النظام المالي العالمي والنظرة الشرعية حول العملة الرقمية

andre-francois-mckenzie-iGYiBhdNTpE-unsplash.jpg

محمد السالمي

يعد المال احدى الوسائل المهمة لدراسة تطور المجتمعات البشرية، حيث  يعود تاريخ استخدامه إلى ما قبل٢٠٠٠ق.م.  ويعرف المال -بالمصطلح الاقتصادي-بأنه: أي شيء يمكن قبوله للحصول على سلعة آو خدمة. فكثير منا يأخذ مفهوم المال ويربط تفسيره بالثروة أو الراتب؛ ولكن التفسير الاقتصادي للمال بعيد كل البعد عن هذا المفهوم؛ فهناك عدة عوامل تحدد مفهوم المال ، ومنها: إما ان يكون قيمة محفوظة ، أو أن يمونأداة للمقايضة ، أو أداة للتسعير. فإذا اجتمعت هذا العوامل في اية غرض، يكمن أن نطلق عليه مال. فالأموال قد تأتي على شكل سلعة أو على هيئة عملة تصدر من قبل البنوك المركزية ، أو شيكات، أو بطاقات الائتمان والخصم، وصولاً إلى العملة الرقمية البيت كوين Bitcoin”“.  أثارت هذه العملة الرقمية جدلاً واسعاً في عالم المال، وما نعلمه أن هذه العملة هي المستقبل. في هذا المقال سنحاول فهم تأثير هذه العملة على النظام المالي العالمي في المستقبل، كما سنحاول تفسير النظرة الشرعية في زكاة البيتكوين و بيعها (الصرف).

 

  1. البيتكوين الحاضر و المستقبل:

عادة ما تصدمنا التكنولوجيا سابقاً ببعض الابتكارات المختلفة والغريبة، ومع ذلك أصبحت لدينا قابلية لهذه الصدمة، بحيث نستطيع التكيف في كل ما هو  جديد، وآخرها العملة الرقمية البتكوين. لو نظرنا في تطور تكنولوجيا الدفع خلال التسعينات إلى الآن، لوجدنا أن مقاصد المال تحولت إلى بت كوين الرقمية، ابتداءً من بطاقات الخصم والى وقت قريب استعمال أجهزة الهواتف الذكية في عملية الدفع. فأغلب معاملاتنا اليومية تتم عبر الشبكة العنكبوتية ، ليس بمقدورنا رؤية العملة أو قبضها خلال المعاملة، وما نراه إنما هو ترقيم على الشاشة، وما يتم حقاًهو تتم من خلالها عملية نقل المعلومات الرقمية من المتجر إلى البنك لتحدث عملية الخصم.

ظهرت في الآونة الأخيرة عدة أنواع من العملات الرقمية، ولعل أشهر العملات الرقمية المشفرة والتي يتم تداولها بشكل واسع في السوق هي البيتكوين.ففي عام 2008، تم نشر دراسة تحت اسم مستعار ب "ساتوشي ناكاموتو" حول إنشاء عملة تعتمد مبادلاتها على مبدأ الند للند. تتميز هذه العملة على قدرتها في تسهيل أنواع مبتكرة من المعاملات، وخفض التكاليف وذلك عن طريق الإنترنت، وتوفير حماية على خصوصية المستخدمين لهذه العملة، كما أنها خالية من أي سيطرة أي حكومة مركزية لها، وتعدّ هذه الورقة البحثية مهمة كونها تكشف ولأول مرة عن الرؤية الشرعية لمفهوم العملة الرقمية. ففي عام ٢٠٠٩، تم تبني أول موقع إليكتروني لتداول العملة المشفرة البيتكوين.

فالعملة الورقية التقليدية–كما نعلم- يتم طباعتها ، ولكن كيف يتم صناعة هذه العملة الرقمية وكيف يزيد عددها؟بدأت عملة البيتكوين بعملة واحدة ، إلى أن وصل إجمالي البيتكوين في السوقالعالمي حالياًحوالي ١٦ مليون وحدة. وقد تم وضع التشفير على ألايزيد عدد هذه العملة  عن ٢١ مليون،وبلغ سعر وحدة البيتكوين حالياً ما يقارب 1100 دولار أمريكي ، ومن هنا يتضح عدم وجود جهة منظمة لهذه العملة، إلا أن الشركات و المحلات والأشخاص الذين قاموا بتبني العملة في تزايد مستمر، وبذلك تم إضفاء غطاء من المصداقية عليها .

