الإنجيليات الجديدة بين الاضطراب وعودة الدين

giulia-gasperini-oW2Nd2oe_NU-unsplash.jpg

عزالدين عناية | أستاذ تونسي بجامعة روما-إيطاليا

مسار التشكّل

برزت الإنجيليات الجديدة ضمن سياق تنافس حادٍّ يميّز السوق الدينية الأمريكية، يختلف اختلافاً بيّناً عن واقع التقاليد الدينية في بلدان القارة العتيقة، المحكوم عادة بهيمنة كنيسة ذات طابع كاثوليكي أو أنغليكاني أو بروتستانتي. حتى ليقال: إنه في الوقت الذي يتفاجأ فيه الأوروبيون بوفْرة الدين في أمريكا وتأثيره الفاعل في السياسة، يقابلهم الأمريكان بالانتقاد والتنديد بشراسة العلمانية الأوروبية وخصومتها مع الدين(1). وجليّ أن الإنجيليات نشأت كردّ فعل على البروتستانتية التقليدية التي استنزفها التدافع المحموم مع الكاثوليكية طيلة قرون، بعد أن غدا ذلك التدافع من دون معنى على إثر تغيرات أَلمّت بالجانبين على مستوى الطروحات اللاهوتية، وعلى مستوى الصهر القسري للجميع داخل مجتمعات معلمَنة، قلّصت من سلطة الدين عامة. ولكن البارز أيضا أن الإنجيليات ما كان لها أن تتطور لولا خاصياتها العملية، التي تسعى لتلبية الضرورات الحاجية والمعيشية للناس في انسجام مع رؤاها اللاهوتية.

لذلك لم يعوّل علماء الاجتماع الأمريكان كثيراً على طروحات السوسيولوجيا الأوروبية المعاصرة في متابعة التحولات الدينية التي يشهدها المجتمع الأمريكي، والتي تحوم أساساً حول أطروحات عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. وابتدعوا أدوات جديدة تستند أساسا إلى ما يُعرَف باقتصاديات الدين والسوق الدينية، التي بات من أبرز أعلامها اليوم رودناي ستارك ودارن شِرْكات(2) ذلك أن حقل الدين من منظور عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو هو مجالٌ طافحٌ بالتوترات والصراعات، تدور حول مسألة إنتاج الحقيقة والتأويلات الشرعية للنص المقدس والتمثلات الطقوسية الصائبة، وهي أشكال من الاستنفار تجري على مستويين: داخل الكنيسة، بين الإكليروس واللائكيين، بشأن الهيمنة على المشروعية الدينية ولاحتكار إنتاج الثروات الدينية (الحقيقة والطقوس)؛ وخارجها بين مؤسسة الكنيسة وغيرها من الوكالات المنافسة. ومن هذه المجموع المتدافع على ثروات السماء يصل بورديو إلى ما يُطلِق عليه بالتنافس الرمزي(3). والحال أن التنافس ما عاد محصوراً في حدود رمزية مجرّدة على الرأسمال الرمزي، كما رسم معالمه عميد السوسيولوجيا الفرنسية المعاصرة، بل غدا واقعياً عملياً حول ما الذي بوسع الدين تقديمه فعلياً للناس؟

فالسّاحة الأمريكية المعاصرة تعجّ بالعديد من اللّوبيات المتشابكة، ذات الطّابع السياسي-الدّيني، والتي تُصنَّف إجمالاً تحت مسمّى جامع "اليمين المسيحي" -Christian Right-، أو ما يُعرف أحياناً بالـ"نِـيُوكُون"، مختصر المحافظين الجدد. وتُنعت النّواة الدينية في ذلك بالـ"تِـيُوكُون"، المستمدّة من "تيُوكُونسرْفتور"، مختصر اللاّهوتيين المحافظين، وهُم من يستلهمون المقولات الدّينية والجهاز المعرفي الدّيني، سواء أكان لتحليل الأوضاع الاجتماعية، أم لتبرير ترسيخ قِيَم الآباء في المجال العمومي(4).

يزعم التيوكون أن ثمة تراجعاً مريباً في العقود الأخيرة للقِيم الخلقية الجامعة بين الأمريكان، وقد فسّروا الأمر بقوّة ضغط العلمانية وزحف الرؤى اللادينية. والملاحظ في توجّه التيوكون، أن الخاصيات المسيحية الخالصة ليست الغالبة عليه، بل يحمل في طياته عنصرا كتابيا قويا يمثّله اليهود الأمريكان، لذلك ثمة إلحاح في الدّاخل بينهم على وحدة التراث اليهودي المسيحي والقيم الكتابية المشتركة. وإن يكن الحشد المسيحي أكثر نفرا؛ فإن المكوّن اليهودي أعمق نفاذا وتوجيها للسير العام، لذلك نجد داخل تيّار التيوكون إلحاحاً على الدّين مع عدم تحديد هويته.

وعموما خطُّ النّيوكون هو توجّه متنوّع، تجمع بينه ملامح مشتركة ذات طابع اقتصادي وأخلاقي، سعى أنصاره لترجمتها وفق أجندة سياسية. وقد تجلّى أحد أوجه فلسفته في السّياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الابن، بُعيْد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بعد أن كانت رؤى المحافظين الجدد-قبل تلك الأحداث- متركّزة بالأساس على الشأن الدّاخلي الأمريكي. والملاحظ في هذا التوجّه أنه رحبٌ، بشكل لا يمكن ضبطه في حزب أو دعوة أو حركة، وإن سعى أحياناً لتمرير رؤاه ضمن برامج الحزب الجمهوري بغرض التعويل على ذراع سياسية.

