الدّين باعتباره أخلاقا وإحسانا لدى بعض مفكّرين مسلمين معاصرين

mohammed-belkacem-VD26FyFbLC4-unsplash.jpg

ناجي حجلاوي

أمّا قبل

فقد تصدّى القرآن منذ نزوله؛ للأوهام التي كانت سائدة إزاء عالم الغيب وسمّاها بالباطل، في حين أنّه سمّى عالم الغيب بالحقّ "وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ"(1)، فضمن بذلك للغيب تحيّزا موضوعيّا يمكن للعقل أن يقتنع به، وفي هذا الإطار تمّ التّفريق بجلاء بين النّبوءة-التي هي مجال من العلوم المتعلّقة بالحقّ والباطل- وبين الرّسالة التي هي مجال الحلال والحرام، والطّاعة والعصيان.

إنّ الحقائق الموضوعيّة بالنّسبة إلى كتاب الله حقّ كالموت والظّواهر الطّبيعيّة؛ ولكن لا يصحّ بأن يقول المرء: إنّ القمر أو السّحاب حلال. ولمّا تضمّن القرآن حقائق من العلم بليغة، هي آيات بيّنات للنّاظرين، فإنّ الرّسول أكّد هذه المسألة، على أساس أنّ العلماء هم ورثة الأنبياء. وهؤلاء العلماء هم أصحاب شأن رفيع؛ لما أوتوه من خبرة، وقدرة على إثارة المعاني القويمة والعميقة المطابقة للمقاصد العليا للقيل القرآني؛ يقول الله تعالى " وَمَا يَعۡلَمتَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗوَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ"(2)، ويقول: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"(3)، ويقول: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"(4).

وإذا ترك القرآن الحريّة الكاملة في الاعتقاد فيما يتعلّق بمناط التّكليف-إذ" لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ"(5)، وكذلك "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ"(6)- فإنّه رغّب كأشدّ ما يكون التّرغيب في العمل الصّالح، فيما هو منوط بهذا الكائن العاقل المخيّر. وقد أكدّ أنّ ما ينفع النّاس إنّما هو الأمر الوحيد الباقي، الذي يمكث في الأرض، وأمّا الزّبد الذي لا ينفع النّاس فهو الزّائل المتبخّر: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"(7). ومن ثمّ ارتفع الإسلام بالعمل الصّالح، ليجعل منه مقياس التّفاضل في سلّم الوجود الإنسانيّ: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ"(8). ولا أدلّ من صورة العصر على أنّ العمل الصّالح هو المحدّد الأساسيّ في النّجاة من الخسران الأكبر في الدّارين، علماً بأنّ الضّامن الأساسيّ لصلاح العمل واستمراره إنّما هو الإيمان بالواحديّة الإلهيّة كمّا، والأحديّة كيفا؛ إذ إنّ الله وحده هو المطّلع على ذوات الصّدور، ويعلم السرّ وأخفى، وأدرى بخائنة الأعين وما تخفي الصّدور.

إنّ الشّحنة الإيمانيّةمسألة نظريّة؛ إذ لم تجد سبيلها العمليّ وترجمتها التّطبيقيّة في تجلّ أخلاقيّ، وتمثّل سلوكّي. وعليه، فإنّ الأمر يظلّ خيالاً مثاليّا ما لم يصدّقه العمل، بوصفه دليلا ًعلى ما وقر في القلب.

لقد ركّز المفسّرون لكتاب الله والفقهاء والأصوليون -وحتّى علماء الكلام- على الرّسالة-بوصفها فرائض وواجبات، يتعيّن على المكلّف البالغ العاقل أن يتّبع تعاليمها. وقد طغى هذا الاهتمام على هداية القرآن، التي هي موجّهة بالأساس إلى كلّ النّاس تبعا للآيتين التّاليتين: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ"(9)، وكذلك: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ"(10). ومن ثمّ توجّب الانتباه إلى ما حواه القرآن من كنوز معرفيّة وعمليّة، ترتقي إلى مستوى العالميّة والنّجاعة المُترقّية، بقدر ما يطرأ على الصّيرورة الإنسانيّة من معضلات، فلا بدّ أنّ هذا الخطاب الموجّه للإنسانيّة جمعاء يحتوي على ما به يكون متضمّناً للمشترك بين البشريّة قاطبة، وهو الذي يسمّى بالمعروف؛ إذ تمّ الاتّفاق بين النّاس على أنّه هو الصّلاح؛ إذ المعروف ما عرف، ومنه جاء المعرِّف والتّعريف و "الـ" التّعريف والمعرَّف بالإضافة، وعكسه نكرة، ويشمل غير المعرّف(11). وقد انجرّ عن هذا الاهتمام بالرّسالة من المسلمين أن توزَّع المعنى القرآنيّ وتشتّت كالآتيّ: المسألة القانونيّة لدى الفقهاء، والمسألة الأخلاقيّة لدى المتصوّفة، ومسائل الاعتقاد – ذاتاً وصفات- لدى علماء الكلام. ولم يخل هذا الاختصاص من لدن كلّ فرقة من ردّ الفعل لمُداراة نقص أو تجاوز تقصير.

وإزاء هذه الصّورة التجزيئية-التي ارتسمت في التّراث الإسلاميّ- انبرى بعض المفكّرين المسلمين المعاصرين لمعالجة هذا التّشظّي، ونقد النّموّ اللاّمتكافئ بين فروع العلوم الإسلاميّة، عسى أن تتبلور رؤية معاصرة أكثر شموليّة لأبعاد القرآن الكريم. ومن هؤلاء المفكّرين نُلفي محمد شحرور، وبرهان غليون، وهشام جعيّط، فما هي معالم هذه الجهود؟ وما هي النّتائج التي تروم بلوغها؟

- محمد شحرور والصّراط المستقيم

يبدأ محمد شحرور من الإشارة إلى أنّ المسلمين قد ركّزوا على الإعجاز البيانيّ الذي احتواه كتاب الله، دون الانتباه إلى دقّة لا متناهية تميّزه عن بقيّة النّبوءات، حتّى في مستوى البناء اللّغويّ ذاته. وهذه الدّقّة في الكتاب التّدوينيّ تضاهي الدّقّة التي أودعها الله في الكتاب التّكوينيّ. ويرى محمد شحرور أنّ المضيق الذي يتسبّب فيه التّركيز على هذا المستوى من الإعجاز البيانيّ هو حصر الإعجاز في دائرة العرب والنّاطقين باللّسان العربيّ، فكيف بحال الإعجاز مع الذين ليسوا عربا وهم كثر؟ يقول في هذا الصّدد: "ليس من الضّروريّ على غير العربيّ أن يتعلّم العربيّة ليشمله الإعجاز"(12)

وإذ يتناول هذا المفكّر فكرة التّشريع-التي أخذت الحيّز الأكبر من اهتمام القدامى- فإنّه يتجاوز رؤيتهم،معتقداّ أنهم قد اقتصروا في فهم الحدود على الصّفة، التي كانت في الرّسالات السّماويّة السّابقة على أنّها حدّيّة، والحل أنّها حدوديّة؛ إذ أشار القرآن إلى الحدّ الأعلى الموجب، والحدّ الأدنى السّالب، وهذه هي الخطوط المستقيمة الثّوابت، والتي تعطي مجال الحركة الحنيفيّة في التّشريع(13). وذلك طبقا للآيتين التّاليتين: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا"(14)، وكذلك "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا"(15). ومثال الحدّ الأدنى آيات نكاح المحارم(16). وأمّا الحدّ الأعلى فمثاله حدّ السّرقة، وحدّ القتل، وقد أشار القرآن إليهما بوصفهما مثالين للحدّ الأعلى، ودونهما النّفي والسّجن والتّعزير والعفو. وقد اهتدى عمر بن الخطّاب إلى مثل ذلك في عام الرّمادة فيما سلكه مع السّارقين.

إنّ الرّسالة الخاتمة قد تضمّنت في طيّاتها-حسب محمد شحرور- ما يحقّق صلاحيّتها لهذه الخاتميّة، إذ لا وحي بعد الرّسول الأعظم، ومن ثمّ جاءت بجامع قيميّ إنسانيّ لا يختلف حوله اثنان، وهو ما يتأوّله على أنّه الفرقان أو الوصايا العشر. وهو النّاموس ذاته، الذي نزل على موسى في شكل أوامر ونواه مقدّسة، ولكنّها تحوّلت مع الرّسول الخاتم إلى مقولة المحرّم والحرام. وقد وردت هذه المحرّمات في سورة الأنعام "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْوَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْوَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْوَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(17)

فالشّرك -حسب قراءة محمد شحرور- يتعيّن فيالثّبات، والثّبات صفة من صفات الله وحده، وبخلع الصّمديّة على غيره يتحقّق الشّرك، والشّرك بهذا المعنى معطّل لقيمتي التّطوّر والتّقدّم. وقد استلهم هذا المعنى من قصّة صاحبي الجنّتين الواردة في سورة الكهف، وقصّة إبراهيم في اكتشافه لربّه، ومن خلال علاقة الأبوين بالأبناء ورغبتهما في الثّبات والمحافظة على تقاليد العائلة والقبيلة. ولا أحد في الأرض يقف موقفا مضادّا لأخلاق تؤمن بالحركة والتّسبيح في عالم متحرّك. ومن ثمّ توجّب على كلّ مسلم "أن ينكر ظاهرة الثّبات في الأشياء والجماعات وفي القوانين التّشريعيّة"(18)

إنّ عقيدة التّوحيد حينئذ برهان صريح على أنّ مراجعة الأفكار البشريّة -المتعلّقة بكلّ مجالات الحياة- تدلّ على أنّ الثّبات فضيلة مقصورة على العقيدة فقط، ودونها يستوجب ضرورة النّظر وإعادة النّظر. إنّ محمد شحرور -من خلال هذه القيمة-يريد أن ينهض بأوضاع الأمّة التي تعيشها، وهي السّكون والتّخلّف والوقوع في الشّرك الخفيّ، في المستوى القانونيّ والمعرفيّ؛ إذ تتنكّر للعدل والتّطوّر بما يخضع إليه من أفهام تستند في كثير منها إلى الظنّ، وأكبر الظنّ هو توهّم امتلاك إمكانيّة التّحليل والتّحريم، ولا يمتلك هذه الأحقيّة إلاّ الله(19).