إن  كمية الذهب أو الفضة في السوق تتزايدعبر التعدين،وكما هو الحال للبيتكوين فهناك بعض البرامج تقوم بعمل تعدين افتراضي لهذه العملة، وكلما كان مستوى الأجهزة المستخرجة متطورة، كان الاستخراج أسهل ،ويتم التزايد بشكل أكبر، في الماضي كان البيتكوين يعادل بعض السنتات؛لكون عملية التعدين أرخص،والآن يقارب الألفحيث العملية تساوي اأثر من مائة، ويتم حفظ العملة بمحافظ رقمية، وقد تكون هذه المحفظة في الهاتف أو الحاسوب أو الويب، وفي حال استطاع شخص اختراق هذه المحفظة فكانه سرق المحفظة في العالم الحقيقي. وفي المقابلفي حال تم سرقة النقد من البنك، فإن الشخص يستطيع تقديم شكوىللجهة المسؤولة ، بينما هذا لا ينطبق مع البيتكوين.

بيد أن بداية Bitcoin في السوق العالمي ارتبط ضمنا بالتجارة اللاشرعية؛ لكون هذه العملة تسعى لخلق المال التحرري من المأمن القياسي ومن تجاوز رقابة الحكومات، أو كونها ضمنت ما يعرف بالعملة المظلمة؛ التي يستخدمها تجار المخدرات لغسل الأموال من خلال السوق السوداء على الإنترنت. فهذه العملة لديها بالفعل القدرة على كل هذا وأكثر منه، لذلكومن حين نشأتها صدمت العالم الاقتصادي K,hojgt هل يتم تصنيفها من الأموال أم السلع؟ وهل تفرض حولها الضرائب؟وقد منع تداولها في كثير من الدول مثل روسيا، والإكوادور، والأرجنتين، و هونج كونج، وغيرها. وتكمن حجة هذه الدول أنه لا يوجد قانون ينظم هذه العملة الرقمية، ولذلك تم إدراجها ضمن قانون مكافحة جرائم غسيل الأموال والاحتيال. في حين أن هناك بعض الدول لم تعترف بالبيتكوين كعملة، ولم تصدر قراراً بتنظيمه أو منع تدواله، وبذلك فإنه معفى من ضريبة القيمة المضافة، ومن هذه الدول: المملكة المتحدة، وجنوب أفريقيا، وكندا و الدنمارك، وأغلب دول الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل، فإن دولاً مثل: ألمانيا، وبلجيكا، و أستراليا، والسويد ، واليابان، والولايات المتحدة الأمريكية  قامت بالاعتراف رسمياً بالبيتكوين كعملة. في عام ٢٠١٣ تم استدعاء بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من قبل الكونجرس ليبين موقفه من العملة، إلا أن حديثه خالف التوقعات، وأشار إلى ان العملة الرقمية قد تكون في المستقبل شكلاً من أشكال المال الشرعي المتداول. مؤخراً، تم إعادة النظر حول البيتكوين، فأقدم كثير من الشركات الكبرى قامت على تداول العملة مثل الفيس بوك وأي باي وغيرها من المواقع.

وهناك عدد من الدول قامت بدراسة جدية لإنشاء عملتها الرقمية الخاصة بها تمكنها من إدارتها وتنظيم تداولها مثل السويد وسويسرا وكندا. فنقل المال بين البنوك المركزية من دولة إلى أخرى هي عملية  مكلفة؛تقدر كلفتهابعشرات المليارات إن لم تكن المئات. كما أن المستهلك البسيط سيعتمد على الإنترنت في معاملاته اليومية، ولذا فإن  هذه التكنولوجيا وتطويرها تعدّ بمثابة المستقبل للبنوك المركزية. كما أن هناك بعض التحديات، والتي تتمثل في عملية السيطرة، والتشفير،  وعملية النقل، وغيرها. يتوقع الخبراء أن مستقبل البيتكوين مضمون في حال عدم إصدار البنوك المركزية عملتها الرقمية الخاصة، وتعد البيتكوين الآن مدرسة فتحت مجالاً واسعاٌ حول مستقبل النقد المتداول.