داخل هذا الزخم الديني حضر الإنجيليون بوصفهم مساراً لاهوتياً متنوع المشارب يتكوّن من عدة كنائس، على غرار "جيش الخلاص" و"المعمدانيين"، و"الكاريزميين"، و"كنيسة المعترفين"، و"الإنجيليين"، "والإنجيليين الجدد"، و"الأصوليين"، و"التحرّريين"، و"اللّوثريين"، و"الميتوديين"، و"المشيخيين"، و"الإصلاحيين". حاول المؤرخ دافيد بيبنتون ضبط تعريف جامع لهذا الشتات المسمى بالإنجيليات على أساس أربعة عناصر مشتركة بينها: الاهتداء (أي تحوير نمط العيش تحت تأثير التجربة الدينية)، النشاط (المستند أساسا إلى الالتزام الفعلي)، التمركز الكتابي (بوصف الكتاب المقدس كلمة الرب الموحاة) والصليبوية (المتمثلة في محورية الرؤية الثالوثية)(5). لكن هذا التعريف وإن أبرزَ ما يميّز الإنجيليات من خاصيات "الولادة الروحية مجددا" (born again) و"الاستقامة الفعلية" (orthopraxie)، فهو يغفل عن ملامح أخرى نظراً لتشعّب أنشطة الكنائس الإنجيلية، التي لا تقتصر على الجوانب الغيبية؛ بل تعضدها باحتضان دنيوي بارز يغطي متطلبات الفرد وحاجاته، داخل مسار متكامل ينطلق من "مرحلة التبشير"، مرورا بـ"مرحلة التحوير" للمجتمع، وإلى غاية "مرحلة التصدير" نحو العالم.

من المصلّى إلى السّوق الدّينية

تُعَدُّ عمليّة صنع الرّموز بمختلف أنواعها بدعةً مستحدثةً، يهدِف توظيفها في المجال الاجتماعي إلى إبلاغ رسالة عميقة الدّلالة، غرضها إحكام القبضة على أذواق المتلقّين وعقولهم عبر سلطة معنويّة رمزيّة. تطوّرت العمليّة بالأساس مع تركّزِ النّفوذ الرأسمالي في المجتمعات الغربية، وسعيِ أربابه للمِّ شمل العالم وشدّه تحت شبكة نفوذهم. ولم يسلم القطاع الدّيني من فبركة تلك الرّموز-الأيقونات للتحكّم بمقدّرات الحقل الرّوحي. فقد أعاد الغرب- بعد ثورته النفعيّة في العصر الحديث- صياغة ثرواته الرّوحيّة المتراكمة، ضمن متطلّبات التّسويق المستجدّة. محوّلا إياها إلى ما يشبه المخازن التجارية، التي تكتظّ بالمناسك والطّقوس والعقائد وأدواتها ولوازمها، والمعروضة عبر تقنيات الترويج والتسويق المتطوّرة والمحتكمة إلى قوانين العرض والطّلب ذات الطابع الاستهلاكي، على أساس:

أ- أن الأسواق الدّينية تحوي مجموع المبادلات لشتّى المكافآت الماورائية، من وعود جزاء مستقبلي، وتفسيرات لأحداث الحياة وتأويلاتها.

ب- أن العلاقات الاجتماعية هي مصادر الاعتماد الأساسية للاستعلام عن البضائع الدّينية، بما يسهم في طمأنة المستهلِكين على قيمتها.

ج- أن المنظّمات الدّينية هي شركات معهود لها بإنتاج القِيم، في حين أن التجّمعات هي "وكالات"، مسيَّرة من قِبل أعراف، هم "رجال دين"، يجترحون المعنى للزبائن.

د- أن الشّركات تتخصّص بأنشطة معيّنة تقدّمها وبنوعيّة منتوجات توفّرها.

ذلك تقريبا جوهر طروحات السوق الدينية كما يحدد معالمها علماء اجتماع اقتصاد الأديان في أمريكا(6).

في الراهن الحالي ترعى التجمّعات الإنجيلية الأمريكية بين 30 و 40% من متطلبات سكّان أمريكا الدينية، هذا على مستوى الداخل، وأمّا على مستوى الخارج فهي تشهد تطورات حثيثة مرشَّحة للتمدد(7). من جانب آخر، يعدّ التيّار الإنجيلي -إلى جانب الإحياء الإسلامي- أقوى الخيارات الدّينية حركية وانتشاراً في العالم. وإن يكن تنامي الإسلام رهين قوته العقديّة أكثر منه نتاج عوامل تحديث في السّاحة الاجتماعية، أو توظيف ذكيّ لوسائل الاتصال والإعلام والمعرفة، فإن التيّار الإنجيلي يبقى أكثر التوجّهات الدّينية قدرة على توظيف تقنيات الاتصال واللّوبيات والمؤسّسات والخبرات في انتشاره.

فلسفة التّبشير

تصطبغ التوجّهات الإنجيلية عموماً بخاصيات عَقَدية مسيحانية- أي الإيمان بحلول المسيح المخلّص يوما- وبمنزع أخلاقي يهودي/ مسيحي، نابع من تعاليم العهدين القديم والجديد، وبالتطلّع لعهد ألفي يهنأ فيه الناس. وعلى مستوى النشاط العملي تتميز الإنجيليات الجديدة بخاصيتين: توتر في الداخل وتنافس مع الخارج.

يقتضي المقام أن نتطرّق بالحديث لإحدى الأيقونات الإنجيلية، ألا وهو الداعية الإنجيلي التّلفزي بيللي غراهام (1918-)، المعروف بالتِّليفانْجِيلِيسْت لعظيم شأنه في تلك الموجة الدينية، ولنتلمّس من خلاله كيفيّة السّيطرة على مواقع النّفوذ السّياسي الذي تسلكه الإنجيليات. إذ عُدّ الرجل حارس القيم الرّوحية الأمريكية وداعية "American way of life" الدّينية، حتى أدخِل بنثيون الأيقونات الأمريكية المعاصرة. فقد ألهب غراهام الحماس الدّيني في الفضاء العمومي الأمريكي، على مدى فترة طويلة امتدّت من 1945 إلى الوقت الرّاهن. عَرَف عن قرب كافة رؤساء أمريكا طيلة تلك الفترة. كان بعضهم من أصدقائه المقرّبين، مثل دوايت إيزنهاور، وريتشارد نيكسون، وليندون جونسون. وتردّد على بعضهم أثناء تولّيهم مهام الرّئاسة بأداء القدّاس الافتتاحي، كما الشأن مع نيكسون أو بيل كلينتون، والتقى مع بعضٍ منهم بانتظام.

