عبد الهادي أعراب،،
أستاذ باحث في علم الاجتماع، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة
مقدمة
يعد "الجامع"(1) بالوسط القروي مؤسسة جماعية مشتركة بين أهل الدوار وجزءا أساسيا من بنياته الأساسية(2)، فهو ليس مجرد مكان للعبادة أومسجد فقط، لأنه فضاء يحتضن إضافة إلى الصلاة، وظائف مختلفة كتعليم الأطفال وغسل الموتى وتخزين مياه الشرب في الشهور الجافة، كما يتخذ مأوى لاستقبال الغرباء وضيوف الطريق، وهو أيضا مكان لاجتماعات السكان وتدارس شؤونهم المحلية.
وباحتضانه للمسجد المخصص للصلاة، يتمتع بقداسة خاصة(3) ويحتل موقعا أساسيا بين مجموع المساكن المؤلفة للدوار، فهو مركزها الذي تلتف حوله ومنه تنطلق معظم الأنشطة القروية اليومية، وفيه يجتمع أفراد "الجماعة" (تسكين الجيم) خمس مرات في اليوم، وداخله تتعمق علاقات الأفراد وتتقوى صلتهم ب"الفقيه" المدرس والمشرف على الجامع. وأمام غياب مؤسسات عصرية بالبادية حيث تغيب الدولة ومؤسساتها التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية(4)، يحتكر الجامع كل الوظائف الدينية والدنيوية المتصلة بحياة الناس اليومية، ليصبح المؤسسة الوحيدة بالدواوير النائية والمنعزلة، والحصن الذي يحتمي به القرويون والمعلمة التي تجسد هويتهم وانتماءهم الديني في بعدها المحلي(5).
في هذه الورقة سنركز من بين مجموع الوظائف الحيوية التي تضطلع بها الجوامع القروية، على التعليم الديني والقرآني تحديدا، وذلك بناء على معطيات بحث ميداني همّ بادية إقليم خريبكة(وسط المغرب).
1_ التعليم الديني بالجامع: بين أهميته الوظيفية وضعفه المؤسسي
ظل الجّامع لفترات طويلة بالمغرب، مؤسسة أساسية للمعرفة والتحصيل بالوسط القروي الذي عانى صنوف التهميش وبقي سكانه بمنأى عن دوائر الثقافة الرسمية؛ فإلى جانب الزاوية و"المدرسة العلمية"، مثّل البوابة الأولية للتكوين الديني والعلمي بهذا الوسط، ففيه يتعلم الصبية مبادئ القراءة والكتابة وبه يحفظون القرآن اعتمادا على أسلوب الترديد والاستظهار الذي يولي الأهمية الكبرى للذاكرة(6).
وهو مؤسسة جماعية تتمتع باستقلالية كبيرة، لأن كل ما يحتاج إليه الصبية للتعلم من أدوات بسيطة (اللوح والصمغ والصلصال وأقلام القصب...) توفره الجماعة بعيدا عن أي دعم مادي من أي طرف خارجي(7)،كما ظل يعتمد في تموينه وتمويله على المشاركة الجماعية لأفراد الدوار(8)؛ بهذا بات مؤسسة مندمجة في المجتمع القروي ولا مندوحة عنها(9)، سواء للتعلم وتحصيل المعرفة الدينية أو لأغراض أخرى اجتماعية وتنظيمية واقتصادية. لكن رغم كل هذه الأهمية، تعرض التعليم القرآني والديني بوجه عام لانتقادات شديدة(10)، سواء من طرف باحثين أجانب أو من قبل مغاربة، بمن فيهم أولئك الذين هم نتاج لهذا الصنف من التعليم.
فإذا ابتدأنا بالأجانب سنجد L. Paye يرى أن اعتماده على الذاكرة والحفظ كأشكال تقليدية، يجسد حتميا منتوجا لوضع مترد عام، ميز مغرب القرن التاسع عشر والذي تعرض في عجز للتجربة الاستعمارية(11) أما "فرناندو مارطنيث"، فرأى فيه تعليما دون برامج أو قوانين خاصة ومستقلة، لأنه يتم داخل أماكن العبادة وممارسوه لا يحملون أي شهادات مميزة ومتلقوه لا ينعمون بأجواء التعليم الصحية..، ليخلص إلى القول بأنه تعليم غير منتظم، إذ سرعان ما عرف تفككا واضحا في أول مواجهة له مع الاستعمار (12).
وبمجتمع مجاور كالجزائر، ترى Fanny.Colonna أن هشاشة التعليم القرآني تكمن في الطابع العرضي لوظيفة الفقيه التدريسية(13)، حتى وإن مارسها طيلة حياته؛ لأنه ما أن يمرض حتى يغلق باب كتّابه وتبحث الجماعة عمن يعوضه، أما إن هلك فإن مهامه تنتهي بموته(14). ولعل افتقاد الفقهاء لمكان مخصص للدراسة مثلما نجد مثلا في المدارس العصرية، يكشف عن الجانب الخاص وغير المنتظم لهذا التعليم، وهوما يهدد بقاءه واستمراريته(15).
ويبين عبد الله العروي، أن التعليم القرآني والديني عموما، ظل بعيدا عن دائرة الحراك الاجتماعي مقارنة مع عوامل أخرى كالتقرب من دوائر المخزن أو الجاه العائلي.(16) أما المختار السوسي، فبعد عرضه لنظام التعليم القرآني وخصوصياته(17)، نجده يحاكمه بالعقم والفشل، كما جاء في أقواله العديدة منها: "والبلوى بهذا التعليم العقيم ضاربة أطنابها في جميع الشرق قبل اليوم"(18)، ثم يستأنف مبينا أن الشرق استطاع خلافا للمغرب أن يحدث القطيعة مع هذا الصنف من التعليم: "ولكن الدول الشرقية كلها صارت تنتفض عن هذه الطرق الملتوية إلى الطرق المحدثة"(19)، مستمرا في نقده اللاذع لطرائق التعليم القرآني: "والقيامة في المكتب قائمة، وأصداء رنات التلاميذ بلغت عنان السماء، والطالب يصرخ صرخات تقطع نياط القلوب، والحبل المفتول يتلوى على ظهور كل التلاميذ بذنب أو بغير ذنب"(20).
ويبدو النقد الذي وجهه المختار السوسي، يحمل نفسا خلدونيا سافرا(21)، إذ يعترض هذا في مدار حديثه عن تعليم الصبية، على استعمال العنف لما له من نتائج سلبية مثلما ورد في قوله : "ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين (...) سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث (...) وصار عيالا على غيره بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين"(22).
غير أنه تجدر الإشارة، أن المساعي اتجهت من وراء هذا التعليم الديني إلى تعميق البعد التربوي والأخلاقي، أكثر مما ارتبطت بتحصيل المعرفة وحدها؛ لذا نجده غير منفصل عن تلقين الشعائر الدينية ومعرفة الفرائض والسنن الدينية، مما هيّأ له القدرة على أن يدمج الفرد القروي في محيطه الجغرافي والاجتماعي، مستجيبا لحاجياته المعرفية والدينية والثقافية، فهو تعليم شبه مجاني لا يستلزم نفقات خاصة وبإمكان الجميع أن يستفيد منه. ولو أن هذا لا يعني عمليا أن كل القرويين مروا من تجربة الجامع، بل من فعلوا ذلك أو تجاوزوه إلى مراحل أرقى كالمدارس الدينية، ظلوا في واقع الأمر قلّة قليلة كما سنرى لاحقا.
