العدل والإحسان في القرآن الكريم.. مناهج النظر والتصرف

anis-coquelet-LanJEVFzxPw-unsplash.jpg

أحميده النيفر

"الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ"(1)

"إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ"(2)

1-- في فقرة دالّة صدّر بها فضل الرحمن مالك(3) [1919- 1988] -لباحث الباكستاني المختص في الدراسات الإسلامية- كتابه "الإسلام وضرورة التحديث" (4) بمقولة مُفادها: أنّ دراسته للتغيّر الاجتماعيّ في العالم الإسلامي انتهتْ به إلى الوقوف على العلاقة العضوية التي تربط ذلك التغيّر بالنزعة العقليّة الإسلامية الموصولة "بأسلوب تفسير القرآن". معنى هذا أنّ ما يشهده عالم المسلمين من تعثّر في هذا العصر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة إنّما يرجع إلى"الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه".

لهذه المقولة الواردة في كتاب فضل الرحمن المنشور سنة 1982 سبقٌ صدعتْ به المدرسة الإصلاحية قبل قرن من الزمن،ضمن مطالبتها بالتصدي لتخلّف المسلمين الشامل. كان المبادر لذلك جمال الدين الأفغاني (تـ 1314/1897) حين حدّد موقفا واضحا من التراث التفسيري قائلا: "القرآن وحدَه سبب الهداية والعمدة في الدعاية، أمّا ما تراكم عليه وتجمّع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظريّاتهم فينبغي ألا نعوّل عليه".

حصل ذلك ضمن مسعى تحديد عناصر الوعي التاريخي التي كان من أهمّها لزوم مراجعة المنظومة الفكرية والمنهجية التي يعتمدها المسلمون في قراءة تراثهم التفسيري للقرآن الكريم.  لذلك لم يتردد الأفغاني في القول  بأسلوبه المميّز: "القرآنَ، القرآنَ! وإنّي لآسف إذ دَفن المسلمون بين دفتيه الكنوز، وطفقوا في فيافي الجهل يفتّشون عن الفقر المُدقع... وكيف لا أقول:وا أسفاه!  وإذا نهض أحدٌ لتفسير القرآن، فلا أراه إلاّ يهيم بباء البسملة، ويغوص ولا يخرج من مخرج حرف الصاد في الصراط حتى يهوي هو ومن يقرأ ذلك التفسير في هوّة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيويّة والأخرويّة"(5)

مرور قرن من الزمن على هذه المقولة لم يحقق أثرا جليًّا في بلورة هذا النهج رغم وجود مساع ومشاريع لعلماء ومفكرين يقرّون بأن نهاية انهيار عالم المسلمين تبدأ مع إجراء تغيير في التقاليد الثقافية. هذا مما يدفع إلى طرح سؤال يتعلق بهذه "التأتأة" الحضارية التي يعاني منها الفكر الإسلامي المعاصر،وبالبحث عن أسبابها، وبقصور الأثر الإجرائي التركيبي للمحاولات التجديدية اللازمة لهذه القفزة المنشودة والتي تطاول عليها الزمن.

كيف نفسر هذا التعطل اللافت في المرحلة الحديثة والمعاصرة رغم قدر مهم من الاتفاق على صحة مقولة الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن.

2- لزوم ما يلزم في هذا الباب يرتبط بتحديد مفهوم التجديد في خصوص المفهومات المفتاحية الواردة في القرآن الكريم من جهة، وبمعضلة المنهج الذي ينبغي اعتماده لتحقيق قراءة تجديدية من جهة أخرى. السياق الذي يتنزّل فيه هذا المبحث المفاهيميعن "العدل والإحسان في القرآن الكريم"يتحدد ضمن ثنائية التجديد والمنهج، وجدلية هذين العنصرين بما يُفضي إلى أمر أساسي: أن القرآن-مع أنهظل يتنزل منجّما متدرجا مع الأحداث والمناسبات التي واكبت نشأة الجماعة المؤمنة في مكة والمدينة كان -في الوقتذاته - نصاوكتابا مرجعيا بمعنى أنهبنية كُلّيةمفتوحةعلى أفق ممتد. ذلك ما نستفيده حين نتدبر قوله تعالى في محكم التنزيل: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ "(6)

عند التدبّر يتبيّن أننا أمام نص له-من جهة تاريخٌ وحيثيات وسياق (مكي ومدني– مناسبات أو أسباب – أشخاص وأحداث وقصص) لكنه -رغم ذلك-مُنعَتِقٌ من هذا الزمن، فهو نص ذو هوية دلاليةمستقلة ووحدة ناظمةبما يجعل له رؤيةً ومساراً مفتوحين على زمن جديد قادم.

كلمة "كتاب" في الآية السابقة ذات حمولة خاصة بما تفيده من مآل الآيات والمقاطع المنزلة مُنَجَّمةًبالنظر إلى ما ستتحوّل إليه من نص واحد وموحَّد. ما تلا عبارة "الكتاب" من اسمي الفاعل"مصدقا" و"مهيمنا" يؤكد هذه الحركة في الزمن بما يفيده اسم الفاعل من التعبير على أزمنة مختلفة بصيغة واحدة (7)،وهو ما يتواصل فيما اختتمت به الآية من طلب للتسابق والتنافس نحو يوم قادم جامع وفاصل، كل هذه القرائن تَسِمُ الآية بسمة الانعتاق من الماضي بالانفتاح عبر الحاضر على الاستقبال.