أُختير الرّجل 44 مرّة من بين عشر شخصيات أكثر تأثيراً في الولايات المتّحدة الأمريكية، ضمن عمليات تقييم يعدّها سنويّا معهد غالوب. فقد لازمه اعتقاد راسخ منذ شبابه أن مهمّته التبشيرية ناتجة عن نداء إلهي خفي. ووَهْم النّداء الإلهي أحد أعراض الشّخصيات العُصابية في علم النّفس الديني، التي يحدث على إثرها التحام مهووس بالرّسالة دون أن يخامر صاحبها شكّ. فالعُصابي الدّيني يستبدّ به اليقين حدّ خضوعه لقوّة روحية تتجاوزه(8)

بدا التلاحم مع التوجّه الرأسمالي مبكّرا لدى بيللي غراهام، في وقت صارت فيه الشّيوعية تمثّل -بالنّسبة إلى الغرب وبالأساس إلى الولايات المتّحدة- التهديد الأكبر. أثناء ذلك صار غراهام أداة طيعة من أدوات النّظام الرأسمالي في أمريكا، يتجاوز توظيفها التبدّل الحزبي أو الرّئاسي. ولبلوغ هدفه المنشود سعى بشتى السبل للتقرّب من مواقع القرار، متعلّلا بالتخوّف الدائم من الشّيوعية.

في كتابه: "سلام مع الربّ" يحدّد بيللي غراهام الخطوط اللاّهوتية الكبرى للإنجيلية والمتمثلة في التطلّع للتّقوى، والتمسّك العقائدي الأرثوذكسي، والعمل التبشيري(9). وهي عناصر تصبّ بمجملها في "الاهتداء"، الذي يبقى أساسه نسج علاقة مباشرة مع النصّ المقدّس، ككلمة إلهية لا كإطار حاو للكلمة الإلهية. فالاهتداء هو السّياق الذي يسير فيه المسيحي ليولَد من جديد "born again"، والمتجلّي في حياة المهتدي؛ ذلك أن المولود من جديد إنسان عاش تجربة الميلاد الثاني الخاصة؛ أي اللّقاء المصيري مع المسيح. والكلمة في أصلها وردت في إنجيل (يوحنّا3: 3)، حيث يتوجّه المسيح (ع) إلى الفرّيسي نيقوديموس بقوله: "الحقّ الحقّ أقول لك: لا أحد يمكنه أن يرى ملكوت الرب إلاّ إذا وُلد من جديد"، وسياق الميلاد الجديد الرّوحي هذا يتكوّن من ثلاث مراحل: الوعي بحالة الخطيئة، والتّوبة، وتقبّل نعمة الربّ عبر يسوع المسيح بوصفه المخلّص.

وبشكل إجمالي تتلخّص الرّسالة الإنجيلية في رؤية مسيحانية مبنية على تقابل مانوي ثنائي بين الموت والحياة، بين الخطيئة والنعمة، بين العذاب والخلاص، بين مملكة الخير ومملكة الشرّ. ولكن هذا اللاّهوت الأخروي ظاهرا يتعانق في أفقه الأعلى مع توجّهات دنيوية. وعموماً تبقى الرّسالة الدّينية الإنجيلية -بالشّكل الذي عرضه بيللي غراهام- متوجّهة أساساً إلى العامّة ورجل الشّارع؛ لما تتميّز به من يُسر، وما تحثّ عليه من توبة خلقية. وهي بحثٌ عن بناء يقين لدى المخاطَب، في حضارة داهمها الشكّ من كلّ صوب، وافتقدت المعنى، واختلط فيها المقدّس بالمدنّس. وخطاب غراهام ليس خطاباً تساؤلياً في النصّ المقدّس، ولا فكراً قارئاً لتجاويفه الدّلالية والتأويلية، بل هو خطاب عظة وبشارة ونُذر. يقول غراهام في كتاب "سرّ السعادة": "الإنسان لا الكتاب المقدّس من ينبغي إصلاحه"(10). في حين نجد اللاّهوت الذي دعا إليه رفيقه البروتستانتي كارل بارث (1886-1968) مختلفاً مقصداً ومنهجاً، يتوجّه إلى الخاصّة أساسا، وهو في تناقض أحياناً مع مقول غراهام السّطحي. كان الثنائي أكثر المؤثّرين في الأوساط البروتستانتية على مدى النّصف الثاني من القرن العشرين، بَيْد أن خطاب أحدهما نخبوي والآخر شعبوي. وقد التقى الرجلان فعلاً سنة 1960 بمونترو في سويسرا، على مرتفعات بحيرة جنيف وتطارحا الرّأي بشأن قضايا التّبشير.

