أحمد الفراك | (باحث من المغرب).
أولا: العلوم التجريبية وتطور المنهج التجريبي
- مصادر المعرفة بين التيسير القرآني والتسخير الكوني
معلوم أن وحدة الخالق ووحدة المخلوق ووحدة الكون تؤسس للمشترك المعرفي في كلياته الجامعة، كما أن مصادر المعرفة لا يمكنها أن تتجاوز بأي حال مصدرين اثنين هما:
-أ- الوحي المكتوب:وهو رسالة الله تعالى المطلقة إلى الإنسان نوراً وهداية وحجة لمعرفة الحق والعمل بما يواتيه ويقتضيه؛ سعياً بالصلاح والإصلاح وإرادة الرحمة للعالمين {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ويقدم الوحي أصول المعارف والعلومووسائلها والغاية منها؛ معرفة الإنسان بنفسه وما يتفرع عنها من معارف، ومعرفته بربِّه وما يتفرع عنها من علوم، ومعرفته بغيره من المخلوقات وما يرتبط بها من علوم تخصصية، ومعرفته برسالته في الوجود وما يتعلق بها من معارف وسنن، ومعرفته بمصيره المزدوج في العاجل والآجل؛ وما يتطلبه ذلك من علم وعمل ورؤية شاملة.
-ب- الكون المبتوت: وهو الفضاء الذي تستطيع أن تمتد إليه قوى الكائن البشري إن أنفسا أو آفاقا؛ بَحرا وبَرا وجَوا، ما في السماوات وما في الأرض من كائنات حية وجامدة وأشياء، ما هو موجود وما هو في طور الإيجاد والإمداد. وفيه ومنه تتعلم الإنسانية وتنظر وتتدبر و تفكر وتعرف...قال الله تعالى: {والله أخرجكم مِن بُطون أُمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}(1)
يؤكد الله تعالى على دور القوى الإدراكية الحسية في اكتشاف المعرفة المحيطة بالإنسان، إلى جانب النظر العقلي والتدبروالتفكر في آيات الكون ومكنوناته، وعدم الركون إلى معرفة السابقين، لأنالتقليد الساذج يُعطل العقل والحس معا عن البحث والمعرفة ومراجعة الحقائق العلمية باعتبارها حقائق نسبية تقبل المراجعة والنقد والتجاوز، وليست نهائية من جهة كونها تنسب للإنسان، حيث التقليد عدو العلم مبدئيا، ومن الناحية النظرية لأن "الرأي تفكير سيىء"(2)؛ إذ غالبا ما يعدّ الناس الأفكار المشهورة أو ما يسمى "بادئ الرأي" أفكارا معقولة. والحقيقة على خلاف ذلك؛ إذ "المعاني المعقولة عند هؤلاء هي كلها خطبية؛ إذ كانت كلها ببادئ الرأي"|(3)
الأساس العلمي للمشترك بين الإنسانية يجمع بين المعرفتين الطبيعية التجريبية التي موضوعها الأشياء، والإنسانية الاجتماعية التي موضوعها الإنسان.
- خصائص المنهج التجريبي:
العلوم التجريبية هي جميع العلوم القديمة والحديثة التي تتخذ "التجريب" منهجا لاكتساب المعرفة وبنائها وتطويرها والتحقق من صدقيتها وسلامتها، وقد اشتهر المنهج التجريبي خلال القرن السادس عشر لما انفصلت العلوم الطبيعية عن الفلسفة، واستقلت بمناهجها الخاصة وموضوعاتها المحددة.
يتطلب المنهج التجريبي من العالِم (الدارس/الباحث) الجمع بين شرطين منهجيين ضروريين: أولهما: قدرته على الجمع بين الملاحظة والتجربة،وثانيهما: أن يكون حذرا من الوقوع في الملاحظة الجزئية والمستعجلة؛ لأن التساهل في الملاحظة يؤدي إلى تشويه إدراك الظاهرة المدروسة، إنْ إهمالا لبعض أجزائها أو تعميما لبعضها على بعض. لهذا يرى "كلود برنار"(1813-1878) أنه "على الملاحظ أن يكون إذن - أثناء معاينته للظواهر- بمثابة آلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة، حيث يجب أن يلاحظ دون فكرة مسبقة، وعليه أن يصمت وأن ينصت إلى الطبيعة وأن يسجل ما تمليه عليه"(4)، أو بعبارة أخرى: "أنطلق إلى الميدان وأدع الصخور تتحدث إليَّ"(5)، لكن هذا الإملاء وهذا الإنصات لا يتم اعتباطا؛ وإنما يتحقق باتباع الخطوات الأربع التي توفر للباحث القدرة على الجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية كما يلي:
-
- الملاحظة الواقعية الدقيقة.