وأمّا القضيّة الثّانية فهي الإحسان إلى الوالدين. إنّ القيمة الإنسانيّة الكامنة في هذه العلاقة هي المفارقة لسلوك الحيوان المتمثّل في الانفصال وعدم العودة. وإذا كان الابن -بحكم هذه العلاقة الأخلاقيّة- يغيب ويعود إلى حظيرة الأسرة؛ فإنّ رغبة الآباء في تأييد العادات والتّقاليد وطبيعة الأفكار، ومن ثمّ يتمّ الخلط بين ضرورة الطّاعة للوالدين وضرورة عدم الانصياع إلى سلطة الماضي.

أمّا قيمة المحافظة على النّفس البشريّة ذكراً وأنثى؛ فإنّ كلّ نفس يحرّم قتلها إلاّ بإذن الله. مثل الأضحيات، التي نذكر اسم الله عليها؛ لأنّها كائنات حيّة تتنفّس. وأمّا الأنفس الإنسانيّةفهي ذات حرمة، قال فيها: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا.فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"(20)، وهي ذات حقوقلم ينتبه العالم إلى قيمتها، إلاّ بعد الحرب العالميّة الثّانية، وإذ قرّر الله أنّ النّفس بالنّفس بأي صورة فذلك هو حقّ النّفس المشار إليه؛ إذ لا أحقّية لأحد أن يتعدّى على حرمة هذه النّفس كالإرهاب أو حملات القتل الجماعيّة، مهما كانت المبرّرات؛ سواءأكانت خشية إملاق أو باسم الأعراق أو الطّبقات أو المذاهب، وفي هذا الإطار يتنزّل المنحى الأخلاقيّ، الذي يفرض على الأطّباء أن يتحلّوا بعلم غزير وبأخلاق عاليّة فيما يتعلّق بالإجهاض، خاصّة إذا تعلّق بالجنين المشوّه، أو المريض مرضا ميؤوسا من علاجه. علما بأنّ هذه الوصايا جاءت لأهل الأرض قاطبة، ولكلّ زمان وكلّ مكان، وليست للعرب بالتّحديد، وليست خاصّة بالقرن السّابع للميلاد، استنادا إلى قول الله: "قُلْيَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا"(21).

ومن القيم المنشودة في هذه الوصايا القرآنيّة تجنّب الفواحش، والفحشاء هي الزّنى، وإذا كانت هذه الفاحشة تتلبّس بالغريزة؛ فإنّها مقيّدة بعقد، والتّعاقد صفة إنسانيّة. ولا يوجد في عالم الحيوان لا العقد ولا المحارم. ومن هنا يتدخّل الجانب الأخلاقيّ بقوّة، بحيث يتحوّل إلى معيار محدّد للقيمة الثّقافيّة الإنسانيّة، حيث يتنزّل الصّلح، والصّلح خير: " أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ"(22).

ومن الأخلاق القويمة التي يروم الإسلام إرساءها في المجتمع:رعاية أموال اليتامى، حتّى يبلغوا أشدّهم. وإذا كان اليتامى هم فقدو الآباء؛ فهم طائفة ضعيفة توجّب على المسلمين المحافظة على أموالهم وممتلكاتهم، حتّى يأنسوا منهم رشدا، به يصبحون مواطنين مستقلّين بذواتهم.

بالإضافة إلى عدم بخس النّاس أشياءهم، وإن كان هذا الشّيء معنويّا: فنّا أو إبداعاً أو مادّياً صناعياً، علماً بأنّ هذه الأشياء منسوبة إلى النّاس جميعاً، وليست أشياء متعلّقة بالمؤمنين دون غيرهم. ومن هذه القيم أيضا: الصّدق في القول، وعدم الجنوح به إلى شهادة الزّور والحيف والكذب. ثمّ إنّ قيمة الوفاء بالعهد قيمة مبدئيّة عامّة شاملة لكلّ دستور أخلاقيّ مهنيّ، بحسب درجة المسؤوليّة ، وحسب طبيعة كلّ مهنة. فكلّ مهنة تستوجب قَسَماً؛ لأنّ تدهور الأخلاق في البلدان المتخلّفة يعود رأساً لعدم المبالاة بهذا العهد القائم بين الإنسان وربّه. وكلّ مقسم يصبح ملزما أمام النّاس، ولو التزم كلّ موظّف وكلّ عامل ببنود العهد المسؤول؛ لنهضت أوضاع العمران البشريّ، ولتطوّر الاقتصاد ولسلمتالعلاقات والرّوابط بين النّاس: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا"(23).

ويسترسل القرآن في تأكيده شرط التّقوى لحصول النّتائج المرجوّة من هذه الوصايا. وهكذا تحصل التّقوى الفرديّة والتّقوى الاجتماعيّة، وهي الأخلاق العامّة والتّقوى التّشريعيّة المتمثّلة في الالتزام بالقانون ضمن حدود الله(24).

إنّ انحطاط الأخلاق وتدهور القيم يتجلّى في الاقتصار على التّقوى الفرديّة، فقد يصلّي شخص ويصوم ويحجّ؛ ولكنّه إذا عاهد النّاس نكث، وإذا حدّث كذب، وإذا أؤتمن خان؛ لأنّ مضمون التّقوى الاجتماعيّ ضعيف إلى حدّ الاندثار. ولعلّ ما نجحت فيه الصّحوة الإسلاميّة-حسب محمد شحرور- هو الإكثار من عدد المصلّين والصّائمين والمتعبّدين والتّظاهر بمظهر الملتزمين، ولكن في المقابل لم تنقص درجة الغشّ في المعاملات كالبيع والشّراء والعقود والمعاهدات.

لقد خصّ الله تعالى هذه الوصايا بتعليق مهمّ، يتمثّل في أنّها هي الصّراط المستقيم، الذي أمر المسلمين بإتّباعه:"وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ"(25)، وأنّ الذي ينحرف عنه هو المغضوب عليه مهما كان دينه وانتماؤه.

إنّ المسلمين قد ركّزوا على مركزيّة الصّلاة بوصفها عمود الدّين، ولكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وطالما أنّ المسلمين لم تنههم صلاتهم بالقدر الكافّي عن ارتكاب الفحشاء والمنكر، فإنّ ذلك يعلن فشلهم في تمثّل مضمون هذه الآية. وبذلك أهملوا أنّ ذكر الله أكبر. والذّكر -حسب محمد شحور- هو الصّيغة النّطقيّة لكلام الله، ولذاكره أجر(26) وانظر إلى قوله تعالى: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(27)، وعلى هذه الشّاكلةيبدو ذكر الله علامة على ربط الصّلة المتينة مع الله، بحيث لا ينسى المرء تعاليمه في البيع والعقد والشّراء والزّواج والطّلاق وفي القول والفعل، وهكذا يمتّن الذّكر الصّلة مع الخالق ويقوّيها بشكل يصبح المرء متمثّلا لأمر الله في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذه هي الصّورة الأوفى للمسلم صاحب الضّمير الحيّ. وقد قدّم الله الذّكر على الصّلاة في قوله: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" (28)،ولا يذهبنّ الظنّ بالوعي الدّينيّ أنّ ذكر الله يعني إغماض العينين وذكر اسم الله ألف مرّة أو أكثر أو أقلّ(29)

إنّ المرء المسلم الملزم بتطبيق الوصايا العشر يمثّل التّربية الإسلاميّة الجادّة، التي تجعله إيجابيّا فاعلا مبدعا يفكّر بالآخرين إحسانا منه لهم؛ لاعتقاده المسبق أنّ أحبّ شخص لله هو أكثرهم نفعا لعباده، فالأخلاق هي الإطار العامّ للسّلوك والصّفة المميّزة للإنسانيّة عن الحيوانيّة. وهي قوانين معنويّة وروحيّة جامعة بين أفراد المجتمع، وهي أخلاق عالميّة شاملة كونيّة، لذلك جاء وحيا من الله في شكل قضايا، وتحت تسميّة الفرقان. والأخلاق هي القاسم المشترك بين الأفراد في كلّ مجتمع في هذه الأرض، والالتزام الأخلاقيّ أشدّ نجاعة من الالتزام القانونيّ. وما الدّعاوي المنادية بنسبية الأخلاق وارتباطها ببعض البُنى الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة إلاّ مسؤولة عن جلب الويلات للإنسانيّة؛ إذ قلّلت من قيمة هذه الأخلاق وهذه المبادئ؛ لذلك شاع هوان النّفس البشريّة بين النّاس، وابتذلتالأعراض.

وهو ما يسمّيه محمد سعيد ريّان بـمحنة الإنسان الغربي، وفقدان بُعد العمق لديه"(30)،ممّا يؤكّدأنّ القيم هي أساس الحياة الإنسانيّة، وقد ذهب محمد الطّاهر بن عاشور من قبل إلى أنّ الاجتماع الإنسانيّ لا يكتمل بناؤه ما لم تكتمل الفضائل؛ لأنّ أوجه الكمال لا يتسنّى إلاّ بالتّحلّي بهذه الفضائل(31). وقد تجلّى معنى الشّموليّة والعموم في مستوى الضّمائر: "قل تعالوا..... ذلكم وصّاكم به" فضمير الجمع يجعل الخطاب القرآني مفتوحا يستغرق كلّ ذات بشريّة.

إنّ المحافظة على هذا الصّرح القيميّ الذي يشيّده المسلم في حياته حقيقة واقعيّة يحتاج إلى آليّة تحافظ عليه، وهي آلية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر،"لذا فإنّ مبدأ المعروف والمنكر هو من أهمّ أسس السّلوك الإسلاميّ العامّ، وهو مفهوم متطوّر حسب الزّمان ومتغيّر حسب المكان، يغطّي كلّ سلوك للمسلم"(32). ومصداق ذلك قوله تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"(33)

إنّ هذه القيم الأخلاقيّة-مرّة أخرى- هي التي أمدّت الاجتماع الإنسانيّ بالمعنى، وميّزته عن درجات الوجود الدّنيا. إنّه مجتمع الإسلام الفعّال، وليس الإسلام من الاستسلام؛لأنّ الله قد زوّد الإنسان بالإرادة والقدرة، وهما مضادّان للاستسلام والخضوع. لذلك كان الدّين الموضوعيّ الخارج عن وعي البشر وإدراكهم إنّما هو الإسلام: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ"(34). وبقيّة الرّسالات إنّما هي ملل ونسخ منه: "لَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰحَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ"(35). ولمّا كانت هذه القيم الإنسانيّة ذاتيّة؛ فهي ضعيفة في ذاتها بحاجة إلى قوّة تؤيّدها وتدعمها، وهو التّشريع الذي جاء في شكل حدود حامية للتّشريع، وليست هذه الحدود هي عين التّشريع"(36).