 

  1. مستقبل النظام المالي العالمي مع العملة الرقمية:

بدأ استخدام المال للتجارة بدلاً من المقايضة منذ آلاف السنين، حيث تم استخدام المعادن كمالٍفي عام ألف قبل الميلاد، ثم ظهر المالُ الورقي في عام ٨٠٠ ميلادية في الصين، كما أدى توسع الإمبراطورية البريطانية حول العالم إلى ظهور الحاجة إلى تبادل العملات لتمويل الثورة الصناعية ، والحاجة إلى تحويل الأموال على نطاق واسع، ومنذ ذلك الحين تم ابتكار الشيكات، والسندات الاذنية. وبطبيعة الحال أصبحت لندن مركزاً للمعاملات المالية والابتكار، ولا تزال إلى الآن من أهم المراكز المالية في جميع أنحاء العالم.

ما بين عامي (1880-1914)، ظهر معيار الذهب كوسيط في عملية الصرف، بحيث يتم صرف النقود على هيئة معدن الذهب، ومن ثم تحويله إلى دولة أخرى ليتم صرفه على هيئة عملة الدولة المستلمة للذهب، حيث إن لكل عملة قيمة محددة من هذا المعدن.  وقد تسببت الحرب العالمية الاولى في نهاية معيار الذهب. ولكن ليس بشكل رسمي، وظل في طي النسيان لعديد من البلدان، حيث قاموا بتعليق العمل في هذا النظام لعدة أمور، أبرزها الانهيار العظيم (1929)، وعدم مرونة هذا  المعيار خلال المتاجرة الدولية، والصدمات الأخرى التي تلتها والتي أدت إلى الحماية.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمعت كل من الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول في فندق بريتون وودز في العاصمة واشنطن لتحديد النظام المالي العالمي الجديد خلافاً لمعيار الذهب، وقد تم توقيع الاتفاقية، والتي عرفت باسم بريتون وودزوكان أهم بنود الاتفاقية هي ربط جميع العملات بالدولار الأمريكي، والذي لا يزال بدوره حالاً محل الذهب، حيث إن الدول تحتفظ بالدولار الأمريكي بدلاً من الذهب. وأيضاً اعتمد الدولار لتمويل خطة مارشال لإعمار أوروبا. كما تم إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هذا المؤتمر واعتمد عليه كون الدولار العملة الثابتة للبنك. وفي أواخر 1971، وقع الرئيس نيكسون لفك ارتباط  الدولار الأمريكي بالذهب، ومن هنا بدأت البلدان الكبرى في تعويم عملاتها،أدى إلى إنهيارنظام بريتون وودز، بيد أنه أعطى الدولار ميزة مقابل العملات الأخرى، بحيث إن أغلب السلع الرئيسة مثل النفط و الذهب والصلب تم تسعيره بالدولار. كما أن الدولار مقبول في المعاملات التجارية بين البدان، ويتم حفظهكاحتياطي نقدي في البنوك المركزية.

يتوقع الخبراء أن العملة الرقمية ستساعدفي توسيع الاستثمار والتجارة بينالدول، خاصة بين مجموعة ال٢٠. فالعملة الرقمية قد تغير السلوك المالي لبعض الدول، وخاصة في نوع الاحتياط النقدي لها. فأغلب الاحتياط النقدي للدول النامية تأتي على شكل عملات نقدية كالدولار واليورو، وغيرها من العملات السيادية. في حين، إذا تم الإقدام على إنشاء العملة الرقمية الخاصة لكل دولة، فإن أغلب الدول قد تغير شكل المحفظة النقدية لها، بحيث من المتوقع زيادة نسبة الذهب من إجمالي الاحتياط النقدي، وذلك يرجع إلى الوجود الافتراضي للعملة المتداولة، دون وجود ملوسي لها على أرض الواقع. بينما سيبقى الذهب السلعة الثمينة التي تصلح لتكون جزءا من الاحتياط النقدي في البنوك المركزية.

 

  1. النظرة الشرعية حول العملة الرقمية :

يرتبط كنز المال وجمعه بالركن الثالث في الإسلام وهو الزكاة، والذي يفرض على المسلم أداؤها متى ما بلغت النصاب،فالزكاة لغة تأتي بمعنى الطهارة، أوالزيادة، أوالنمو، أما شرعاً فهي ما يخرج من مال أو بدن على وجه لطائفة مخصوصة. وسميتالزكاة بذلك لأنها تنمي المال وتصلخه، وتؤلف بين الأغنياء والفقراء. وشرع الله الزكاة لتكون ركناً من العبادات المفروضة على المسلمين، فهذا الإنفاق يحرر الإنسان من الحب الشديدللمال. ويبن المولى عزوجل في سورة التوبة الحكمة العالية من الزكاة وذلك في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا). فالزكاة تطهر النفس من الشح، وتنمي خصال الخير و الإيثار والرحمة.