اهتم بهذا الاندغام بين الأبعاد الزمنية التي تتنزل ضمنها آيالقرآن كل من محمد اقبال(8)وفضل الرحمن عند تناولهما للمنهج التفسيريّ القادر على إحداث تغيير في البناء الثقافيّ الإسلاميّ.

لقد اتفقا على أن النص القرآني لا يمكن أن يكون إلاّ تاريخيّا؛ذلك أنه واكب تكوّن الأمة الإسلامية،فكان مراعيا لخلفيّة الوضع التاريخيّ الاجتماعيّ القائم عندئذ. هو من هذا الجانب ردٌّ على تلك الوضعيّة بما يتألّف من تعاليم أخلاقيّة دينيّة اجتماعيّة تجيب عن معضلات معيّنة تمّت مجابهتها في الوضعيات التاريخيّة القائمة(9) لكن هذه الصبغة التاريخية لا يمكن أن تُغفل التصوّر القرآني للوجود بأنه خلق يزداد ويرتقي بالتدرج. مقتضى هذا التصوّر أن الخطاب القرآني يبني في الوقت ذاتهمساراً لانصهار مجتمعي وقيمي جديد بما يشتمل عليه من مفهومات ومبادئ عامة شاملة وتنظيم لأمة معيّنَة تُتَخَذُ نواةً لبناء منظومة عالمية(10) بذلك يلتحم التأكيد على المبادئ التي تنهض عليها الحياة الاجتماعية للبشر جميعا عبر تطبيقها على حالات واقعيّة في ضوء العادات المميزة للأمة التي يعيش الرسول وأصحابه بين ظهرانيها بما يفضي إلى تساوق بنائي بينالبعد العالمي الإنساني المستقبلي والبعد الخصوصي التاريخي.

3- عند استحضار هذا المنهج التاريخي التركيبي لقراءة مفاهيمية لـ"العدل والإحسان في القرآن الكريم" يتحدد لنا أمران: تعريف لمفهوم التجديد من جهة، وخصائص هذا المنهج التاريخي التأليفي لدلالات المفهومات القرآنية موضوع الدرس من جهة أخرى.

* التجديد بهذا المنظور هو أن يبحث المسلم نصوصَه المؤسسة من جديدضمن الدائرة الفكرية العالمية بمايجعل مباشرةَ النص الديني وِفْقَ قواعد الحركة العقلية الانسانية ما كان منها ثابتا أو متغيرا.

* تتحدد أبرز نتائج هذا المفهوم في المستوى المنهجي في مسألتين أساسيتين: العالم والإنسان.

  ـ أ  ـالعالَم– قرآنياً- ليس كتلة ميّتة من المادة لا يفعل فيها الزّمان شيئا؛ إنّما هو حياة قابلة للزّيادة وكون في نموّ(11). على ذلك فحركة الزّمان لا تُتَصَوَّرُ على شكل خطّ قد رُسِم بالفعل؛ إنّما هي حركة تُبنَى في صيرورة ذات ممكنات متنوّعة قابلة للتحقيق.

  ـ بـ  الإنسان فاعل يُكسِب الزّمنَ صفتَه التاريخيّة الحيّة، إن هو أدرك المستويات المتباينة للزّمن، وإن هو تفاعل مع أبعاد ذاته الإنسانيّة. بناء على ذلك فالمستقبل غير مُحدّد سلفا؛ لأنّ غائيّة الحياة إن أصبحت إلزامية ومفروضة؛ فهي تجعل الزّمنَ باطلا والحريّةَ لاغيةً. من ثَمّ فالمستقبل يظّل غير مُتَـنـَبأً به؛ لأنّ الزّمن أمر حقيقّي تُبرزه غائيّة انتقائـيّة عبر إضافات الإنسان التي لا تتوقف.

عند هذا الحد النظري لا بد من أن نستعرض في مستوى أول الفهم المعتمد لدى عدد دالٍّ من المفسرين للقرآن الكريم لمفهومي العدل والإحسان، لننتهي في مستوى ثان إلى ما يمكن التوصل إليه بالمنهج التجديدي،وما يشتمل عليه من عنصر تاريخي ودلالي تأليفي من معان للمفهومين أنفسهما.

أول ما يمكن أن يُبدأ به يتعلق بقوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِالْفَحْشَاءِوَالْمُنكَرِوَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(12). ما يقدمه كلٌّ من الطبري والزمخشري والرازي في خصوص مفهومي العدل والإحسان لافت لما يصدرون عنه جميعا في المستوى المنهجي.

يرىالطبري-المتوفى سنة 310 هـ-أنّ الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله "بالعدل؛ أي الإنصاف الذي يقتضي الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولّي الحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يدٌ تستحق الحمد عليها، كان جهلا بنا حمدُها وعبادتُها، وهي لا تنعم فتُشكَر، ولا تنفع فتُعْبَد ، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"(13)

في هذا الموضع يرى الطبري أن شهادة أن لا إله إلا الله هي العدل، ويكون الإحسان المأمور به مع العدل:"الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى، في الشدة والرخاء والمكره والمنشط وذلك هو أداء فرائضه"(14). .
في القرن السادس الهجري نقرأ للزمخشري في الكشّاف أن العدل هو "الواجب؛ لأن الله تعالى عَدْلٌ فيه على عباده، فجعل ما فرضه عليهم واقعا تحت طاقتهم" بينما الإحسان هو "الندب. وإنما علّق أمره بهما جميعا; لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيَجْبره الندب"(15). ثم يسارع الزمخشري تأكيداً لهذا التفسير باللجوء إلى الحديث النبوي، كما فعل من قبله الطبري مستشهدا بحديث من علّمَه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- الفرائضَ فقال: والله لا زدتُ فيها ولا نقصتُ فقال الرسول "أفلح إن صدق"، عاقدا الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط.