حريّ التطرّق إلى شخصيّة إنجيلية أخرى عاصرت غراهام؛ ألا وهو راينولد نايبور (1892-1971)، الذي اُختير أيضاً من بين أهم مائة شخصية أمريكية خلال القرن العشرين، بحسب تقديرات "مجلّة لايف" 1990. لقد أدان نايبور قبح الرّأسمالية، وكان المحرّض البارز في حركة Social gospel، والمنتقد اللاذع للبنى الاجتماعية السّائدة. وبسبب هذا المنزع الاجتماعي المناوئ احتدّ خصام الرجلين. فإن كان غراهام يولي النّظام الاجتماعي السائد اهتماماً باهتاً، ويعتنق -بشكل عفوي- الأفكار الرائجة؛ فإنّ نايبور ينتقد الأوضاع بحدّة، ويتطلّع إلى تغييرها، مما خلّف لديه نوعاً من الاحتقار للخطّ الإنجيلي "السّاذج" لغراهام. وإن أقرّ بفاعلية دعوته، فإنّه يذهب إلى عدم تناسب هذا النّوع من الأنجلة مع الرّهانات الأخلاقية الحديثة. وفضلاً عن هذا التباين بين الرجلين، تميّزَ بيللي غراهام بالحذر الشّديد من إصدار الأحكام المتسرّعة على المسائل الاجتماعية ما لم يحتضنها مناخ جامع. فخلال (1971-1972) حين تفجّرت "حركة المسيحيين الهيبـي" "Gesus People"، لم يعارض غراهام تلك الحركة على غرار غيره من الإنجيليين، بل سعى لاحتضانها، مهيّئا لها ظروف التقبّل داخل السّاحة الدّينية الأمريكية. لكن النجاح الكبير للتوجه الإنجيلي الذي تزعّمه بيللي غراهام يبقى مرتبطا أساسا باهتمامه بالتّبشير الإعلامي، أو ما يُعرف بظاهرة الكنيسة الإلكترونية، التي لعبت وسائل الإعلام فيها دورا فاعلا. فأكثر من مئة صحيفة أمريكية خلال سنة 2000، كانت تقدّم إجابات عن فتاوى دينية كان يتولى الإجابة فيها غراهام عبر عمود بعنوان "إجابتي" "My Answer". والملاحظ أن تلك الاستشارات لا يجيب فيها بمفرده بل يتولى تحبيرها فريق مساعد، وفي أحسن الحالات يلقي عليها نظرة خاطفة.

وليتسنى فهمٌ أفضل للخصوصية الإنجيلية ومتابعة مسار تطور هذا التوجه المتحول من التبشير إلى التحوير إلى التصدير، حريّ بنا مقارنة الأمر بأوضاع الفضاء الأوروبي؛ لإدراك عمق التباين بين المجالين. ففي الوقت الذي غدا فيه المرء يذهب إلى الدين بمفرده في أوروبا نجد الدين في أمريكا يلتقي بالناس، ضمن تنافس محموم بين الكنائس لِعرض بضاعتها للمستهلِكين. ربما ذلك الشكل هو ما بلغت أصداؤه أوروبا مع تنظيم "شهود يهوه" الأمريكي الأصل، الذي يطرق مبشّروه المأجورون أبواب المنازل، ويستوقفون الناس في الشوارع والأسواق؛ لترويج بضاعتهم.

وهو نمط دخيل على الأوروبي، مستورَد من أمريكا في التبشير المباشر بالدين؛ لكنه بعد مرور السنوات أمسى مألوفا حتى في روما عاصمة الكاثوليكية العالمية. ذلك الفتور في التواصل بين أوصياء الإيمان و"المؤمنين" في أوروبا كانت قد رصدته دانيال هرفييه ليجي في توصيف للواقع الديني الفرنسي -والأوروبي عامة- أن التعاطي مع المسائل الدينية قد بات محكوما بمنطق "البريكولاج" والتعويل على الذات(11). وهو ما يعبّر في الحقيقة عن فقدان الثقة في المؤسسات المعنية بشأن الدين وتقلص قناعة المرء بمعروضها وخطابها، مما دفعه إلى تدبير حاله. حتى ألفت آذان الناس ما يصدر من الأفواه "لستُ متدينا بل أنا روحاني"، أو "أنا متدين ولكن ليس بوسعي التماهي مع الكنيسة أو أي تقليد ديني سائد"(12).

ما يفصح عن تعويل على الذات بعيدا عن المعايير الكلاسيكية، وهو ما أخذ شكلاً بارزاً فيما يُعرف بروحانية "النيو آيج" (العصر الجديد) المعبّرة عن اعتقاد أساسه التواصل بين الواقع الشخصي والواقع الكوني، بات متاحا بالتردد على نوادي التأمل والتطهر والرياضات الروحية، التي غدت فضاءات لتوليد إشباعات روحية جديدة متمثلة تارة في "الاعتقاد دون الانتماء" إلى أي مؤسسة دينية، وأخرى في "الانتماء دون الإيمان"، كما عبرت عن ذلك الكاتبة الإيطالية أوريانه فلا شي في قولتها الشهيرة: "أنا مسيحية ملحدة"، ليغدو الدين غطاء حضارياً يفتقر إلى أبعاده الوجودية وعمقه الإيماني.

هذا الاضطراب تبدو الإنجيليات اليوم الأوفر حظّا في تلبية حاجات "المسيحيين" الدينية والدنيوية فيه، ولعلّ ذلك ما جعل هذه الأنماط الدينية الجديدة تنجح في تحقيق نجاحات واكتساح معاقل تقليدية للكاثوليكية، كانت فيما مضى حكراً عليها مثل فضاء أمريكا اللاتينية. ولعل رمزية الكنائس العملاقة -megachurch- التي تتّسع الواحدة منها لعشرة آلاف مشارك أو يزيد، والعامرة بالأنشطة الدنيوية المتنوعة- التربوية والتعليمية والرياضية والترفيهية- بما يفوق بكثير أنشطتها الدينية، هو رأس جبل الجليد العائم في عملية التنشئة الدينية الجديدة. وهي ظاهرة ما عادت محصورة بأمريكا أو بشطر القارة الجنوبي، بل أخذت في التمدد نحو الخارج حتى بلغت آسيا وإفريقيا. نشر "معهد هارتفورد الأمريكي للأبحاث الدينية" رصداً بترتيب المدن التي تضمّ "الكنائس العملاقة" مشفوعا بأعداد المترددين من الإنجيليين على تلك الكنائس نورد فحواه ضمن الجدولين التاليين(13):