وبعد أن بيّنا العملة الرقمية الجديدة لمستقبل العالم، ما النظرة الفقيهة إلى العملة،في حقيقة الأمر هذا سيدفعنا إلى فهم النقد الرقمي من المنظور نفسه للجدل في إشكاليةالمرحلة التي ظهر فيها النقد الورقي من قبل. فقد سبق وأن اختلف العلماء حول النقد الورقي، وحول تصنيفه من الأموال أم لا. ولكن ما الأسس التي تم اعتمادها في زكاة الأوراق النقدية. فقد تداول علماء المسلمين هذه القضية منذ أكثر من قرن، فظهرت الردود والنقاشات حتى في المدرسة الفقهية الواحدة والإقليم نفسه، وإن كان كلامكلا الفريقين من المجيز و المانع  له تنظير في الردود والحجج عند الآخرين في المدارس الفقهية الأخرى. حيث ُصدرت العديد من الفتاوى حول تفاضل العملة الورقية مع العملة المعدنية، فقد أفتى بعض العلماء -مثل الإمام نور الدين السالمي- بعدم جواز إحلال الأوراق النقدية محل الذهب والفضة في الزكاة. وحجته أن الذهب والفضة مهما تغير الزمان والمكان فإن قيمتهما لاتزال محفوظة، بينما الأوراق تذهب قيمتها عند التلف أو التضخم الجامح. وقد أباحهمعاصره من العلماء الإمام القطب.

وقد ذكر الشيخ أحمد بن حمد الخليلي وغيره من العلماء أننا لو نظرنا للثروة في وقتنا الحالي نجد أغلبها تأتي على شكل أوراق نقدية،  فهذه الأوراق في وقتنا الحالي هي التي تقضى بها المصالح، وتتبادل بها المنافع، وبمعنى آخر  فالأوراق النقدية مخرجاتها مساوية للذهب والفضة في السابق. فالحكمة الإلهية من مشروعية الزكاة هي لسد حاجات المحتاجين وتطهير نفوس الأغنياء من الشح ، وتنمية التآلف بين الغني والفقير. والقران الكريم أكد على وجوب الزكاة في الأموال، ولم يميزها بصنف، كما بينت الآية الكريمة في سورة التوبة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا).ولذلك صنفت الزروع والثمار وكذلك الأنعام من الماشية من صنوف المال التي يحتاج إليها الناس في قوام حياتهم في الأزمنة السابقة ؛ لأن الحياة تتوقف على هذه الأقوات.  بينما النقدان (الذهب والفضة)  كانا وسيلة لتبادل هذه المنافع وغيرها فلذلك عدّا من ضرورات الحياة ، فشرعت الزكاة فيها، ومما هو جدير بالانتباه أن نفوس البشر جميعاً تتطلع إلى النقدين وإلى هذه الأصناف الأخرى أكثر من أي نوع آخر من صنوف المال ؛ لحاجتها الملحة إليها، فكان من حكمة الله تعالى البالغة أن شرع -بواسطة نبيه عليه الصلاة والسلام- أخذ الزكاة من هذه الأصناف لسد حاجات الفقراء؛ لأنها وحدها هي الأموال التي كانت متوفرة عند الناس في هذا الوقت.

 فالأوراق النقدية حلت محل النقدين في التثمين،وقد تحل العملة الرقمية محل الأوراق في المستقبل. وكما نعلم فإن حاجة الفقراء للأوراق النقدية في زماننا أشد من حاجتهم إلى الذهب والفضة. وقد كان مقصد الشارع الحكيم في مشروعية الزكاة في الأموال ما سبق بيانه من الحكم البالغة، والتي تعود مصلحتها إلى الإنسان فرداً ومجتمعاً. حيث نجد أن الناس اليوم قد جعلوا من هذه الأوراق الاساس الذي تدور عليه جميع معاملاتهم الخاصة والعامة.