لقد ظل الجامع إذن، المؤسسة الأولية التي يتلقى بها القرويون المبادئ الأولى للقراءة والكتابة وحفظ القرآن؛ كما ظل الفقيه المعلم والمدرس الذي لا تستطيع القبيلة الاستغناء عنه؛ إلا أن موجة التحولات الكبرى التي عرفتها البادية المغربية منذ الفترة الاستعمارية، مرورا بمرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، ثم انتشار المدارس الحديثة وزحف الثقافة الحضرية...، ساهمت في التأثير على وظيفة الجامع التعليمية ووضعت القرويين أمام خيارات تعليمية وتنشئوية جديدة؛ وبالتدريج فقدت الكتاتيب القرآنية زبائنها وصارت وجهتهم المدرسة العصرية، بحثا عن معرفة مغايرة تمكنهم من تأمين مستقبلهم وتحسين ظروفهم الاجتماعية والأسرية؛ غير أن مسار المدرسة المغربية بالعالم القروي وما اعتراه من إخفاقات وتعثرات، سيفرز لديهم مواقف واستراتيجيات ملتبسة، توفيقية أحيانا بالمزاوجة بين المؤسستين وتلفيقية أحيانا أخرى، وهو ما تعكسه التمثلات التي لازالوا ينتجونها حول الجامع والتعليم القرآني في الوقت الراهن.
فماذا تبقى من هذا التعليم القرآني بالبادية اليوم؟ وما هي المكانة التي يتمتع بها؟
هل لازالت الجوامع القروية تؤدي أدوارها التدريسية كما كانت عليه في الفترات السابقة؟
ما هي أهم التحولات التي عرفها هذا التعليم المحلي، إن على مستوى المحتوى وشكل تبليغه أو على مستوى أساليب التأديب والعقاب؟
II– ماذا تبقى من التعليم القرآني القروي؟
1– القرآن وشكل تلقينه
مثل حفظ القرآن أهم محتوى يتم تلقيه بالجّامع، بل أهم رصيد ينبغي أن يتوافر في فقيه الشرط كمدر س قرآني؛ لهذا كانت "الجماعة" (بتسكين الجيم) نفسها، لا تهتم في التعاقد الذي تجريه معه سوى بمستوى حفظه وتمكنه من القرآن ولا تسأله عن معارف أخرى كالقراءة والكتابة(23). على أن حفظ القرآن مستويات مختلفة يتفاضل فيها الفقهاء أنفسهم وفقا لمعايير كثيرة منها: طبيعة الحفظ وسلامة القراءة وعدد مرات الحفظ أو "السلكات"(24)..الخ.
يلف مسألة الحفظ كثير من الغموض والالتباس، بل تثار حولها مجموعة من المعتقدات، فالبعض يجعلها قضية بركة مقدسة والبعض الآخر يراها مسألة ذاكرة دون ذكاء أو فهم، وهناك من يعتبرها أمرا ربانيا صرفا، فمن أراد الله له حفظ القرآن تم له ذلك بمشيئة إلهية، سواء دخل الكتّاب حديث السن أم دخله يافعا ! وهنا يستعمل مفهوم نعتبره أساسيا في تفسير ملكة الحفظ هو مفهوم "الفتح"؛ يقول (الفقيه محمد بن ر.): "اللي فتح عليه الله كيحفظ القرآن بلا محاين وبلا الطلوع والنزول وعداد من السلكات".
ثم إن للحفظ قيمة في ذاته، ليس فقط كتقنية لتحصيل المعرفة وتخزينها، إنما بوصفه النموذج الأعلى والأسلم للإلمام بالقرآن، وهنا يشمل دلالة الوقاية والحماية من التحريف والتشويه، فالقرآن من حيث هوكلام إلهي لا يمكن الاقتصار على معرفة معانيه دون القدرة على استظهاره استظهارا كاملا وتاما. لهذا كان شعار حفظة القرآن دائما يلخصه القول: "من لا يحفظ النص فهو لص" تأكيدا على قدسية الحفظ وقيمته الكبرى، ضد كل تشويه أو تحريف لكلمات الله.
يتعلق الأمر إذن بتقليد معرفي وثقافي متجذر في تاريخ المغرب؛ فقد لاحظ ابن خلدون أن الاعتماد على الذاكرة يمثل قيمة خاصة بهذا البلد أكثر من غيره من جهات العالم الإسلامي: "فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن والقصور عن ملكة اللسان جملة، وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة، لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها"(25). كما يعتبر "أيكلمان" نقل المعرفة اعتمادا على الحفظ "نزعة تقليدية" تميز البلاد الإسلامية عموما، إلا أنها تأخذ بعدا خاصا بالمغرب، وهو ما أثار استغراب كثير من الباحثين الأجانب الذين درسوا هذا البلد، أمثال "ليفي بروفنصال"، ممن رأوا في هذا الأسلوب ترويضا للذاكرة يقلل من القدرة على البحث وملكة الفهم(26). لكن في مواقع أخرى، انتقد الحفظ كأسلوب بيداغوجي يميز الكتاتيب القرآنية والتعليم الديني بصفة عامة(27)، علما أن الاعتماد على الذاكرة لم تنفرد به البلدان الإسلامية فقط، بل إن هذه الملكة "عرفت تطورا عند الرومان والإغريق في القديم، فهؤلاء قد استعانوا بأساليب مختلفة لتسهيل عملية الحفظ"(28). ويبدو أن هذه الانتقادات التي التقطتها عين الباحث الأجنبي الذي وقف مندهشا من عملية ترويض الذاكرة وتدجينها(26)، تخفي وراءها انتقادا أوسع للتعليم الديني ككل، كما تخفي أيضا حقيقة الصراع الذي دار بين الإدارة الكولونيالية وفئة العلماء و"الفقهاء"؛ لذلك شكل هذا النقد تمهيدا علميا للتدخل الفرنسي من خلال التعليم الذي استحدثته هذه الإدارة بالمغرب؛ فقد كتب Démombynes قائلا: "إن المغاربة الأكثر تعلما أدركوا أخطاء وثغرات المنهج والنظام الخاص للتعليم القرآني التقليدي وأيقنوا بأنه تعليم غير كاف لإعداد أبنائهم للحياة الاقتصادية الجديدة بالمغرب"(27)، نفس هذا الخط النقدي المنحاز، نجده أيضا لدى Figueras، لما هو ركز على سلبيات الحفظ واصفا الفقهاء بالأمية والجهل(28).
من الواضح إذن، أن مثل هذه الكتابات الكولونيالية أو بعضها– تفاديا للإطلاقية – انطلقت من تصورات قبلية حول التعليم الديني الإسلامي وأهله، فراحت تختزل هذا العلم الذي ارتبط بالقرآن في "الشفاهية"(29) دون أن تلتفت إلى عمقه الذي يرتبط بالكتابة ولا يستقيم بعيدا عنها. وترى "فاني كولونا" أن السر في انتقاد الباحثين الأجانب والفرنسيين خصوصا لطرق التعليم الديني الإسلامي ومنها الحفظ، هو هيمنة التصور الدوركهايمي بانتقاده الشديد لتقاليد التعليم السكولائي الذي ميز أوربا، وهو ما استلهمه كثير من الباحثين الكولونياليين(30) غير أننا نرى أن أهمية الحفظ القرآني، تستند إلى مبررات دينية وثقافية وتعليمية تنسجم مع ثقافة المجتمع الإسلامي(31)؛ فقد لاحظ أيكلمان أنه حتى في المناطق التي لا تتوافر فيها النصوص، يتصرف أهلها كما لو كانت متوافرة لديهم، لأن تثمين المعرفة لا يكون إلا إذا كانت هذه الأخيرة راسخة ومحفوظة في الذاكرة(32).
إن القيمة الاجتماعية والدينية والمعرفية لحفظ القرآن، هي ما يبرر الإقبال الشديد الذي كان يبديه المتعلمون في الأوساط القروية، متحملين في ذلك المشاق والمتاعب الذهنية والجسدية التي تميز هذا الأسلوب التعليمي:"حفظ القرآن ليس مسألة سهلة أو في متناول الجميع، ..، إنها مهمة صعبة للغاية، تستلزم عمليا أكثر من ثلاث "سلكات" كمعدل أدنى، والأمر متوقف في النهاية على ذاكرة واستعداد الطالب ومدى قدرته على المراجعة الموصولة واللامنقطعة حتى يترسخ القرآن في ذهنه ترسخا تاما" (الفقيه محمد س.).