مع الرازي -المتوفى سنة 606 هـ- لا نجد إضافة تُذكر على ما سبق؛ ذلك أنه لم يزد على اعتبار "العدل هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن الإحسان هو القيام بالفرائض وصلة ذي القرابة"،مستعيدا ما ذكر قبله في خصوص الفحشاء وهو الزنا، وأن المنكر هو ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، وأن البغي هو الاستطالة "(16).

ما يجمع بين هذه التفاسير لآية سورة النحل هو الاقتصار على المعنى الحرفي للنص والاكتفاء في التفسير باللغة والاثر بما يجعل العدل والإحسان بالتكليف فرضا ونفلا وأن قيمتي العدل والإحسان لا تنفصلان عن مجالي العقيدة والشريعة.

4-لا يزيد محمد الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1393/ 1973 م في التحرير والتنوير على ما أكّده سابقوه من تفسير لمفردتي العدل والإحسان ضمن المجالين الخاصين: العقدي والتشريعي. وهو في ذلك يذهب إلى عدّ العدل والإحسان متقاربين تقاربا يبلغ درجة الترادف. ينطلق ابن عاشور لإبانة العلاقة بين ما ابتدئ به الكلام من أن في القرآن تبيانا لكل شيء وأنه رحمة وبشرى للمسلمين؛ليؤكد على الجانب البلاغي المعروف بـ "حسن التخلص"الذي يتيح بلوغ المقصود، وهو أن "أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي عائدة إلى الأمر والنهي؛ إذ الشريعة كلُّها أمر ونهي، والتقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب"(17). العدل بذلك إعطاء الحق إلى صاحبه،وهو مأمور بهفي الأقوال والمعاملات كلها، سواء أكانت مع النفس، أم مع المخلوقات، أم مع الخالق. عند تناول الإحسان فإن صاحب التحرير والتنوير يرى أن الاختلاف عن العدل هو بالدرجة وليس بالنوع؛ لأن "الحسن: ما كان محبوباً عند المعامل به، ولم يكن لازماً لفاعله". فالإحسان طوعيّو"هو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها". ثم يضيف:"وأعلى الإحسان ما كان في جانب الله تعالى... ودون ذلك التقرب إلى الله بالنوافل". مؤدى ذلك أن العدل واجب بينما يرجع الإحسان إلى أصول وفروع آداب المعاشرة في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، إلا ما حُرِّم بحكم الشرع. الواضح أن ابن عاشور بهذا التفريق النسبي بين العدل والإحسان يجعل الآية جامعة لأصول التشريع، فيما يتفرع من شُعَب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب وحقوق وأقضية وشهادات ومعاملة مع الأمم.

مفسّر معاصر ثانٍ هو محمد حسين الطباطبائي المتوفى سنة 1402/ 1981 صاحب الميزانلا يختلف عن ابن عاشور في المنهج وفي مقاربة المسألة. عند تفصيله لمعنى العدل والإحسان ينزّل القيمتين ضمن أثرهما المجتمعي مما يجعل دلالتهما شديدتي التقارب لكونهما أهم ما يقام شرعيا "صُلبَالمجتمع ؛ لأن صلاح المجتمع العام أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه". أساس النظر لقيمتي العدل والإحسان -عند صاحب الميزان- تشريعي مقاصدي؛ لكونهما من مراد الكليات الشرعية ومشمولاتها؛إذ أنهما تنفيان الضرر وترفعانه بالنظر إلى أن"سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش فيه، وما أصعب أن يُفلح فرد في مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كل جانب"(18). بذلك يغدو العدل والإحسان حِكمتين من الحكم التي تحقق مصالح المكلّفين العاجلة والآجلة الّتي شُرعت الأحكام مِن أجلِ تحقيقها.

غاية العدل والإحسان على هذا هي استصلاح "الإنسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته"، بما يُفضي إلى إصلاح المجتمع؛مواكبة لكافة "التعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم" لمفاعيلها الاجتماعية.

بعد ذلك يفسر الطباطبائي بأن "العدل هو المساواة في المكافأة؛ إن خيرا فخير، وإن شراً فشر، والإحسان: أن يُقابَل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه".

ما ينتهي إليه صاحب الميزان -بعد التحديدات المنطقية التي يتعيّن العدل فيها؛ بلزوم الوسط، واجتناب الإفراط والتفريط، وما يرتبط بذلك من تفصيلات لمواقع العدل الاعتقادية والسلوكية والتواصلية، فضلا عن القضائية -هو أن حقيقة العدل في إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يُعطى كلٌّ من السهم ما ينبغي أن يُعطاه.

مقتضى هذا يجعل العدل مساوقا للإحسان وملازما له؛ إذ لا معنىللإحسان -حسب الطباطبائي-إلا مما "تميل إليه النفس، وتنجذب نحوه، وإقرار الشيء في موضعه الذي ينبغي أن يقرّ عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الإنسان ويعترف بحسنه". مجال الإحسان على هذا اجتماعيٌّ بالأساس لكونه إتيان الفعل حسنا، وإيصال الخير أو النفع لا على سبيل المجازاة والمقابلة؛ بل متبرعا به ابتداء لمن أذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته النوازل. هو بذلك نشر للرحمة وإيجاد المحبة وأن محمودَ أثره عائدٌ إلى نفس المُحسن بدوران الثروة في المجتمع وجلب الأمن والسلامة بالتحبيب.