يتضح من قول  الشيخ أحمد بن  حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة حول تصنيف الأموال، التي تجب الزكاة فيها الآتي:

  • يجب أن يكون المال متعارفاً عليهمن قبل الناس في قضاء أمورهم ومصالحهم. وكما هو المعلوم أن جميع المعاملات اليومية تتم عبر هذه الاوراق النقدية.
  • يجب أن يكون للمال مرجعية لإدارتها وتسعيرها وإعطاءهاالصيغة القانونية؛ فالبنوك المركزية هي الجهة المخولة في طباعة الأوراق النقديةو إدارتها في الاقتصاد.
  • استقرار عملية الصرف. عادة ما ترتفع وتنخفض العملة مقابل الأخرى، ولكن في حالات التضخم الجامح، فإن الناس عادة ما تلجأ إما إلى المقايضة بسلعة، أو استعمال عملة أجنبية أخرى في عملية البيع و الشراء.

والسؤال الذي يجب أن يطرح: أين موقع عملة البيت كوين في تصنيف الأموال التي يجب الزكاة فيها؟

نظراً لعمر البيتكوين القصير نسبياً، فإن العملة لم تستوف أي شرط من هذه الشروط، ولكن هناك نظرة متفائلة حولها في القريب الآجل؛  فكثير من الشركات الكبرى وعدة دول قامت بتبني العملة، وكما أن القفزة الكبرى في سعر صرفها مؤخراً قد لفتت أنظار الناس والمستثمرين على حد سواء، بحيث يمكن تصنيفها كملاذ آمن مثل الذهب. قد يواجه البيتكوين معضله في استيفاء شرط المرجعية و استقرار سعر الصرف؛ ولكن يمكن للبنوك المركزية إتمام هذه الشروط عبر إصدار عملتها الرقمية الخاصة، وهذا هو الأرجح، وبذلك تجب الزكاة فيها كما هو الحال في العملة الورقية.

إن اخراج الزكاة–كما نعلم- مرتبط بالحول ؛ ومعناه أن يمر على امتلاك النصاب عام هجري، حيث عادة ما تقيّم العملة الورقية بالذهب، ويرجع لسعر الذهب في السوق. ومن ثم ماهي رؤية الادخار في العملة الرقمية، هل هي تصنف من منظور القيمة كالعقار، حيث إن شراء العقار عادة لا يكون بهدف الاتجار، وإنما كوسيلة لحفظ المال؟ أم تصنف كالأموال النقدية التي تجب فيها الزكاة؟ وحتى في الماضي القريباستخدمت البيت كوين كوسيلة للتهرب من الضرائب، وقد قامت بعض الدول مثل المانيا والسويد بتصنيف البيت كوين كعملة، وفرضت الضرائب في معاملاتها. كما نجد أن هنالك أشخاصاً استثمروا أموالهم في هذه العملة، فهل يعدذلك تهربا من دفع الزكاة؟أو تعدّ من الأموال الجامدة كالعقارات؟التهرب من دفع الزكاة والضرائب بشكل عام ليس محصوراً في عدد صغير من الأفراد أو الشركات حول العالم. فإذا نظر الفقيه من زاوية عدم الشرعية فقد أغلق باب المعاملة، بيد أن مفهوم المال في الإسلام مختلف؛فكل ما له قيمة يشمله التداول التجاري في البيع والشراءومتعارف عليه وله قيمة الاستثمار والادخار، يضمن من ضمن مفهوم المال. وفي وقتنا الحالي فإنه يمكن صرف البيت كوين أمام عملة من العملات المتداولة مثل الدولار أو اليورو، ومن هنا فبالاستطاعة الرجوع للذهب. وفي حال إصدار البنوك المركزية عملتها الرقمية الخاصة، فإنها ستقيّم مباشرة بمعدن الذهب ؛ كونها هي العملة المشفرة للنقد الورقي، كما أن العملة الرقمية تتميز بالسيولة النقدية في باب المعاملات بخلاف العقار.

أما في باب البيع فقد دل مشروعية البيع في الكتاب والسنة والاجماع، فقد قال الله تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا). فالحكمة من مشروعية البيع هي التوسعة على العباد وقضاء المصالح والمنافع.

و أركان البيع تشمل العاقدين، والصيغة، والمعقود عليه أي ( محل العقد). حيث إن محل العقد يشترط فيه ما يلي:

  1. أن يكون منتفعاً به شرعاً وعرفاً.
  2. أن يكون المبيع موجوداً عند العقد. فلا يجوز بيع المعدوم.
  3. أن يكون معلوماً للعاقدان.
  4. أن يكون مقدوراً على تسليمه حسّاً وشرعاً، فلا يصح بيع طائر في الهواء.
  5. أن يكون مالاً متقوماً شرعاً.