ترتيب المدينة

عدد الكنائس العملاقة

1 هوستن

38

2 دلاس

19

3 سيول

17

4 شيكاغو

15

5 شارلوت

15

6 لوس أنجلس

14

أوسطن

14

أطلنطا

14

سانت أنطونيو

12

نيروبي

12

 

ترتيب المدينة

عدد المرتادين أسبوعيا

1 سيول

825.000

2 لاغوس، نيجيريا

346.500

3 هيوستن

211.936

4 سنغافورة

117.825

5 سانتياغو، تشيلي

95.000

6 دالاس

89.797

7 أنيانغ، كوريا الجنوبية

75.000

8 نيروبي

72.500

9 غواتيمالا سيتي

72.000

10 مانيلا

71.000

 

شُغل التحوير

صحيح أن الكنائس العملاقة كظاهرة مشهدية دينية، وما يجول حولها وما يدبّ داخلها من أنشطة هي ظاهرة حديثة العهد؛ ولكن البارز أن الإنجيليين قد عوّلوا -منذ البدء- أيما تعويل على المؤسسة التعليمية أيضا، ضمن استراتيجية بعيدة المدى، سعياً لتحوير المجتمع الأمريكي بشكل جذري. ففي الوقت الحالي نجد في أمريكا ما يزيد عن تسعمائة مؤسسة تعليمية بين جامعة ومعهد ذات منحى إنجيلي، تظهر غالبيتها تحت مسمّيات مضللة: "مسيحية" أو "كتابية" أو "إنجيلية" نسبة إلى العهد الجديد. وتعود جملة من تلك المؤسسات إلى القرن التاسع عشر، أما الحديثة منها فهي تعود إلى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فخلال ذينك العقدين تم إنشاء نحو خمسين جامعة أصولية من أبرزها "Liberty University" و"Oral Roberts University" و"Regent University"، وهي مؤسسات تعليمية تهدف ضمن مقرراتها لخلق مصالحة بين مطالب الحداثة التعددية والإلزامات الخلقية والعقدية للإيمان الأصولي(14). ولإحاطة بعمق الرهان على الرسالة التعليمية في خلق مجتمع جديد يقتضي الأمر إيلاء نظرة تاريخية للمسألة.

لقد نزَل أوائل المستوطنين الكالفينيين في بوسطن، حيث أسسوا معهد هارفارد (1636)، لحقه معهد ويليام وماري في فرجينيا سنة (1693). ثم سنة 1701 تم إنشاء مدرسة يال في كونكيتوت، تلتها مؤسسات مماثلة في برنستون (1746) وكولومبيا (1754) وبنسلفانيا (1755) وبراون (1765) وروتجيرز (1766) ودارتموث (1769). من هذه المؤسسات التي تأسست قبل 1776 تفردت جامعة بنسلفانيا بكونها ليست لها جذور دينية. ولم يشرع الكاثوليك في المنافسة على إنشاء المؤسسات التعليمية سوى مع مقدم المهاجرين الكاثوليك الإيرلنديين بتأسيس جامعة نوتردام في ولاية إنديانا سنة 1842. كانت الدراسات الدينية في تلك المؤسسات إلزامية، وكان جلّ المسيرين والمدرّسين حينها من رجال الدين لتتطور الأمور لاحقاً باتجاه الانفتاح على اللائكيين.

"جامعة الحرية" المشار إليها سابقا انطلقت بـ 154 طالبا سنة 1971 ليبلغ العدد 5000 سنة 1989؛ لكنها لا تزال بعيدة عن مطامح مؤسسها جيري فالويل زعيم "الأغلبية الأخلاقية" لبلوغ 50.000 طالب(15). فتلك الجامعة ومثيلاتها مثل "Oral Roberts University" في أوكلاهوما -التي أسسها القس أورال روبرتس- تسعى للمصالحة مع الحداثة وذلك بإحداث تخصصات تغطي مجالات وظيفية وعلمية مثل الطب والصحافة والحسابيات والدراسات القانونية وتسيير المؤسسات وعلوم التجارة، مع الإبقاء على الأجواء الدينية العامة في التكوين.

وينحدر مجمل المرتادين للمؤسسات التعليمية ذات التوجهات الدينية من الطّبقات السّفلى والوسطى للمدن الأمريكية، ومن أُسر عمّالية عانت من آثار الحرب العالمية الثانية، ومن جيل الشبيبة المثقّفة ذات الميولات اليسارية. كما يتميّز المنتمون بولائهم للآباء المؤسّسين، الذين يُعدّون بمثابة "السائحين" -بالمعنى الصّوفي- الباحثين عن مجال يعبّرون فيه عن أنماط تديّنهم بشكل حرّ. تلك التحدّرات الاجتماعية جعلت طموحات خريجي تلك الجامعات وتطلّعاتهم تتركز في مواجهة الحيف، إلى جانب انتقادهم النّظام التعليمي خارج مؤسساتهم، بدعوى انحرافه وعدم انسجامه مع القيم المسيحية النقية(16).