ونظرا لصعوبة الحفظ، تحتفظ ذاكرة مبحوثينا بذكريات مؤلمة عن الطرق والأساليب التي تعلموا بها. يصف أحد مبحوثينا وهو فقيه مسن، هذه الأجواء قائلا: "حفظنا القرآن بعد معاناة شديدة وتعرضنا في سبيل ذلك لضرب لا مثيل له، من طرف الفقيه الذي كان يوجعنا بعصاه (العكارة)(*) (...) كان فقيهنا مخيفا، وكنا نحفظ القرآن في جو من الرعب والجزع الشديدين، ففي كل لحظة كنا نتوقع أن تنزل عصاه الموجعة على أجسادنا السقيمة دون لطف، و لا نتنفس الصعداء إلا حينما نغادر الجامع أو نكون خارجه"(الفقيه بوعزة).
ظل أسلوب الحفظ والاعتماد على الذاكرة في تاريخ المغرب، النموذج الأمثل لتخزين النصوص وفي مقدمتها القرآن، إلا أنه مع بداية عشرينيات القرن المنصرم، سيفقد التعليم الديني قوته، ليبقى الأمر محصورا فقط على طلاب البوادي الذين ظلوا محافظين على إنتاج النموذج القديم(33)؛ لكن رغم هذه التحولات وما تلاها من تراجع عدد حفظة القرآن مقارنة مع الأجيال السابقة، لازال القرآن يجسد لدى المغاربة رأسمالا ثقافيا. ومثلما لاحظت "كولونا"، أنه طالما التعليم العصري للدولة لا يستجيب لحاجيات السكان، خصوصا في المناطق النائية ذات العمق القروي، فإن قيمة حفظ القرآن وتعليمه في الكتاتيب ترتفع، لانسجامها مع خصوصياتهم المحلية(34).
2– القراءة والكتابة
يصعب عمليا تصور أن القراءة والكتابة يمكنهما أن تتطورا خارج التعليم القرآني وتحديدا بالوسط القروي؛ فحتى بالنسبة للفقهاء الذين يمتلكون ناصية القراءة والكتابة، لا يتعلق الأمر حتما باستثمارهما بصورة واسعة لإنتاج أشياء مكتوبة؛ إنما يقتصر على قراءة النصوص القرآنية والقدرة على كتابتها بالرسم القرآني الخاص والمتداول في الكتاتيب القروية . أما عن قراءة القرآن عبر مصحف فهي غير واردة، مادام خريج الجامع القرآني يكتفي باستذكار محفوظه القرآني وتلاوته ذهنيا، وهي عادة يكتسبها من أسلوب تعلمه بالجامع والمدارس العتيقة والزوايا الدينية، وتعرف هذه الطريقة في استظهار محفوظه القرآني بـ"السوار".
وإذا استثنينا المتمدرسين، يبقى الفقهاء وحدهم من ينفردون بحكم ممارساتهم المتميزة بالقراءة والكتابة، سواء فيما يتعلق بكتابة التمائم أو الرسائل الخاصة (35)؛ أما المعرفة التامة بهما فلم تكن مطلوبة إلا من العدول الذين كان عليهم التمكن من الصيغ الشرعية المتعارف عليها(36). كما أن اهتمام الفقيه نفسه بالقراءة والكتابة، يضعف كلما تعلق الأمر بما يخرج عن دائرة اهتمامه الديني أو مهامه المعتادة . ولهذا فالذين يستطيعون تطوير الكتابة والقراءة من الفقهاء أو الوصول إلى "العلم بالثقافة الكتابية، ابتداء من فك رمزها المكتوب وإتقان علومها وآدابها هم القلة القليلة"(37). وهكذا فقد صار اليوم اقتصار بعضهم على حفظ القرآن، دون تطوير ملكتي القراءة والكتابة، أمرا محرجا إذا استحضرنا توسع قاعدة المتمدرسين والمتعلمين بالوسط القروي (38).
صحيح أن "الشفاهية"(39) سمة للمجتمع القروي، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أهمية الكتابة بهذا المجتمع الذي تحمل فيه طابعا سلطويا وقدسيا، فهي تحيل على السلطة المركزية/المخزن، كما تحيل في الآن ذاته على سلطة الدين (40)؛ فهي حاملة للثقافة الإسلامية واللغة العربية وتفتح للمتعلمين آفاقا أكثر امتدادا من أفقهم المحلي، وإن اعتمادها على الحفظ جعلها أكثر ارتباطا بالتعبد(41).
ثم إن الاعتماد على التقاليد الشفوية لا يعكس ضعفا ثقافيا لصالح الكتابة، لأن الشفاهي لا يقل عن المكتوب قيمة وعمقا؛ كما أن منتجي الشفاهي ليسوا حتما أقل شأنا من منتجي المكتوب(42). فقد أوضح . Desparmet أن الكتّاب القرآني استطاع أن يرسخ إلى جانب مبادئ الكتابة والقراءة، الشعر الديني كما منح المتعلمين به فرصة التمرن على تأليف الأهاجي وجمع وصفات السحر المكتوبة والتنجيم ومبادئ العرافة وضرب الرمل(43)؛ ولعل فقهاء الشرط مثال قوي لمستويات التداخل بين الثقافتين.
III_ التعليم القرآني : ثوابت ومتغيرات
إلى أي حد تأثرت الجوامع القروية بتوجه الدولة في تحديث الكتاتيب العصرية منذ سنة 1968 لإعادة هيكلة الكتاتيب القرآنية؟ وبالتالي ما نصيبها من هذا التجديد الذي تبنته الدولة رسميا على أرض الواقع؟
1– محاكاة للمدرسة
في سياق تقليد المدرسة ومواجهة الضغط الذي مارسته على الكتّاب القرآني منذ سبعينيات القرن المنصرم، سعى عدد من الفقهاء إلى تغيير طرق تعليمهم واستبدالها بأخرى جديدة. ابتدأ مسلسل هذه المحاكاة التي يعتبرها هؤلاء محاولات تجديدية بشكل عفوي لتتحول تدريجيا إلى شبه موضة، انتقلت إلى معظم الجوامع القروية، قادها فقهاء شباب ممن سعوا بذلك إلى مقاومة المنافسة الشديدة التي يمثلها النموذج المدرسي. وبالرغم من استعارة السبورة والطباشير إلى جانب الألواح الخشبية التقليدية التي تعتمد في كتابتها على "الصمخ" الذي يصنع من الصوف المحروق(44)، فإن جوهر التعليم القرآني ظل على حاله؛ فلا زال القرآن أهم محتوى تعليمي، بنفس أسلوب الاستظهار الذي يتوسل فيه الصبي المتعلم "المحضار" حفظ الستين حزبا، متأبطا لوحته وممسكا "بالكراك"(45)، حيث يلقن الفقيه المبادئ الأولى للكتابة انطلاقا من رسم الحروف الهجائية على السبورة، لتنقل بعد ذلك إلى الألواح، وقد يخصص حصصا أخرى لتعليم الأناشيد – على غرار ما يتم في المدرسة – أو يتم تلقينها بنفس الطريقة الجماعية التي يتم بها حفظ القرآن . وقد أكد لنا أحد الفقهاء، أنه يترك فسحة زمنية لصبيته لممارسة بعض التمارين الرياضية بجوار الجامع، رغم عدم توفر مكان مناسب للقيام بذلك.