5- خلاصة ما ينتهي إليه النظر في النماذج التفسيرية السابقة -على اختلافها- هي التقاؤها في ضرب من التفسير التجزيئي الذي يستفيد عند شرح مفهومي العدل والإحسان من أربعة عناصر متلاحمة هي: ظاهر سياق الآية ،ودلالة الاستعمال اللغوي المتواضَع عليه، والاستناد إلى الأحاديث والآثار ،وتنزيل الدلالة ضمن المقتضى الشرعي أو العقائدي.

بذلك نجد أنفسنا أمام مفردتين قرآنيتين هما مجال للبحث،لا تُحدد التفاسير طبيعتهما وكيف يكون التصرف معهما في العمل التفسيري: هل استُعْمِلَتا بوصفهما لفظا لغويا في وضعه الأصلي أو المجازي أم أنهما مصطلحان قرآنيان بدلالة منضبطة وتعريف محدد، أم أنهما لا يتجاوزان مستوى المفهوم القرآني مفتوحَ الدلالة وغير مُنضبطِ التعريف(19)؟

ما استعرضناه في النماذج التفسيرية السابقة يبيّن أنها تعاطت مع العدل والإحسان على أنهما مفهومان غير منضبطي التعريف ولا يتميّزان بشكل محدد عن الاستخدام اللغوي للمفردة اللهم إلا بما يفيده سياق الآية من كون المجال تشريعيا أو عقديا. بهذا يعسر تصنيف المفردتين على أنهما مصطلحان أو مفهومان قرآنيان مفتاحيان يجلِّيان بنية النص القرآني في نسقه الناظم.

ينتج عن اقتطاع المفهومين من كامل النسيج القرآني العام وخصوصيته المعجمية وقيمته التأليفية الناظمة إقرارٌضمني أنه لا أولوية للخطاب القرآني الجامع في عمل المفسر المفاهيمي.

لا يعني هذا أن التفسير التجزيئي لا يستفيد من آيات أخرى لإيضاح ما هو مُنكبٌ عليه من آي القرآن وفق ما كان معتمدا في "تفسير القرآن بالقرآن" أو "جمع آيات الأحكام" أو "كتب الأشباه والنظائر".مالا يلتفت إليه منهج التفسير التجزيئي هو بحثه في المفهومات القرآنية بما يحدد طبيعتها لكونها جزء من معجم قرآني كامل،وأنها تُبحَث ضمن الوحدة الجامعة التي تنتظم جوانب ذلك المعجم.

من هنا تتبين لنا أهمية سؤال المنهج في التصرف الموضوعي بالمفاهيم في عمل المفسر وأولوية العُدّة معرفية التي تتجاوز العناصر الأربعة التي سبق أن اعتمدها المفسرون الذين وقع الاستشهاد بهم.

قبل المرور إلى الجانب التطبيقي من هذا العمل يتوجب تحديد العناصر الرئيسة لسؤال المنهج التي تتيح تدبراً للقرآن وتصرفا في معانيه بصورة لا تُغَلِّب دلالة الجزئي على الكلي ولا العكس. فبين ما تفيده المفردة القرآنية ضمن الآية أو مجموع الآيات وبين استعمالاتها في السور والسياقات القرآنية الأخرى علاقةٌ عضوية، تجلّيها طبيعة النص القرآني، ووحدته الناظمة،واستقلاليته وهويته الدلالية.

بهذه العلاقة بين العناصر الثلاثة يتمكن القارئ المتدبرمن بلوغ فهم أدق للنص المؤسس، ولهويته الدلالية، التي لا يمكن الاقتصار فيها على ظاهر سياق آية أو مجموع آيات،وعلى الاستخدام اللغوي المتداول مستندا إلى نصوص حديثية، مراعياً مقتضى المجال الشرعي أو العقائدي. مثل هذه المقاربة المنهجية يتعذر معها التوصل إلى الإمكانات المكنونة والجديدة في النص القرآني.

سؤال المنهج صميميٌّ اليوم كما كان أساسياً بالأمس مع اختلاف في الحمولة المعرفية التي يقتضيها السؤال وفق السياق. لقد سمح المنهج للمدوّنة التفسيرية أن تنمو منذ القرن الثالث إلى القرن العاشر بفضل منهجيّة محدّدة، قد لا يقع التصريح بها بصورة كاملة؛لكنّها ظلّت قائمة بشكل واع في ذهن المفسّر. كان ذلك هو شأن التفاسير القائمة على الأثر أو الرأي أو ما سُمّي بالتفاسير الفقهية أو الاعتزاليّة أو الإشاريّة.  لقد اعتنت بمدلولات القرآنمستندة إلى نظام فكريّ ونسق ثقافي، يمثلان قاعدة التوازن الداخليّ لما وقع إنتاجه في مجال التفسير.

ما تأكد بعد ذلك أن فهم النص القرآني يقتضي في كل عصر ومصر مراجعات نوعية، تشمل رؤية المفسر للعالَم وللحقيقة والإنسان ضمن عُدّة معرفيّة متجددة تصوغ بناء فكريامغايرا وخصوصيّة مميزة من دونها يتعذر على الجهود التفسيرية أن تُثمر أو تضيف.جماع ذلك هو ما نعنيه بسؤال المنهج الذي يؤول في المنتهى إلى تصوّر للحقيقة في علاقتها بالتاريخ والعالَم.

6- بالعود إلى البنية القرآنية وخصوصيتها المعجمية وموقع العدل والإحسان  ضمنهاتطرح للباحث المتدبر جملة من الأسئلة التطبيقية المتصلة بالنظر والتصرف اللذين يسهمان في الكشف عن الوحدة الجامعة التي تنتظم جوانب ذلك المعجم.