- ميلاد الفرضية تبعا للملاحظة / المعاينة، والافتراض جواب احتمالي تقريبي سابق عن التجربة وموجه لها في الوقتنفسه. "ويفيدنا التطور التاريخي للعلوم بأن المشاهدات تعقبها دائما فترات من النشاط العقلي الفكري المكثف التي يتم خلالها الكشف عن انتظام المعطيات، لتكون أساسا لاستحداث النظريات المميزة للنظرة العلمية عن العالم"(6)
- العودة إلى الواقعة من أجل تجريب مدى صدق الفرضية أو الفكرة أو التصور. "انطلاقا من هذه الفكرة يستدل عليها ويلجأ إلى التجربة بعد أن تصورها ذهنيا"(7).
- الاستنتاج، وهو ثمرة العمل التجريبي الذي تتأسس عليه ملاحظات جديدة تستدعي استئناف العمل التجريبي من غير انتهاء.
- مراجعة المنهج التجريبي:
تطور المنهج التجريبي المعاصر وأقدم على مراجعات وتجاوزات للمنهج التجريبي التقليدي؛ إذ لم تعد التجربة في صورتها الساذجة كافية لإنتاج حقيقة علمية "يقينية"، بل حتى مصطلح منهج تم التخلي عنه مع "روني طُوم"(1923-2002)، حيث ميز بين مصطلح "منهج" ومصطلح "فعالية"، فنسب الأول لفلسفة ديكارت (المنهج الشكي المجرد)، وربط الثاني بالممارسة التجريبية،ويعد أن الجمع بين المنهج والتجربة كالجمع بين المتناقضات التالية: "ثلج مُحرق" أو "نار متجمدة"، لهذا يرفض "طُوم"(8) استعمال كلمة منهج في العمل التجريبي، ويستعمل عوضا عنها مفهوم الفعالية التجريبية أو الممارسة التجريبية، والتي قد تكون لها أصول سابقة عن العلم وعن المنهج، ويمكن أن تستعين بالخيال، ومن أجل ممارسة تجريبية يؤكد "طُوم" على وجوبالاحتراز في تتبع الإجراءات التالية:
1-- عزل المجال المراد دراسته: تحديد الموضوع والزمان والمكان بدقة، مع الاستعانة بالخيال...
2-- إعداد المجال: توفير عناصر الموضوع المدروس (مواد الاختبار: مواد كيميائية، كائنات حية...)
3-- القيام بالتجربة:أي تسليط أدوات البحث على الموضوع المبحوث بدقة.
4-- تسجيل النتيجة: بصيغة دقيقة قابلة للقياس وتستجيب للنسق المدروس...
ورغم المرور من هذه الإجراءات فإن الواقعة التجريبية وحدها لا ترقى إلى تأسيس واقعة علمية- حيث ليس كل تجريب علماً- إلا إذا حققت المطلبين التاليين:
- أولا: وافقت قابليتها للتكرار؛ أي تقبل إعادة الإنشاء باستمرار، "وهذا يقتضي أن تكون بروتوكولات إعداد التجربة وإنجازها دقيقة بشكل يمكننا من إعادة التجربة في مجالات زمانية ومكانية أخرى"(9).
- ثانيا: أن يكون لها أثر مادي يستجيب لحاجات نافعة في حياة الناس، وأثر نظري في تطور العلم "يجعل البحث يندرج ضمن إشكالية قائمة"(10).
هذه الضوابط العلمية هي ضوابط موضوعية لا تتعلق بذاتية الباحث وتحيزه، إلا أن تستعمل نتائجها استعمالا مشوها ينتحل الحقائق العلمية لأغراض غير علمية. ويتحدد معيار التحقق من صِدقية النظرية العلمية في نظر المدرسة التجريبية عموما في قابليتها للاختبار التجريبي، مادامت النظرية أصلا هي صورة ناسخة لموضوعات الواقع المادي، حيث التجربة هي منبع العلم ومحكها ووسيلة بيان صدقها من كذبها، ولا يصح نعت معرفة ما بصفة "العلمية" ما لم تخضع للفحص التجريبي، وكل تجاوز لهذا الشرط فهو خروج من العلم وارتماء في أحضان الأسطورة والمعرفة الخيالية والمثالية المجردة.