إنّ العقل الأخلاقيّ الذي يروم القرآن تأسيسه عقل اتّصاليّ، يرغب في تنظيم العلاقة الاتّصاليّة بين الفرد وربّه. وفي ضوء هذه العلاقة تنتظم علاقته بالآخرين وبالكون، حيث تتحيّز التّقوى الفرديّة والتّقوى الجماعيّة، وتسُود الرّؤى القيميّة، التي خضعت إلى التّراكم منذ بدأ الوحي، تدرّجا بحركة الوعي لدى الإنسان على وجه هذه الأرض في خوضه لمعركة الحقّ والباطل لا معركة الحلال والحرام(37)، حيث نمت دواعي العدل والإحسان. العدل بوصفه حصيلة اختلاف بين متنازعين، فيظلّ مطلبا خارجيّا، والإحسان بوصفه مبادرة ذاتية ورغبة في فعل الخير للآخرين.

إنّ معرفة إنسانيّة لا تروم الجمود والتّقليد وتؤمن بالحركة في عالم يعجّ بالحركيّة والحيويّة، وأخلاقا قويمة محروسة بحدود الله الثّابتة: هما عاملان يقاومان بقوّة مظاهر الاستلاب والانفصام في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة من أجل تحقيق مجتمع سليم.

ويستمرّ محمد شحرور في تمحيص المفاهيم؛ مثل: الإسلام والإيمان والكفر والإجرام، ويتوصّل إلى أنّ الإسلام ينهض على مجموعة من القيم، وعلى رأسها العمل الصّالح والإحسان والأخلاق، وهو بذلك أوسع من أن يُحصر في العبادات والطّقوس(38). وهو يستشهد على ذلك بالآية الكريمة: "وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"(39). ويبدو أنّ حصر الإسلام في الشّعائر وحدها يضيّق من دوائر الإسلام تضييقا مشينا لسماحته، ويبدو أنّ الخلط قائم بين مفهومي الإسلام والإيمان، ومن ثمّ يتجلّى للدّارس بوضوح أنّ هذه الشّعائر خاصّة بالمؤمنين، وهم أتباع الرّسالة المحمّديّة، ومصداق ذلك قوله تعالى: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا"(40)، وكذلك قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"(41). والإسلام بهذا المعنى يعادل الفطرة التي فطر النّاس عليها، تبعا لما تنصّ عليه الآية: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"(42).

وإذا كان الإسلام جِبِلّة وفطرة؛ فإنّ الإيمان تكليف، والتّكليف امتحان للفطرة وتمحيص لها. ومثال ذلك تجلي الفطرة في الأكل والشّرب، أمّا الصّيام فتهذيب للغرائز وترويض لها، وما ذلك إلاّ رغبة في تنمية الرّصيد القيميّ، الذي من شأنه تعميق الإنسانيّة في الإنسان. يقول محمد شحرور: "إنّ الإسلام هو التّسليم بوجود الله واليوم الآخر، وإذا اقترن هذا التّسليم بالإحسان والعمل الصّالح كان صاحبه مسلما، سواء كان من أتباع محمّد الذين آمنوا، أو من أتباع موسى الذين هادوا، أو من أنصار عيسى النّصارى، ومن أيّ ملّة أخرى من هذه الملل الثّلاث"(43).

وهكذا يتجلّى أنّ الإيمان النّظريّ وحده لا يكفي للبرهنة على صدقيّته، وإنّما يُشترط في المسلم أن يتحلّى بأخلاق دالّة على أنّه مسلم، وعلى رأسها الإحسان إلى الآخرين تبعا للحديث: "الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه"(44). وعلى هذه الشّاكلة، يتجلّى أنّ الإسلام يتّجه إلى الأخلاق والمعاملات، في حين أنّ الفقهاء والمفسّرين ركّزوا على الشّعائر والشّرائع"(45). وفي إطار العدل والإحسان والفضائل طالب الله عباده بحقّ التّقوى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون"(46)؛ إذ لا يُعقل أن يكون المسلم نصف صادق في الحديث، أو نصف شاهد زور، ففي الفطرة لا مشقّة على المسلم أن تنسجم فطرته مع تعاليم الإسلام، أمّا فيما يتعلّق بالإيمان والتّكاليف المخالفة للفطرة، فإنّ الله تعالى طالب المسلم بما يستطيع: "اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(47). فالعمل الصّالح والإحسان -عند المفكّر محمد شحرور- يعدّان ركنين أساسيّين في تشكيل مفهوم الإسلام.

 إنّ المتصفّح للرّسالات السّماويّة يلفي أمرا مشتركا بينها منذ عهد نوح عليه السّلام، وفي القرآن آية صريحة: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰوَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ"(48). وعلامة التّراكم في القيم الأخلاقيّة بادية في التّدرّج وفق ما تتطلّبه الملابسات الحافّة؛ مثل تحريم الفواحش؛ فقد بدأ-في إطارها- تحريم اللّواط مع لوط، وتطوّر إلى تحريم الزّنى مع موسى، وختمه بتحريم السّحاق مع الرّسالة الخاتمة(49).

وتبعا لذلك تطوّرت عقوبة الزّنى من الإعدام إلى الجلد. والحاصل أنّ طهارة الأنفس هي المقصد الأسمى لتغذيّة الفطرة الأولى؛ فلا تجسّس، ولا غيبة، ولا ارتفاع للصّوت، ولا منّ، ولا أذى، ولا نكث للعهود، ولا قول دون عمل، ولا إسراف ولا تقتير... وكلّ ذلك يُسهم بقوّة في ترسيخ قواعد المجتمع على أسس الفضيلة والتّرقّي الصّادق، إنّها قيم لا يختلف فيها اثنان، ولا هي في حاجة إلى التّصويت وطلب الإذن؛ لأنّها قيم عامّة وشاملة ضاربة بجذورها في سجايا الخلق الإنسانيّ، لذلك يجد المسلم صداها في كتاب الله في شكل أوامر ونواه ونصائح وتعليمات، ولاسيّما في سورتي الأنعام والإسراء.

- برهان غليون والقصر المهجور

تسعى كلّ دينامية دينيّة إلى خلق التّواصل والتّداول المادّي والمعنويّ، ومن ثم إلى تطوّر الحضارة وتقدّمها(50)؛ فالرّسالات تحاول إنشاء أرضيّة رمزيّة مشتركة، من خلالها تتلاقى الجماعات المتنوّعة، وتتجاوز تناقضاتها وتنوّعاتها؛ لإنشاء وحدة ذات أهداف مشتركة، حيث الإيمان والرّغبة في المبادرة، "إذ الدّين مقّوم جوهريّ لها"(51).

وما زالت الدّينامية الدّينيّة ضامنة لروابط التّضامن بين النّاس؛ إذ الأديان التّوحيديّة تمثّل طفرات ثوريّةلإعادة تنظيم الفاعليّة وتوجيهها نحو مطالب جديدة، تتركّز حول قيمة الإنسان في علاقته بإله مفارق حيّ خلاّق مريد. ومن صفاته المتعالية يستلهم الإنسان قيمه وأخلاقه؛ إذ هو مبدأ الوجود ومنتهاه، علما بأنّ "إقامة العدل المطلق بين النّاس جميعا، وتحقيق الإخاء بينهم، وصيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم من أهمّ مزايا التّشريع الإسلاميّ"(52) وفي ضوء هذه الإطلاقيّة انفتحت حدود العقل نحو إعادة التّركيب للرّؤى، وتوظيف الأخلاق والاجتماع نحو الفاعليّة والحريّة. وهذه الأخلاق تصبح موجّهة للتّاريخ بما تمتلكه من منطق داخليّ يسعى إلى تحرير العقل البشريّ من تقديس الطّبيعة أو أيّ سلطة زمنيّة.

وهكذا يصبح الدّين منبع الفضيلة؛ لتحقيق النّموذج الأخلاقيّ الأعلى، ومن خلال هذه الطّاقة الرّوحيّة المتدفّقة بالحياة تتحقّق حضارات كانت وما زالت قوّة جذب وتجميع. وما من شكّ في أنّ الحركيّة الإسلاميّة المعاصرة هي حصيلة عوامل عديدة، منها أنّ الإحياء استعادة مستمرّة للثّقافة وتَمثّل لقيمها كمرتكز للتّماهي الجماعيّ التّاريخيّ(53). وما زال الإحياء يحاول النّهوض من بطون الماضي من أجل استيعاب أفضل المقوّمات التي تنهض عليها الحضارة الجديدة. ومن هذه النّظم النّظام العلميّ والنّظام القيميّ، يقول برهان غليون: " إنّ الرّغبة في العودة إلى الذّات تتزايد بموازاة استيعابنا للحضارة وما تبعثه فينا من انعدام التّوازن أو اختلاله، وهذا الإحياء-كمنبع لقيم إعادة تكوين الذّاتيّة- اتجاه تاريخيّ دائم سوف يستمرّ طالما بقيت بيننا وبين العالم فجوة التّأخر النّوعي التي نعرفها اليوم"(54).

 وما زالت محاولات الإحياء والتّجديد مستمرّة في الفكر العربيّ الإسلاميّ، وأهمّ مقوّم لهذه الحركة التّجديديّة هو استلهام القيم النّابعة من الأصول، ومعناها "إعادة الحياة إلى القيم والمعاني السّليمة أو الأولى، التي تعيد الإسلام إلى ما كان عليه وقت نزوله؛ أي إلى حقيقته"(55).

إنّ هذه العودة لا تعني بالضّرورة إلغاء التّاريخ والمعاصرة؛ وإنّما هي العودة إلى فترة تاريخيّة منيرة، وقد أضحت آلية من آليات النّهوض عند كلّ شعب من الشّعوب، وفي النّهاية يتمّ تفجير النّموذج الأوّل واستخلاص العبر والمعاني منه في ضوء ثقافة العصر، وهو نموذج يهب أشكالا عديدة من الوعي به، ويمكن القول: "إنّ جوهر ما قامت به المدرسة السّلفيّة هو إعادة النّظر إلى قيم ومفاهيم إسلاميّة أصيلة من زاوية حاجات العصر. وبذلك أضفت عليها صفة الجدّة والحداثة، وقدّمت للمجتمع أرضيّة مقبولة لاستيعاب القيم والأفكار العصريّة"(56).

