محمد الناصري
(مكة قبل الهجرة، الحبشة، المدينة، مكة بعد الفتح)
نسعى من خلال هذه المقالة إلى تحليل بعض الجوانب المبكرة من تطور حياة المسلمين في ضوء مفاهيم الدعوة والبلاغ والجماعة والأمة، وتهتم هذه المقالة بصورة أولية بدعوة الإسلام، وكيف عملتجماعة المسلمين في العهد النبوي على تبليغها ونشرها؟.
لقد عالج العديد من الكُتاب مسألة ظهور الإسلام من منطلق انتشاري لذا حلَّل توري "الأسس اليهودية للإسلام" ، وعالج بيل "أصل الإسلام في بيئته النصرانية" وناقش هيرشبيرغ وجود التعاليم اليهودية والنصرانية في الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر الإسلام، وأعاد كل من جريم ونيلسون وفيلبي العناصر الإسلامية إلى أصولها في جنوب الجزيرة العربية بوصفها المصدر الرئيس لانتشارها، كما ضمن كروبر الإسلام في النموذج التوحيدي الإقصائي الذي يقول بتمييز اليهودية والنصرانية والإسلام مدللا على مفهومه عن النماذج النسقية للانتشار.لقد هدفت أعمال هؤلاء إلى فهم اشتقاق بعض العناصر الثقافية التي استخدمها الإسلام أو الإشارة إلى وجود عناصر مشابهة من تقاليد أخرى تطورت داخل المنطقة العامة نفسها(1)
كما نجد مناقشات حول حدود جغرافية الانتشار الإسلامي بسطها لنا الدكتور رضوان السيد في معرض مناقشته لآراء الباحثة الإيطالية بيانكا والتي ربطت بين الانتشار الإسلامي والخصوصية الجغرافية.
يقول رضوان: إن الباحثة الايطالية بيانكا ماريا سكارسياأموريتي قد أفضى بها التسرع إلى بعض النقائض، حينما تبحث الجغرافية للإسلام بوصفها جزءا من خصوصيته، صحيح أن الإسلام توقف عند حدود جغرافية معينة، ولكن ذلك لايعود إلى طابعه الإيديولوجي الذي يقصره على مناطق معينة ذات مناخ معين كما يقول بلانويل؛ بل لأن الطاقات البشرية المحدودة للجماعة التي حملته، والظروف السياسية والاجتماعية للشعوب والأمم الأخرى التي واجهته حصرته (لم تحاصره) في البقاع الأكثر اعتدالا في إفريقيا والشرقين الأدنى والأوسط...على حفافي الصحاري وفي محيطها.. وإلا فكيف نفسر انتشاره وتوسعه في بقاع حارة الطقس والمناخ مثل إفريقيا السوداء وأندونيسيا والهند".
وقد احتج رضوان بطاقة الحامل البشري المحدودة التي لم تمكن الإسلام من الانتشار خارج هذه الحدود الجغرافية،في حين احتجت الباحثة بيانكا بالطابع الأيديولوجي المتسق مع هذه الجغرافية(2).
ثم يورد رضوان النصوص المتعلقة بالدكتور جمال حمدان حول هذا الموضوع "يترامى الإسلام حتى خط الاستواء عبر بيئات طبيعية شديدة التفاوت، من الغابة الاستوائية إلى المدارية، ومن السافانا الإفريقية إلى الاستبس الآسيوي، ومن أدغال الهند "الإسلام الموسمي" إلى الفلد الإفريقي، فهو إذاً يتوزع في المناطق الحارة والمعتدلة والباردة على السواء. كما ينتشر في الصحاري الجافة والأعشاب المطيرة، والغابات الكثيفة بلا استثناء. وبالمثل نجد الإسلام البحري على السواحل كما نجده في صميم القارات من الداخل،بل إن السواد الأعظم من المسلمين أقرب إلى التركز على القطاعات الساحلية والبحرية.
المهم أن رضوان السيد قد أوضح لنا خلافات بين رأيين، رأي يحاول التشديد على التشابه في بيئات العالم الإسلامي الجغرافية ليصل من وراء ذلك إلى تحديد سمات للإسلام وشخصية المسلم عن طريق البيئة والجغرافية "كرافييه دي بلانول"، ورأي يشدد على التنوع الجغرافي توصلا لنفي وحدة الإسلام الحضارية، ومن ثم نفي إمكان جامعته أو وحدته السياسية "جمال حمدان- ولفريد كانتويل- سميت" في حين أكدت بيانكا مايا سكارسيا أن الانتشار يعزى لتوق المسلمين لتحقيق إرادة الله في العالم عن طريق الدعوة والجهاد(3).
على أن ما سنؤكد عليه هنا مختلف تماما نوعا ما، فنحن مهتمون بصورة أساسية بدعوة الإسلام والطريقة التي قد اعتمدتها الجماعة المسلمة في تبليغ هذه الدعوة ونشرها، وكيف أن أنساق علاقة الجماعة المسلمة بغيرها في العهد النبوي وفي سعيها لتبليغ هذه الدعوةلم تتغيربتغير ظروف جماعة المسلمين وأحوالها(4)؟.
ونتبين مصداقية هذا الاتجاه ببحث الصور الأربع لحياة المسلمين في العهد النبوي (مكة قبل الهجرة، الحبشة، المدينة، مكة بعد الفتح)، وكيف أن دعوة الإسلام خلال هذه الصور جاءت منسجمة والمبادئ العامة والقواعد الكلية الحاكمة لعلاقة الجماعة المسلمة بغيرهامن الجماعات والدول التي لا تدين بالإسلام، والتي تتحصل حسبما تشير إليه آيات القرآن في مبدأ التوحيد وما يفترضه من نبذ التجزئة والصراع، وما يقتضيه من إيمان واعتراف بالديانات السابقة للإسلام، مما يقوي فرص السلام ويدعمها. ومبدأ العالمية وما يقتضيه من دعوة بالتي هي أحسن، وحوار بناء وانفتاح على الآخر، مما يدعم علاقات التعاون والتعايش السلمي بين الشعوب والأمم... ومبادئ المساواة والعدل والحرية بوصفها الشروط الأساسية والضمانات الحقيقية لقيام السلم والسلام بين الأفراد والجماعات والأمم.