2_ اختفاء أساليب العقاب الجسدي
إن القسوة الشديدة للفقيه في باب التأديب، كان يستحسنها الآباء ويلمسون فيها اهتماما بأبنائهم، لأن الاعتقاد السائد يرى أن العصا من الجنة، فكان العقاب يجد رضا كاملا من لدن الأب الذي يعتبره جزءا مكملا لتأديب ابنه خارج البيت. ولهذا هو نفسه من يشجع الفقيه على مضاعفة العقاب والغلظة، بالعبارة الشعبية المأثورة: "أنا نقتل وأنت تدفن" أو" أنت تذبح وأنا نسلخ"(46). يلخص المختار السوسي هذه الصور العنيفة لطرق تأديب الفقيه في قوله: "ينبطح التلميذ بين أربعة كبار ثم لا يصل الأرض بطنه، بل يبقى معلقا بين هؤلاء الأربعة، فينبعث الطالب وقد ألقى عليه رداءه وتجرد ولم يبق عليه قميص خفيف وفي يده حبل متين (...) ثم يعمد بكل ما في طوقه من الجلد والقوة والمنة، فيشدي جنوب التلميذ الممدود، فلا تكفي أربعون أو سبعون"(47). ويضيف واصفا شدة الفقيه: "والاسترحامات التي تلين الجلاميد ويرق لها الفولاذ، لم تجد رحمة ولا شفقة ولا رقة في فؤاد الطالب الحنق المحتدم كأنه مسه طائف من الجنة"(48)
لمسنا ميدانيا، أن هذا العقاب الجسدي بات من ذكريات الماضي التي تختزنها أجساد مسنين من الفقهاء والقرويين على السواء، كلوحات عقاب تشهد على قساوة النظام التعليمي الذي تعلموا خلاله، حيث كان الفقيه يتفنن في ممارسته ألوانا وصنوفا(49)، يبدع في تصورها أكثر مما يبدع في شيء آخر. يروي أحد الفقهاء، ممن لا زال جسده شاهدا على هذه الأجواء: "لماّ كنت صبيا أمرني فقيهي باستظهار جزء من القرآن، وما إن تلعثمت في آية وأخطأت في نطقها، حتى رماني بحجرة ملساء يستعملها للتيمم، أصابتني في عيني اليسرى، فاستشعرت جزءا من الحجرة داخل عيني (...) كان الألم فضيعا واستمر معي مدة طويلة، ثم انتقل إلى العين اليمنى، ولأسباب كثيرة لم أتمكن من زيارة الطبيب، ففقدت القدرة على الإبصار بالأولى وضعف بالثانية مع آلام متقطعة تنتابني بين الحين والآخر. لكن القدر الإلهي شاء أن أحج مشيا على الأقدام حيث عولجت مجانا على يد أطباء بمدينة جدة عامي 1953 و1954 وبذلك توقفت آلامي والحمد لله" (الفقيه بوعزة).
لقد اختفت مثل هذه الطرق العنيفة في التأديب، فالفقيه اليوم بات حذرا في تعامله ولم يعد بإمكانه أن يمارس نفس سبل الغلظة والشدة، وهو ما يؤكده أحد الفقهاء الشباب: "تغير الوضع تماما عن السابق، فالضرب لم يعد ممكنا وإذا ما قسا الفقيه على صبي، فإن هذا الأخير سيفر من الجامع ويدير له ظهره، إذ ما الذي سيجبره على تحمل عبئين: التعليم من جهة والعقاب المرافق له من جهة ثانية؟" (الفقيه الحسين).
3_ على خطى الكتاتيب العصرية (50)
توجهت الدولة منذ 1968 نحو إعادة هيكلة الكتاتيب القرآنية(51) لتصبح مواكبة للتحولات الجارية آنئذ، وتدخلت وزارة التربية الوطنية على مستوى الإشراف وإنتاج الكتب المرجعية والمذكرات التربوية،كما تولت مهام المراقبة والمتابعة والتوجيه والتقويم(52)؛ وتمت أيضا إضافة عناصر جديدة للكتاب القرآني، كتقسيم التلاميذ إلى مستويات واستعمال وسائل عصرية، مما لم تعهده الكتاتيب القديمة(53). وبدا واضحا أن هذا التوجه يسعى لجعل الكتّاب مرحلة أساسية للتعليم الما قبل مدرسي، لما له من أهمية في تكوين التلميذ وتهييئه وإعداده(54) لكن نتساءل، ما نصيب الكتاتيب القروية من هذا التجديد الذي تبنته الدولة رسميا منذ 1968 ؟
الجدول ( 1 ) : مؤسسة الكتاب بإقليم خريبكة (الموسم الدراسي 2004 – 2005)
كتاتيب |
المجــــــــــال |
المؤسسات |
الحجرات |
الأقسام |
عدد التلاميذ |
|||||
المستوى 1 |
المستوى 2 |
المجموع |
||||||||
مجموع |
إناث |
مجموع |
إناث |
مجموع |
إناث |
|||||
حضري |
416 |
416 |
421 |
5079 |
2409 |
4421 |
2180 |
9500 |
4589 |
|
قروي |
87 |
87 |
87 |
526 |
189 |
691 |
181 |
1217 |
370 |
|
المجموع |
503 |
503 |
508 |
5605 |
2598 |
5112 |
2361 |
10717 |
4959 |
المصدر: وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، أكاديمية جهة الشاوية ورديغة، نيابة إقليم خريبكة، مصلحة التخطيط، مكتب الإحصاءات والدراسات.
نؤكد أن ما عرفته الكتاتيب القروية بمجتمع الدراسة من تغيرات، كانت تلقائية وبعيدة عن أي تدخل من أي جهة أو طرف رسمي. ابتدأ الأمر تقليدا ومحاكاة للمدرسة وبالتدريج تحولت مجموعة من الجوامع إلى كتاتيب لا يحفظ بها القرآن على الطريقة القديمة، بل يتم الاكتفاء ببعض قصار السور، إلى جانب تلقين مبادئ القراءة والكتابة . وقد قادتنا تحرياتنا الميدانية إلى أن بوادر هذا التحول تمت في بداية التسعينيات من القرن المنصرم بتزامن مع التراجع الواضح للتعليم القرآني في صوره التقليدية. هكذا برزت كتاتيب جديدة، كتعويض للفراغ القوي الذي خلفته الجوامع خصوصا في الدواوير المجاورة للمدن والمراكز الحضرية.
عن هذا التحول، يحدثنا أحد القرويين: "منذ نهاية الثمانينيات، أصبح جامع دوارنا فارغا من الصبية (المحضرة) ورغم أن السكان بنوا جامعا آخر، إلا أن الآباء لم يرسلوا أبناءهم للتعلم به، فقد استعاضوا عنه بتسجيلهم بالمدرسة وقبل ذلك بتسجيلهم في كتاتيب، مقابل مبلغ مالي قدره عشرون درهما عن كل طفل شهريا"(با. ميلود).
IV–راهن التعليم القرآني من خلال تمثلات القرويين
بعد أن استحدثت فرنسا منذ دخولها المغرب، بنية تعليمية جديدة(55) وقوضت بنية التعليم التقليدي التي كان الكتاب القرآني دعامتها الأساسية؛ عجزت الدولة المغربية المستقلة لاحقا -لظروف تاريخية وسياسية- عن استدماجه كمعطى محلي في مخططاتها التنموية خصوصا في ظل ارتفاع نسب الجهل والأمية(56)، بل اعتبرته في لحظات معينة عائقا من عوائق النظام التعليمي.
وإذا كانت الكتاتيب الحضرية قد استفادت باندماجها في النسق التعليمي بعد التوجهات الجديدة التي سنها الخطاب الملكي لسنة 1968(57)، فإن كتاتيب البادية، ظلت خارج دائرة هذه الإصلاحات(58)، تعيش هامشيتها وتسبح في فلك شروطها التقليدية، إن لم تتراجع القهقرى عما كانت عليه في الفترات السابقة.