أول هذه الأسئلة يتعلق بموقع مفهومي العدل والإحسان في اللفظ القرآني ودلالة هذاالموقع.

ما نلاحظه في هذا المستوى الأول أن جذر "ع دل" عند مقارنة تداوله الكمّيبجذر "ح س ن" يبرز هذا الأخير بحضور أقوى من الأول في النص القرآني بنسبة عالية تساوي سبعة أضعاف. فالجذر "ح س ن" بمختلف مشتقاته يرد في 194 آية بما جعل هذه المادة تحضر في ترتيب المجموعة التاسعة بين المجموعات التي فاق تواترها في القرآن الكريم مائة مرة. هي بذلك تأتي، على سبيل المثال، بعد مادة "أ ل ه" الأقوى ورودا ، حيث بلغ عدد المرات التي استُعْملت فيها 2697 مرة وذلك قبل مادة "ق و ل" : 1721 مرة، ومادة "ك و ن": 1433 مرة،ومادة " ر ب ب": 980 مرة،ومادة "ع ل م": 855 ، مرة ومادة "س م و" : 381 مرة ومادة "ن ف س" : 298 مرة، ومادة "ب ي ن": 266 مرة(20).

مقابل هذا فإن الجذر " ع د ل" ليس من ضمن مجموعات  المائة الأوائل التي هي أكثر تواترا في القرآن الكريم؛إذ إن هذا الجذر بمشتقاته المختلفة لم يُستعمَل إلا في 28 آية من كامل النص القرآني.

إن نظرنا الآن في أهم الصيغ المشتقة من كل جذر من الجذرين؛ وأبرز التراكيب المُنَزَّلة في كل منهما؛ فإن ذلك يكشف جوانب مميزة تساعد على فهم أدق للنص المؤسس ولهويته الدلالية.

ترد مادة "ح س ن" في 105 آيات مكية و 89 أية مدنية،وتتوزع هذه الكثافة على صيغ الأسماء والأفعال بصورة دالّة. منجهة نجد أن الصيغة الاسمية هي الغالبة بشكل لافت خاصة في الآيات المدنية، من ذلك نجد "حَسَنة"و"حَسَنات"و"حُسنى" التي تحضر بنسبة مهمة ( 48 آية ) بالتساوي بين المكي والمدني، وتُستعمل مع أفعال عديدة تسبقها مثل: فعل آتى ( وآتيناه في الدنيا حسنة)(21) والفعل (جاء): (من جاء بالحسنة فله خير منها)(22) ، كما تسبق بالفعل (اقترف) (23)و(أصاب)(24). أهم ما يلاحظ في هذه المفردة أنها تعبّر عن ثلاث خصائص:الأولىدلالتها على الإنعام إلهي،الذي يقابله ثانياً كسبٌ إنساني، لينتهي ثالثاً بالفاعلية المتسعة للحسنة. تتخلل هذه الخصائص الاستعمالَ القرآني في أكثر من آية مثل: (ما أصابك من حسنة فمن الله) (25)،و(يدرؤون بالحسنة السيئة)(26) وباتساع هذه الفاعلية عند صدورها عن المؤمن مثل: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) (27)، (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)(28).هذا يفيد أن قيمة الإحسان ذات صبغة تفاعلية انتشارية جامعة بين عالمي الغيب والشهادة.

من جهة ثانية تتجسد الصيغة الاسمية لمادة "ح س ن" أيضا مع أسماء الفاعل "مُحسن" و"مُحسنون" و"مُحسنات" والتي ترد في 39 آية أغلبها مكية لكن المدني فيها مهم ( 15 آية). في هذا المستوى يتواصل معنى الفاعلية المتسعة لمادة " ح س ن" التي لاحظناها سابقا ،والتي تبرز معها في هذا المستوى الجهة الراعية لها: ( إن الله لا يُضيع أجر المحسنين) (29)، (والله يُحب المُحسنين)(30) ،( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لَمَعَ المُحسنين) (31)

ثالث تراكيب هذه المادة يبرز مع المصدر " إحسان" الذي تتضح منزلته في عشرآيات مدنية، مقابل آيتين مكيتين، تتأكد من خلالها الصلة العضوية بين معتقد التوحيد وأثره المباشر سلوكيا واجتماعيا: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (32)، و(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) (33)

تتضح أهمية هذه الصيغ لمادة " ح س ن " من طبيعة الاسم المستعمل ودلالته في العربية التي تفيد الثبوت لكون موضوع الاسم بأنواعه يدل على ما يثبتبه المعنى للشيء بصورة قارة ومؤكدة.

مقابل هذا فإن مادة " ح س ن" ترد في الصيغة الفعلية التي تحضر في 24 آية من مثل ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (34)و مثل(وأحسنْكما أحسن الله إليك)(35) وإن راوحت بين التراكيب الخيرية والإنشائية مستفيدةًمما تقتضيه هذه الصيغ الفعلية من تجدد للمعنى الحادث المثبتب التدرج شيئا فشيئا.