الصورة الأولى: مكة قبل الهجرة
مكنت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والتي بدأت سرية محلية(5) من دخول الناس في الإسلام أرسالاً من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم نزل قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(6)
وقد أسهمت هذه الدعوة في تشكيل النواة الأولى للجماعة المسلمة، البلورة الأولية للأمة الشاملة والتعبير القانوني والمستجد عن تأسيس الدعوة، وظهور ركيزتها التي تعطي الأمل بإمكان التحقق الشامل لآخر الأمم(7).
وفي سبيل تأسيس جماعتهم الأولىتعرض المسلمون لمختلف أشكال الإيذاء والتعذيب والاضطهاد؛ فقد لاقىالرسول صلى الله عليه وسلم من الفئة الحاكمة في قريش أنواعا كثيرة من الإيذاء؛ من سب وشتم وتسفيه وضربوسخرية وتحقير واستهزاء وتكذيب ومحاولة قتل. وأما أصحابه فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب حتى مات منهم من مات تحت العذاب، يضاف إلى ذلك الحصار الاقتصادي لمدة ثلاث سنين وما تبع ذلك من تجويع حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر. ويطول البحث لو ذهبنا نسرد نماذج من العذاب الذي لاقاه كل منهم، ولكنا ننقل هنا ما روي عن خباب بن الأرث أنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت يا رسول الله: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمّر الوجه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله"(8)
السؤال الذي يطرح: كيف واجهت الجماعة المسلمة هذا الإيذاء والتعذيب؟. بتأمل المسرح المكي الذي بدأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام، يتضح أن الأسلوب التي واجهت به الجماعة المسلمة ذلك الصراع هو أسلوب الصبر والمقاومة السلمية،والإصرار على عدم اللجوء إلى الرد بالعنف، مهما تعرض المسلمون للأذى والعدوان من قبل الصفوة الحاكمة القرشية التي بلغ أمرها في أذى المسلمين حد الحصار والتعذيب والقتل.
لم يتغير موقف الجماعة المسلمة في مكة في عدم اللجوء إلى العنف رداً على عدوان قريش على المسلمين على الرغم من إسلام رجال محاربين وشجعان؛ أمثال حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب وانضمامهم إلى صفوف المسلمين، والذين أرادوا تحدي قريش وطالبوا الرسول بالسماح لهم بالرد على العدوان ومواجهة العنف، بالعنف، بل تم اللجوء إلى أساليب ووسائل سلمية في مواجهة كل ذلك، كالاستفادة من قوانين المجتمع المشرك في الحماية والجوار،حيث كان المجتمع يقيم وزناً كبيراً لهذا القانون وهو حماية القوي الضعيف،وكذا التوجه إلى المحافل العامة والتواجد في الكعبة والاتصال بأولئك الوافدين على مكة ودعوتهم إلى الإسلام،فكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية،واللتيان مثلتا أساس انبثاق الأمة التي ستصنع دولتها في المدينة المنورة، إذ يمكن عدّ ما أقرته هاتان البيعتان من بنود المبادئ التأسيسية لتشكل الأمة، كما استفادت الجماعة المسلمة الأولى من العناصر المشتركة بين الإسلام واليهودية والنصرانية، خاصة وأن بقايا النصارى الموجودين في مكة قد شهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وبذلك شعر أهل مكة على الأقل أن اليهود والنصارى و جماعة محمد صلى الله عليه وسلم في معسكر واحد(9).
لقد كان حرص الجماعة المسلمة في بداية دعوتها كبيراًعلى الاستفادة من الوسائل السلمية وعدم الاصطدام المباشر مع أهل مكة، وإن اقتضى الأمر البحث عن مكان آمن للدعوة عن طريق الهجرة.
من خلال هذه الصورة، ومن خلال الـتأمل في الواقع المكي الذي بدأت فيه الجماعة المسلمة دعوتها إلى الإسلام، والتأمل في أبعاد هذه الدعوة عقديا وسياسياً؛ يتضح أن أسلوب الجماعة المسلمة في مواجهتها للصراع الناجم عن الجهر بالدعوة الإسلامية - التي تهدف إلى أعمق ألوان الإصلاح والتغيير الاجتماعي- كان هو أسلوب الصبر والمقاومة السلمية داخل مجتمع مكة. فهل سيتغير هذا الأسلوب في الصور الكبرى الأخرى؟.
الصورة الثانية: الهجرة إلى الحبشة
لم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محمل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن وذلك في موضع واحد فقط في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} (10) فالهجرة هي خروج في سبيل الله وسعي لتحقيق رسالته في وحدة العبودية ورفعة قيم الدين.