وبمقتضى الموازنة بين مستجدّات الثّقافة الوافدة وما تحتوي عليه المنظومة التّراثيّة تمّ التّجديد، وصارالمرء يلحظ الموازنة بين الدّيمقراطيّة والشّورى، والعلمانيّة والعقل، والحريّة والعدل. ومن ثمّ توفّر جسر قيميّ بين الماضي والحاضر، وبين الموروث والوافد، وقد مثّلت هذه القيم أهدافا كبرى تشدّ حركة التّجديد نحوها.

إنّ برهان غليون يذهب إلى أنّ هذا الفهم العليق بحركة التّجديد وحصره في إحياء القيم يعوزه المنهج التّجديدي النّاهض على المنزع النّقديّ، ممّا جلب للوعي الإسلاميّ نوعا من التّأخّر على روح العصر ،"فتراجع الفكر الإسلاميّ السّلفي إلى مواقع دفاعيّة ومعادية لفكرة المماهاة بين المعاني الإسلاميّة والمعاني الحديثة، كما بدأت نزعة معاداة الفكر العربيّ التّحديثيّ والحديث(57)، وبدلا من الاهتمام بالتّجديد والابتكار انحدر الفكر السّلفي إلى التّبرير والتّمجيدلمنجزات السّلف. إنّ العيب الذي يتخبّط فيه التّجديد لدى الفكر السّلفي هو البقاء ضمن إطار المنظومة الثّقافيّة القديمة، والاقتصار على فهم التّجديد محصورا في مقولة التّكيّف مع معطيات العصر.

إنّ هذه العمليّة بدأت بمظهر المصالحة بين الذّاتيّ والموضوعيّ، الدّاخليّ والخارجيّ، الدّخيل والأصيل؛ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى معاداة ومجافاة. والحال أنّ المطلوب هو تجاوز مقولة التّكيّف إلى مقولة الإبداع؛ "إنّ مفهوم التّجديد يجب أن يرتبط بمفهوم الإبداع الفكريّ، أي بما يسمح لمنظومة فكريّة أن تستعيد فاعليّتها وقدراتها على الإنتاجيّة المبدعة للمعاني الجديدة أو المتجدّدة"(58) وعندئذ يتحوّل السّؤال من مضامين التّجديد إلى وسائل التّجديد، وبذلك يتمّ الانتقال من التّجديد إلى التّحديث. وانظر إلى أهميّة السّياق الثّقافيّ ودوره في تبديل استخدام المفاهيم وتطبيق المنظومة أو الانحراف عنها، وخذ مثال مفهوم الحكم الذي كان يعني قديما كلّ ما يتعلّق بالمنظومة القضائيّة، فأصبح يطلق على الحكم السّياسيّ، ومنه الحكم والحاكميّة. والشّريعة كانت تعني الطّريقة أو السّير على سبيل واضحة، فأصبحت تفيد المنظومة القانونيّة بأسرها. وعليه، فإنّ العودة إلى المعاني الأولى أصبحت تمثّل المرجع المعياريّ لبيان خطّ التّطوّر، حيث يتمّ التّوظيف الواعي من أجل التّجديد وبيان أهدافه. وإذ يتمتّع الحاضر بقوّة تأثيريّة ظاهرة؛ فإنّ جهود المجدّدين والمصلحين من أمثال جمال الدّين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وغيرهملم تخل من وصفها بصفات التّأثّر بالتّيارات الفكريّة المعاصرة. 

وهذا التّأثّر مظهر من مظاهر الفاعليّة، من حيث القاعدة النّظريّة والهدف المرسوم. وتزداد أهميّة التّجديد عندما يتعلّق الأمر بما هو محور القداسة عند الجماعة، حيث التّداول الرّوحيّ؛ أي انتقال الأفكار والمعاني والمفاهيم والرّموز الدّينيّة المستندة إلى قاسم مشترك بين الأفراد والجماعة، وكلّ ما يحتاجه التّوسّع في التّداول المادّيّ والمعنويّ لهذه القيم والرّموز(59)

إنّ هذه القيم والرّصيد الرّمزيّ بين الجماعة هي القاعدة التي يرتكز عليها القانون والمعاملات، حيث تبدو اللُّحمة الاجتماعيّة، وهي اللّبنة الأساسيّة في كلّ سياسة مدنيّة. ويبدو أنّ الدّين يتمتّع بقوّة دافعة إلى تماسك هذه الرّوابط، وتدعيم هذه القاعدة المعنويّة. وانظر إلى كلّ مجتمع:كيف يستبدل هذا الرّصيد بمنظومات تجديديّة كلّما أحسّ بتهرّؤ المنظومة المتقادمة، ولا أدلّ على ذلك من مقولة النّسخ بين الشّرائع، وما جاء به الإسلام من أنّه يكمّل بناء واحدا من الدّين السّماوي، فهو حلقة خاتمة من حلقات الوحي السّماوي. وقد حرص المسلمون الأوائل على الرّبط بين الفكر وحركة التّاريخ وتطوّرات المجتمع(60)، حرصا على حلّ مشاكل النّاس وتحقيق منافعهم الماديّة والمعنويّة.

إنّ اللاّفت في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة - حسب برهان غليون - هو استمرار سؤال التّجديد على مرّ قرون عديدة، بالرّغم من الاتّفاق العامّ على الفرق بين الإسلام والفكر الإسلاميّ، وما فيه من قيم وتصوّرات للمبادئ الكامنة في النّصّ وما تَمَثَّله الفقهاء منها. فالعدل والإنصاف والإحسان والعلم كلّها قيم منصوص عليها في القرآن، ولكن علماء الكلام والفقهاء والأصوليين استنبطوا منها ما بدا لهم وما فهموه. فهل التّجديد مطلب حاصل بإعادة تمثّلات السّلف المشروطة بشروط تاريخيّة؟! أم هو مطالب بالعودة إلى النّصّ مباشرة وإعادة فهمه في ضوء المعارف المستجدّة؟

إنّ الثّبات في النّص وفي المنهج، وليست في أفهام الجماعة الأولى؛ إذ إنّ "قوّة الأديان تُقاس أيضا بما تنطوي عليه من احتمالات وإمكانات تاريخيّة كامنة، وما تستطيع أن تستوعبه من تفسيرات وتأويلات تجعلها قادرة على أن توسّع من أفقها ومن رهنيتها التّاريخيّة"(61) إنّ الدّين لا يجدّده إلاّ موجده، وهو الله تعالى، ولكنّ تجديد المنظومة الثّقافيّة والفكريّة هو عمل موكول إلى الإنسان؛لأنّ هذه المنظومة تاريخيّة، حيث الممارسة الظّرفيّة.

وهكذا يتجلّى أنّ التّجديد ليس إضافة معنى إلى معنى، أو ربطاً آليّا بين القديم والحديث، وإنّما هو بالأساس "خلق شروط تسمح للمنظومات القائمة-إذا كان ما يزال فيها حياة- لتكون مبدعة وفاعلة"(62). والمهمّ أنّ المنظومة، التي تتقادم فيها قيمها وتتكلّس، تبتعد عن حركة التّاريخ وتنغلق على نفسها، وتتحوّل إلى مذهبيّة وطائفيّة، ولاسيّما إذا تعرّضت إلى أخطار ثقافيّة خارجيّة ذات أطماع. وعليه فإنّ المنظومات تحتاج باستمرار إلى أن تجدّد قيمها، وأن تعيد النّظر في ترتيب وظائفها ومهامها، ومتى ما توقّفت عن ذلك أو عجزت عن مواجهة حاجات متزايدة للتّجدّد قضت على نفسها بالتّقهقر، ثمّ الهلاك(63)

وكلّ منظومة ثقافيّة مرتبطة بالدّين هي مشحونة بالأساس بإمكانات هائلة لتنظيم المجتمعات وإعادة تنظيمها بما فيها من تركيبات نظريّة أو عقائديّة؛ "فالتّجديد حينئذ يعني إعادة تشغيل منابع الوعي القيميّ التي توقّفت عن العمل؛ أي تجديد النّظم العقديّة"(64)

وما زال السّؤال قائما حول كيفيّة إعادة الألق لقيم الأخوّة والعدل والإحسان، وإعادتها واقعا معيشا في حياة النّاس، بوصفها جوهر الدّين، وعلامة مميّزة في عصر جاء بالكثير من المفاهيم الجديدة، حيث بدت متقادمة وجب هجرها وإبدالها. إنّ ما يتوّجب على الوعي الإسلاميّ، هو استيعاب هذه المنتجات المعنويّة، وعدّها مشتركا إنسانيّا لا يتناقض بأيّ وجه مع القيم الإسلاميّة الأصيلة، من أجل تجاوز التّجديد الشّكليّ، الذي يمسّ مجرّد التّسميات.

لقد سعت الجهود التي بذلتها الحركة الفكريّة السّلفيّة إلى تحطيم العلاقة الرّابطة بين فقهاء السّلف والسّلط الرسميّة الحاكمة، وقضَت الدّولة الوطنيّة الحديثة على ما تبقّى من المواضعات التّقليديّة إزاء القيم والتّصوّرات المشكّلة للمنظومة التّراثيّة، حيث أرست أنماطا جديدة للولاء والطّاعة. وكانت النّتيجة انفجار البُنى القيميّة، وتدهور سلطة البُنى الدّينيّة، وانهيار السّلطة الرّمزيّة، بمقتضى تبرير المصالح السّاسيّة، وضياع الفاعليّة التّربويّة والرّوحيّة والأخلاقيّة، وإفراغ القيم من كلّ محتوياتها، ومن ثمّ انبعثت ردود الأفعال، وظلّ الإسلام ميدان تنافس وصراع.

وهكذا احتكر الحكّام مفهوم الإسلام، وجعلوه ملكاً لأنفسهم على أنّهم علماءفقهاء ومحدّثون ومفسّرون وأصوليون في آن واحد(65). إنّ الخسران الكبير في هذه الحالة هو ضياع الثّروة الرّمزيّة الأخلاقيّة، وما فيها من فاعليّة وجدوى. وإذا أُفرغ الدّين من محتواه أصبح مادّة معرّضة للعنف والإرهاب وردّ الفعل وشعارات سياسيّة تعبويّة.

