رضوان السيد
في التمهيد:
صار إطلاق مصطلح " الفتنة" على الأحداث الجارية في العقود الأخيرة عادياً بل وكثيراً. وهو إطلاقٌ في غير محلِّه في كثير من الأحيان، ثم إنه تهويلٌ في أحيانٍ أُخرى؛ لكنْ لا ينبغي أن نتجاهل وجودَ معنىً معيَّن ثابت ودائم في إطلاقات "الفتنة" من أيِّ جهةٍ أتت؛ فالمقصودُ بها دائماً في الحاضر المشكلات الداخلية بين المسلمين، وفي المدة الأخيرة بين السنة والشيعة. والمقصد من وراء هذا الإطلاق في الغالب إيجابي؛ أي أنّ المقصودَ به النهي عن الدخول في نزاع ديني داخلي ذي طابعٍ طائفي، يُفرِّقُ الكلمة، ويدفع باتجاه التكفير المتبادل؛ أي إحلال سفك الدماء، وكلُّ ذلك باسم الدين.
وهكذا فإنّ "الفتنة" عنت قديماً وتعني في الإطلاق المعاصر: النزاع الداخلي. وإذا كان قد جرى تخصيصها أخيراً بالتنازع ذي الأصول الدينية؛ فإنه كان قبل عقودٍ يشمل النزاع الداخلي في القبيلة أو الأُسرة أو القومية الواحدة أو أهل المذهب الديني أو السياسي الواحد. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ النزاع بين دولتين عربيتين مثل العراق والكويت سُمّي فتنة، كما أنّ النزاع الذي سبّبته الأُصولياتُ المتطرفة بداخل الإسلام السني يُسمَّى وبكثرةٍ من جانب المعتدلين والوسطيين: فتنة.
إن الذي يبدو بين أسباب "الفتنة" أو الصراع الداخلي في القديم والحديث: الإحساس بالظلم من جانب فئةٍ من الناس، أو تطلُّب الغَلَبة من جانب فئة على فئة في الدولة أو الدين. وفي كل الحالات فإنّ الدين يُستخدمُ من الطرفين أو الأطراف المتصارعة. ويدفع ذلك أو يدفع الصراع الطرف الذي يخاف ألا تترجَّح كفتُه إلى عدّ الأمر فتنةً في الدين أو في المجتمع والدولة.
بيد أنّ كثرة الاستعمال للمفرد أو المصطلح، وسهولة ذلك الاستعمال يعني أمرين اثنين بالدرجة الأولى؛أحدهما: أنّ هذا المصطلح أو المفرد له "ذاكرةٌ" إذا صحَّ التعبير، ولذلك يستعمله الجميع، ويفهمه الجميع. والثاني: أنّ تجدد استعماله بما يوحي بالتماثل بين الظروف والاستعمالات القديمة والأُخرى المعاصرة له دلالاتٌ تستحقُّ الانتباه والاستقراء للحالة الفكرية والنفسية لدى جمهور المتدينين المسلمين. ولذا فإنه يكونُ علينا أن نقرأ مسألة تكون الذاكرة التاريخية للفتنة في فقرتين: التاريخ والآثار والكلام، والمذاهب الفقهية. ثم تكون الفقرة الثالثة مخصَّصةً لظروف الاضطراب المعاصر في حيوات العرب السياسية والاجتماعية والدينية، ولماذا استدعى الاضطراب مصطلح الفتنة ومفهومها من جديد.
أولاً: مصطلح الفتنة في التاريخ والآثار والكلام(1):
يرد مفردُ الفتنة ومشتقاته الفعلية والاسمية زُهاء تسع وخمسين مرةً في القرآن. ويقول أصحابُ كتب "الوجوه والنظائر"- وهي مؤلَّفاتٌ في المفردات القرآنية التي ترد بمعانٍ مختلفة في المواطن والسياقات المختلفة - : إنّ لمفرد الفتنة ما بين ثمانية معانٍ إلى اثني عشر معنىً في اللغة القرآنية، ومن ذلك: الإحراق، والتعذيب، والحيرة، والضلال، والكفر، والترك، والإثم، والقتل، والحرب، والجنون والغفلة...الخ. بيد أنّ السياقات القرآنية الظاهرة تُفيدُ أنّ الفتنة تَرِدُ بمعنيين رئيسين:
الأول: الاختبارُ والامتحان الإلهي للأفراد والجماعات قولاً وعملاً وسلوكاً. أمّا التأويلات التي يذكرها اللغويون للفعل"فتن" - والتي ذكرناها من قبل - فهي ظلالٌ وجوانب للاختبار والابتلاء والامتحان الإلهي.