هذا الإصرار على تجريبية المعرفة العلمية وقصر مصدر المعرفة على المحسوسات هو ما جعل الإبستمولوجيا المعاصرة تجعله محط نقد ومراجعة وتجاوز، ومن ثم الدعوة إلى إنشاء براديغمات جديدة قادرة على إعداد أجوبة مقنعة عن الأسئلة العلمية التي تعجز التصورات التقليدية عن أن تجيب عنها، ولعل ذلك ما جعل كارل بوبر (1902- 1994) ينقلب على الاتجاه التجريبي ذاهباً إلى أن المعرفة العلمية لا تطابق المعرفة التجريبية إلا إذا كانت قادرة على الاستجابة لشرط القابلية للتكذيب، وتعد "خارج مجال العلم التجريبي عندما لا نستطيع وصف كيف يمكن أن يأتي التكذيب المحتمل لها...ومن ثم فإن النظرية التي تعرف مُقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها لهي نظرية غير قابلة للاختبار"(11)، وفي الاتجاه نفسهيسخر روبير بلانشي من النزعة التجريبية التقليدية قائلا: "يميل المذهب التجريبي إلى تصور الفكر كقطعة الشمع الرخو التي تنطبع سلبا بطابع التجربة"(12).
- المنهج التجريبي مشترك إنساني
هذه العلوم وهذا السجال الدائر حولها مشترك إنساني، يتخذ من أشياء الطبيعة موضوعا له بلا طلاسم وتكهنات، معرفة بشرية بموضوع مسخر للبشرية تصيب فيه وتخطئ، وهذه المعرفة لا تحابي أحدا من الناس مؤمنا أو كافرا؛ لأنها سخرت لمن طلبها وأتقن مناهج تحصيلها وتطويرها وتسخيرها. الفرق الوحيد يكمن في حاجة تلك العلوم إلى "فقه القِبلة"؛ أي الفقه الذي يوجهها الوجهة المنهاجية التي تواتي حقيقة الإنسان بوصفه الكائن الكادح المستخلف المسؤول عن إقامة العمران في الأرض حتى ينعم الجميع بالحياة الطيبة.
واضح إذن أن "العلوم التطبيقية والطبيعية مشترك إنساني"(13)، تعتمد الملاحظة والتجريب والاستقراء، وتشحد القوى الإدراكية للإنسان لطلب الحق ومعرفة الحقيقة المبتوتة في الكون، مادام "الحق مطلوباً لذاته، وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده"(14)؛ فإن العلوم الكونية ميسرة للإنسانية جمعاء عز من طلبها فوجدها فسخرها للخير، وذل من نكص على عقبيه يتوجس خيفة وعجزا ، فأوذي باستعمال غيره لها استعمالا يلحق به الشر.
المسلمون اليوم في حاجة إلى تجديد الصلة بالمنهاج القرآني الذي يحث الإنسان على التلمذة المباشرة على آي الكتاب وآي الكون في تناسق وانسجام، حيث يقترن التدبر في آيات القرآن بالتفكر في آيات الكون، فيحصل "الجمع بين القراءتين"، إذ في كل منهما آيات وأسرار ومعارف يجب أن تتدبر وتدرس وتستنطق لتخرج كنوزها وثمارها...وإلا بقيت المعرفة سجينة عقيدة غير قرآنية تحمل رؤية غربية للإنسان والحياة والكون، ولا ينفع القول بأن المعرفة لا دين لها(15).
ثانيا: العلوم الإنسانية: العلمية والموضوعية
العلوم الإنسانية هي جميع العلوم التي تتخذ من الإنسان موضوعا لها وإن اختلفت مناهجها وتعددت مدارسها وتنوعت نتائجها (علم الاجتماع، علم النفس، علم الاقتصاد، علم السياسة، علم التاريخ...) وقد كانت قديما مقترنة بالفلسفة إلا أنها انفصلت عنها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع ظهور الفلسفة الوضعية التي ترمي إلي التخلص من كل أشكال الخطاب التأملي الميتافيزيقي حول الإنسان، لصالح الدراسة العلمية والموضوعية للظواهر الإنسانية، وذلك اقتداء بما حققته العلوم التجريبية من تقدم ونجاح.