من هنا يصبح المهاجر مرادفا للمجاهد،تصديقا للحديث النبوي: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي، وإيمان بي وتصديق برسلي، فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.والذي نفس محمد بيده، ما من كَلْم(أي جرح)يُكْلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلْم،لَوْنُه لَوْنُ دم وريحه ريح مسك"(11)
إن وصل الهجرة بالجهاد يتنزل ضمن فلسفة الإسلام لمسؤولية الإنسان الكونية في الشهادة على الناس جميعا وحمل أمانة القيم وخلافة النبوة في الأرض.فالهجرة أصل في تحقيق غائية وجود الإنسان وتنزيل الدين.وقد يهاجر المرء مستضعفا، ولكن لا يهاجر ضعيفا؛ لأن قرار الهجرة من سنن الله العظيمة التي تشترط قوة في الإرادة وثباتا في المبدأ.ولقد مثلت الهجرة دائما نقطة تحول في تاريخ البشرية، ولحظة حاسمة في رقي الحضارات أو سقوطها.فهجرة الأنبياء كانت السبيل لنشر رسالتهم وإنقاذ أتباعها من قهر المتجبرين وتأسيس قوائمها على أسس من العمران الآمن،بمثل ما ألت إليه هجرة سيدنا إبراهيم مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل من بناء مجتمع مكة الذي كان له شأن كبير في تاريخ الإسلام لاحقا، أو هجرة العصبة من مستضعفي المسلمين الأوائل بمكة للحبشة التي قادت إلى كسب أول نصرة خارجية رسمية لرسالة الإسلام(12).شكلت هجرة الحبشة أول هجرة في الإسلام. وكان في مقدمة المهاجرين:عثمان بن عفان وزوجته،رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف... حتى اجتمع في أرض الحبشة من أصحابه صلى الله عليه وسلم بضعة وثمانون رجلا.
لم تسلم الجماعة المسلمة المهاجرة من متابعة قريش، حيث أرسلت إلى النجاشي بهدايا مختلفة كثيرة إليه وإلى حاشيته وبطارقته، رجاء أن يرفض قبول هؤلاء المسلمين في جواره ويسلمهم مرة أخرى إلى أعدائهم.
فلما كلموا النجاشي في ذلك-وكانوا قد كلموا من قبله بطارقته وقدموا إليهم ما جاءوا به من الهدايا- رفض النجاشي أن يسلم أحدا من المسلمين إليهم حتى يكلمهم في شأن دينهم الجديد هذا.فجيء بهم إليه،ورسولا قريش عنده،فقال لهم: "ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل؟".
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال:أيها الملك:كنا قوما أهل جاهلية،نعبد الأصنام،ونأكل الميتة،ونأتي الفواحش،ونقطع الأرحام،ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف،فكنا إلى ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه،فدعانا على الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش ..فصدقناه وأمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله،فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان..فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا،خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك".
فسأله النجاشي أن يتلو عليه شيئا مما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله؛فقرأ عليه جعفر صدراً من سورة مريم،فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته، ثم قال لهم:"إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.ثم التفت إلى رسولي قريش قائلا: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون".
ثم إنهما عادا فقالا للنجاشي:أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،يقول: "هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول".
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منه عودا،ثم قال:والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود". ثم رد إليهما هداياهما، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به،وعاد الرسل إلى قريش خائبين(13).
إن الواضح من خلال هذه الوثيقة -والتي كان حرصنا كبيرا على إيرادها رغم طولها-أن الجماعة المسلمة قد اتخذت من الحوار أسلوباً سلمياً لإقناع النجاشي بصدق دعوتهم وإفشال مساعي رسل قريش في ردهم إلى مكة والنيل منهم. لقد استطاع المسلمون بالحبشة-عن طريق الحوار- أن يقدموا صورة فريدة عن الدعوة التي يحملونها من خلال التركيز عن نقاط الالتقاء والقواسم المشتركة بين الإسلام والنصرانية.
كانت الجماعة المسلمة بالحبشة مقتنعة بأهمية الحوار في الدعوة، وكذا في كل قضايا الخلاف بينهم وبين أعدائهم، ففي القرآن تأكيد على هذا المبدأ بطرق عديدة إذ عرض القرآن لحوار الله مع خلقه بواسطة الرسل، وكذا مع الملائكة ومع إبليس، مع أن دعوات الرسل كلها كانت محكومة بالحوار مع أقوامهم، وقد أطال القرآن في عرض كثير من إحداثيات هذه الحوارات بين الرسل وأقوامهم ولم يشجب القرآن في هذا الباب موقفا كما شجب موقف رفض الحوار والإصرار على عدم ممارسته: (14) ومن ثم تكون دعوة القرآن إلى الحوار وضبط أصوله وقواعده أصلا من أصول الدعوة في الإسلام، ومن خلالها يظهر المسلم مكلفا بأن يتعامل مع خصومه بمنهج هادئ رصين بعيد عن كل أنواع التوتر، مع الاعتراف بالآخر والتواصل معه عبر جسور الحوار(15). من هذا المنطلق فالحديث عن الحوار في الإطار الإسلامي هو حديث عن توجه حضاري عام في بنية الإسلام وتصوراته الكونية العامة(|16). وهذا ما عملت به الجماعة المسلمة بالحبشة إذ اتخذت الحوار وسيلة من الوسائل المهمة في التعريف بالإسلام ونشر دعوته.
الصورة الثالثة: الهجرة إلى المدينة.
حين استقر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، بدأ ببناء جماعة المسلمين أملا في تحقيق أمة الشهادة على العالمين.ولكي يتماسك البناء الاجتماعي والسياسي، وينتقل الناس من الفكر القبلي إلى فكر الجماعة، استبدل العلاقات القبلية بالعلاقات الإنسانية والعقدية والقانونية، وأقام مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ففي سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق: "وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال: تآخوا أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي..فقال: هذا أخي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي أخوين. وكان حمزة وزيد بن حارثة مولى رسول الله أخوين..."(17) وبهذه المؤاخاة أزال رسول الله الخلاف والأحقاد التي كانت بين قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة.
ثم خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوات سياسية أخرى في منهاج الدعوة الإسلامية، وخطوات في بناء الأمة الإسلامية، وهي كتابة وثيقة السلام، التي تبنت المبادئ التي تحل بها المشاكل والنزاعات بطريقة سلمية، إنها وثيقة المدينة. وهي تلك الصحيفة أو الدستور –كما يسميه بعضهم- الذي أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب هجرته إلى المدينة المنورة (يثرب)؛ لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات المجتمع المديني من مهاجرين وأنصار (أوس وخزرج) ويهود، ووثنين. فما الذي تضمنته هذه الوثيقة بخصوص اليهود؟ وكيف رسمت حدود العلاقة بينهم وبين جماعة المسلمين؟ وإلى أي مدى تتوافق بنودها مع ما ذكرناه من مبادئ وقيم قرآنية بوصفهاأصولاً مؤسسة لعلاقة الجماعة المسلمة بغيرها؟.