وأمام مجمل التغيرات الاجتماعية والثقافية التي عرفها الوسط القروي عامة ومجتمع الدراسة خاصة، فإن السؤال الأساسي الذي ينبغي طرحه هو: هل لازال "الجامع" مؤسسة تعليمية وفقا لتصورات الأفراد القرويين أنفسهم؟ وهل مازال هؤلاء يرونه مؤسسة قادرة على إنتاج المعرفة ونشر العلم؟ ثم هل يحوز اليوم نفس الأهمية الرمزية التي كان يحوزها بالأمس؟
1_ الدور التعليمي للجامع
الجدول رقم : (2) موقف الفرد القروي من الجامع كمؤسسة تعليمية
|
الذكور |
الإناث |
السن من 15 إلى 34 |
السن من 35 فما فوق |
المجموع |
|||||
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
|
نعم |
70 |
25,93 |
42 |
18,26 |
51 |
22,57 |
61 |
22,26 |
112 |
22,4 |
لا |
200 |
74,07 |
188 |
81,74 |
175 |
77,43 |
213 |
77,74 |
388 |
77,6 |
المجموع |
270 |
100% |
230 |
100% |
226 |
100% |
274 |
100% |
500 |
100% |
المصدر : الدراسة الميدانية
يبين الجدول، أن تصور الفرد القروي يميل إلى سحب الوظيفة التعليمية من "الجامع"، وهو ما تؤكده الأرقام ب 77,6%، وهي نسبة لا تتأثر كثيرا بعامل السن، بالمقابل تضعف نسبة الذين لا زالوا يرون فيه مؤسسة تعليمية، لا تتجاوز في المجموع 22,4%، يجسدها الذكور بنسبة 25,93%، مقارنة مع نسبة 18,26% في صفوف الإناث. ونشير أن هذه النتائج الكمية وافقت ملاحظاتنا وتحرياتنا الميدانية حول تراجع الوظيفة التعليمية للجامع.
2_ أهمية التعليم القرآني في الوقت الراهن
الجدول (3) : أهمية التعلم بالجامع
|
الذكور |
الإناث |
السن من 15 إلى 34 |
السن من 35 فما فوق |
المجموع |
|||||
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
|
نعم |
262 |
97,04 |
228 |
99,13 |
219 |
96,9 |
271 |
98,91 |
490 |
98 |
لا |
3 |
1,11 |
0 |
0 |
2 |
0,88 |
1 |
0,36 |
3 |
0,6 |
نسبيا |
5 |
1,85 |
2 |
0,87 |
5 |
2,21 |
2 |
0,73 |
7 |
1,4 |
المجموع |
270 |
100% |
230 |
100% |
226 |
100% |
274 |
100% |
500 |
100% |
المصدر : الدراسة الميدانية
يتضح أن التعلم بالجامع له أهمية كبرى(59).فمن بين 500 مستجوبا، 490 يؤكدون ذلك بنسبة 98%، يحتل فيها الذكور عدديا 262، بنسبة 97,04%، والإناث 228 بنسبة 99,13%، وهي نسب إيجابية جدا ولا تتأثر بالسن. يتعلق الأمر بتصور يقدس الجامع(60) ويمجد القرآن تعليما وتعلما، ويحرص على بقائه واستمراره، ضمانا لإنتاج جيل جديد من الفقهاء.
الجدول (4) : أهمية الجامع في تحفيظ القرآن وإعداد فقهاء
|
الذكور |
الإناث |
السن من 15 إلى 34 |
السن من 35 فما فوق |
المجموع |
||||||
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
||
حفظ القرآن |
نعم |
266 |
99,63 |
230 |
100 |
223 |
99,55 |
273 |
100 |
496 |
99,8 |
لا |
1 |
0,37 |
0 |
0 |
1 |
0,45 |
0 |
0 |
1 |
0,2 |
|
إعداد فقهاء |
نعم |
241 |
90,26 |
177 |
76,96 |
178 |
79,46 |
240 |
87,91 |
418 |
84,1 |
لا |
26 |
9,74 |
53 |
23,04 |
46 |
20,54 |
33 |
12,09 |
79 |
15,9 |
|
المجموع |
267 |
100% |
230 |
100% |
224 |
100% |
273 |
100% |
497 |
100% |
المصدر : الدراسة الميدانية
وفقا لتصور الفرد القروي، لازال حفظ القرآن من المهام المنوطة بالجامع؛ فمن مجموع المستجوبين 99,8% يؤكدون ذلك، وتصل هذه النسبة إلى 100% في صفوف النساء والشيوخ. أما عن دور الجامع في تكوين فقهاء جدد، فإن 84,1% من المستجوبين يرون ذلك مقابل 15,9% من الذين يجيبون بالنفي. وعموما، تتوزع مواقفهم كالآتي: 90,26% في صفوف الذكور، و76,96% في صفوف الإناث، أما لدى الشباب، فتصل النسبة إلى 79,46%، مقابل الشيوخ بنسبة 87,91%.
وبهذه الصورة، يبدو أن فئة الشيوخ أكثر ارتباطا بمؤسسة الجامع ومراهنة عليها، سواء لحفظ القرآن أو لإنتاج جيل جديد من الفقهاء، وهو ما لمسناه أسفا يعتري لغتهم على تراجع هذه المهام اليوم قياسا إلى الماضي، حيث كان الجامع ضروريا لكل من أراد أن يتعلم ويتفقه . ففي عمق الدواوير القروية،لم تتوفر آنئذ المدارس مثلما هو الحال في الوقت الراهن، بل كان المسير إليها يتطلب وقتا طويلا، يدفع الصبي ثمنه عناء الرحلة والتنقل اليومي، كما يكلف الأسرة نفسها ضياع يد عاملة قروية.
وبهذا لم يكن الماضي مشرقا دائما، بل يحمل معه لحظات قاتمة؛ بل حتى التعلم به لم يكن أمرا ممكنا بالنسبة للجميع، فوحدهم أبناء الموسرين أو من كانت أسرهم تستطيع الاستغناء عنهم وعن مساعداتهم في الأعمال القروية، من كان بإمكانهم ذلك(60).
ومهما يكن،يبقى الجامع مؤسسة مقدسة، لأن المتعلم به يحفظ كلام الله المقدس بما يتضمنه من أوامر ونواهي محددة للسلوك، كما يتشبع داخله بقيم الاحترام والطاعة، ممثلة في احترام الأبوين والمسنين وأهل الدوار...، وهي القيم التي ترضي طموحات الآباء من تعليم أبنائهم. "فإذا كانت المدرسة تعلّم فحسب فإن الجامع مدرسة تعلّم وفي الوقت نفسه، تتضمن مسجدا للصلاة والعبادة، إنه دار للعلم والتقوى معا" (محمد با)؛ ويبدو أن قداسة هذه المؤسسة، تتجاوز الجانب التعليمي إلى جوانب أخرى أكثر سموا "الجامع ديال سيدي ربي والمدرسة ديال الدنيا" (بن محمد)، فإذا كان التعلم بالمدرسة موجها لأهداف دنيوية، فإن المأمول من التعلم بالكتّاب القرآني أكبر وأعظم لأنه يتصل بالدين والعبادة، بل يتم الربط بين التعلم به والفوز بالجنة.
الجدول (5) : التعلم بالجامع والفوز بالجنة
|
الذكور |
الإناث |
السن من 15 إلى 34 |
السن من 35 فما فوق |
المجموع |
|||||
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
العدد |
% |
|
نعم |
183 |
68,54 |
167 |
72,61 |
150 |
66,96 |
200 |
73,26 |
350 |
70,42 |
لا |
84 |
31,46 |
63 |
27,39 |
74 |
33,04 |
73 |
26,74 |
147 |
29,58 |
المجموع |
267 |
100% |
230 |
100% |
224 |
100% |
273 |
100% |
497 |
100% |
المصدر : الدراسة الميدانية
يتضح إذن أن 70,4% من المستجوبين يربطون بين التعلم بالجامع والفوز بالجنة، وهي نسبة موزعة كالآتي : 68,54% في صفوف الذكور و72,61% في صفوف الإناث، وترتفع هذه النسبة من 66,96% في صفوف الفئات الشابة إلى 73,26% في صفوف الشيوخ والمسنين.
إلا أن المشكل المطروح اليوم، هو أن عدد الجوامع في تراجع ملموس؛ حتى التي تحتفظ منها بوظيفة التدريس وتحفيظ القرآن، بات الإقبال عليها ضعيفا وعدد المتعلمين بها في تناقص مستمر لا يتجاوز في أحسن الحالات خمسة عشر صبيا، جلهم من المتمدرسين الذين أخفقوا في تعليمهم أو ممن لم تسعفهم ظروفهم أو ظروف آبائهم الاقتصادية والاجتماعية، على مواصلة تعليمهم الإعدادي والثانوي فلم يجدوا أمامهم سواها؛ وهو ما يؤكد من جهة أخرى أن إقبالهم على التعليم القرآني ليس مقصودا لذاته .