وهكذا تشتّت الفكر الدّينيّ بضياع رصيده الأخلاقيّ تحت وطأة التّوظيف من الحكّام المستبدّين من جهة ومن الفكر السّلفي-الذي يردّ الفعل-من جهة أخرى. "إنّ الإسلام يعيش اليوم أكبر غربة عرفها في تاريخه الطّويل؛ غُربته عن نفسه وعن ميدان نشاطه الأوّل، وهو يعاني من أقسى أنواع الهجر والظّلم والحرمان"(66)

إنّ خسران الفكر الإسلاميّ يتمثّل أيضاً في فقدان نظام داخليّ حول نسق قيميّ وأخلاقيّ، ممّا جعله مذاهب وشيعا وأحزابا، "فتشرّد الوعي الإسلاميّ وتفكّك، وغابت أيّة سلطة جامعة مسموعة أو مطاعة فيه"(67) فكان مَثَل الإسلام كمثل القصر المهجور، الذي ينهشه كلّ صاحب مأرب تبريرا وتوظيفا، بدلاً من أن ينكبّ المسلمون على رأب الصّدع في الأنساق الدّينيّة لجعل هذا الدّين قادرا على إنتاج القيم الرّوحيّة والإنسانيّة، التي لا يمكن لأي دين أن يستمرّ من دونها، حتّى لو بقيت كأثر تاريخيّ|(68)

إنّ برهان غليون لا يقف عند تشخيص الأدواء التي تتخبّط فيها الثّقافة الإسلاميّة فحسب، وإنّما يقارب شروط إخراجها من ساحة التّقهقر والتّنافس إلى تشكيل سلطة دينيّة مستقلّة وإبداعيّة. ولا يتأتّى ذلك إلاّ بإعادة الاعتداد بالحرمة الدّينيّة بعيدا عن الفتاوى التّبريريّة الخادمة للسّلط الجائرة. إنّ استقلاليّة السّلطة الدّينيّة شرط جوهريّ لاستعادة دورها الإبداعيّ والفعّال. إنّها سلطة أدبيّة وعلميّة تعيد النّظر في القيم من أجل إنتاجها، ولا يتمّ ذاك إلاّ بإعادة تكوين العقل الدّينيّ الإسلاميّ.

ولعلّ توظيف الحكّام للدّين واستخدام الفتاوى يبعده عن خدمة القيم الدّينيّة الحقيقيّة. وجذب بعض الحركات السّياسيّة الدّينَ جعله مجالا مشوّشا مذبذبا بين التّرهّل والانسحاق.

ويظلّ تدعيم سلطة أخلاقيّة ومعنويّة داخل الدّين هو الضّمان الأساسيّ لتدعيمه والمحافظة عليه في آن، ولعلّ رأس هذه القيم هو الإحسان؛ لأنّه خُلق متشعّب الأبعاد واسع الانتشار بين الأفراد، يقول برهان غليون في هذا الإطار: "إنّ ترميم السّلطة المعنويّة الدّينيّة يحتاج إلى وضع منطق الإحسان فوق منطق القانون؛ لأنّ منطق القانون هي منطق الدّولة والسّلطة، أمّا منطق الإحسان فهو منطق المجتمع، منطق التّعاون والتّضامن والتّآخي والتّسامح، التي لا تملك الدّولة لا وسائل السّير عليه، ولا مشروعيّة العمل به"(69)

وهكذا يخلص المرء إلى إدراك أنّ أهمّ فرصة أمام الفكر الإسلاميّ هي التّعويل على قيم الكرامة والإحسان، لأنّها قيم يتعطّش المجتمع لها علاجا للتّوترات وضروب العنف والتّناحر فيه. إنّ إحياء هذه القيم يُلبّي نداء العقل والوجدان والشّعور تجاوزا لجفاف الفقه، الذي غذّى بُعدا واحدا في الحضارة، هو البعد العقليّ القانونيّ. وعليه تضاءلت حرارة النّظم الأخلاقيّة، و ذبلتوهّج العقيدة الإيمانيّة.

وليس خافياً أنّ إحياء القيم والأخلاق يوفّر على الوعي الدّينيّ استقلاليّة عن الأجهزة السّلطويّة من جهة، ويغني الفكر الإسلاميّ ببذور صالحة تزرع في التّربة الاجتماعيّة من جهة أخرى. وإذ أصبحت القيم كالعدالة والمساواة والمسؤوليّة الفرديّة والمواطنة-نتاجاً لأنظمة متعدّدة؛ فإنّ التّجديد الرّوحيّ الإيمانيّ هو المنبع الأصيل المولّد لما يمكن أن يتميّز به الفكر الإسلاميّ، علما بأنّ التّجربة السّياسة الإسلاميّة مع الرّسول في المدينة لم تستقرّ دعائمها إلاّ بفضل رسوخ هذه القيم السّامية في نفوس الصّحابة. وما إن تكلّست السّنة القيميّة في الوعي الدّينيّ، وانحصر في الجوانب التّشريعيّة القانونيّة والفقهيّة، حتّى كاد يقضي على الوجه الإنسانيّ والرّحمانيّ والعاطفيّ فيه،ويحرم المؤمنين من وسائل التّقرّب المباشر والرّوحيّ من الله(70)

ولا يذهبنّ الظنّ إلى أنّ قيمة القانون ليست ذات شأو عال، ولكن القوننة بصفة مطلقة تقضي على المحبّة الجارية في أوصال الشّريعة، والرّحمة السّارية في كلّ جزء منها بمقتضى الإيمان والإخلاص والإخصاب والتّآلف، بعيدا عن شكلانيّة القانون الفقهيّ. وفي هذا الصّدد يندرج قول عبد المجيد الشّرفي، " إنّ أهمّ نتيجة ترتّبت على القول بأنّ كلّ ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم ...أنّ القرآن قد تحوّل من كتاب دين يشتمل على قيم أساسيّة خالدة، يمكن أن تستمدّ منها  مختلف التّشريعات البشريّة المتغيّرة بتغيّر أحوال النّاس والمجتمعات، إلى كتاب يحتوي على قائمة من الوصفات والأحكام الجامدة، التي يتعيّن تطبيقها حرفيّا، دون البحث عن الغاية منها أو علّة سنّها،  ومدى المصلحة المنجرّة عنها، بدعوى قصور العقل عن إدراكها"(71)

إنّ جوهر الحكمة في الدّين يتجاوز التّعامل الحدّي مع الجُنح والجرائم وفق العين بالعين والسنّ بالسنّ، فأساس هذا التّعامل دليل على التّعامل الأرضيّ بين النّاس، "وهو موجود في الدّين لا بوصفه الهدف الأسمى والمرمى الأوفى، وقد يوجده العقل البشريّ بفضل العلم والتّطوّر، ولكن "جوهر الحكمة في الدّعوة الإلهيّة هو الارتفاع فوق مبدأ التّسويّة وتأسيس مبدأ الإحسان، الذي يقضي بأن تكون الحسّنة بعشر أمثالها، وأنّ اليد العليا خير من اليد السّفلى، وأنّ العفو والصّفح هما أفضل وخير: "وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(72)وأنّ فعل التّصدّق قد يضاعف إلى سبعمائة ضعف: "وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ"(73). فالإحسان هو الذي يصنع المدنيّة والحضارة، ويصنع الإنسان، ويصنع قيما تمتدّ من عالم الشّهادة إلى عالم الغيب. وهكذا يتمّ تجاوز مجال السّياسة إلى التّراحم والتّآلف في العلاقات الإنسانيّة القائمة على الضّمير الحيّ الباطن بالإيمان.

إنّ القانون يُقيم الدّولة؛ ولكن الإنسانيّة تقوم بما هو أكبر من ذلك، وهو الرّحمة والإحسان. ولمّا كانت الحضارة تتجاوز الدّولة، فهي تنهض على الأخوّة والتّراحم قبل العدالة والقانون. في الواقع إنّ هذه القوانين التّشريعيّة هي تشريع النّاس للنّاس"(74) وهكذا يجب على التّجديد أن يكون مركوزا في مجال الاعتقاد كي تتوهّج الأبعاد الإيمانيّة، وتشيع حرارتها في المعاملا؛ت تجاوزا للقطائع المفتعلة بين الضّمير والفقه. وحينئذ "يصبح الحبّ الإلهيّ والإيمان الدّينيّ معا محور إعادة بناء الضّمير الشّخصيّ الإنسانيّ؛ أي القدرة على العطاء، والإحساس بالمسؤوليّة والحقّ والتّضامن والإخاء"(75). وبهذه الصّورة تقوى العلاقة بين المؤمن وربّه بطريقة حرّة ومباشرة دون توسّط الفقهاء، وعلى هذا النّحو يخرج الإسلام من الشّرنقة التي وُضع فيها قسرا.

إنّ المعوّل في هذا المجال لا يعود إلى التّركيز على التّعقّل والعلوم في المجال الدّينيّ، ولا إلى الجري وراءالمواءمة بين الدّين والنّتائج العلميّة؛ فحسب برهان غليون تلك عوامل تؤدّي مرّة أخرى إلى جفاف المنابع الرّوحيّة داخل المجال الدّينيّ، وتدعو إلى تكلّسه(76)

إنّ الإحسان الذي يتوجّب على المسلم اتّباعه نابع من الإحسان الإلهيّ إزاء عباده، فالدّين -الذي تكرّم به الله وأنزله على عباده- ينهض على غرس حب اللهفي نفوسهم، إلاّ أنّ القائمين على الشّأن الدّينيّ مارسوا الإرعاب والإخافة من الله وعذابه وأهوال الموت والقبر والحساب والعقاب والجحيم، فأخرجوا الدّين مخرج القصص والخرافات، وابتعدوا بذلك عن المقصد الأسمى للدّين، وهو التّربية الأخلاقيّة، التي تدور حول قيمة الإحسان، علما بأنّ الاندفاع وراء حبّ الخير والعمل به يكون أنفع في فضاء المحبّة والتّرغيب من أن يكون تحت وطأة التّخويف والتّرهيب.

لقد اكتسب الفقه قداسته من كونه يستند إلى القرآن في زمن لم يكن للفقهاء مرجع آخر يستندون إليه. ولكن بتقدّم الحضارة وتطوّر العقل البشريّ تمّ إنتاج مراجع أخرى تُفقد الفقه سلطته، فلابدّ حينئذ من التّفكير في إعادة بناء السّلطة الدّينيّة سدّا للذّريعة أمام التّلاعب بالدّين، والنّطق باسمه، أو توظيفه لأغراض مذهبيّة أو حزبيّة، حيث يضيع الدّين والسّياسة معا.