من هنا جاز لنا أن نعدّ مفهوم الإحسان في صلته بالحقل الدلالي لمادة " ح س ن" عنصرَ التقاءٍ بين صيغتي الإسمية والفعلية بمدلولي الثبات والتدرُّج،وما يعبران عنه من الالتحام بين الهدي الرباني برحمته الواسعة وبين الإرادة الإنسانية ومتطلباتالتشريع. تكشف دلالة هذا الموقع أن قيمة الإحسان في السياق القرآني ذات طابع مفهومي منضبط المعنى،بما تتسم به من طبيعة اختيارية فاعلة، لها قدرة على التضاعف. يتأكد هذا التحديد بفضل الضمانة الإلهية الثابتة والقريبة، وبالسند التشريعي ولكونها تتحقق جزءاً فجزءاً بما يتيح المجال للمؤمن أن يزاولها ويزجّيها.

7-أول ما يلاحظ عند الانتقال إلى مفهوم "العدل" ودلالة الاستعمال القرآني لكامل جذر "ع د ل" أنه -من الناحية الكمية-- ليس من العبارات الأشد تواترا في النص القرآني، وأنه -بالمقارنة مع الجذر " ح س ن "- أقل حضورا بنسبة ملحوظة كما سبق أن أشرنا.

لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه يتصل بدلالة هذه النسبة المحدودة في الاستعمال القرآني لقيمة "العدل" مقارنة باستعمال الأكثر كثافة لقيمة "الإحسان"، وما تضيفه الوحدة الموضوعية للنص القرآني لهذين الاعتبارين الكمّيين.

أول ما يمكن إثباته في العلاقة بهذا المعطى الكمي أن قيمة "العدل" المستعملة قرآنيا موصولة بالغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتاب والميزان وهي إقامة العدل. يتضح ذلك في قوله تعالى : "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"(35).

نجم عن هذا الأساس أن المقصد القرآني شمل المعنى العام للعدل؛ لكنه طُلب في أمور تفصيلية؛ مثل:قضايا الحكم،ومع النفس، وفي الأهل والولد،والتقييم، والشهادة، والعلاقات بين الخلق.

تجسّد هذا الحرص في التراكيب الفعلية العديدة، وبصيغ تأكيدية قطعية الثبوت؛ مثل استعمال فعل الأمر في قوله تعالى: "اعدلوا هو أقرب للتقوى"(36)، أو في قوله" : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (37)، وقوله: "قل أَمَر ربي بالقسط"(38)وقوله "وإنْ حكمتَ فاحكمْ بينهم بالقسط"(39). 

بذلكيتبيّن أن الاستعمال القرآني قد وسّع دلالة العدل بصورة لافتة بما جعلها متجاوزة حدود معناها اللغوي الدال على المساواة وأداء الحقوق واسترجاع المظالم. ما يفيده المعجم القرآني في الحقل الدلالي الواسع الذي يقارب 300 آية -لتحرّي العدل والقسط وضرورة تجنب الظلم-أننا أمام مقصد شامل لمجالات إجرائية كثيرة ودلالات واسعة، يتصل فيها عالم الغيب بعالم الشهادة، وترتبط فيها حقوق الله بحقوق الإنسان وباقي المخلوقات، وتتشعب بحيث تعمّ جميع المجالات الاعتقادية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية(40).

لقد غادر "العدل"نهائيا الدلالة المعهودة للمماثلة المادية المُستمَدة من الحياة البدوية، حيث الضعنوتحميل الأمتعة حين تُقسَم عند الترحّل لتكون متساوية على جنبي البعير(41).هو بذلك حقق تساوقا بين دلالة العدل،وبين ما يفيده الإنصاف من معنى الاستقامة المنفتحة على المجال الإنساني الممتد،الذي لا يجوز معه التفريق بين عموم الناس بالنظر إلى الجنس أو اللغة أو الدين؛ تحقيقا لمطلب أخلاقي وانتظام اجتماعي مؤسس على عقيدة التوحيد فيما تقوم عليه من رؤية للعالم والإنسان.

لقدغدت دائرة العدل القرآني مشتملة على قيمة المساواة لكن بتمثّلٍلأبعاد الانتظام والنظام الشاملين مكانا وزمانا. ذلك أتاح القول بأن"العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمرُ الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خَلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة"(42).

في ضوء هذا الطابع الإجرائي والاتساع الدلاليندرك بوضوحأبعاد قوله تعالى:" إن الشرك لظلم عظيم" (43)،ومع هذا الإدراك  نقف على دقة العلاقة بين العدل والإحسان التي نص عليها قوله تعالى : "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" (44) ، والتي عُدَّت "أجمع آية في القرآن لخير وشر"(45)؛ للعلاقة الدقيقة بين الإحسان بصفتها القيمة الأخلاقية المؤسسة، وبين العدل بوصفهالمفهوم الإجرائي المطلوب تعينه لدى الأفراد وفي المجتمع.

بذلك تتضح أهمية الفوارق الكمية بين المفهومين في حضورهما في النص القرآني بإيلائه الجانب القيمي المُؤسِس أهمية أكبر، مقارنة بالجانب التطبيقي العملي الذي وسّع من دلالته وربطها بالخلفية العقدية.

بعد ذلك ينتفي التفاضل بين المفهومين فلا يبقى مسوغ للقول: إن الإحسان فوق العدل؛ لأن هذا يقتضي إعطاء ما عليه وأخذ أقلّ مما له؛ بينما الإحسان إعطاء أكثر مما عليه وأخذ أقل مما له.

مثل هذه الاعتبارات التي يتداولها المفسرون تفوّت علاقة الترابط الجدلي بين العدل والإحسان، وقصدية الترتيب الذي بينهما، وأن الأول شرط إجرائي للثاني الذي يمثّل قيمة أخلاقية تضمن تحقق الأول وترسيخه؛ ذلك أن في العدل من مستلزمات متعينة في قيم المساواة والانتظام ما يتيح للإنسان بالإحسان منزلةً، تفتح له آفاقا للتواصل والارتقاء غير محدودة في سياق حضاري يتطلب باستمرار تحصين آلية العدل وتفعيلها.