أما المعنى الرئيس الثاني فهو الانقسام الداخلي والحرب الأهلية. وبهذا المعنى يردُ المفردُ في سبعة أو ثمانية مواطن في القرآن. في حين أنّ المعنى الأول بظلاله الكثيرة يرد في حوالى خمسين موطناً.والواقع أنّ المعنى الأول - والذي يعني الاختبار والامتحان والابتلاء - حاضرٌ في المعنى الثاني؛ لأنّ الفتنة أو الدخول في نزاعٍ داخلي سياسي أو ديني هو اختبارٌ وامتحانٌ أيضاً، وسواء أكان الاختبار بالمشاركة في النزاع، أو الإعراض عن ذلك، أو الوقوف في موقفٍ بين بين. فالنزاع الداخلي يعني ضرورة اتخاذ موقفٍ، وهو كما يتعلق بفهم ما يجري يتعلق أيضاً في نظر المسلمين الأوائل بالاعتبارات الدينية والأخلاقية؛ سواء لجهة ضرورة وحدة الأمة والجماعة، أو لجهة حرمة الدم والعرض والمال، أو لجهة بقاء الدولة ، والهيبة بالداخل وتجاه الخارج. ولهذه المعاني جميعاً فإنّ معنى الاختبار والابتلاء حاضر وقوي في النزاع الداخلي أيضاً، وسيتبيَّنُ ذلك خلال المعالجة؛ بيد أنّ ما ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق أنّ استعمال مفرد الفتنة للحديث عن الداخل صار غالباً في الاستعمال على المعنى الآخر للفتنة الأكثر وروداً في القرآن. وقد آثر المؤرخون والمحدِّثون والمتكلِّمون استخدامَ مفرد المحنة للاختبار والامتحان الفردي أوالجماعي في الأمور التي ليس لها طابع سياسي مباشر. ومن ذلك كما نعلم محنة خلق القرآن التي تعرض لها الإمام أحمد وزملاؤه المحدِّثون أيام المأمون والمعتصم والواثق من خلفاء بني العباس. وكانت تتعلق بمحاولة إرغامه وإرغامهم على القول بخلق القرآن، وهو أمرٌ عدّه أحمد وزملاؤه مُخِلاًّ بالاعتقاد الصحيح.
والآثار الواردة في الفتنة (بمعنى النزاع الداخلي)، وطرائق السلوك فيها كثيرةٌ جداً؛ لكنها من نتائج الوقائع، وعواقب وتداعيات التاريخ. ولذلك فإنَّ التاريخ ووقائعه لهذه الناحية ينبغي تقديمهما في الذكر على الآثار؛ لكي تأتي الآثار بوصفها تفسيراً للتاريخ، أو فهماً له من جانب الأطراف المتعددة أو المختلفة.
- التاريخ: يتحدث المؤرخون والمحدِّثون عن أربع فتنٍ كبرى(نزاعات سياسية داخلية) خلال مائة عام من التاريخ الإسلامي الأول( 35هـ- 132هـ)، وهم يفصِّلون ذلك(وبخاصةٍ الطبري نقلاًعن رُواته في حلقتين أو ثلاث) على النحو التالي:
الفتنة الأُولى أو الكبرى والتي بدأت بمقتل عثمان، وبلغت ذروتها بمقتل علي(35هـ-40هـ) مع ما تخللها من نزاعاتٍ فرعيةٍ ومعارك دامية: معركة الجمل أو صفين بين عليٍّ والخارجين عليه مع عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير، وحرب صفين بين علي ومعاوية، وحرب علي على المحكِّمة أو الحرورية الذين انفصلوا عنه بعد صفين والتحكيم، وإلى مقتل عليٍّ ومبايعة ابنه الحسن لمعاوية.
أما الفتنة الثانية فقد بدأت باستشهاد الإمام الحسن عام 61هـ، وإلى استعادة الأُمويين الزمام عام 72هـ بعد مقتل عبدالله بن الزبير على يد الحجاج. وقد تخللت حقبة السنوات العشر - نتيجةً لتصدع السلطة -نزاعاتٌ داميةٌ بين القيسية واليمنية، وبين الزبيريين والمختار بن أبي عُبيد، وبين قيس وربيعة.
وأما الفتنة الثالثة فحدثت نتيجة ما سُمّي بثورة ابن الأشعث(82-84هـ)، وهي ثورةٌ بدأتها القبائل اليمنية بالعراق ضد الحجاج بن يوسف والي الأمويين بالعراق في الأصل؛ لكنها عندما حقّقت بعض النجاحات في العراق وسجستان وخراسان، تحولت إلى ثورةٍ على الأُمويين بعامة إلى أن أُخمدت بالقوة بعد معارك ضارية عام 84هـ.