إستراتيجية التصدير

اقتضى تمدّد الإنجيليات خارج أمريكا والانطلاق نحو الساحة العالمية تذليل عقبتين:

- إضفاء مسحة إنسانية خيرية على الأنشطة الإنجيلية، حتى تحظى بالقبول في مجتمعات مغايرة ثقافياً ودينياً، فضلاً عن إيلاء الشأن الاجتماعي اهتماماً. وهو ما طفح من خلال مواعظ بيللي غراهام الذي بات يردّد: "لا يمكن رؤية البعض يقودون الكاديلاك وآخرون يركبون عربات تجرّها الثيران ويرجى أن يعمّ السّلام العالم". كما وقفت الإنجيلية وقفة صارمة في وجه التمييز العنصري في أمريكا، مندّدة بـ "Jim Crow Seating"؛ أي أن يجلس البيض إلى الأمام والسّود من خلف، وما يتضمّنه من ازدراء واحتقار. وكان بعثُ جناح خيري مخصّص للمساعدة الإنسانية العاجلة تحت اسم: " World Emergency Relief  Fund" سنة 1973 سعيا لترسيخ التمدد نحو العالم الخارجي. حيث وزّع الصندوق -خلال 30 سنة- ما تفوق قيمته عشرة ملايين دولار، عبر أعمال خيرية لشعوب منكوبة بكوارث طبيعية وحروب. كما تبرع بـ 238000 دولار عَقب الزّلزال الذي ضرب الهند سنة 1977، مما سمح ببناء 238 مسكنا في مدينة صغيرة سنة 1980 سميت "Billy Graham Nagar"، وما جعل رئيسة وزراء الهند السابقة أنديرا غاندي تثني على زعيم هذا التنظيم الإنجيلي علنا.

- وتطبيع العلاقة مع الكنيسة الكاثوليكية، والتخلّي عن العداء المترسّخ بين البروتستانت والكاثوليك. فقد مرّت علاقة الإنجيليين بالتجمّعات الكاثوليكية المتواجدة داخل أمريكا وبالكنيسة المركزية في روما بتطوّرات، فبعد أن ران توتّر على العلاقة بينهما شهدت الأوضاع تقاربا، امتدّ إلى التنسيق المشترك. برغم ترسّخ عداوة تاريخية بينهما، بالنظر إلى انتماء الإنجيليين إلى التقليد البروتستانتي المنشقّ عن الكنيسة الكاثوليكية.

فمثلا بتولي الرّئيس الأمريكي جون كينيدي مهام البيت الأبيض، دبّ تخوّف بين البروتستانت جرّاء خشية من تنكّر هرم القيادة لتقاليد الآباء، ووقوعه تحت مظلّة الفاتيكان، بعد إمساك رئيس كاثوليكي بزمام السلطة. فقد سبق أن حاولت العديد من الشخصيات البروتستانتية الأمريكية، عرقلة بلوغ كينيدي سدّة الرئاسة، وعقدت لقاءات لهذا الغرض في سويسرا لتدارس الوضع، كان من بينهم بيللي غراهام، لكن المحاولات باءت بالفشل.

فمصلحة الطرفين للتغاضي عن ضغائن الماضي بغرض توحيد الجهود ضد المخاطر المحدقة كانت محفزة للجميع، وتواصل ذلك الغزل إلى أن منحت "جامعة بلمونت أبّاي" الكاثوليكية بيللي غراهام الدّكتوراه الفخرية سنة 1967. كان اللّقاء الأوّل لبيللي بحبر الكنيسة الكاثوليكية -البابا يوحنّا بولس الثاني- في 13 يناير 1981. تحدّثا معا ما يناهز نصف السّاعة عن خصوصيات التوجه الإنجيلي والتبشير، وعن المسؤولية الأخلاقية للمسيحيين في عالم اليوم. أعقبه لقاء ثان سنة 1982، أُقرّ أثناءه تنسيق العمل في جبهة مشتركة ضدّ المعسكر الاشتراكي. ثم كان لقاء يناير 1990 المطوّل، الذي امتدّ على مدى خمسة أيام، من الثّامن إلى الثالث عشر، طُرحت أثناءه مسائل ما بعد الشيوعية وتحدّيات الألفية الجديدة. والتقارب نفسه -الذي خطاه الإنجيليون نحو الكاثوليك -سُلك أيضاً مع الماسونيين (البناؤون الأحرار)، لكن تلك الخطوة أثارت غضب بعض الأجنحة المتشددة.

في الراهن الحالي يحاول الإنجيليون والبنتكوستيون -كلّ من جانبه- التمدد نحو أوروبا والتوغل في إفريقيا. ووِفق إحصائية لـ"مرصد التعددية الدينية في إسبانيا" صدرت في شهر ديسمبر 2015، شيّد الإنجيليون في شبه الجزيرة الإيبيرية خلال السنوات الخمس الأخيرة 825 مصلى وكنيسة. علما أن مجموع أماكن العبادة البروتستانتية في إسبانيا يبلغ عددها 3759، يحوز الإنجيليون منها 90 بالمائة، في مقابل 23.000 بحوزة الكاثوليك و1450 بأيدي المسلمين معظمها دور صلاة متواضعة يحسبها الزائر مخازن. ويبدو التوغل في إفريقيا جاريا في الوقت الحالي، من خلال التركيز على الانقلاب الذاتي المتمحور حول إلهام "الروح القدس" و"ترقّب المعجزات"، وإن كانت ظاهرة التسرّب في القارة السمراء قديمة، تعود إلى مطلع القرن الماضي مع وصول البنتكوستيين، بخلاف التنظيمات الإنجيلية الجديدة، فهي حديثة عهد تعود إلى الستينيات والسبعينيات. ولا يمكن الحديث عن "موجة إنجيلية" أمام غياب توفر إحصاءات دقيقة، بل تبقى التجمعات في حدود العشرات وبالكاد تبلغ المئات. حيث يتمحور التركيز الكبير للإنجيلية في إفريقيا حول التحولات الفردية، في ظل الظروف الحالية، وإظهار المتحولين والناكصين كرموز بارزة في المشهدين الاجتماعي والسياسي، كشأن بعض القادة السياسيين المنتمين لهذه الحركة مثل "لورون غباغبو" في ساحل العاج و"بيار نكورونزيزا" رئيس بورندي الحالي(17)