مما ذكرته الوثيقة بين المسلمين واليهود: " أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين ... وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وألا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ... وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم ... وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن، بالمدينة إلا من ظلم، وأثم، وأن الله جارٌ لمن برَّ واتقى ومحمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم"(18).
من خلال هذه البنود يتبن أن الوثيقةمثلت شكلا متقدما من أشكال المدنية وأنماط التعايش القائم على التعددية والتنوع في إطار من المساواة والعدالة وحق المواطنة الكاملة لأهل الطوائف غير الإسلامية الذين يعيشون في إطار المجتمع الإسلامي دون أي نوع من التمييز.
لقد نصت صحيفة المدينة على ذلك؛ إذ أقرت أن المسلمين وغيرهم من أهل المدينة يشكلون "أمة واحدة". وفي إطار هذه الأمة الواحدة، لكل طائفة حرية الاعتقاد، وحق الملكية، وحق الحماية وواجب الدفاع المشترك، وحق المراقبة، والمساءلة وإبداء الرأي، والتعددية، والمساواة، والإدارة السلمية للاختلافات، وهي قيم ذات دلالات وأبعاد حضارية، لا تتعارض مع الانتماء إلى أمة واحدة أو مجتمع مدني واحد. حيث لم يضع الإسلام الدين أساساً للانتماء، بل جعل الأساس هو الالتزام بشروط العقد الاجتماعي، ولعل أهمها عنصر، "تحقيق الأمن".
ونلحق بهذه الوثيقة العهود التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم لعدد من التجمعات اليهودية في شمال شبه الجزيرة العربية، بعد غزوة خيبر والسنين التي تلتها، ومنها:
أمان ليهود بني عاديا من تيماء
إذ كتب صلى الله عليه وسلم عهد أمان ليهود بني عاديا من تيماء جاء فيه "بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لبني عاديا : إن لهم الذمة وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد"(19)
أمان ليهود أيلة
كما كتب صلى الله عليه وسلم عهد أمان مع يهود أيلة جاء فيه "هذه أَمَنَةٌ من الله ومحمدٍ النبيِ رسول لِيُحَنَّهَ بن رُؤْبة وأهل أَيْلَة، سفُنهم وسيارتُهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يَحُولُ ماله دون نفسه، وإنه طَيِّبٌ لمن أَخَذَهُ من الناس، وأنه لا يحل أن يُمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر"(20)
معاهدته صلى الله عليه وسلم مع أهل مقنا
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا إلى بني جنبة وإلى أهل مقنا جاء فيه "أما بعد. فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون، لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسوله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم، وإن لكم ذمة الله وذمة رسوله، لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جار لكم مما منع منه نفسه ... وإن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخلكم، ...، وربع ما اغتزل نساؤكم، وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم، فإن على رسول الله أن يكرم كريمكم، ويعفو عن مسيئكم، أما بعد فإلى المؤمنين والمسلمين: من أطلع أهل مقنا بخير فهو خير له، ومن أطلعهم بشر فهو شر له. وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله"(21)
معاهدته صلى الله عليه وسلم مع أهل جرباء وأذرح
وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل جرباء وأَذْرُحَ من اليهود "إنهم آمنون بآمان الله، ومحمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خَشَوْا على المسلمين، وهم آمنوا حتى يُحْدِثَ إليهم محمد قبل خروجه"(22).
هذه بعض العهود التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود وهي تؤكد جميعها على أمانهم وتمتعهم بعدل الإسلام وسماحته في مقابل جزية محددة يدفعونها إلى المسلمين.
وإذا علمنا أن هذه العهود كلها كتبت بعد غزوة خيبر التي وقعت في السنة السابعة للهجرة(23) أمكننا القول: إن الاعتراف بالآخر واحترام خصوصياته العقدية والسياسية والاقتصادية ... مسألة مبدأ في الإسلام، إنه موقف ثابت لا يتغير بتغير أحوال الأمة الإسلامية وأوضاعها المادية، فموقف الإسلام والمسلمين من الآخر المخالف دينياً واحد، في حالة قوة المسلمين وتمكنهم أو في حالة ضعفهم ووهنهم، وهذا ما تزكيه العهود السابقة الذكر والتي جاء التنصيص عليها في زمن قوة الجماعة الإسلامية إذ رغم ذلك حفظت لغير المسلمين حقوقهم الإنسانية كاملة غير منقوصة.
ولأن الإسلام دعوة شاملة، والعالم كله وليس يثرب فقط هو مجال تحققه،لم تتوقف الجماعة المسلمة في التعامل مع الآخر النقيض دينيا عند حد اليهود فحسب، إنما امتدت دعوتها لتشمل النصارى، مما يوضح البعد الشامل الذي أعطاه الإسلام لإستراتيجية التعايش السلمي والاعتراف بالآخر.
وفي هذا السياق يأتي ذلك العهد الذي أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران حين قدومهم عليه عقب غزوة تبوك عام تسعة للهجرةـ(24). والذي بفضله تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من استيعاب كل النصارى – نصارى نجران وكل المتدينين بالنصرانية- في صلب الأمة الواحدة.
وقد جاء العهد(25) متضمنا "لنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وبيعهم، ورهبانيتهم، وأساقفهم، وشاهدهم، وغائبهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. على ألا يغير أسقفٌ من أُسْقُفِيّتهِ، ولا راهب من رهبانيته، و على ألا يحشروا، ولا يعشروا، ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فالنصف بينهم بنجران.