وعلى الرغم من اختلاف العلماء حول الأوراق النقدية؛فإن لها وجوداً ملموساً، فبالاستطاعة تسليمه حسّاً. بينما العملة الرقمية عكس ذلك تماماً. فمن خواص العملة الرقمية عدم وجود حقيقي لها على أرض الواقع، مما يفتح مجالاً فقهياً لإعادة النظر حول شروط ( محل العقد). فالاتجاه إلى العملة الرقمية شبه محتوم خلال العقدين القادمين. فبالإمكان إدراج المحفظة الإلكترونية المخزنة للعملات المشفرة تحت الوجود الحسي. حيث باستطاعة هذه العملات الرقمية أن تقايض بسلعة أو خدمة منتفع بها شرعاً وعرفاً.

كما أن هناك بعض صور البيوع الجائزة مثل المرابحة وبيع السلم. وفي المقابل فالبيوع المحرمة تشمل الربا، بيع الذرائع، بيع الضرر، وبيع الغرر. وكون البيتكوين تم تصنيفه على أنه نوع من العملات، فما هي رؤية الفقهاء في صرف البيتكوين؟فالصرف شرعاًهو بيع من أنواع البيوع، حيث يأتي البيع على شكل المبادلة بنفس الجنس كالذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، أو المبادلة بجنسين مختلفين مثل الذهب بالأوراق النقدية، أو عملة بعملة. وقد أجمعت الأمة على مشروعية الصرف إذا استوفت الشروط الآتية:

 

  • الشرط الأول: إذا اتحد الجنس حرم التفاضل:

تبين القاعدة أنه إذا اتحد الذهب مع الذهب أو الفضة مع الفضة، أو الدراهم مع الدراهم، أوالذهب مع الأوراق النقدية، وغيرها فإنه يجب التساوي في القيمةاستناداإلى الحديث النبوي الشريف، حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم- عن بيع الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب ، إلا سواء بسواء ، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا ، والفضة بالذهب كيف شئنا، فسأله رجل ، فقال : يدا بيد).

  • الشرط الثاني: وجوب قبض البدلين قبل التفرق:

اختلف العلماء حول آلية التقابض،بحيث يشترط فيه التقابض في المجلس ، وهو ما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (يداً بيد) ، ولكن الفقهاء المعاصرين عدّوا تسجيل المبلغ في الحساب البنكي بمثابة القبض ،حيثأجمعوا في التعامل بالعملات على ما يلي: أن يتم البيع والشراء بصورة فورية وليس فيها شرط التأجيل ،و أن يدفع ثمن الصفقة بالكامل دون أي تأخير ، وأيضا ألا يكون هناك فائدة في إجراء هذه الصفقات.

إن العملة الرقمية كما أشرنا سابقا أثارت اهتمام المضاربين و المستهلكين على حد سواء، بحيث إن لدى البيتكوين القابلية للصرف لعملات أخرى مثل الدولارو الين وغيرها من العملات، وبذلك فقد استوفى الشرط الأول، كون أن البيتكوين يختلف عن جنس العملات الورقية، وقيمته تحدد عبر آلية العرض والطلب. أما شرط التقابض، فيمكنعدّ تسجيل المبلغ في المحفظة الرقمية أو الحساب البنكي بمثابة القبض. فالبيتكوين لم يجلب السكينة لعالم المال؛ ولكنه فتح مجالاً واسعاً حول مستقبل النقد المتداول، وأيضاً حول الرؤية الفقهية للعملات الرقمية.

المراجع:

  • Popper, N. (2016). Digital gold: bitcoin and the inside story of the misfits and millionaires trying to reinvent money. New York: Harper.
  • Appleyard, D. R., Field, A. J., & Cobb, S. L. (2010). International economics. New York: McGraw-Hill Irwin.
  • الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، الفتاوى، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مسقط، ٢٠١٣.
  • محمد بن يوسف أطفيش، الذهب الخالص، مكتبة الضامري، ط٢، مسقط، ١٩٩٨م.
  • مكتبة الإمام السالمي، جوابات المام نور الدين السالمي،ج٢، ٢٠١٠
  • ماجد بن محمد الكندي، المعاملات المالية والتطبيق المعاصر، مكتبة الجيل الواعد، ٢٠٠٥.

 

 

أخبار ذات صلة