الإنجيليون والعالم الإسلامي

اتخذت الحروب التي خاضتها أمريكا في السّاحة الإسلامية -من منظور الإنجيليات الجديدة- طابع الحروب المقدّسة والعادلة، والتي تزعم الدفاع عن القِيَم اليهودية المسيحية، بعد التهديدات المتأتية من العرب والمسلمين طيلة عقود. والرّؤية المانوية للعالم لدى الإنجيليين- أخيارٌ معهم وأشرارٌ ضدّهم- استلزمت خوض حملات صليبية ضد العرب لإلحاقهم بمعسكر النّاجين، كما يبين ذلك الفرنسي سباستيان فات في كتابه "الربّ يبارك أمريكا"(18). وبوجه عام يجد العداء لدين الإسلام تجذّرا خصوصا في أوساط اليمين المسيحي، على خلاف غيره من الأجنحة الأخرى، على حدّ رصد أستاذ الحضارة الأمريكية في جامعة فالنسيان مختار بن بركة (19)

وفي خضمّ المشاحنات مع العالم الإسلامي تعدّدت أساليب اليمين المسيحي لترويض المسلمين، التي منها محاولات ثنيهم عن معتقداتهم؛ حيث ينشط الإنجيليون في العالم العربي عبر منظّمة "Arab World Ministries"، التي تزعم إعلان البشارة والخلاص بين العرب، يسندها ما يفوق الألف عون من أطبّاء وممرّضين ومدرّسين ومهندسين وعاملين في الشّأن المدني. لقد بدت أعمالهم جليّة منذ زيارة المبشّر الإنجيلي جوش ماكدوال المغرب في يناير 2005، بصفته راعي الحملة الصّليبية لمسيحيي العالم. ففي الأنترنت تنتشر عشرات المواقع للتجمّعات الإنجيلية تحثّ أنصارها للتوّجه نحو بلاد الإسلام، بغرض تشييد الكنائس السرّية والعلنيّة، وتشجيع ذوي النفوس الضعيفة والمآرب النفعية للانضمام إليهم. كما نجد مؤسّسات جامعية توفر تكوينا مكثفا للمبشّرين مثل "جامعة كولمبيا" بكارولينا الجنوبية، وتموّل تربّصات لغرض إكساب المدرَّبين تقنيات التعامل مع الأوساط الإسلامية. فعلى إثر اجتياح العراق حلّ فرانكلين غراهام -ابن بيللي غراهام- بأرض الرافدين مدّعيا تقديم المعونة المادية والرّوحية للعراقيين عبر منظمة "The Samaritan Purse" الخيرية، فكان توزيع الألبسة والأدوية والمأكولات مصحوبة بالكتاب المقدّس، على أمل ثني العراقيين المسلمين عن دينهم(19). وقبل سفره صرّح: "إن ما أُطلق عليه بعملية 'الحرّية للعراق' هي فرصة سانحة للمسيح. نذهب هناك لنمدّ يد العون للعراقيين لنخلصهم من الدّين الزائف والشيطاني ؛أي الإسلام، فكمسيحي، أتحرّك باسم المسيح"(20). والواقع أن الإنجيليين فيما يخصّ المجتمعات العربية يبقون -قياسا بالكاثوليك- أقلّ إلماماً بواقع تلك المجتمعات وما أثير عنه من مغالطات وتقديرات خاطئة بينهم. وجرّاء قلّة الاحتكاك، يلوح العالم العربي فراغاً وأحياناً فوضى دينية ينبغي ترتيبها وردّها للصواب. تلك المصادرة الشائعة بينهمً مفادهاً أن العرب يجهلون تعاليم المسيح، ويعوزهم الاطلاع على أناجيله، كما يجهلون تاريخ المسيحية في بلدانهم، ولذلك يتوجّب نزع الغشاوة عنهم تجاه البشارة.

واللافت والمتكرر في خطاب غراهام الأب إعلانه الصريح أثناء زياراته الدينية إطلاق حملة صليبية "Crusade"، تتطلّع لِتحويل النّاس عن دينهم، ولم يُخفِ ذلك ريبة من العالم الإسلامي لحساسيّة المسألة، واقتصرت حملاته على الأوساط المسيحية التقليديّة أو على المناطق باهتة الحسّ الدّيني. ومفهوم "الحملة الصليبية"، يعيد للأذهان ماضياً ثقيلاً. ما دفع بابن غراهام فرانكلين للتخلي عن تلك المقولة واستبدلها بكلمة "مهرجان". فباتت الكنائس البروتستانتية والإنجيلية في العالم العربي تحاول عرض خدماتها بوجه إنساني، مدّعية أنها لم تشارك القوى الاستعمارية الغربية هجمتها على بلاد العرب في مقارنة بالكنيسة الكاثوليكية.

من جانب آخر قد يتساءل المرء عن تناغم اليمين المسيحي مع الدّولة العبرية؛ فالأمر له مبرّر لاهوتي، يستند إلى اعتقاد شائع في أوساط المسيحيين مفاده أن انبعاث دولة إسرائيل دليل حاسم على عودة المسيح، وهو ناتج عن قراءة نبوية أبوكليبسية للكتاب المقدّس تبدو فيها إسرائيل محطّة على طريق العصر الألفي المنشود. حيث لا قيامة للمسيح قبل عودة اليهود إلى أرضهم. يورد الكاتب الإسرائيلي الأمريكي جرشوم غورينبيرغ ضمن كتابه: "نهاية الأزمنة: الأصولية والصّراع على جبل الهيكل": "إن العقيدة الإنجيلية في الخلاص هي مرحلة من ضمن خمس مراحل يندثر اليهود في أخراها. ولذلك عُدّت الانتصارات الإسرائيلية دائما بمثابة الاقتراب من نهاية الأزمنة ومن عصر ظهور المسيح. ويشيع بين الإنجيليين رفض لقيام دولة فلسطينية، كما يتطلّعون إلى تهجير كلّ سكان المنطقة -ولو كانوا سكّان قطاع غزّة- إلى العالم العربي(21).