أمام وضع مماثل، يبدي بعض القرويين رغبتهم الشديدة في تعليم أبنائهم تعليما قرآنيا إلا أنهم يصطدمون بواقع يتجاوز هذه الرغبة : "لطالما كانت أمنيتي أن يحفظ أحد أبنائي القرآن الكريم، لكن للأسف فقد فتحوا أعينهم على واقع آخر مخالف لواقع جيلنا...، فالمدرسة صارت قريبة من الدوار، ومن بلغ سبع سنين من الأطفال سجل ليلتحق بها" (بوشتى، فلاح).
ترتفع لهجة الأسف على تراجع التعليم القرآني، في صفوف الشيوخ كما تلخصها هذه الشهادة: "القرآن مشى بحالو ! والفقيه بارك (قاعد) بوحدو، حتى أولادو راهم في المدرسة (...) وإلا بغى المخزن الدين في الدواور خاصو يرجع القرآن للجوامع، بلا زواق في البني (البناء) !" (محمد ب.، عامل قروي). بفراغه إذن من الصبية/"المحضرة" استحال "الجامع" إلى مجرد مكان للصلاة وانعقاد اجتماعات ساكنة الدوار(61)، وهنا نتساءل : ما هي حدود دور الدولة وتدخلها في تنظيم عمل الكتاتيب القروية؟ ما دور المتفقدين والمفتشية الخاصة بالكتاتيب القرآنية في عمق الدواوير القروية؟ وأخيرا كيف صار وضع الجوامع القروية خصوصا بعد سياسة التشديد الأمني ومراقبة دور المساجد والجوامع في الظروف الراهنة؟
3–بعيدا عن دعم الدولة ومراقبتها
لمسنا ميدانيا، أن الفقيه يعمل بمفرده ووفق ما يتوفر له من وسائل وأدوات، سائرا في ذلك سير شيوخه وفقهائه، ليس أمامه برنامج محدد أو مقررينبغي إتمامه. فهو يواجه قدره بعيدا عن مراقبة مفتشية الكتاتيب القرآنية التي لا تغامر بالوصول إلى عمق الدواوير، مكتفية فقط بزيارات الكتاتيب العصرية التي تتواجد بجوار المدن والمراكز الحضرية وفي أحسن الأحوال تلك التي توجد بالدواوير المجاورة للطرق المعبدة . أما الجوامع التي تقع في الأطراف فتبقى خارج دائرة الزيارة؛ وكما ورد في شهادة أحد الفقهاء المدرسين: "هذه السنة لم يزرني أي متفقد... لكن فيما مضى زارني متفقدون كثيرون، في سنوات 1980 و 1990 و1995، وآخر زيارة كانت سنة 1998" (الفقيه العربي).
كما أن عملية التفقد والمراقبة إن تحققت، فتتخذ شكلا موسميا متباعدا، مما يكشف عن غياب متابعة مساوقة وموصولة . أما عن مجرياتها، فعادة ما تتخذ طابعا شكليا، طالما أنه ليست للوزارة الوصية (التربية الوطنية) أي سلطة مباشرة على الفقيه ولا يتلقى منها أي دعم مادي؛ لتنتهي الزيارة التفقدية بتوجيهات بيداغوجية لا علاقة لها بواقع المتعلم القروي ولا بمستوى الفقيه الذي لا يستطيع بدوره تطبيقها؛ وهكذا تتحول في النهاية إلى توجيهات فوقية مفارقة للشروط الموضوعية للتعليم القرآني وخصوصياته الدقيقة بالوسط القروي.
يصف لنا (الفقيه العربي) أجواء هذه الزيارات كالآتي : "ينصب حديثي مع هؤلاء المتفقدين حول طريقة التدريس التي أستعملها (...) وهم يضعون علي أسئلة كثيرة، منها ما يتعلق ببياناتي الخاصة كالاسم والسن والحالة الزواجية، ومنها ما يتعلق بمستواي التعليمي وتجربتي بالتعليم القرآني؛ وفي آخر مرة سنة 1998، طلبوا مني استعمال السبورة والطباشير بدل الاقتصار على الألواح التقليدية"؛ ومن أحد الدواوير التي تفصلها عن العالم الحضري مسافة بعيدة، يؤكد لنا (الفقيه محمد الب.) : "لي حوالي ثلاثون سنة من العمل بمهنة الشرط ودرست لأجيال مختلفة من حفظة القرآن، ولم يسبق أن زارني أي متفقد قرآني ! ولا أية لجنة... إنهم لا يلجون عمق الدواوير ويقصرون جولتهم على الجوامع القريبة من الطرق، خوفا على عجلات سياراتهم !".
تبينا أن السلطات المحلية، قامت بعد أحداث 16 ماي 2003، اعتمادا على القواد والشيوخ والمقدمين بتسجيل أسماء الفقهاء في ملفات خاصة وكذا معطياتهم الشخصية، وأعطتهم أوامرها بغلق أبواب الجوامع بعد كل صلاة، كما طالبتهم باليقظة والانتباه لما يجري داخل الدواوير التي يعملون بها. وفيما بين سني 2004 و2005، توصل مجموعة منهم بمبالغ مالية على دفعات، تسلمها البعض في أواخر 2004 والبعض الآخر في الشهور التي أعقبتها؛ وقد تراوحت هذه المساعدات المالية بين خمسة آلاف درهم وثمانية آلاف درهم، إلا أن المعايير التي تم على ضوئها توزيع هذه المبالغ المتفاوتة يجهلها المعنيون بالأمر، كما يجهلون سبب حرمان زملاء لهم كثيرون(62).
ختاما
نستطيع القول أنه أمام واقع مماثل، يعاني فيه الفقيه وضعيته المجردة من أي دعم أو تأطير، وفي غياب تنظيم واضح لمهنته، يتفاقم إحساسه بالغبن والبؤس(63) بالنظر إلى قيمة ما يحمله معياريا من تميز يجسده حفظه للقرآن. يقول الفقيه (أحمد ح.) : "الوزارة لا تساعدنا ولا تؤطرنا: لا وزارة التعليم ولا وزارة الأوقاف،إنهما في واد ونحن في آخر، فلا جهة تدعمنا ماديا أو تؤطر ممارستنا(..) إن مهنة الشرط ميدان لا تدعمه الدولة إلا بالكلام (..) والفقهاء يشتغلون فرادى في شعاب القرى، دون نقيب . إنهم سواح في البادية".
من هنا تطرح أسئلة كثيرة حول مسؤولية الدولة في النهوض بالتعليم القرآني بالبادية، ومساعيها في إعادة الاعتبار لهذا الصنف من التعليم الديني التقليدي وتجديده وتقويته سواء بوصفه بوابة ممكنة للتنمية بهذا الوسط الهش عبر التوعية والتثقيف والتعليم أو بوصفه حصنا منيعا ضد التطرف والغلو الذي باتت بعض الأطراف تغذيه أوتنفته بالبادية مستغلة فراغ الدولة وتراجع مكانة فقهاء الشرط ممثلو الإسلام الشعبي المعتدل(64)
المراجع والمصادر:
(1)يختلف "الجّامع" كما هو متداول في لغة القرويين، عن الجامع في دلالته اللغوية والاصطلاحية، إذ يعني المسجد المخصص للصلاة الجامعة قياسا للمساجد الصغرى التي تقتصر على الصلوات اليومية،كما يختلف أيضا عن الجامع الذي هو المسجد المخصص لحلقات الدروس الدينية والعلمية، كجامع القرويين بفاس المغرب والزيتونة بالعاصمة تونس والأزهر بقاهرة مصر؛ راجع: طه الولي، المساجد في الإسلام، دار العلم للملايين، ط I، بيروت، 1988، ص. 145-147.
(2) انظر:
[1]-Mohammed Tamin" La Rétribution du Taleb et ses Soubassements Socio-économiques dans les Moda (Douars) de Montagne du Haut Atlas du Toubkal (Tifnout et Ourein) : ABHAT, n° : 4, 1994, p. 75.
(3) انظر:
Ibid, p. 75.
