكري للإبداع، بتاريخ 13/7/2006م، على الرابط التالي:
http://almultaka.org/site.php?id=346&idC=2&idSC=7
(21) قارن بـ مجدي محمَّد عاشور، السُّنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم: أصول وضوابط، (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2006م). وانظر له أيضا: مدخل إلى دراسة السُّنن الإلهية في القرآن الكريم، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1425هـ- 2004م). والمؤلِّف يُحدِّد السُّننالكبرىفيالقرآنالكريم؛التييمكنجَعْلُهامرجعًالغيرهامنالسُّنن في كُلٍّ من:الأسبابوالمسبَّبات، والجزاءبجِنْسالعمل، والابتلاءوالفتنة، والنَّصروالتَّمكين، وسنَّةاللَّهفيهلاكالأمم.قارن أيضا بـ مصطفى حلمي وآخرين، السُّنن الإلهية وأثرها في نهضة الأمم، بحوث المؤتمر الدولي الثالث عشر للفلسفة الإسلامية، (القاهرة: كلية دار العلوم، 1429هـ- 2008م).
(22) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الجزء الثالث، ص 303- 307.
(23) المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 305.
(24) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 22- 23.
(25) المصدر السابق، الجزء الأول، ص 67.
(26) قارن بـ مجلة المنار، الجزء الثاني عشر، المجلد الثامن، العدد 441، 16 جمادى الثانية 1323هـ- 17 أغسطس 1905م، ص 471.
(27) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 68.
(28) المصدر السابق ، الجزء الأول، ص 35.
(29) نفسه، الجزء الأول، ص 23. ويُعلِّق محمَّد رشيد رضا على ذلك بالقول في الهامش: "كتب الأستاذ الإمام- رحمه اللّه تعالى- تفسيرا لهذه الآية، جاء فيه بما لا يوجد في كتاب. ونُشر في الجزء الثاني من مجلد المنار الثامن".
(30) نفسه، الجزء الأول، ص 58- 59.
(31) نفسه، الجزء الأول، ص 176.
(32) قارن بـ محمَّد عبده، الإسلام والنَّصرانية مع العلم والمدنية، الطبعة الثالثة، (القاهرة: مطبعة المنار، 1341هـ)، ص 68. وتفسير المنار، الجزء الحادي عشر، ص 155.
(33) قارن بـ الوحي المحمدي، ص 105.
(34) يتساءل الإمام محمَّد عبده-في معرض حديثه عن الفساد- قائلا: "وأيُّ إفسادٍ أكبر من إفساد مَنْ أهمل هدايةَ العقل وهدايةَ الدِّين، وقطَع الصِّلة بين المقدِّمات والنتائج، وبين المطالب والأدلة والبراهين؟ مَنْ كان هذا شأنُه فهو فاسِدٌ في نفسِه ووجوده في الأرض مُفسِدٌ لأهلها؛ لأنَّ شرَّه يتعدَّى كالأجرب يعدي السَّليم". تفسير المنار، الجزء الأول، ص 244.
(35)المصدر السابق، الجزء الأول، ص 242. ويقول أيضا في تفسير الآية الكريمة: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[البقرة: 40] ما نصُّه: "عَهْدُ اللَّه تعالى إليهم يُعْرَف من الكتاب الذي نزَّله إليهم، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، وأن يُؤمنوا برُسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه ... ويدخلُ في عموم العهْد عهْدُ اللَّه الأكبر الذي أخذه على جميع البشر بمقتضى الفطرة؛ وهو التدبُّر والتَّروي، ووزن كلِّ شيءٍ بميزان العقل والنظر الصحيح، لا بميزان الهوى والغرور. ولو التفت بنو إسرائيل إلى هذا العهْد الإلهيّ العام، أو إلى تلك العهود الخاصَّة المنصوصة في كتابهم؛ لآمنوا بالنَّبي ﷺ واتّبعوا النُّور الذي أُنزل معه وكانوا من المفلحين". نفسه، الجزء الأول، ص 290.
(36) نفسه، الجزء الأول، ص 243.
(37) نفسه، الجزء الأول، ص 310. ويعْرض الإمام محمَّد عبده لأوجه عناية أمَّة الإسلام بعلم التَّاريخ، وصولا إلى العلَّامة ابن خلدون، ثمَّ يقول: "فالتَّاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه من سعةِ العُمْران، وعِزَّة السُّلطان. وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتَّاريخ ومعرفة سنن اللَّه في الأمم منه. وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السُّنَّة وسيرة السَّلف هو المرشد الثاني إلى ذلك. فلما صار الدِّين يُؤخَذُ من غير الكتاب والسُّنَّة أُهْمِلَ التَّاريخ، بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلبن بعلم الدِّين، فإن وُجد من يلتفت إليه فإنَّما يكون مُتَّبِعًا في ذلك سُنَّة قوْمٍ آخرين". نفسه، ص 311.
(38) تفسير المنار، الجزء الأول، ص 334. ويقول في موضع آخر: "وسُنَّة اللَّه تعالى واحدة، فهو يُعامِلُ القرونَ الحاضرةَ بمثل ما عاملَ به القرونَ الخالية؛ ولذلك قال: {جَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة: 66]؛ أي جعلنا هذه العقوبة نَكالا؛ وهو ما يُفْعلُ بشخص من إيذاءٍ وإهانة ... وأمَّا كونُها موعظةً للمتَّقين؛ فهو أن المتَّقي يتَّعِظُ بها في نفسِه بالتَّباعُد عن الحدود التي يُخْشى اعتداؤها:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}.[البقرة: 229]، ويعِظُ بها غيرَهُ أيضًا. ولا يتمُّ كون تلك العقوبة نكالاً للمتقدِّمين والمتأخِّرين وموعظةً للمتَّقين إلا إذا كانت جاريةً على السُّنَّة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطِّباع؛ وذلك ما هو معروفٌ لأهل البصائر، ومشهورٌ عند عُرَفَاءِ الأوائل والأواخر". نفسه، الجزء الأول، ص 344- 345.
(39) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الجزء الخامس، ص 428.