إنّ ضرورة التّجديد لفهم الدّين تتفاقم يوما بعد يوم والتّجديد لا يكون بإنكار التّاريخ أو الموروث؛ وإنّما يكمن في فهمه وإدراكه والتّعمّق فيه لتغييره وتجديده، وإذا لم يتمّ هذا الإجراء فإنّ السّلط ستظلّ مشتّتة ومبعثرة، تتنافس في الصّراع من أجل السّيطرة على المجتمع سياسة واقتصادا. وما لم تستقلّ السّلطة الدّينيّة من الهيمنة بشتّى أنواعها؛ فإنّ مطلب التّجديد سيبقى بعيد المنال، وستتفاقم الأزمة الرّوحيّة، ومن ثمّ لا يُصلح أي مجال علميّا كان أو عمليّا. يقول برهان غليون: "لا أمل لنا بالخروج من المأزق الرّاهن إلاّ إذا نجحنا في ترميم كلّ ما لدينا من نظم المدنيّة الثّقافيّة والدّينيّة، ومن القيم والمرجعيات الرّوحيّة والعلميّة"(77)

- هشام جعيّط وعلمنة الأخلاق

ينبع الإشكال عند هشام جعيّط من التّساؤل عن جدوى العودة إلى الإيمان في عالم يموج بالمادّيّة والإلحاد. وإذ يسيطر الدّين في العالم العربيّ، فإنّه هو أيضاً ليس بمنجى من محاولات التّحديث. إنّه عالم يختلط فيه أمران: يضع الدّين يديه على الدّولة من جهة، ويتمّ الضّغط على الضّمير تحت إيقاع العصر من جهة أخرى. وإذا يُقترح إرساء علمانيّة غير معاديّة للإسلام"(78)، فإنّ الأمر لا يعدو أكثر من تلفيق غير مقنع، "وقد دعاكثير من العلمانيين اليوم  إلىحقّ التّلاعب بالإسلام، متستّرين بقناع الإصلاح والرّقي، في حين أنّهم يتمنّون خراب الإسلام"(79)

إنّها ثقافة تجمع بين الأحداث المتناقضة: دين ولا دين، خارج وداخل، أصيل ودخيل؛ ولكن أليس العلم والعقلانية متنوجات عابرة للحدود ولا تعترف بالمحلّيّة، وأنّ الإصلاح الدّينيّ غالبا ما يرتبط بالدّفاع عن إسلام مثاليّ، وقد شوّهه الفقهاء القدامى وخانوه وازدروا فيه الحقائق التّاريخيّة؟

إنّ القرآن يتضمّن رؤية حركية للحياة ولمّا فهمها القدامى انجرّوا إلى ما يناهز عشرين مدرسة فقهيّة، ولكنّ الجمود الذي طرأ على المجتمع الإسلاميّ هو الذي أغلق أبواب الاجتهاد. والمهمّ أنّ التّحديث العربيّ قائم -حسب هشام جعيّط- على خيانة، تتمثّل في الغدر بمبادئ الدّين من الذين يريدون إصلاحه بنسف الشّرع في اتّجاه إرضاء القيم الحديثة، ويقدّمونها على أنّها من صلب التّشريع نفسه (80)

إنّ الرّغبة في التّجديد لا تتمّ بجرّة قلم ضدّ أفكار أو أحكام تعارض ما جاء به العصر، من قبيل ما ذهب إليه أمير علي إزاء تعدّد الزّوجات أو نظام الرّقّ في الإسلام أو نظام الإرث(81)، وهشام جعيّط يعد ذلك رياضة ذهنيّة ضالّة(82). نصّ ثابت من جهة، ومقتضيات العصر الحديث من جهة أخرى. ولكنّ السّؤال هو ما نصيب العرب المسلمين في إنتاج المعنى الدّينيّ في هذا العصر؟ أليس التّشريع آتيا من قرون سلفت وولّت؟

إنّ المنطلق الأسلم هو البدء بإقرار المساواة بين الذّكر والأنثى؛ لكي يصبح للتّشريع معنى، فالأولويّة للمبادئ الإنسانويّة والعمل على أن يكون موجّها للعمل والأخلاق(83)، حتّى إذا استنبطها المسلم وتمثّل آفاقها الإيمانيّة سهل عليه التّطبيق، علما بأنّ هذه المسألة رهينة تربية جماعيّة اجتماعيّة، بحيث يسهل التّخلّي مرّة أخرى عن تشريعات تخلّى عنها معاوية منذ وقت مبكّر في الحضارة الإسلاميّة، فالعقل الفقهيّ يذوب في فضاء العقل العالميّ. وهكذا تتدخّل العقلنة في نظام الزّواج والطّلاق والإرث، وحينئذ يعود للعقل المشرّع كامل استقلاليته الخلاّقة. وذلك لا يعني بحال ضرورة إهدار قيمة الكتب المقدّسة، بحيث يتمّ تجنّب توظيف هذه الكتب وتشريعاتها في النّزوات والرّغبات الشّخصيّة.

لقد استطاع الرّسول أن يوحّد بين القبائل المتنازعة بتربية توحيديّة، وجمّعها في نطاق نظام تشريعيّ واحد؛ ولكنّ الانفصال عنه وارد طبقا لنموّ المصير المجتمعيّ المنفصل عن المجتمع الأوّل، والعلمانيّة المفتوحة تتوخّى هذا العمل القسريّ.

إنّ ثنائية الأخلاق والقانون ثنائيّة متلازمة في فهم هذه الظّاهرة التّجديديّة، أخلاقيّة متعالية وقواعد قانونيّة. أخلاق توحيديّة؛ قد تضيق وقد تتشدّد، وحينئذ يضيق المجال على زرع قيم جديدة، والحال أنّ المطلوب هو إنتاج أخلاق متجدّدة، من شأنها السّعي إلى خلق السّعادة وتدعيم الخير. فهشامجعيّط إذ ينطلق من العلمنة العليقة بالأخلاق، يرى أنّها إجراء مولّد لأخلاق متجدّدة :"إنّ حبّ الخير والاتّجاه نحو الغير ومعنى الإنسانيّة يمكنها أن تساعد وتجانب وتعوّض عند الاقتضاء المُثل المتعالية"|(84).

وعلى هذا الشّكل يمكن للعقل المفتوح أن يُنتج قيما لم تكن معهودة من قبل. وانظر إلى قيمة الحريّة كيف حلّت محلّ الجبر والقمع في المنظومة القانونيّة القديمة، ويمكن تعديد سلسلة الممكنات الأخلاقيّة، التي أهملتها الثّقافة الإسلاميّة الأولى، "ويكفي الدّين أنّه هو الذي ربّى الغرائز وأنسن الإنسان"(85)، ودون ذلك يظلّ العالم جدبا والحياة قحطا، ويقضي على أصالة الإنسان.

إنّ قيمة الحبّ على سبيل المثال- إذ كانت مطلبا دينيّا- تلبّسها بالأعراف القبليّة العربية جعلها مطلبا عزيزا في حياة النّاس. ومن هنا تستجيب مقولة علمنة الأخلاق إلى استهداف إثراء العالم البشريّ بإمكانات أخلاقيّة أخرى تفرضها فكرة الحريّة ومستلزمات التّغيّر الاجتماعيّ.

 والمهمّ أنّ المسلم في حاجة أكيدة إلى معاودة الحقائق الأصيلة كالحريّة والمساواة والتّضامن؛ ليعود إليها سلطانها وعالميّتها الأولى"(86). ومن ثمّ تسبر أغوار المنظومة الأخلاقيّة لاستشراف آفاق المستقبل الضّاربة في الكيان، وهي كفيلة بتوحيد الأفعال السّلوكيّة. ويتمّ الاندماج في الشّخصيّة الأساسيّة؛ فالأصالة هي الوحيدة الكفيلة بصناعة روح الشّعب، والتّشريع في هذا الإطار مجرّد عنصر مكوّن لمؤسّسة الدّولة.

ولمّا كان الدّين مسألة عليقة بالأمّة؛ فإنّه لا يحقّ للدّولة أن تتلاعب به استخداما وتوظيفا، والمطلوب هو التّخلّص من العسف الأيديولوجيّ والدّينيّ، ولاسيّما أن العصر قد جاء بتصوّرات وقيم مضادّة لشموليّة الدّين. وإذا كان الرّسول في التّجربة السّياسيّة الأولى قد جمع بين الرّسالة وسلطة الدّولة؛ فإنّ الخلافة من بعده تغلّبت فيه السّلطة السّياسيّة على السّلطة الدّينيّة والمهمّ أنّ قيم الإسلام قد خفت صوتها تحت سطوة القوّة والملكيّة العضوض.

ولعلّ القيمة الأساسيّة التي أراد الإسلام تدعيمها هي حريّة الاختلاف، حتّى وإن كان في المعتقد، وهو باب مشرّع أمام بلورة أسس تجديديّة ترأب الصّدع بين مبادئ الإسلام وروح العصر. إنّ أهمّ وسيلة للتّجديد الدّينيّ هي إعادة تأويلات المقولات الإيمانيّة بوصفها مقولات تقنع البسطاء، كما تخاطب أصحاب العقول الرّاجحة.

وما من شكّ في أنّ قوّة الدّين تكمن في حرارة شعلته الإيمانيّة المرسّخة بحكم التّواتر، وهي الطّاقة التي جعلته أمرا عابرا للتّاريخ، وهي المسألة التييوليها المؤرّخون والمفكّرون اهتماما(87) وإذا كان على المسلمين أن يستمرّوا في التّاريخ فعليهم أن يبحثوا عن قيمة الرّسالة المنعشة؛ فالإيمان مزوّد الثّقة في الدّين وفي الرّسول، وهذه الثّقة هي المقويّة لروح الإسلام، وإعادة إرسائها في الواقع دون كسائها بهالة غير واقعيّة، وهي التي تتسرّب من الاعتقاد أنّ الفترة الإسلاميّة هي الفترة النّموذجيّة. وهذا الارتباط بالماضي هو الدّاعي باستمرار إلى المناداة بالمطابقة والتّعلّق بأهداف الماضي.

وفي هذا الإطار يلاحظ الدّارس التباس التّصوّرات الميثيّة بالتّصوّرات الدّينيّة إزاء القضاء والقدر بأفكار الجبريّة وأفكار الشّرق القديم وموروث العهدين القديم والجديد، وإزاء ذلك كلّه يتنزّل النّظر في كلام الله تكبّرا وتوهّما للمنزلة القصوى درءا لكلّ خرافة وحدسا للحقيقة واللاّنهائيّة(88).