وعليهم الجهد والنصح فيما استقبلوا، غير مظلومين ولا معنوف عليهم"(26).
إن هذه المقتطفات الواردة هنا وهي قليل من كثير في العهد تظهر بما لايدع مجالا للشك أن نصوصه جاءت ضامنة لنصارى نجران من الحقوق ما يحفظ إنسانيتهم ويصون كرامتهم، وينشر الأمن والسلام بين الناس، إذ نص على:
احترام حرية الاعتقاد وتحقيق العدل والمساواة، إذ نقرأ في العهد أنه: "لا يجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام"(27) وبقدر اهتمام الميثاق بالقيم ذات الطابع السياسي (الحرية، العدل، المساواة..) بقدر اهتمامه بالقيم والأخلاق الاجتماعية، إذ نص العهد على ضرورة التكافل الاجتماعي والتعاون على الخير بين المسلمين والنصارى، حتى يكونوا يدا واحدة على من عاداهم، إذ جعل الميثاق من واجبات الطرفين التعاون في الدفاع المشترك عن حرمات الطرفين، والتعاون في وفاء الدين على الغارمين من الفريقين. حيث نقرأ أنه: " إن أجرم أحد من النصارى أو جني جناية، فعلى المسلمين نصره، والمنع والذب عنه، والغرم عن جريرته، والدخول في الصلح بينه وبين مَنٌّ جني عليه، فإما من عليه، أو يفادى به، ولا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملا"(28).
كما ألزم الميثاق المسلمين بتقديم يد العون والمساعدة للنصارى، وإن تعلق الأمر بإصلاح وترميم كنائسهم، إذ ينص العهد أنه "لهم إن احتاجوا في مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد(29) من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يرفدوا على ذلك ويعانوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم"(30) .
لم يتوقف التوجيه القرآني للجماعة المسلمة في التعامل مع الآخر النقيض دينيا عند حد أهل الديانات فحسب، إنما امتد ليشمل المشركين المسالمين للجماعة المسلمة؛ كما هو الشأن في صلح الحديبية، ذلك العهد الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي قريش عام 6هـ(31). حيث عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيه منتهى التساهل عن قوة وعز، لا عن ضعف وذلة، ولكن حباً بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة(32).
كما لم يقتصر الأمر في معاهدة المشركين على كفار قريش، بل تعداهم ليشمل غيرهم من القبائل العربية، وفي هذا السياق تأتي معاهدته صلى الله عليه وسلم مع قبيلة بني ضمرة(33)، وقد عقد صلى الله عليه وسلم معاهدة مماثلة مع بني غفار(34).
نستطيع أن نؤكد أن علاقة جماعة المسلمين بغيرهم خلال الصورة الثالثة من صور حياة المسلمين في العهد النبوي، هي بدورها يطبعها التعايش السلمي مع المخالف دينيا، علاقة قائمة على أخلاق الإسلام الإنسانية الموجهة والمسددة بأصول الوحي المنزل.
الصورة الرابعة: مكة بعد الفتح
عند فتح مكة كانت الجماعة المسلمة على أرض الجزيرة قد تحققت تقريبا. ولأن الجماعة المسلمة ليست جماعة منغلقة لما في سعيها نحو الدعوة الموجهة إلى الناس جميعا بوصفها مشروعا تغييريا حضاريا وإنسانيا، والتي تمتد في سياق رؤية الإسلام التغييرية الإصلاحية بامتداد الوجود الإنساني في الحاضر والمستقبل على المستويين الحضاري والجغرافي. ولأن فكرة العالمية في التصور الإسلامي تشيع فيه منذ بداياته، وفي كل جوانبه سواء منها جوانبه العقيدية أو الشرعية أو رؤيته الكلية للكون والإنسان والحياة. ما كانت فكرة الأمة القائمة على الدعوة لتقف عند هذا الحد، فنزول القـرآن المجــيد بلغة العــرب على رسول منهـم يعيش في بلـدتهم المحرمة "أم القرى-مكة، "لم يحل بين العربي وبــين إدراك عــالمية هذه الرسـالة وعمومها وشمولها "(35). ف"قد جعل الله عالمية الخطاب أساسا لخروج العربي، (36) وتربط الآية بين هذه العالمية وملك الله للسموات و الأرض، فهي عالمية وكونية بذات الوقت، (37)"(38). كما أن ذلك لم يحل دون إدراك "العربي" لمهمته في أن يكون حاملا لهذه الرسالة إلى جميع أرجاء المعمورة، وتنتقل هذه المهمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته، التي ينبغي أن تكون الأمة القطب(39) المخرجة إلى الناس؛ لاستقطابهم حول الهدى والحق وسائر القيم التي اشتملت هذه الرسالة عليها"(40).
وهذا ما تدل عليه مبادرة النبي صلى الله عليه وسلمقبل فتح مكة، بإرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء على أطراف الجزيرة.فكان من بين الذين أرسل إليهم النجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وكسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، كما بعث صلى الله عليه وسلم بكتب أخرى إلى كثير من الأمراء العرب المتفرقين في مختلف المناطق، فأسلم منهم الكثير، وعاند بعضهم(41)
لقد مثلت هذه الرسائل منعطفاً كبيراً في تاريخ الإسلام والجماعة المسلمة، حيث ربطت المسلمين بالعالم كله؛ ولكي نفهم حقيقة هذه المبادرة ونضعها في موقعها الصحيح، ينبغي أن تفهم بالنظر للخصائص الذاتية للجماعة المسلمة المتمثلة في كونها أمة الخروج والشهادة والعالمية والخيرية. إن الناظر لهذه الخصائص الكثيرة للأمة المسلمة سيدرك بوضوح توجهها العام، والصبغة الأساسية التي تطبع رؤيتها للكون والوجود والإنسان، وهي أنها أمة منفتحة على الآخر، مهيأة بحكم خصائصها لكي تكون عامل تعاون وتفاعل وتعارف بين مختلف الأمم والشعوب في إطار عالمية الدعوة الإسلامية.