(4)انظر:
Lucien Paye, Introduction et Evolution de l’Enseignement Moderne au Maroc (Des Origines jusqu’à 1956), éd. et Introd. par : Med BENCHEKROUN, imp. « Arrissala », Rabat, 1992, p. 33.
(5)يمكن أن نذهب بعيدا للقول – متفقين مع رأي فاني كولونا – بأن الجامع يلعب دورا أكبر، في تجسيد هوية تتجاوز بعده المحلي الضيق، مساهما في خلق وساطة بين ثقافة المغرب الصغير والمغرب الكبير، تنتهي بتكوين ثقافة واسعة للمغرب الكبير.:
Fanny Colonna « La Répétition . Les Tolba dans une Commune Rurale de l’Aurès » : L’Annuaire de l’Afrique du Nord, éd. CNRS, 1979, p. 189.
(6)الحسن شوقي" التعليم الأصيل بالبادية المغربية، نموذج : السراغنة و زمران" : أمل، العدد 30، 2004 ، ص، 56و57. وأنظر أيضا : عبد الهادي التازي، جامع القرويين، جامع القرويين، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1972، ص. 126و146.
(7)أوبلا إبراهيم "آلية المدرسة العتيقة بين الواقعية والاستقلالية": مؤلف جماعي، المدارس العلمية العتيقة آفاق إصلاحها واندماجها في محيطها المعاصر، مطبعة فضالة، المحمدية، الطبعة الأولى، 1996، ص. 59.
(8)تتناغم المعرفة القرآنية الملقنة داخل "الجامع" مع نمط الحياة الاجتماعية القروية في المجتمعات المغاربية؛ في هذا الإطار تفيد ملاحظات أيكلمان، بإمكانية عقد مقارنة ما بين التلاوة الجماعية للقرآن بالجامع، وبين الغناء والترتيل الجماعي للنساء اللائي يحكن الزرابي داخل البيوت أو مع الحصادين الذين يرفعون أصواتهم بشكل جماعي لترديد أشعار ومقاطع مسجوعة: Fanny Colonna : « La Répétition.» :op,cit, p. 190 .
(9)انظر:
Ahmed Zouggari, L’école en Milieu Rural, imp. El Maarif Al Jadida, Rabat, 1996, p. 125.
(10) رغم أهمية "الجامع" التعليمية داخل الوسط القروي، فإنه ظل بالنسبة لمهندسي السياسة التعليمية الفرنسية في عهد الحماية، تعليما "تقليديا" بكل ما تحمله كلمة تقليد من معان سلبية في عين المنظر الاستعماري: جورج هاردي "اتجاهات التعليم العمومي بالمغرب في العشر سنوات الأولى من الحماية"،ترجمة: أمينة بريدعة، أمل، العدد 28، 2003، ص. 93.
(11)انظر:
Lucien PAYE , op. cit, p.126 – 127.
(12)انظر:
(13)فرناندو بلدراما مارطنيث "التعليم الديني الإسلامي في المغرب": الأنيس، العدد 75، 1953، ص. 2 و 3.
(14)الحسن بن محمد الوزان الفاسي، وصف أفريقيا، ترجمة : محمد حجي ومحمد الأخضر، الجزء الأول، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط ودار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ص. 261.
(15)انظر:
Fanny Colonna « La Répétition. »op cit, 1979, p. 196.
(16)مع ذلك تعتقد كولونا، أن الكتّاب القرآني لعب دورا قويا في المحافظة على الهوية الخاصة بالمجتمع الجزائري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. بل إنها تذهب بشكل أوسع إلى اعتباره الدعامة الصلبة للبنية التحتية التي تميز الثقافة المغاربية عبر التاريخ. :
F. Colonna « Invisibles Défenses : A propos du Kuttab et d’un Chapitre de Joseph Desparmet » : Pratiques Résistances Culturelles au Maghreb, éd. CNRS, Paris, 1992, p. 37 - 49 – 48.
(17)انظر:
Abdallah Laroui, Les Origines Sociales et Culturelles du Nationalisme Marocain (1830 – 1912), éd. Maspero, Paris, 1977, p. 227 – 228.
(18) أنظر : المختار السوسي، مدارس سوس العتيقة، نظامها، أساتذتها، (د.ت و د.د.ن)، ص. 14.
(19) المرجع نفسه، ص. 15.
(20) المرجع نفسه، ص. 15.
)21)المرجع نفسه، ص. 15.
(22)لاحظت كولونا، أن النقد الذي وجهه مؤلفون وكتاب جزائريون للكتاب القرآني يمتد إلى زمن ابن خلدون والفلاسفة الذين زامنوه، كابن عربي الذي كان يرفض أن يقضي الصبي سنوات يحفظ فيها نصوصا لا يفهم منها شيئا. أنظر : F.Colonna "Invisibles Défenses … "op.cit, p. 48.
(23)ابن خلدون، المقدمة، دار القلم، الطبعة السابعة، بيروت، 1989، ص. 540.
(24)انظر:
Ahmed Zouggari, op.cit, p. 127.
(25)"السلكات" جمع "سلكة" وتعني، حفظ القرآن حفظا كاملا، مرة واحدة. و"السلكة " في اللغة اليومية، اسم مرة من سلك، أي اجتاز واخترق، وهو مفاهيم تناسب كثيرا حفظ القرآن ، لما يميزه من صعوبة وتعقد، يستدعي منه حفظا متعددا ومتكررا أي سلكات عديدة.
(26)ابن خلدون، المقدمة، دار القلم، الطبعة السابعة، بيروت، 1989، ص. 539.
(27)ديل أيكلمان، المعرفة والسلطة، م.س.ذ، ص. 97.
(28) يتضمن الحديث عن تقاليد الحفظ القرآني واستعمال الذاكرة، بصورة عامة وشمولية نوعا من التعميم يجانب الصواب، فقد بين أيكلمان، أن هناك اختلافا واسعا بين بلدان العالم الإسلامي نفسه في مسألة حفظ القرآن، فالمغاربة يتميزون دون غيرهم من بعض بلدان المشرق بالحفظ التام والكامل (عن ظهر قلب) بينما يكتفي العمانيون مثلا بالقراءة الصحيحة للقرآن دون حفظ. : ديل أيكلمان، المعرفة والسلطة، م.س.ذ، ص. 97 – 98.
(29) ديل أيكلمان، المعرفة والسلطة، م.س.ذ، ص. 101.
(30) المرجع نفسه، ص. 97.
(31) انظر:
A. Zouggari, op.cit, p. 122.
(32) انظر:
Ibid. p. 122
(33) انظر:
F. Colonna, Savants Paysans… Eléments d’Histoire Sociale sur l’Algérie Rurale, Office des Publications Universitaires, Alger, 1987, p. 11.
(34) انظر:
F. Colonna « Invisibles défenses … » :op cit, p. 48.
(35)بالرجوع إلى رسائله الخاصة، ثمّن ابن حزم حفظ القرآن في وجوه عدة، منها تدريب اللسان وتمرينه على تلاوته، وهي غايات عملية لا ينفصل فيها ما هو معرفي عما هو ديني: ابن حزم الأندلسي، الرسائل، الجزء الرابع، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. I، بيروت، 1983، ص. 65-66.
(36)ديل أيكلمان:"التعليم العالي الجماهيري والتصور الديني في المجتمعات العربية المعاصرة"، ترجمة: محمد أعفيف، المستقبل العربي، عدد 170،1993،ص. 60.
* العكّارة: وهي لفظة عامية، تشير إلى أحد أسماء العصا التي يستعملها الفقيه لضرب تلامذته وتأديبهم. ولغويا، "العكّارة" تعني العصا الموجعة والمؤلمة.
(37)ديل أيكلمان: "التعليم العالي الجماهيري والتصور الديني في المجتمعات العربية المعاصرة "، م.س.ذ، ص. 61.
(38)انظر:
F. Colonna « La Répétition …», op.cit, p. 189.
(39)لاحظ L. Paye، أن بعض "الفقهاء " كانوا يكسبون معاشهم، من كتابة الرسائل للقرويين أو للخواص ؛ : L. Paye, op.cit, p. 105.