ما لا يمكن التغافل عنه في مناهج النظر والتصرف عدم مراعاةخصوصية البنية القرآنية ومقصدها في استخلاف الإنسان ضمن عالَم الكائنات كلها، ومتطلبات هذه المكانة قيميا وإجرائيا، وما ينتظر الناس جراء ذلك في دنياهم وأخراهم.

لهذا جاز القول بأن مفهوم العدل مفتاحي وإجرائي بدلالته القرآنية في التقائه وتكامله مع الإحسان؛ تلك القيمة الصميمية ذات الطبيعة الكلية التي تحقق طموح الالتحام لدى الذات الساعية للتميّز. على هذا يتبيّن أن العدل والإحسان مفهومان قرآنيان مفتاحيان يجلِّيان بنية النص القرآني في نسقه الناظم، الذي يستدعي تجاوز المنهج التجزيئي بالعمل على اعتماد المقاربة المصطلحية للمفهومات القرآنية.

ما يفضي إليه هذا النظر والتصرف يبرز -بصورة جليّة-القضية القرآنية الأم المتعلقة بالمعنى الأساسي للدين التي تحكم حقلا دلاليا رئيسا لكامل المعجم القرآني.

8- يتميز المنهج التركيبي -الذي سعينا إلى استعراض جوانب منه فيما سلف من القراءة- بنظرته إلى النص القرآني على أنه يمثلى -من جهة-وحدة موضوعية تناسقية،و من جهة أخرى خطابا مفتوحا وكونيا. يقتضي هذا المنهج استحضار هذين العنصرين المميزين لطبيعة الخطاب القرآني  عندتدبر معانيه ومفهوماته الجزئية؛لكونها استعمالات قرآنية تمّ فيها الاستخدام الإلهي للسان العرب، لكن بـ"تصعيده" ليكون متمثلا لتلك الوحدةالموضوعية التي تعبّر عن حاجيات سياق التنزيل التاريخي دون أن تقتصر عليه.

بناء على هذا المنهج يتعذر القول بوجود ترادف بين مفردة قرآنية وأخرى،كما يستبعد القول بالنسخ وبجملة من العناصر المعتمدة في التفسير التجزيئي،الذي يفتح الباب للتوجيه المذهبي من خلال التركيز على مقاطع قرآنية يقصُر معهااستحضار النسق الشامل الذي تصطبغ به المفاهيم والقضايا محل الدرس(46)

هذا ما يلاحظ بوضوح لدى العديد من المفسرين الذين يقدّرون أن الاختلاف بين العدل والإحسان هو اختلاف بالدرجة؛لكونهما يتفقان في إعطاء الحقّ إلى أصحابه إلا أن "الإحسان فضل زائد على العدل"(47)؛لأن تحرّيه واجب؛ بينما هو تطوّع وندب في الإحسان.

هذا القصور نفسهنجده في مقاربات حداثية لباحثين يذهبون في اتجاه عكسي إذ يرون أن دلالة العدل في الاستعمال القرآني "مدنية" ،لا تزيد عن أن تكون تعبيراً عن الانتظام الاجتماعي والسياسي، وليس هدفا رئيساً في المنظومة القرآنية الدينيةلإمكان التوصل إليها عقليا(48) مقابل هذا فإن الإحسان مفهوم "ديني" محض؛ لأنه من جوهر الحكمة والدعوة الإلهية التي تقضي بأن تكون الحسنة بعشر أمثالها، واليد العليا خير من اليد السفلى.

مؤدى هذه المقاربةالحداثية -التي تفصل فصلاً كاملاًبين طبيعتي العدل والإحسان ومجاليهما- هو ذهابها إلى أنه ليس من جوهر رسالة الإسلام الانشغال "بالمساواة المجرّدة الشكلية، ولا القاعدة القانونية لمجازاة العين بالعين". إنه " الارتفاع فوق مبدأ التسوية" بتأسيس مبدأ الإحسان، الذي يقضي بأن هدفه الأسمى هو أن "تغفروا وتصفحوا"، وهو الذي "يصنع المدنية والحضارة ويصنع الإنسان فيما وراء وما هو أبعد من السياسة"(49).

هاتان مقاربتان تُعرضان -من جهة- على ما ورد صراحة في الآية من جمع بين العدل والإحسان مشمول بالأمر الإلهي، كما أنهما لا تعدّان أن خصوصية القرآن الجامعة ينبغي أن تتمثّل كافة المفاهيم المستعملة في النص المنزَّل دون أن تفصل بين ما هو اجتماعي سياسي وبين الروحي الاعتقادي.

المرجع في هذا الطابع الاشتمالي الجامع هو مفهوم الدين قرآنيا؛ إنه مفهوم مميز يختلف عما  هو سائد من الاعتقادات القديمة التي ترى أن الدين يحصّن من" يد الدّهر التي لا ترحم الإنسان، وتفعل به ما تشاء" ، والاعتقادات الحديثة التي تقصر الفعل الديني على مجال الفرد الخاص.