و"حين نقول بعالمية دعوة الإسلام؛ فإننا نستجيب لنوع من العالمية الاختيارية التي تقوم على إنسانية التوجه وليس على قهريته، وهذا هو عين الشرط الإنساني الاختياري الذي عمقه القرآن الكريم بمفهوم النبي الأمي والرسالة إلى الناس كافة، وهذا هو الأساس الحضاري الذي حاول الإسلام تكريسه في ظل عالمية الأميين حين دمج بين حضارات الشعوب القديمة وثقافاتها، كما طرح نفسه وعاء تاريخيا لكافة الديانات السماوية ودمج بين الأعراق والسلالات"(42)
في هذه اللحظة؛لابدأن نتساءل عن أوقات توظيف الجماعة المسلمة للقتال في مواجهة المخالفين للدعوة؟ وهل صحيح وظفت الجماعة المسلمة القتال لإخضاع المشركين من العرب الوثنيين في بداية أمرها؟ وأنه لم يمض وقت حتى جرى التخلي عن هذا التعليل لصالح تعليل آخر أكثر صراحة وتوافقا مع سياق مفهوم الأمة الشاملة المتحققة بعد فتح مكة وهو مقاتلة المشركين "حتى لا تكون فتنة" و"يكون الدين كله لله"؟ وأن القتال سنة من سنن الكون لتحقيق إرادة الله في الأرض في وجه الطغاة والمستكبرين والعالين؟ وأنه على الجماعة المسلمة أن تختار بين مسالمة خصومها وانكماشها بل فنائها أو القتال فالامتداد والفتح واستشراف آفاق الأمة، أمة آخر النبيين(43). هل صحيح أن ما أكدنا عليه من حرص الجماعة المسلمة على المواقف السلمية في علاقتها بغيرها من الأمم التي لا تدين بالإسلام قد نسخت بآيات القتال الداعية إلى إعمال السيف في مواجهة الأعداء؟.
يسعفنا في الإجابة عن هذه الإشكالاتالحديث عن الغاية من تشريع "القتال" في الإسلام، من الغايات التي ذكرت في القرآن الكريم للقتال:
- الدفاع عن المسلمين، ورد الاعتداءات والظلم الذي يلحق بهم (44).
- نصرة المظلوم فردا وجماعة (45)
- منع الفساد في الأرض (46)
- الحرص على تطبيق بنود المعاهدات السلمية ومنع نقضها أو الإخلال بشرائطها أو تأليب الأعداء على المسلمين)47)
لقد جاءت آيات القتال في القرآن الكريم في كثير من السور المكية والمدنية مبينة السبب الذي من أجله أذن في القتال وهو يرجع إما إلى دفع الظلم، أو قطع الفتنة، أو حماية الدعوة الإسلامية، أو منع الفساد في الأرض، أو الحرص على تطبيق بنود المعاهدات السلمية ومنع نقضها، كما بينا.
وبناء عليهفعدّ "الجهاد" مبادأة للناس بالقتال، وأسلوبا لفرض الإسلام بالقوة والإكراه غير صحيح البتة. الجهاد في الإسلام حماية للدعوة والدعاة عندما تفرض الظروف تحديات على المسلمين، ومعلوم من الدين بالضرورة أن الدعوة تتحقق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تتحقق بشيء غيره. لا نجد في القرآن الكريم ما يؤيد عدّ القتال ابتداء، وعدهّ وسيلة من وسائل إجبار الناس على الإسلام، بل كل ما هناك-كما بينا-أن القتال خيار أخير لحماية الدعوة من كل التحديات التي تواجهها. فالقتال وسيلة للحماية وللدفاع وليس هدفا بحد ذاته.
ونجد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد القول ويدعمه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره بقتل كل كافر لكان يبتدئهم بالقتال.
والأدلة التاريخية تشهد أن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت دفاعية؛ فغزوة بدر -وهي أولى المعارك- لم يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلمفيها بقتال، بل تعرض لقافلة قريش التجارية؛ لاسترداد حقوق مالية من أهل مكة، فقد استولى زعماء مكة على أموال المهاجرين وصادروها، وحين علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخروج قافلة مكة التجارية إلى الشام بقيادة أبي سفيان؛ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض القافلة، والاستيلاء عليها، غير أن القافلة تمكنت من الإفلات. فجمعت قريش جيشها وقامت بالهجوم على المسلمين، وكانت المعركة عند ماء بدر قرب المدينة المنورة، في السنة الثانية للهجرة، في السابع عشر من رمضان المبارك، فنصر الله المسلمين وهزمت قريش شر هزيمة.
ومثلها معركة أحد، فقد كان مشركو مكة هم المهاجمين، وكان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعيا؛ إذ جمع المشركون ثلاثة آلاف مقاتل واتجهوا من مكة إلى المدينة للقضاء على الرسول والدعوة والدولة هناك، فتصدى لهم المسلمون على مقربة من المدينة فوقعت المعركة.
وأما معارك الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود فلم يبدأ بقتال حتى نقضوا العهود والمواثيق، واعتدوا على حرمة إحدى النساء المسلمات وقتلوا أحد المسلمين عندما دافع عنها ،ثم تحول إلى معركة محلية في سوق بني قينقاع، بين المسلمين واليهود، مما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محاربتهم ..
ومثلها معركة الأحزاب، فقد كانت معركة دفاعية، إذ هاجمت قريش وحلفاؤها المسلمين في المدينة المنورة. وتؤكد الوثائق التاريخية أن غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهود بني النضير لم تقع إلا بعد نقضهم للعهد وتآمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتله بإلقاء صخرة عليه من أعلى سطح منزل من منازلهم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا بجواره، حين ذهب إلى قريتهم يطلب منهم المشاركة في أداء دية لقتيل حسب الاتفاق معهم، مما دعا إلى مقاتلتهم.