فهل تيسر مشروع الدراسة العلمية للظاهرة الإنسانية على غرار الدراسة العلمية للظاهرة الطبيعية؟ وهل طريق بلوغالعلمية في العلوم الاجتماعية هو فقط تقليد ونسخ أنموذج العلوم التجريبية؟ أبالإمكان إخضاع الظاهرة الإنسانيةللدراسة نفسهاالتي تخضع لها الظاهرة الطبيعية؟
حاولت الفلسفة الوضعية أن تقلد العلوم الطبيعية في دراستها للظاهرة الإنسانية، إلا أنها اصطدمت بكون هذه الأخيرة تنفرد بجملة من الخصائص أهمها الوعي والإرادة والتعقيد والحرية، خاصة وأن الإنسان تحول من ذات عارفة إلى ذات وموضوع للمعرفة في الوقتنفسه. في حين تتصف الظاهرة الطبيعية بالعطالة والاطراد والوضوح والحتمية.
الأفعال الإنسانية واعية، تصدر عن إرادة خفية، وترمي إلى مقاصد قد لا تكون واضحة، ولا تخضع بالضرورة للاطراد، وهي قابلة للتغير والتجاوز باستمرار وبشكل غير قابل للقياس والضبط، في حين تتقيد الظواهر الطبيعية بمبادئ الحتمية والسببية والعطالة.
من هنا ينبع الإشكال التالي: ما العمل قصد تحقيق شرط العلمية في العلوم الإنسانية؟ أبالاقتداء بالعلوم الطبيعية أم بالاستقلال عنها؟ إن كان بالاقتداء، فكيف نتجاوز معضلة الفارق بين الموضوعين؟ وإن كان بالاستقلال، فأي نموذج ناجح تقدمه العلوم الإنسانية دليلا على علميتها المستقلة؟
لن نجد غير إمكانين اثنين هما:
1- إمكانية الاستيراد: وتعني نسخ المناهج من العلوم الطبيعية وتطبيقها في العلوم الإنسانية، أو بعبارة أخرى:نَقل واستعارة"المناهج التي كشفت عن حجِّيتها في ميدان علوم الطبيعة"(16) وتطبيقها في ميدانالظواهر الاجتماعية، مع العلم بأن الأمر يتطلب "وضع الفاعلين بين قوسين، وذلك من خلال العمل على إبراز الأنساق التي يمكن دراستها عن طريق اعتماد المناهج التي برهنت عن جدارتها في دراسة الأنساق المادية"(17). وأفضل المدافعين عن هذا الاتجاه نذكر أوغست كونت إذ يقول:"إننا ما دمنا نفكر بشكل وضعي في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة السياسة أو الدين، فالمنهج الوضعي الذي نجح في علوم الطبيعة غير العضوية يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير"(18)
2- إمكانية الاستقلال: وذلك بالتخلي عناستيراد نماذج العلوم الطبيعية – مع الوعي بالفارق النوعي بين الظاهرتين- وإنشاء أنموذج أصيل يوافق طبيعة الموضوع المدروس - الظاهرة الإنسانية- ويحقق صفة العلمية المغايرة لعلمية الظواهر الفيزيائية.
الإمكانية الأولى من خلالها يمكن تناولالوقائع الاجتماعية كما تتناول الأشياء المادية، أو كما يؤكد إيميل دوركهايم(1858- 1917) بقوله: "إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تُدرس كأشياء...لأن كل ما يعطى لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة (يعدّ) في عداد الأشياء...وإذن يجب أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا...إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته ودون استثناء"(19). لكن هذا التصور يطرح صعوبة منهجية تتمثل في عدمالقدرة على الإحاطة ب"كل ما يتصل بنظام الدلالات ونسق المقاصد والغاياتوالقيم"(20) مادام المنهج الوضعي لا يؤمن إلا بالحقائق الملموسة، لذلك فهو "يختزل الكلية الإنسانية ومجموع العناصر المتفاعلة والفعالة في الحياة الإنسانية في عناصرها الحسية الملموسة"(21). وهذا يعني فشل الإمكانية الأولى.