إنّ الحنين إلى الدّين كما جُسّد في الماضي يصطدم بتشكّله وفق أفهام بشريّة، وبمرور الأيّام تكتسي هذه الأفكار مكانة ليست جديرة بها، بوصفها عملا بشريّا متأثّرا بالجوانب التّاريخيّة؛ "إنّ استمرار الدّين دليل على قوّته، لكن تقهقره دليل على ضعفه أيضا"(89) وهذا التّقهقر يحمّل المسلمين المسؤوليّة لإعادة ألق الحقيقة التي ارتبطت بالتّاريخ ومن تجلّيات هذه المسؤوليّة: "إعادة تأويل الإسلام بإعادة المسعى العميق الأوّل لمؤسّسه باستخدام ما بلغه الفكر الحاليّ من رقيّ"(90)

وفي هذه العمليّة التّأويليّة يخوض الإنسان مغامرته الوجوديّة عبر اكتشاف تجليّات الله في الكون قدرة وإرادة، فعمل الدّين جهدا كبيرا لإخضاع المادّة للرّوح، فالخفيّ في الطّبيعة هو المحرّك للظّواهر في كثير من الأحيان، إنّه المطلق المتعيّن في الوجود والحقيقة المتجلّيّة في الواقع.

وما زالت الطّاقة الرّوحيّة التي يتضمّنها الدّين هي المحرّك الأساسيّ للحركة في التّاريخ. وهروبا من المثاليّة يتعيّن على أتباع الفكر الدّينيّ ترجمة هذه التّصوّرات والمنطلقات النّظريّة إلى قيم مشاعة مقبولة عقلا. وهذا التّعاليّ يستوجب العودة إلى التّراث من أجل تعميق الوعي به، علما بأنّ العالم يستمدّ كيانه من الفكر، ومنه يستمدّ قيمته. وفي هذا الصّدد يذهب محمّد إقبال إلى  أنّ الكون دون فكر كون فارغ، وهو فعلا مجرّد مجال متاح لنشاط الإنسان(91).  وقد ذهب محمد سعيد العشماوي إلى هذه الفكرة عندما رأى أنّ "الفكر أهمّ ما في الكون"(92)

لقد أُنزلت الأديان خدمة للإنسان، والإنسان كتلة حيّة من الوعي والمشاعر والنّوازع، وكلّ ذلك يستوجب العودة إلى الذّات تأكيدا للرّوح المطلقة، فالنّداء الإلهيّ ينغرس في الكينونة، وينفذ إلى أعمق أعماقها، حيث الحضور والشّهود الدّائمين. فكلّ امرئ - بدءا من الرّسل - لديه نواة توحيديّة تدعوه إلى الفضائل ذات الأبعاد الكونية.

ولعلّ تركيز التّصوّف على الأبعاد الرّوحيّة ينصبّ في هذا المجال المتعلّق بالإله الدّاخليّ، في حين تستهدف الشّريعة والسنّة الإله الخارجيّ"(93)؛إذ المتصوّفة يمشون بنور ربّهم إلى روح الإنسانيّة، ويطعمونها نور الذّكر، ويسقونها رحيق الحبّ، ويشعلونها بالوجد، ويبسطونها بالأنس، ويمدّون أيديهم المتوضّئة المؤمنة الملهمة إلى القلب الإنسانيّ، ليمسحوه بنور القرآن(94).وإذا كان الله ذاتا واحدا، فإنّ تمثّله من العقل البشريّ قد ينشطر وفق جدل قائم بين الدّاخل والخارج، والظّاهر والباطن، والحقيقة والشّريعة، وعلى أيّة حال، يظلّ الله في الدّين منبع الأمل والسّلام والمحبّة، عبر الوعي البشريّ بنعم الله المجسّدة في عدله وإحسانه. إنّ الدّين مكتنز بعناصر الحكمة المتعلّقة بالعقل المقسّم عدلا بين النّاس، وهي التي تجعل الحياة مقبولة مرضيّة، وتجعل من كينونة الإنسان في العالم شيئا ما كأنّه الإحسان(95)

إنّ القرآن هو قطب الرّحى في الإسلام، يزخر كالبحر المتلاطم من العلاقات الدّاخليّة النّاهضة على مفاهيم أساسيّة نابعة من التطوّر على حدّ فهم محمد أركون في مقدّمة كيف نقرأ القرآن(96)

ولعلّ راهينيّة القرآن تتمثّل في استلهام هذه التّصوّرات واستحضارها في واقع متحرّك، هو أحوج ما يكون إلى قيم تعمّق الإنسانيّة في الإنسان، إيمانا وصفاء وإحسانا، حيث يمتلئ الإنسان بذاته. والجدير بالملاحظة أنّ الإيمان بيوم الحساب هو الضّامن لتأسيس حياة منوطة بالقيم والأخلاق في هذه الدّنيا. إنّ الطّاعة لله تعالى تجعل الله في التّصوّر الدّينيّ ذا علاقة ارتفاق واصطحاب.

ويستحضر الإنسان هذه الصّلة بالحمد والشّكر والإحسان لعباد الله، الذين يشاركونه الإنسانيّة، وإذا تعرّضت تجربة الإسلام التّطبيقيّة الأولى إلى حيثيات ظرفيّة تغيّرت بتغيّر المعطيات الواقعيّة، فإنّ جوهر الإسلام الخالد يتمثّل في رصيده القيميّ والأخلاقيّ. وذلك ما يدعم أنّ الإسلام ليس مجرّد ثورة اجتماعيّة خانتها الظّروف"(97). والمهمّ، هو البحث عن الأسس التّاريخيّة، التي نهضت عليها عمليّة الانتشار السّريع للدّعوة الإسلاميّة، حيث تآلف البعدان التّاريخيّ والرّوحيّ.

أمّا بعد

فإننا نخلص من كلّ ما سبق إلى أنّ الدّين مجال متعدّد الأبعاد تبعاً لتعدّد الأبعاد في الإنسان. ولمّا كان النّصّ القرآني نصّاً مشروعاًText projet  فإنّه يظلّ مفتوحا على التّاريخ. وإذ لم تكن الفترة الزّمانية  التي عاشها الرّسول فترة كافية لاستنفاد أغراض الدّين وأهدافه فإنّ التّجارب التّاريخيّة التي خاضها المسلمون فيما بعد نبيّهم تشهد على أنّهم ركّزوا على جوانب من هذا الدّين؛ تبعا لما أملته ظروفهم وما تطلّبته مجتمعاتهم. ولعلّ الحاجة الملحّة، التي تقتضيها مجتمعاتنا المعاصرةوهي بيان ما في هذا الدّين من رصيد أخلاقيّ وقيميّ؛ "إذ القيم الإنسانيّة هي الكفيلة بإضفاء الانسجام على الحياة الفرديّة والأسريّة والمجتمعيّة"(98)،والطّريقة الوجوديّة النّموذجيّة التي تمثّل قمّة الإنسانيّة السّالمة من كلّ عقدة ذنب، هي النّظرة المشفقة على الحياة المحتاجة إلى العمل الصّالح. وقد توظّف التّصوّرات الدّينيّة لإبعاد النّاس عن مهامهم الأصليّة في هذا الوجود بدعوى البحث  عن الخلاص الأخروي(99)، وحينئذ يصبح الإنسان الكامل هو الذي يفلت من قبضة الهندسة الطّاغية المغرورة القائمة على البعد الاقتصاديّ المادّيّ بمفرده. وفي مقابل ذلك ينبع تصوّر آخر يدور حول إنسان كامل تُشع فيه أبعاد السرّ الذي أخفاه الله عن الملائكة. إنّها الأمانة ذات القيمة الجليلة، والتي لا يقوى على احتمالها إلاّ القلب الإنسانيّ(100). علما بأنّ الرّوح -التي هي جملة أوامر الله- تشهد بحقّ على أنّ القيمة الإنسانيّة تكمن في تعاليه على الوثنيّة، ولاسيّما ما فيها من رجس. والقصد منه الاعتقاد فيها بالنّفع والضّرّ والاختلاط على الذّهن بينها بوصفها مادّة لا حراك لها، وبين ما يُعلّق عليها من اعتقاد أنّها مؤثّرة.

إنّ النّبوءة -من حيث هي أخبار غيبيّة، وضروب من العلم الواسعة المدى- مجال حيويّ تركّز فيها الأفعال المستقبليّة في مستوى النّبأ والحالية في مستوى الخبر؛ إذ النّبأ معلومة مقتضبة ومتعلّقة بالغيب. وأمّا الخبر فمجاله الزّمن الحاضر وما تتطلّبه الزّمنيّة من حالة شهوديّة "يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا"(101) ومن ثمّ تتّصل أجزاء الفعل الأخلاقيّ البشريّ؛ لتكوّن كلاّ ذا دلالة في هذا الوجود يُشيع الطّمأنينة، وتُيسّر بالسّلام والانجذاب "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"(102)، فالتّحيّة والصّدقة والزّكاة والتّعاون والإحسان كلّها مكوّنات جزئيّة تعمل في انتظام داخليّ؛ لتحقيق الشّخصيّة الإسلاميّة الحاملة للرّحمة والمبشّرة بالسّلام "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"(103) وما إن يجسّد المسلمون جوهر ما جاء به الرّسول الخاتم في مثل هذا البناء النّفسيّ القويم، حتّى يمثّل كلّ واحد منهم لبنة صُلبة في جدار المجتمع المتماسك بمفعول هذا الصّرح الأخلاقيّ المتين، وهو ما يسمّيه القرآن بالبُنْيَان المَّرْصُوص "(104)

إنّ القصص التي تضمّنها القرآن وصرّح أنّها تحتوي على عبر لأولي الألباب -" لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"(105)- لتشحذ العزائم نحو تصعيد الدّرجة الأنسيّة إلى التّرقّي بالعلم محتوىً وبالأخلاق إطارا إلى معانقة الدّرجة القصوى بالتّقرّب إلى الله والاتّصاف بصفاته والتّخلّق بأسمائه، وإن مثّل الله المطلق ومثّل الإنسان النّسبيّ. والجدير بالملاحظة هو أنّ الرّسالة الخاتمة، قد سمّيت بالخاتمة؛ لأنّها ختمت الإسلام بوصفه قد بدأ مع النّبيّ نوح، وختمت أيضا الحلقة التّطوّريّة للعقل البشريّ، ممّا جعلته قادرا على إنتاج المعنى منفردا بمقتضى تدبّر كلام الله "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(106). وقد ذهب كثير من المفكّرين إلى  أنّخاتميّة النّبوءة تحتوي بالضّرورة كمال الإنسان.

