زينب الكلبانية
أدَّت التحولات المتسارعة التي شهدها العالم -بعيْد الحرب العالمية الثانية- إلى تشكّل تعدّدٍ في النظر لقضايا العالم ولمعالجة أوضاعه؛ فقد كشفتْ الأحداث المتلاحقة عن آفاق عالمية واعدة في التعاطي مع مسائل المجتمع الدولي، بالبحث عن حلول جماعية لها، سيما وأنَّ الحضارات منذ 1948 بدأت تنظر وتقارن نفسها من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي بات يشكّل مرجعية دولية عُليا.
لم تكن الأديان والتقاليد الروحية خارج هذا السياق العالمي المتحرك، وإن بدا السير في هذا النهج متأخرا نوعا ما، وهذا ما سنبينه من تلخيصنا لمقال "الديانات العالمية ومنزلة الأخلاق في لاهوتها" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- إنَّ العقود الأخيرة من الألفية الثانية شهدت بروزا لافتا لحضور الدين في المجال العمومي، فضلا عن انخراط الطروحات الدينية الحثيثة في مجريات الأحداث الاجتماعية، وكذلك في تأجيج حدة الصراعات السياسية والإثنية في أرجاء عدة من العالم.
فاقم هذا الدور تشابك العامل الديني مع تطور ظاهرة العولمة الضاغطة في عديد المجالات الأساسية: الأمنية والاقتصادية والاتصالية؛ إذ لم تعدْ منظورات الأديان منظورات حصرية مقتصرة على جموع المؤمنين، داخل المعتقد الواحد وضمن الفضاء الحضاري الجامع؛ بل صار التدافع الرؤيوي والفقهي واللاهوتي النابع من تلك الأديان أمرا جليا للعيان ومؤذنا بتوترات أشد.
وبعبارة أخرى: ما عادت الأديان منكفئة على ذاتها، بل غدت قضاياها فاعلة ومؤثرة ومدعاة للقلق. اتّسم التعاطي مع تلك الأوضاع بأن تعالت النداءات الداعية لحوار الأديان وتقارب الحضارات، في مسعى لاستباق حالات الاحتقان وتسوية الخلافات، وبقصد إرساء تعارف في مستوى أول، يليه تآلف في مستوى لاحق، بين مختلف العائلات الدينية والتقاليد الروحية.
وكما كانت مبادرات الحوار نابعة عن هيئات دينية، كانت صادرة عن مؤسسات وشخصيات وأعلام أيضا، من الشرق والغرب، كما التحق بتلك الموجة جمعٌ من المتهافتين والغاوين. اللاهوتي والمفكر الكاثوليكي السويسري الألماني هانز كونج، هو أبرز الشخصيات الدينية العالمية التي سلكت درب الحوار بحثا عن تفعيل ما أطلق عليه "الأخلاق العالية" بما دعا إليه من خطة متكاملة امتدت من محاولات التنظير إلى مساعي التأسيس.
فقد راود الشعوب في أعقاب انهيار المعسكر الاشتراكي -عام 1989- أملٌ كبير في إعادة صياغة العالم وفق قيم ورؤى جديدة، أدلى كونج بدلوه في المجال باقتراح أخلاق عالمية جامعة. ما كان ذلك المشروع برنامجا جاهزا أعد على الطاولة؛ بل كان مشروعا سياقيا. انطلق بمقترح إنشاء برلمان للأديان العالمية، وتمت المصادقة عليه من قبل شخصيات دينية ذات صيت عالمي. وقد شارك من الجانب الإسلامي حينها الأمير الحسن بن طلال من الأردن، والدكتور علي خاتمي من إيران.
بدأت قصة الترويج لمشروع الأخلاق العالمية كما يرويها كونج من نحت الشعار المتمحور حول "لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان" عام 1984، وعرضه على النقاش العمومي خلال عام 1989، إبان المشاركة في منتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، الذي تطرق إلى صلة الأنماط الأخلاقية بالسياسة والاقتصاد.
شكلت آراء الثنائي الأسس لمؤلف "مشروع من أجل أخلاق عالمية" (1991). وصادف أن لاقت دعوة كونج صدى لدى العديد من الأطراف، ليلي ذلك اعتلاء منصة الأمم المتحدة -سنة 1992- وإلقاء محاضرة بعنوان: "المسؤولية الكونية.. أخلاق عالمية جديدة في نظام عالمي جديد". لكن الرجل لم يكتف بالتنظير لطروحاته فحسب، وسعى جاهدا لتنزيلها على نطاق عملي، فعمل على بعث برلمان عالمي للأديان صادق بالأغلبية على "الإعلان من أجل أخلاق عالمية" ليجد المشروع صياغة مكتملة في مؤلف آخر بعنوان "الأخلاق العالمية للسياسة والاقتصاد".