أما غزوة مؤتة فسببها أن ملك في بلاد الروم كان قد قتل المبعوث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، سنة ثمان من الهجرة ليدعوهم إلى الإسلام، وينقل إليهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كشفوا عن موقفهم الحربي والعدواني من الدعوة والدولة الإسلامية، مما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يغزوهم ليرد عليهم عدوانهم، ويشعرهم بقوة الدولة والدعوة كعملية دفاع وردع.
وأما غزوة هوازن وثقيف، فإن هاتين القبيلتين كانوا قد أعدوا العدة معا للهجوم على المسلمين، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجوم عليهم دفاعا عن الإسلام والأمة والدعوة، ومثلها غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة لبلاد الروم ؛ ذلك أن رسول الله بلغته معلومات وأنباء عن تهيؤ الروم لغزو المدينة،والقضاء على الدعوة الإسلامية، مما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوهم كمبادرة دفاعية ،وعمل وقائي. وقد انتهى الموقف بعد وصول جيش المسلمين إلى تبوك من أرض الشام بالصلح.(48)
يتبين من خلال تتبعنا هذا لغزوات النبي صلى الله عليه وسلمأن الأمر بالقتال أمر دفاعي، وأن السبب الذي كان يحرك رسول الله في جميع غزواته هو الدفاع، ومواجهة الظلم والطاغوت ونصرة الحق والمستضعفين، ولم يشرع القتال للانتقام والتسلط والعدوان.وهو ما ينسجم مع آخر ما عهد به رسول الله إلى جماعة المسلمين في خطبة حجة الوداع أو حجة البلاغ، الخطبة التي ألقاها رسول الله لوداع جماعة المسلمين؛ إذ وخاطبهم قبل الخاتمة قائلا: "إن الله بعثني رحمة وكافة فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا علي "(49). إن ميزان الرحمة هو منهج الإسلام في معاملته مع الشعوب الأخرى، وقد حصرت دعوة النبي بأنها الرحمة الشاملة (50) والرحمة تقتضي البناء لا الهدم، واحترام حق الحياة لا القتل أو الموت،والإحسان لا الإساءةوإشاعة المحبة لا الكراهية والبغضاء،والإصلاح لا الفساد، ومعاملة الآخرين بالعدل والقسط لا الظلم، والحرص على استقرار الأمن والسلام لا التخويف والإرهاب وشن الحروب(51).
لقد كان على جماعة حجة الوداع الذين سمعوا كلمات نبيهم الأخيرة أن يحملوا الرحمة إلى العالم "كافة" . وأن يحرصوا على الوحدة في التبليغ وعدم الاختلاف(52).
على سبيل الختم:
إن الواقع التاريخي قد رسخ في أذهان الناس الوسائل التي اتبعت في عمليات الانتشار الإسلامي الأولى وهي الفتح، واستقر في الأذهان أن على الأمة المسلمة أن تقيم دولة، لتتولى هذه الدولة مهام دولة المدينة في العالم المعاصر، وتكون قاعدة الانطلاق نحو العالم لإخضاعه للخليفة المسلم الواحد الذي عليه أن يقتل دار الحرب بدار الإسلام حتى ظهور المهدي ونزول عيسى الذي ستتم على طريقه أسلمة العالم كله؟ كما استقر في الأذهان أن المسلمين في حاجة إلى التعبئة الدائمة والمستمرة لتحقيق هذا الحلم بناء دولة التمكين والانطلاق. وقد بقي الخطاب الإسلامي المعاصر حبيس هذه الأمنية محاطا بتأثير التصورات المختلفة لما يعدّ من عوامل أو أسباب أو وسائل تحقيقها، وبقيت العقول المسلمة والأنظار معلقة بالواقع التاريخي فقط غير ملتفتة إلى الواقع المعاصر أو المستقبل باحثة عن وسائل تحقيق أُمّ الأماني: بناء الدولة والوصول إلى الحكم، فلم يزدها ذلك إلا بعدا عن تحقيق أهدافها في استئناف حياة إسلامية[1]. وفي اعتقادنا؛ إن تناول الصور الأربع لحياة المسلمين في العهد النبوي بالدراسة والتحليل والاستنطاق ومحاولة الفهم يمكّن من تجاوز كل هذه الآفات الفكرية خطيرة العواقب والآثار.
.......
المصادر:
(1) إريك وولف، التنظيم الاجتماعي في مكة وأصول الإسلام، منشور ضمن كتاب، أنتربولوجيا الإسلام، إعداد، أبو بكر أحمد باقادر، دار الهادي، بيروت، ط، الأولى، 2005م، ص، 199.
-رضوان السيد، قضايا الإسلام المعاصر والمستقبل، صحيفة الخليج الشارقة عدد 2444،تاريخ 27-12-1985م.[1]
(2) لأبي القاسم حاج حمد رأيمغاير لكل ما أشرنا إليه، إذ يقول: " يوفر القرآن على هؤلاء الباحثين جهداً كبيراً لو اكتشفوا فيه مقولة "الأميين"، التي تعطي حدود هذا الانتشار بعدا غير جغرافي أو بيئي بالمعنى الذي ذهب إليه بعضهم، كما تعطي هذا الانتشار المحدد بعدا غير البعد الإطلاقي عبر مفهوم الدعوة والجهاد المجردين. ينظر تفصيل هذا الرأي في، العالمية الإسلامية الثانية، دار ابن حزم، ط، الثانية، 1996م، ص117 وما بعدها.