أماالإمكانية الثانية والتي بموجبها تبدع علوم الإنسان أدواتها الخاصة ما دامت "الظاهرة الإنسانية لا تتكون من عناصر "طبيعية" على وجه القصد، بل يتدخل فيها عناصر أخرى تنتمي إلى نظام مختلف أي النظام الأخلاقي الروحي، وتقررها إلى درجة فائقة؛ وتلك العناصر لا تعد بالضرورة بمثابة نتائج لازمة لعناصر الطبيعة أو قابلة للاستنتاج من تلك العناصر، وهي لا تتسم بالتماثل العالمي في الجماعات الإنسانية، بل إنها تعتمد على التقاليد والثقافة والدين والأولويات الشخصية والجماعية...وليس من الممكن إخضاعها للأسلوب القياسي الوحيد الذي يعرفه العلم وهو الأسلوب الكمي"(22)، لا تحمي نفسها من السقوط في شباكالذاتية حيث الإنسان هو الذات الدارسة المشبعة بالذاتية، وهو في الوقت نفسهموضوع الدراسة، وهذا يعني فشلالإمكانية الثانية في الاستقلال عن العلوم الطبيعية. فما العمل؟
يرى جان لاديير أن مجال العلوم الاجتماعيةوالإنسانية بإمكانه أن ينفرد بصورته الخاصة للعلمية المغايرة لما هو عليه الأمر فيمجال الظواهر الفيزيائية، لكن المغايرة لا تفيد الاستقلال التام عن الشكل المميزللعلوم الطبيعية .وبحثا في إمكان تحقق الإمكانية الثانية يميز إدغار موران (1921-....) بين نوعين من السوسيولوجيا(23):
- سوسيولوجيا لا تزال حبيسة التأمل الفلسفي والمقال الأدبي والفكر الأخلاقي، وتسمى: "السوسيولوجياالإنشائية".
- وسوسيولوجيا تستعير منهجها من الفيزياء وتتناول موضوعها بالطريقةنفسها التي تتناول بها العلوم الطبيعية موضوعاتها، وذلك بعزل الموضوع المدروس وتخليصه منالذاتية وتأثير مختلف القوى المحيطة به، ويسمى هذا النوع ب: "السوسيولوجياالعلمية".
في السوسيولوجيا الإنشائية لا يلزم إبعادالذات بقدر ما ينبغي أن تحضر هذه الذات حضورا بيولوجيا يجعل الإنسان في قلب عالمه،يحيل على ذاته كما يحيل إلى ما يقع خارجها، حيث يمتلك قدرة خلاقة في فهم الظاهرةالإنسانية وتفسيرها، وفي الشأن يقول أوغست كونت(1798-1857): "إن الاستكشاف العلمي فيالسوسيولوجيا-شأنها شأن البيولوجيا-يستخدم ثلاثة أنماط أساسية هي: الملاحظة الخالصةوالتجريب الدقيق وأخيرا المنهج المقارن"(24).
غير أن النتائج المتوصل إليها بهذا الشأن لا تتجاوز "نظريات غير متقنة وتفسيرات مشوهة"(25)، وافتراضات مفتقرة للإتقان وشبيهة بالحُلم، مما أسقط الأبحاث في العلوم الاجتماعية في موقع سهام النزعات الشكية والنسبية والذاتية.
3- الموضوعية بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية
يقصد بمبدأ "الموضوعية" خلو المعرفة من الوقوع في آفة الذاتية، أي عدم إخضاع المعرفة العلمية للأسباب الذاتية والخصوصية للفرد أو للجماعة (علمية أو عرقية أو دينية أو سياسية أو إديولوجية...)، والتعامل معها بشكل مستقل يجعل العلم علما خالصا، ومحايدا عن كل تحيز. "وتفترض الموضوعية أن هناك واقعا معينا موجودا في الخارج، وأن البشر يستطيعون إدراك هذا الواقع كما هو، ونقل صوره إلى الذهن كما هي، ثم التعبير عنه كما هو كذلك، وأن البشر يستطيعون أن يقدموا تلك الحقائق الواقعية العلمية كما هي دون التأثر بأهوائهم وميولهم ومصالحهم، فلا يصيبها شيء يمكن أن يؤدي إلى مغايرة الواقع العلمي نتيجة نظرة ضيقة أو تحيز إيديولوجي أو غيره. وتفترض الموضوعية كذلك أن منهجا علميا واحدا يمكن أن يوصل إلى الحقائق الموضوعية"(26)
لقد قطعت العلوم الطبيعية أشواطا في محاولة تحقيق شرط الموضوعية الذي به تكون المعرفة علمية وكونية في الوقتنفسه. أو قل: تحققت مما يسمى ب: "علمية العلم"، حيث وقع الربط بشكل آلي بين صفتي"العلمية" و"الموضوعية"، فلا تكون نظريةٌ ما علمية إلا إذا ثبتت موضوعيتها وحيادها.