(40)ديل أيكلمان، المعرفة والسلطة، م.س.ذ، ص. 99.
(41)علي أومليل: "المختار السوسي : السلطة العلمية والسلطة السياسية "، م.س.ذ، ص. 283.
(42)لاحظت كولونا، أن حضور الكتابة في الثقافة الدينية للبادية الجزائرية تقلص مقارنة مع العقود السابقة، بسبب غياب فقهاء يمارسون الكتابة، وهنا يتم الربط بين دور الفقهاء "كمثقفين محليين" ومصير الثقافة الدينية المحلية ككل: فاني كولونا: "مثقفون في الأطراف "، م.س.ذ، ص. 279 و 293.
(43)لاحظنا أن هذه الصورة النمطية للمجتمع القروي، تحولت نسبيا لصالح الكتابة مع انتشار الثقافة المدرسية، كما تحولت أيضا لصالح الصورة مع ما تمارسه من جاذبية مادية وإيروسية واضحة، تعمقت أكثر مع الاستهلاك الليبدي للحداثة الذي وفرته الصحون المقعرة التي اتسع انتشارها بالمجتمع القروي.
(44)عبد الرحمان المودن "قراءة نقدية في كتاب: العرض والبركة لرايمون جاموس: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية،جامعة محمد الخامس، الرباط، العدد 9، 1982، ص. 199.
(45) أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، م.س.ذ، ص. 459.
(46) انظر:
F. Colonna, Savants Paysans …, op.cit, p. 108.
يؤكد Desparmet على وجود ثقافة شعبية تقرأ وتكتب، ضد كل الكليشيهات الكولونيالية التي قزمت اللهجات المغاربية وربطتها ربطا قدريا بالثقافة الشفاهية دون الكتابة. انظر : F. Colonna "Le Texte de Desparmet", op.cit, p. 45
(47) استبدل بعض الفقهاء مادة "الصمخ" التقليدية بملون اصطناعي، غير مكلف ماديا ويسهل الحصول عليه من الأسواق، دون مشقة تحضير "الصمخ " بالطريقة التقليدية المعروفة.
(48) الكراك أو الكرّاكة، قطعة خشب صغيرة قدت لهذا الغرض، يحك بها الصبي لوحته أثناء عملية الحفظ، في حركة موازية لحركة رأسه وجسده. ويسود الاعتقاد أنها أبلغ وسيلة تمكنه من حفظ القرآن، بشكل يتناغم فيه استيعاب الذهن، بحركة الجسم.
(49) عبد الله الجراري، من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا، م.س.ذ، ص. 37-38.
(50) المختار السوسي، مدارس سوس العتيقة، م.س.ذ، ص. 22.
(51) المرجع نفسه، ص،22.
(52) من أشهرها: الفلاقة والتّحمال (الرفع) والوخز بقصب الكتابة "القلم" مكان العنق، والضرب بحبال من الجوث، أو الدوم والتي تعرف بـ "الشكالات".
(53) نميز بين الكتّاب القرآني وروض الأطفال كمفهوم خاص لمؤسسة مختلفة عن الأولى، سياقا وأسلوبا ووظيفة، إنه ذات الاختلاف الذي يساوقه اختلاف الفقيه عن منشط الروض، ثم لأن الأنشطة الترفيهية التي تميز روض الأطفال، تختلف كلية عن العمل والتعلم الذي يميز الكتاب.:
Assia Akesbi Mesfer « Naissance des Jardins d’Enfants ou reconduction des Ecoles Coraniques » : Actes du Premier Colloque Maghrebin sur l’Education, Théorie et Pratique, Université Med V, Faculté des Sciences de l’éducation, Groupe Atfal, Fév. 1992, imprimerie Al Maarif Al Jadida – Rabat, 1992, p. 96-100-101.
(54) سبقت هذه الخطوة أخرى، منذ الحماية الفرنسية وبتشجيع من الإدارة العامة للتكوين العمومي، وقد تزعمتها البورجوازية الحضرية في سياق تمردها على الطابع العتيق للتعليم التقليدي وعلى الأهمية الضعيفة التي أعطيت للغة العربية داخل المؤسسات التي أوجدتها إدارة الحماية من جهة ثانية. ومع الاحتجاجات المتنامية للحركة الوطنية خصوصا بعد الظهير البربري، أصبح مطلب تجديد الكتاتيب قويا، لما لمس في التعليم الكولونيالي من تهديد لهوية الطفل المغربي وللقيم الإسلامية بشكل عام. إلا أن هذا المشروع الذي تبنته الحركة الوطنية لم يكن كافيا ليتم تعميمه: A. Zouggari, op.cit, p. 121 – 122 – 123.
(55) المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، دليل في التربية الماقبل مدرسية، من نتائج عمليات مشروع الكتاتيب القرآنية الماقبمدرسية 1990 – 1994، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1994، ص. 4.
(56) انظر:
A. Zouggari, op.cit, p. 121.
(57) انظر:
Ibid, p. 125
(58) انظر:
L. Paye, op.cit, p. 287.
(59) سعيد المغناوي، دراسات فاسية. تحفيظ القرآن الكريم بالكتاتيب في فاس وغيرها من بقاع العالم الاسلامي في الماضي الغابر والعصر الحاضر، مراجعة : عبد العلي المسؤول، مطبعة أنفو-برانت، فاس، ط. I، 2003، ص. 68.
(60) رسم الخطاب الملكي (9 أكتوبر 1968) توجها جديدا يهدف إلى تجديد وتطوير مدرسة قرآنية تمزج بين التقليد والعصرنة، وليؤكد في الوقت نفسه أهميتها كمؤسسة ما قبل مدرسية، على يد فقهاء مكونين كما ورد في نص الخطاب: "أما اختيار الفقهاء فسيكون على أساس أن يكونوا متوفرين على طريق التعلم أولا والكفاءة ثانيا... لن يكونوا على الشكل الذي كنا نعرفه نحن، حيث كانوا يطبقون أساليب عتيقة وغير لائقة في تعليم الأطفال": المملكة المغربية...، دليل في التربية الماقبـمدرسية...، م.س.ذ، ص. 3-4.
(61) انظر:
A. Zouggari, op.cit, p. 123-126.
سبق لأيكلمان أن تيبن حضوة التعليم القرآني والديني عموما، باحترام شعبي كبير وواسع.: ديل أيكلمان، المعرفة والسلطة، م.س.ذ، ص.100.
(62) انظر:
A. Zouggari, op.cit, p. 179.
(63) انظر:
(64) دانييل واجنر"بيداغوجية الكتاتيب القرآنية في المغرب المعاصر"، ترجمة : أحمد بنعمو وسعيد بحير: الدراسات النفسية والتربوية، العدد 13، يوليوز 1992، ص. 53.
(65) سبق لبول باسكون أن تنبه لتراجع التعليم التقليدي بالكتاتيب القرآنية، يقول : " أما المدارس التقليدية (المسيد والمعاهد الدينية ) فتفقد أهميتها تدريجيا إلا في بعض المناطق الخاصة في سوس والريف ومنطقة جبالة ". : بول باسكون " الأساطير والمعتقدات بالمغرب"، م.س.ذ، ص. 47.
(66) إلى غاية متم أبريل 2005، قابلنا حوالي عشرين فقيها، من دواوير مختلفة بإقليم خريبكة لكن أربعة منهم فقط من حصلوا على هذه المنحة، إلا أن المثير، هو أن المستفيدين لا يدرسون بينما حرم فقهاء يدرسون، كما هو شأن الحالات التي ذكرناها بالسماعلة وبني خيران.
(67) نفس الشيء لاحظه الزوكاري، في دراسته البيوغرافية لمجموعة من الفقهاء. أنظر: A. Zouggari, op.cit , p. 127, 192, 193.
(68) أنظر بهذا الصدد مقالنا: فقهاء الشرط وتحولات الحقل الديني القروي بالمغرب":مجلة إضافات، العدد 20 و21، خريف وشتاء ، 2012_2013.