(4) تجدر الإشارة إلى أننا لا نتطلع في هذه المقالة إلى الكمال على الاطلاق، من هنا فهي تتجاهل مساحات واسعة من حياة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
(5) الكثيرون ممن يجادلون في عالمية الخطاب القرآني ويشككون في كونية الإسلام ويلصقون صفة المحلية بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ينظرون للبدايات المحلية للدعوة الإسلامية. وبالفعل ففي الخطاب القرآني خاطب ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين.
(6) سورة الحجر، الآية، 94.[1]
(7) سورة الشعراء، الآيتان 214-215.[1]
(8) رضوان السيد، الأمة، الجماعة، والسلطة: دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي، دار اقرأ، بيروت، ط الأولى، 1986م، ص51.
(9) أخرجه البخاري، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، رقم 6943.[1]
(10) منير الغضبان، المنهج الحركي للسيرة النبوية، مكتبة المنار، الأردن، ط، السابعة،1992م، ص126.
(11) سورة الفرقان، الآية30.[1]
(12) أخرجه البيهقي، السنن الكبرى، كتاب السير، باب الرجل لا يجد ما ينفق، رقم17265.
(13) محمد المستيري، الحتمية الحضارية للهجرة الإسلامية، م. رؤى، مركز الدراسات الحضارية، باريس، السنة السابعة، ع. الخامس والعشرين، 2005م، ص 41.
(14) انظر، سيرة ابن هشام ، تحقيق سيد بن رجب، مراجعة مصطفى العدوي، مكتبة الصفا، القاهرة، ط، الأولى، 1423هـ/2003م.[1]
(15) سورة لقمان، الآيتان، 6-7.[1]
(16) عبد الرحمن حللي، حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط، الأولى، 2001م، ص103 بتصرف يسير.[1]
(17) عبد العزيز برغوث، مفهوما العارف والتدافع وموقعهما في الحوار من المنظور الإسلامي، م. إسلامية المعرفة، السنة السادسة عشرة، شتاء 2011م، العدد، 63، ص، 81.
(18) انظر سيرة ابن هشام.
(19) انظر محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلاقة الراشدة، دار النفائس، بيروت،ط، السادسة، 1407هـ/1987م، ص 59-62.
(20) محمد حميد الله، م.س، ص98.
(21) نفسه، ص 118.
(22) محمد حميد الله، م.س، ص120.
(23) نفسه، ص 119.
(24) راجع ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، مكتبة الصفا، القاهرة، طبعة 1426هـ/2004م.، ج، الثاني،ص183.
(25) راجع ابن القيم الجوزية، م.س، ج، الثاني، ص323.
(26) راجع نص العهد: على اختلاف رواياته، محمد حميد الله، م.س.، ص 175 وما بعدها، كما تجد في نفس الكتاب دعوته لأساقفة نجران، ص 174.
(27) محمد حميد الله، م.س، ص176.[1]
(28) نفسه، ص188.
(29) نفسه، ص 188.
(30) رفد: "وإن استرفدتم ترفدون" الاسترفاد: الاستعانة، والإرفاد: الإعانة، ص605.
(31) محمد حميد الله، م.س، ص190.
(32) للاطلاع على وقائع صلح الحديبية راجع ابن هشام، السيرة النبوية، م.س، ج، الثاني، ص 204 وما بعدها.
(33) رشيد رضا ، تفسير المنار، تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار، دار الفكر، ط، الثانية، د.ت، ج، العاشر، ص،146.[1]
(34) والتي تنص على مسالمتهم، وعدم محاربتهم، وجاء نصها في الوثائق السياسية كالآتي:
"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله، لبني ضمرة: بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة. وإذا دعاهم لنصر أجابوه. عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله. ولهم النصر على من اتقى". انظر، محمد حميد الله، م.س، ص267.
(35) وقد جاء نص عهده مع بني غفار كالتالي:
" لبني غفار: إنهم من المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وإن النبي عقد لهم ذمة الله وذمة رسوله على أموالهم وأنفسهم، ولهم النصر على من بدأهم بالظلم. وإن النبي إذا دعاهم لينصروه أجابوه وعليهم نصره؛ إلا من حارب في الدين، ما بلَّ بحرٌ صوفةً. وإن هذا الكتاب لا يحول دو إثم" انظر، محمد حميد الله، م.س، ص268.
(36) طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الهادي، بيروت، ط، الأولى،2003م، ص55
(37) سورة سبأ، الآية 28.[1]
(38) سورة الأعراف، الآية 158.
(39) محمد أبو القاسم الحاج حمد، الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن، دار الهادي، بيروت،ط،الأولى،2004م، ص352.
(40) الأمة القطب، مفهوم، أول من أصل له واستعمله في المحيط العربي، فيما أعلم، د. منى أبو الفضل ولها كتاب يحمل هذا العنوان، نشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي،ط،الثانية، 1998م. وهي تطلقه وتريد الأمة العربية وعمقها الإسلامي.
(41) طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، م.س، ص55.
(42) انظر، ابن هشام، السيرة النبوية.[1]
(43) محمد أبو القاسم الحاج حمد، الأزمة الفكرية و الحضارية في الواقع العربي الراهن، م.س، ص446.
(44) رضوان السيد، الجماعة والأمة والسلطة، م.س، ص 85-86.[1]
(45) سورة الحج، الآية39.
(46) سورة النساء، الآية 75.
(47) سورة البقرة، الآية251.
(48) سورة التوبة ، الآية 12.
(49) انظر تفاصيل كل ذلك في:
(50) ابن هشام، السيرة النبوية.
(51) ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد.
(52) انظر ابن هشام، السيرة النبوية.
(53) سورة الأنبياء، الآية 107.
(54) وهبة الزحيلي، آثار الحرب،دراسة فقهية مقارنة، دار الفكر، دمشق، ط، الرابعة، 1430هـ/2009م.ص501.
(55) رضوان السيد، الجماعة م.س، ص 69.
(56) سورة الأعراف، الآية 156.
-طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي، م.س، ص 60.[1]