بالمقابل يمثل الدين في البناء القرآني الإيمانَ بمصير الإنسان،الذي ينبغي أن يصنع المعنى متخطّيا فرديته ومواجها قصوره في إدراك الحقيقة الكلـيّة. مفهوم الدين لذلك أساسي، وحقله الدلالي واسع؛ لكونه يمثّل سعياً واعياً لتركيز قوى الذّات، بما يجعل غاية الدين هي الإنسان، الذي يكشف ذاته ورقيّها من خلال الحضور في الواقع، والتعاطي مع مستلزماته، بالانتشار في حركة الزمان، والتحقق أمام عين التاريخ. بهذا المنطلق تصبح خصوصّية الدين مصدرَ فاعلية مباشرة مع ذاتية الإنسان، الذي يتحوّل إلى صانع للعالم، ومحرّك له ومسؤول عن ذلك كله.

*****

المراجع والمصادر:

  1. سورة السجدة  32/ 7.
  2. سورة  الإسراء 17/ 7.
  3. هو مدير سابق لمركز الدراسات الإسلامية بإسلام أباد ومدرّس الفكر الإسلامي في قسم لغات الشرق الأدنى بجامعة شيكاغو بالولايات المتّحدة الأمريكية. له عدة مؤلفات منها: " الإسلام " و"النبوّة في الإسلام : الفلسفة والسلفيّة " وهي من منشورات جامعة شيكاغو. تُرجم له إلى العربية في دار الساقي، لندن ط1،1993 كتاب" الإسلام وضرورة التحديث: نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية.

[1]Islam and Modernity: Transformation of an Intellectual Tradition, University of Chicago Press, 1982. ISBN 0-226-70284-7 https://en.wikipedia.org/wiki/Fazlur_Rahman_Malik

  1.  محمد المخزومي، خاطرات جمال الدين الأفغاني، ط. بيروت 1931، ص99.
  2.  سورة المائدة 5/ 48.
  3.  وهذا ما حمل الكوفيين على تسمية اسم الفاعل بالفعل الدائم لدلالته على الاستمرار في مختلف الأزمنة، دون زمن معين.
  4.  محمد إقبال 1876-1938 مفكر مجدد وشاعر وأستاذ في الفلسفة الإسلاميّة والغربية. درس في إنجلترا القانون ونال الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا عن موضوع ازدهار علم ما وراء الطبيعة في فارس. انظر EI-II art. IKBAL de A. Schimmel pp.1083-1086. .
  5.  فضل الرحمن " الإسلام وضرورة التحديث : نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية"( ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، لندن ط1،1993. ص 15 .
  6.  محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر ط2. القاهرة 1968 ص 197.
  7. انظر الآيات :"ويخلق ما لا تعلمون" سورة النحل 16/8وقوله " يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض سورة التغابن 64/1 وقوله تعالى " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " سورة الإسراء 17/44.
  8. سورة النحل 16 / 90 .
  9. تفسير الطبري جزء 17 ص 280.
  10. [1]م. س.
  11. الكشاف ص 457.
  12. الرازي التفسير الكبير، الجزء 20 ص 100 و عن ابن عباس:العدل شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض . وقال في رواية أخرى : العدل خلع الأنداد ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، فإن كان مؤمنا أحببت أن يزداد إيمانا، وإن كان كافرا أحببت أن يصير أخاك في الإسلام، انظر تفسير الطبري  ص 277.
  13. لتحرير والتنوير ج 15 ص 255.
  14. انظر: http://www.hodaalquran.com/rbook.php?id=3424&mn=1
  15. عبد الرحمن حللي، المدخل لدراسة المفهومات القرآنية ط 1 دار الملتقى.
              دمشق سنة 2011
  16. الهادي الجطلاوي، أشد الألفاظ تواترا في القرآن، مجلة كلية دار المعلمين
             سوسة عدد1 سنة 1991. 
  17. سورة النحل  16 / 125  و سورة البقرة 2/201
  18. سورة القصص 28/84 وسورة الأنعام  6/160.
  19. سورة الشورى 42/23.
  20. سورة التوبة 9/50.
  21. سورة النساء 4/79.
  22. سورة الرعد 13/22 و سورة القصص 28/54.
  23. سورة الشورى 42/23.وانظر سورة النمل  27/89.
  24. سورة الأنعام 6/160.
  25. سورة التوبة 9/120.
  26. سورة المائدة 5/93.
  27. سورة العنكبوت 29/69.
  28. سورة الإسراء 17/23.
  29. سورة النساء 4/36.
  30. سورة الإسراء 17/7.
  31. سورة  القصص 28/77.
  32. سورة الحديد57/ 25.
  33. سورة المائدة 5/ 8.
  34. سورة النساء 4 /58.
  35. سورة الأعراف 7 /29.
  36. سورة المائدة  5/ 42.
  37. بزا عبد النور،  مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية، المعهد العالمي للفكر
             الإسلامي واشنطن ط 1 2008.
  38. الموسوعة الفلسفية العربية- المفاهيم ط 1 1986 المعهد العربي للإنماء ص
             579 إلى ص 582 .
  39. ابن تيمية،مجموع الفتاوى الكبرى 28/146تحقيق محمد ومصطفى عبد القادر
             عطا،  دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط 1 1408/1978.
  40. سورة لقمان31 /13
  41. سورة النحل 16/ 90.
  42. رواه البيهقي والطبراني والحاكم عن ابن مسعود
  43. فريدة زمرد، من التفسير المذهبي إلى المدخل المصطلحي، مجلة الإحياء ،
             الرباط المملكة المغربية عدد 27.
  44. التحرير والتنوير المذكور سابقا ص 255 و رياض الصالحين ج 3 ص 28
             باب ستر عورات المسلمين.
  45. برهان غليون فلسفة التجدد الإسلامي، مجلة الاجتهاد عدد 10-11 سنة
            1991ص .354
  46. [1] م. س.

 

 

أخبار ذات صلة