ويظلّ المقصد الأسمى من بعث الرّسل هو أن تبلغ الإنسانيّة من أمرها رشدا في مستوى النّظر إيمانا واعتقادا، وفي مستوى العمل والسّلوك صلاحا وإحسانا، وانظر إلى المستوى الأوّل في علاقة النّبيّ موسى عليه السّلام بالرّجل الصّالح، كيف تمّ التّرقّي في مدارج العلم بالحقائق تدريجيّا، فيما يتعلّق بأمر السّفينة، ثمّ أمر الجدار.... إلخ.

وأمّا في المستوى الثّاني فباد في حكم داوود وسليمان بين النّاس، وما جاء به شعيب من أمر التّوفية في المكاييل، وما جاء مع كلّ نبيّ من قيمة أخلاقيّة يتدرّب عليها السّلوك البشريّ، ممّا ينجرّ عنه من تراكم القيم والأخلاق الرّفيعة إلى أن عانقت القيم ذروة التّدرّج مع الرّسالة الخاتمة، التي اكتملت وأكملت الصّرح القيميّ وأتمّت التّشييد، علما بأنّ التّمام هو وصول نقطة النّهاية من كلّ شيء دون انقطاع " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ"|(107). أمّا الكمال فهو الوصول إلى نقطة الانتهاء مع الانقطاع " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاۚ"(108). وقد اكتمل الوحي في الرّسالة الخاتمة في مدّة تزيد على عشرين سنة.

ويبدو أنّ ما يطلق عليه نقّاد الخطاب وعلماء التّلقّي اسم الفراغ الدّلالي هو الذي جعل الرّسالة المحمّديّة أكثر قابليّة للفهم وإعادة الفهم؛ لقد وجد العلماء فيما تضمّنه الخطاب القرآني فضاء رمزيّا وإشاريّا سمح لهم بيسر إنتاج المعاني والمعاني الثّواني، وكلّ ذلك في ضوء السّقف المعرفيّ المتاح في كلّ مصر وفي كلّ عصر.

ولعلّ أهمّ ما دار عليه هذا المقال هو المحتوى القيميّ المميّز لهذه الرّسالة الخاتمة، التي احتوت رصيداً من الأخلاق كان قميناً بملء المسافة القائمة بين الطّبيعيّ والثّقافيّ، أو قل:بملء البون بين الاستجابة الغريزيّة والأداء الإنسانيّ، حسب عبارة محمد قطب[1]؛ إذ الأخلاق هي السّمة المميّزة لإنسانيّة الإنسان؛ إذ لا يتسنّى الحديثعقلا عن أخلاق حيوانيّة، وإنّما الأخلاق هي القيمة المضافة إلى المستوى الغرائزيّ، وهي المقياس في التّفاضل بين النّاس؛ فأحسن النّاس خلقا أتمّهم اتّصافاً بصفة الإنسانيّة.

ويبدو أنّ البناء الفقهيّ والأخلاقيّ هو السّياج الحصين المانع للشّخصيّة المطبوعة بخصوصيّة تجعلها مفارقة لغيرها. والمهمّ أنّ الأخلاق، هي المنظار المهمّ، الذّي من خلاله يبصر المسلم أهدافه الوجوديّة الكبرى المتمثّلة في تأدية الأمانة وتحقيق الاستخلاف في الأرض.

.......

المراجع والمصادر:

  1. سورة الكهف 18، الآية 56.
  2. سورة آل العمران3، الآية 7.
  3. سورة فاطر 35، الآية 28.
  4. سورة المجادلة 58، الآية 11.
  5. سورة البقرة 2، الآية 256
  6. سورة الكهف 18، الآية 29.
  7. سورة الرّعد 13، الآية 17.
  8. سورة الملك 67، الآية 2.
  9. سورة الإسراء 17، الآية 106.
  10.  سورة البقرة 2، الآية 185.
  11.  يمكن العودة في هذا المجال إلى ابن منظور، لسان العرب، مج9، دار إحياء التّراث العربي، بيروت لبنان، د-ت، مادّة عرف، ص 236، وما بعدها ومحمّد شحرور، الكتاب والقرآن،الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، دمشق ط2، 1990 527.
  12.  محمد، شحرور، الكتاب والقرآن، الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، دمشق ط2، 1990، ص 191.
  13.  انظر،محمد، شحرور، م ن، ص 453.
  14.  سورة البقرة2، الآية 229.
  15.  سورة البقرة2، الآية 187.
  16.  انظر سورة النّساء 4، الآيات 22/23.
  17.  سورة الأنعام6، 151، 152، 153.
  18.  محمد، شحرور، م ن، ص 496.
  19.  انظر، محمد شحرور م ن، ص 501.
  20. سورة الشّمس 91، الآيتان6 و7.
  21.  سورة الأعراف 7، الآية 158.
  22.  سورة النّساء4، الآية 128.
  23.  سورة الإسراء 17، الآية 34.
  24.  محمد، شحرور، م ن، ص 517.
  25.  سورة الأنعام6، الآية 153.
  26.  محمد، شحرور، م ن، ص 520.
  27.  سورة آل العمران3، الآية 191.
  28.  سورة المائدة5، الآية 91.
  29.  انظر، محمد، شحرور، م ن، ص 521.
  30.  محمد، سعيد ريّان، مفهوم العقل الحداثة وما بعد الحداثة، مركز الحضارة العربيّة، ط1، 2012، ص 18.
  31.  ابن، عاشور، محمّد  الطّاهر، أصول النّظام الاجتماعيّ في الإسلام، الشّركة القوميّة للنّشر والتّوزيع، تونس، د-ت، ص 123.
  32.  محمد، شحرور، م ن، ص 528.
  33.  سورة الأعراف7، الآية 199.
  34.  سورة آل العمرا3، الآية 19.
  35.  سورة البقرة 2، الآية 120.
  36.  محمد، شحرور، م ن، ص 718.
  37.  محمد، شحرور م ن، ص 727.
  38.  محمد، شحرور، الإسلام والإيمان، منظومة القيم، الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، ط1، 1996، ص 33.
  39.  سورة القرة 2، الآية 111.
  40.  سورة النّساء4، الآية 103.
  41.  سورة الأنفال 8، الآية 64.
  42.  سورة الرّوم 30، الآية 30.
  43.  حمد شحرور، م ن، ص 38.
  44.   محمد ناصر الدين الألباني، السّلسلة الضّعيفة، مكتب المعارف، المجلّد 8، حديث 3590.
  45.  محمد، شحرور، م ن، ص 55 وما بعدها.
  46.  سورة، آل العمران3، الآية 102.
  47.  سورة التّغابن 64، الآية 16.
  48.  سورة الشّورى 42، الآية 13.
  49.  محمد، شحرور، م ن، ص 63.
  50.  انظر، برهان غليون، نقد السّياسة الدّولة والدّين، المؤسّسة العربية للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 1991، ص 32.
  51.  م ن، ص 33.
  52.  يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتّطبيق في كلّ زمان ومكان، المكتب الإسلاميّ، بيروت،، ط2، 1397هـ، ص 20.
  53.  م ن، ص 264.
  54.  م ن،  ص 265.
  55.  برهان، غليون، فلسفة التّجدّد الإسلامي، مجلّة الاجتهاد، عدد 10/11، السّنة3، دار الاجتهاد بيروت 1991، ص 323.
  56.  م ن، ص 324.
  57.  م ن، ص 326.
  58.  م ن، ص 327.
  59.  م ن، ص 329.
  60.  انظر، م ن، ص 330.
  61.  م ن، ص 332.
  62.  م ن، ص 332.
  63.  انظر،م ن، ص 334.
  64.  م ن، ص 335.
  65.  يمكن العودة في هذا المجال إلى، يوسف القرضاوي،  كتاب الأمّة، الصّحوة الإسلاميّة بين الجمود والتّطرّف، المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، 1984، ص ص 132، 133.
  66.  برهان غليون، م ن، ص 342.
  67.  م ن، ص 343.
  68.  انظر، م ن، ص 344.
  69.  م ن، ص 349.
  70.  م ن، ص 352.
  71.  عبد المجيد، الشّرفي، حدود الاجتهاد عند الأصوليين الفقهاء، قضيّة الاجتهاد في الفكر الإسلاميّ، نشر المركز الجامعيّ  للتّوثيق العلميّ والتّقنيّ، تونس 1987.
  72.  سورة التّغابن 64، الآية 14.
  73.  سورة البقرة2، الآية 261.
  74.  يمكن العودة في هذا المجال إلى محمد سعيد العشماوي، الإسلام السّياسيّ دار سيناء للنّشر القاهرة، ص 47.
  75.  برهان غليون، م ن، ص 3560.
  76.  انظر، م ن، ص 357.
  77.  م ن، ص 362.
  78.  هشام جعيّط، الشّخصيّة العربيّة والمصير العربيّ، دار الطّليعة بيروت، ط1، 1984، ص 111.
  79.  م ن، ص 112.
  80.  م ن، ص 113.
  81.  انظر، هشام جعيّط، م ن، ص113.
  82.  م ن، ص 114.
  83.  انظر، م ن، ص 114.
  84.  م ن، ص 116.
  85.  م ن، ص 117.
  86.  م ن، ص 118.
  87.  انظر، هشام جعيّط، الإصلاح والتّجديد في الدّين، مجلّة الاجتهاد، مرجع سابق، ص 236.
  88.  م ن، ص 241.
  89.  م ن، ص 242.
  90.  م ن، ص 243.
  91.  انظر، محمد إقبال، تجديد الفكر الدّينيّ، مطبعة لجنة التّأليف والتّرجمة والنّشر، 1955، ص 7، وما بعدها.
  92.  محمد، سعيد العشماوي، رسالة الوجود، دار سينا للنّشر، ط3، 1992، ص 83.
  93.  هشام، جعيّط، م ن، ص 248.
  94.  طه، عبد الباقي سرور، الحلاّج شهيد التّصوّف الإسلاميّ، دار النّهضة مصر للطّبع والنّشر، القاهرة، د-ت، ص 63.
  95.  م ن، ص 250.
  96.  يمكن العودة في هذا المجال إلى، محمد، أركون، القرآن من التّفسير الموروث إلى الخطاب الدّيني، تر: هاشم صالح، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت، ط2، 2005، ص 22، وما بعدها .
  97.  م ن، ص 264.

[1]،محمد، قطب، الإنسان بين المادّيّة والإسلام، دار الشّروق، القاهرة، ط7، 1982، ص 215، وما بعدها.

أخبار ذات صلة