لكن الإشكال المطروح علميا هو: هل يمكن تحقيق الموضوعية الخالصة في العلم؟ وهل نستطيع نقل تلك الصفة إلى خارج العلوم الطبيعية أم أنها مقتصرة عليها؟
استطاع الإنسان أن يحقق إنجازات ملموسة وأنيصل إلى نتائج متقدمة في العلوم الطبيعية التجريبية، لكن مع ظهور الدراسات الإنسانيةكاهتماماتتسعى إلى التشبه بالعلوم التي تدرس المادةو نجحت في انفصالها عن الفلسفةوفي تحقيق رفاهية الإنسان المادية. لكن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلومالإنسانية هو أن هذه الأخيرة تتخذ من المادة موضوعها بينما تنصرف الأخرى إلى موضوعالإنسان ذاته.من هنا ينبع الإشكال التالي:
إذا تخلصت العلوم الطبيعية من نزعة الذاتية (ذاتية الشخص الباحث) فهل يمكن تحقيق مبدأ الموضوعية داخل حقل العلوم الإنسانية؟وإذا احتل الإنسان موقع موضوع المعرفة فيالعلوم الإنسانية وموقع الدارس لها في الوقت نفسه،فهل يمكن أن يتناول موضوعهبموضوعية؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن ينظر إلى موضوعه كشيء مستقل عن ذاته؟
هناك فروق نوعية بين البحث في العلوم الطبيعيةوالبحث في العلوم الإنسانية؛ ففي الأولى تحتفظ الظاهرة المدروسة بوحدتها وثباتهاوانسجامها، ولا تصطدم بمصالح وقيم الناس؛ لكن الثانية تعاني من تعطيل مبدأ الموضوعية،حيث يعترض عمل الباحث والعالم مجموعة من العوائق الشخصية والفكرية والنفسيةوالإيديولوجيا (مثل: الخلفية الإديولوجية، النزعة النفعانية، غياب روح النسقية، انعدام الرؤية النافدة، الغرور والطبع الانفعالي، غياب النزاهة الفكرية...) بالإضافةإلى المواقف والآراء والقناعاتاللاشعورية التي لا تفارق تفكير الباحث . لهذا يرى "لوسيان غولدمان"(1913-1970) أنه لايمكن لتطبيقالمنهج الديكارتي أن يحقق الفهم الموضوعي للظاهرة الإنساني؛ وذلك "لأن الباحث يتصدىفي الغالب للوقائع مزودا بمفاهيم قبْلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريقالفهم الموضوعي بشكل قبلي"(27).
نستنتج إذن أن الباحث في العلوم الإنسانيةلا يستطيع أن يتخلص من إملاءات اللاشعور الثاوية في عمق بنيته النفسية والفكرية ومن تمثلاته وانفعالاته وعواطفه، وبناء عليه لا يمكن تحقيق التصور الوضعي في النظر إلى الظاهرة الإنسانية كشيء من الأشياء.
لهذا يرى محمد عابد الجابري أنه من غير الممكن التحرر من الإديولوجيات في الدراسات الإنسانية(28)، وتؤكد "رينه بوفريس"(29) أن الفلسفة الوضعية أخفقت فيزعمها إمكان تحقيق شرط الموضوعية في العلوم الإنسانية لما ذهبت إلى أن الفكر العلميقد حقق آخر الفتوحات العلمية لما تخلَّص من الميتافزيقا والفلسفة المجردة بصفة نهائية، وطردها من آخر حصونها (الإنسان)، وكان تاريخ الفلسفة هو تاريخ تراجعاتها كما يقول "أوغست كونت"، فرأت الوضعية أنه بإمكان تحقيق الدراسة العلمية الموضوعيةالدقيقة للإنسان كواقع اجتماعي ملموس بعيدا عن السقوط في الذاتية، وذلك بتجنب إقحام"الفرضيات غير المحققة والتعميمات الاعتباطية" في المعرفة. لكن السؤال الإشكالي الذي تطرحه "رينيه بوفريس" علىالفلسفة الوضعية هو: هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تحقق الاستقلالية والموضوعية كماالشأن في العلوم الطبيعية؟ أم أنها تحتفظ بموضوعية خاصة وناقصة ومزعومة؟
تجيب "رينيه بوفريس" بأن المعرفة المتعلقة بموضوع الإنسانتظل مشبعة بالذاتية، ولا تملك أن تكون محايدة أو موضوعية، بل تظل غارقة في الإديولوجيا، حيث تؤكد أنه من المستحيلمبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية من بلوغ موضوعية مطلقة، أو على الأقل التخلي عن جزءمن أهدافها والاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية.