وفكرة العودة إلى فلسطين - كمقدّمة للظّهور الثّاني للمسيح- دفعت العديد من القادة الإنجيليين -مثل بيللي غراهام، وابنه فرانكلين، وجرّي فالوال، ورالف ريد، وبات روبرتسون- لحثّ الإنجيليين للتوجه نحو فلسطين، وشجعت بعض اللّوبيات الإنجيلية مثل: - International Christian Embassy - بالقدس، وكذلك: - Christians for Israel- على تمويل مشاريع الهجرة إلى إسرائيل وبناء المستوطنات. وبالنتيجة حلّ عدد من الإنجيليين بإسرائيل لتعلّم اللّغة العبرية، وسعوا في بناء برامج تعاون مشتركة يهودية مسيحية. وقد قدّر الأستاذ مختار بن بركة   - في كتابه "اليمين المسيحي الأمريكي: الإنجيليون في البيت الأبيض"- أعداد الإنجيليين الذين استوطنوا إسرائيل - بشكل شبه دائم- زهاء خمسة وعشرين ألفا(22). حيث ينظر الإنجيليون للفلسطينيين بوصفهم ممن ينبغي أن يُنصَّروا قسرًا أو يُجلوا قهرًا، كون النّبوءة الكتابية المزعومة تتجلّى في اليهود وفي إسرائيل، لا في المسلمين أو المسيحيين العرب، الذين يعدّون ضالين منحرفين(23).

نحو أي اتجاه يسير "شعب الكنيسة" في القرن الواحد والعشرين؟ يحاول المؤرخ الأمريكي فيليب جنكينز الإجابة عن هذا السؤال عبر كتابه: "الكنيسة الثالثة. المسيحية خلال القرن الحادي والعشرين"(24) من خلال تنبّئه بظهور كنيسة جديدة، ذات طابع إنجيلي طهري رؤيوي تبشيري. ولعل أبرز مظاهر هذا التشكل الجديد هو ما يعيشه البرازيل اليوم من تحول نحو الكنائس الإنجيلية. كان البلد وإلى غاية العام 1970 يضمّ 92% من الكاثوليك، وفي سنة 2015 تراجع العدد إلى حدود 59 بالمائة، ويُرجّح خلال العشرية القادمة تساوي أتباع الكنيستين، وذلك بحسب تقديرات صادرة عن "المعهد البرازيلي للجغرافيا والإحصاء".

..........

هوامش:

1- Peter Berger-Grace Dvie-Effie Fokas, America religiosa, Europa laica? Il Mulino, Bologna 2010, p. 10.

2-  راجع ترجمتنا "السوق الدينية في الغرب"، تأليف مجموعة من الكتاب، دار صفحات، سورية 2012.

3- Pino Lucà Trombetta, “Monopolio e sincretismo soggettivo”, Inchiesta, Anno XXXII, n. 136, aprile-giugno 2002, p. 22.

4-  Flavio Felice, Neocon e Teocon. Il ruolo della religione nella vita pubblica

statunitense, Rubettino, Catanzaro-Italia 2006.

 

5-  Bebbington David. Evangelicalism in Modern Britain: A History from the 1730s to the 1980. London: Unwin Hyman, 1989, p. 17.

6-  "السوق الدينية في الغرب"، مصدر سابق.

7-  Sébastien Fath, In God we trust. Evangelici e fondamentalisti cristiani negli Stati Uniti, Lindau, Torino 2005, p. 207 e s.

8-  لمزيد من التوسع حول شخصية الرجل وأنشطته يمكن الاطلاع على موقعه الرسمي عبر الشبكة العنكبوتية:

http://www.billygraham.org

9-  Billy Graham, Peace with God, Garden City (N.Y), Doubleday, 1953.

10-  Billy Graham, The secret of happiness, Kingswood, World’s Work, 1955, p. 56.

11-  Danièle Hervieu Léger, Champion Françoise, Verso un nuovo cristianesimo? Introduzione alla sociologia del cristianesimo occidentale, Queriniana Edizioni, Brescia 1989.

12-  Peter Berger-Grace Dvie-Effie Fokas, America religiosa, Europa laica? Il Mulino, Bologna 2010, p. 25.

13-  Leadership Network Global Megachurches list, Hartford Institute for Religion Research, The Washington Post, July 24, 2015.

 

14- Mokhtar Ben Barka, "Les universités fondamentalistes entre tradition et modernité" , Revue française d’études américaines, 2003/1- n. 95, p. 102.

15-  Ibidem., p. 109.

16- Flavio Felice, Neocon e Teocon. Il ruolo della religione nella vita pubblica statunitense, p. 30

17- Cédric Mayrague, "Cet évangélisme qui veut conquérir l’Afrique", Libération, 25-02-2016.

18-  Sébastien Fath, Dio benedica l'america: le religioni della Casa Bianca, Carocci, Roma 2000, p. 119.

19-  Mokhtar Ben Barka, La droite chrétienne américaine. Les évangéliques à la Maison-Blanche?, Privat, Toulouse 2006, pp. 222-224.

20-  Sébastien Fath, Dio benedica l'america: le religioni della Casa Bianca, pp. 15-24.

21-  Mokhtar Ben Barka, La droite chrétienne américaine, pp. 175-176.

22-  Gorenberg Gershom, The End of Days: Fundamentalism and the Struggle for The Temple Mount, New York, The Free Press, 2000, p. 39.

23- . Mokhtar Ben Barka, La droite chrétienne américaine, p. 180.

24- . Ibid., p. 177.

25-  Philip Jenkins, “La Terza Chiesa: Il cristianesimo nel XXI secolo”, Fazi Editore, Roma 2004.

 

 

 

أخبار ذات صلة