يتساءل كونج عن فرص إرساء وفاق أخلاقي بين الأديان بعيدا عن الضوابط العقدية المتضاربة والمتناقضة أحيانا، ويسرد خمس نقاط جوهرية "لمشروع الأخلاق العالمية":
- الحرص على نعيم الإنسان وصون كرامته.
- اعتماد القواسم المشتركة بين البشرية: لا تقتل، لا تكذب، لا تقترف فعلا مشينا، أحبّ والديك وأبناءك وأكرمهم.
- مبدأ العيش السوي بين الشرعية والحرية.
- خلق حوافز العمل الخُلقي من خلال صور معيارية لبوذا، والمسيح، وكنفشيوس ومحمد عليه الصلاة والسلام.
- إيجاد جواب لأزمة المعنى، عبر التعايش وعبر الإضافة.
ومن ثم يقتضي إرساء الأخلاق -من منظور كونج- الاشتغال على مستويين: بالتطلع لوفاق جامع بين الأديان وتجاوز الخلاف فيما هو خُلقي وغير خُلقي؛ وبالبحث عن وفاق بين المؤمنين وغير المؤمنين من خلال السعي للوقوف على أرضية مشتركة، رغم ما قد يلوح بهذه المهمة -كما يبرز كونج- إيمانٌ بجليل أثره "فمن يقدر اليوم على تحريك ملايين البشر لفائدة أخلاق عالمية، إن لم تكن الأديان هي الموكلة بذلك".
وفي ختام عرضنا، لطروحات كونج ينبغي ألا يتبادر إلى الذهن أنَّ مشروع الرجل هو مشروع "خُلقي" بالمعنى العاطفي، أو هو مشروع "أخلاقوي"، تتقلد فيه الأخلاق مهمة فض كافة المشكلات العويصة؛ على خلاف ذلك يحاول كونج إعطاء ترجمة عملية لما يدعو إليه في حدود إدراك منظّر ورجل فكر على مستوى إسهامه في تحوير مجريات الأمور أو نظام سير المؤسسات؛ فمقاربته للوضع الاقتصادي الذي يعيشه عالمنا وما يتخلله من فساد هو رصد لوقائع سلبية، مع التنبيه إلى عواقبها ومآلاتها، فلو عاينا أوضاع اقتصاد السوق الراهن واستفحال الأزمة المالية نلحظ أن الفشل متأتّ من جراء سوء الأخلاق السائدة في المعاملات وتراجع الصدق والإخلاص، كما يبين في كتاب "الأمانة.. لماذا يحتاج الاقتصاد إلى أخلاق؟" وليس عائدا إلى السوق ذاتها أو إلى فشل المؤسسات.
يتساءل كونج: "أي معنى لنظام عالمي يفتقر إلى أخلاق إنسانية مشتركة وملتزمة؟". فالعولمة الضاغطة باتت تملي حاجة أكيدة إلى أخلاق عالمية؛ يقول: "في مثل هذا الظرف من عصرنا من الضروري أن تجد عولمة الاقتصاد والتقنية ووسائل الاتصال دعما من عولمة الأخلاق، بعبارة أخرى: تحتاج العولمة إلى أخلاق عالمية". وفي توضيحه لعلاقة الأخلاق العالمية بالخيارات السياسية والاقتصادية، يعرب كونج عن مدى الترابط بين تلك المجالات.
وفي مقال ظهر على صفحات مجلة "كونشيليوم" الإيطالية، كتب هانز كونج: "لا غضاضة في إسهام عولمة الاقتصاد والتقنية والاتصالات في التسريع بالحاجة الماسة إلى أخلاق عالمية. فقد ولّدت تلك العولمة -بشكل ليس له نظير- أصنافا جديدة من المشكلات المعولمة، ومن هذا الباب تتطلب أخلاقا عالمية".
فقد لمس كونج الحاجة الملحة للسلوك الخُلقي إيمانا بتأثيره الكوني، فعلى سبيل المثال يمكنلسلوك غير قويم -مثل غسيل الأموال أو المعاملات المالية الزائفة- أن يتعطل نمو الاقتصاد العالمي؛ ففي الظرف التاريخي الحالي نعيش تشابكا وثيقا؛ إذ يمكن لأفعال وممارسات صادرة عن جماعات أو دول -ضمن نطاق داخلي- أن يكون لها تأثير على نطاق كوني.
لا تُملي تلك الحاجة التخلي عن التعاليم الخلقية المحلية المعمول بها على نطاق ضيق فحسب؛ وإنما ضرورة ربطها بشبكة موسّعة على نطاق عالمي، فليست الأخلاق العالمية أيديولوجيا اختزالية للقيم ولا ديانة جامعة؛ بل هي وفاق ضروري حول تعاليم أساسية من أجل عيش آمن فوق البسيطة.