...
المراجع والمصادر:
- سورة النحل، الآية: 78.
- في معجم لالاند :"الرأي doxaحالة ذهنية تتمثل في الاعتقاد بصحة قول معين، مع القبول بإمكان الخطأ أثناء حكمنا هذا".
- أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، 1970م، ص: 134.
- كلود برنار، المدخل لدراسة تطور الطب التجريبي، فلاماريون، 1984، ص: 51-55.
- جيمس تريفيل، لماذا العلم؟ ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، عدد 372، ص 24.
- جيمس تريفيل، لماذا العلم؟ ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، عدد 372، ص 25.
- كلود برنار، المدخل لدراسة تطور الطب التجريبي، فلاماريون، 1984، ص: 51-55.
- انظر:
René Thom , Apologie du logos, hachettes, 1990,p : 607 .
- انظر:
René Thom , Apologie du logos, hachettes, 1990, p : 609 .
- انظر:
René Thom , Apologie du logos, hachettes, 1990,p : 609
- كارل بوبر، أسطورة الإطار، في الدفاع عن العلم والعقلانية، ترجمة يمنى الخولي، منشورات المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 2003ـ ص 115-117.
- انظر:
Robert Blanché, la science actuelle et le rationalisme, PUF,p : 116-120
(13) طه جابر العلواني، نحو منهجية معرفية قرآنية: محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة، بيروت، دار الهادي، ط 1، 2004م.، ص: 364.
(14) الحسن بن الهيثم، الشكوك على بطليموس، تحقيق عبد الحميد صبرة، دار الكتب، 1971، ص: 3.
(15) ينظر: طه جابر العلواني، أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة، سلسلة الحوار، عدد41، ط 3، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، 1421هـ، 2000م، ص ص: 44-45.
(16) انظر:
Jean Ladrière , La dynamique de la recherche en sciences sociales , PUF, 1994, p : 5
(17) انظر:
Jean Ladrière , La dynamique de la recherche en sciences sociales , PUF, 1994, p : 6-8
(18) انظر:
Les étapes de la pensée sociologique. R. Aron ;pp : 86-87 ; éd. Gallimard ; 1981
(19) انظر:
Durkheim, Les règles de la méthode sociologique, èd. Flammarion, 1988 ;p : 103-104
(20) انظر:
Jean Ladrière , La dynamique de la recherche en sciences sociales , PUF, 1994, p : 9
(21) محمد أمزيان، العلوم الإنسانية في المنظومة الغربية؛ دراسة نقدية في الأسس المنهجية، مجلة المنعطف، عدد 9، 1415هـ، 1994م، ص: 86
(22) إسماعيل الفاروقي، صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، رسائل إسلامية المعرفة 5، 1409هـ، 1989م. ص: 12
(23) انظر:
Edgar Morin, Sociologie, Fayard, 1984, pp : 11-18
(24) انظر:
Auguste . Comte, Philosophie positive , t. IV, Leçon, 48, A. Colin
(25) إسماعيل الفاروقي، صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، رسائل إسلامية المعرفة 5، 1409هـ، 1989م. ص: 13
(26) طه جابر العلواني، نحو منهجية معرفية قرآنية، دار الهادي،ط 1، 2004-1425هـ ، ص: 212
(27) انظر:
Lucien Goldmann, Siences humaines et philosophie,èd.Genthier, mèditations, 1966, pp : 23-24
(28) محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1989، ص 23
(29) رينه بوفريس، علوم الإنسان والفلسفة، ترجمة محمد علي مقلد، العرب والفكر العالمي، العدد 6، بيروت، 1989، ص ص: 36-