وأمّا الفتنة الرابعة في نظر المؤرخين وأهل الآثار فقد بدأت بمقتل الخليفة الأُموي الوليد بن يزيد عام 125هـ على يد ابن عمه - وما استقرت الأمور بعد ذلك في النزاع داخل الأُسرة الأُموية من جهة - وظهور الثوار الهاشميين بخراسان، وتقدم الدعوة العباسية بجيوشها المتكونة بخراسان لإسقاط بني أمية في معارك ضارية بالعراق والشام.
إنّ المؤرخين ينقلون تفاصيل هذه الوقائع عن تقارير وأجزاء وكتب أُلّفت في هذه الموضوعات منذ أواخر القرن الأول وإلى منتصف القرن الثالث. ومع أنّ أكثر تلك المؤلَّفات أو الأجزاء لم تصلنا؛ لكنّ المؤرخين في القرن الثالث يلخصونها بأمانة. ونعرف من أسمائها أو عناوينها في كتاب الفهرست لابن النديم أنها كانت أجزاء قصيرة، كلّ جزءٍ عن واقعةٍ أو وقعة، وأنّ مدوِّنيها كانوا يُسمَّون أهل الأخبار أو الأخباريين؛ وأنها كانت على قِصَرِها شديدة التفصيل. ورغم أنّ العناوين كانت حيادية مثل: خبر الزاوية أو خروج ابن الأشعث أو وقعة صفين، أو مسير عائشة، أو وقعة الجمل؛ فإنّ بعضَ العناوين يُشعر بالتأثر الشديد نتيجةً لما جرى من اقتتال بين أهل "الدعوة الواحدة"، ولما سُفِك فيها من دم؛ من مثل: كتاب الغارات للثقفي، أو كتاب الأهوال!
لقد انبنت ذاكرةُ الفتنة أو الحروب الداخلية وأهوالها خلال زمنٍ قصيرٍ نسبياً بالنظر للمآسي الهائلة التي تسببتْ بها، ومن ذلك في الفتنة الأولى قتل عثمان وعلي وطلحة والزبير، وكلهم من كبار أصحاب النبي. أما الفتنة الثانية فقد افتُتحتْ بمقتل الإمام الحُسين، ثم غزو المدينة ومكة. وفي الفتنة الثالثة يحسب المؤرخون أنه وقع فيها ما يزيد على الخمسين ألفاً من القتلى. ثم إنه وللمرة الأولى ( أو الثانية؟) شارك قُرّاءٌ وعلماء أبهظهم ظلم الحجاج. والذكريات عن معارك ابن الأشعث هي من تسجيل أولئك، مع الصبغة الملحمية التي كساها إيّاها الأخباريون. في حين ترتبط الفتنة الرابعة في أذهان الأجيال بالانقلاب الهائل الناجم عن السقوط المدوّي لدولة بني أمية، وقيام دولة بني العباس.
وتبقى مسألتان تتعلقان بالأخباريين، واستطراداً بالمؤرخين، وأعني بالأخباريين جامعي الأخبار في القرن الثاني حتى مطالع القرن الثالث. وأعني بالمؤرخين أولئك الذين كتبوا بشكلٍممنهج ومنتظم، جزئي أو شامل، وكانوا يمتلكون رؤيةً وموقفاً تجاه نزاعات القرن الأول والثاني. ولستُ أعني بوجود رؤية لدى المؤرخين أنّ الأخباريين ما كانوا يمتلكون رؤى؛ لكنها ما كانت شاملة. لقد كان منهم شهودُ عيانٍ ورُواةٌ مع المحكِّمة أو مع آل البيت أو مع عثمان أو مع الأمويين أو مع بني العبّاس أو مع قبائلهم ومواقعها في النزاعات؛ لكنهم جميعاً - على اختلاف ميولهم - يذكرون وقائع الفِتَن الأربعوعقابيلها، ويضيفون بعض التفاصيل العاطفية التي تدعم وجهات نظرهم الخاصة. وهذا كما يصحُّ على الأخباريين يصحُّ أيضاً على المؤرخين الكبار في القرنين الثالث والرابع.
بيد أنّ " المشتركات" والجوامع لدى الأخباريين والمؤرّخين - فيما يتعلق بوقائع الصدر الأول أو الحقبة التأسيسية - لا تقتصر على ذكر واقعات الفتن الأربع الكبرى بشيءٍ من الموضوعية؛ بل هناك مشتركٌ أكبر وهو الاتفاق في المصطلحات/ المفاتيح إذا صحَّ التعبير . فهم جميعاً يتحدثون عن ضرورات وحدة الأمة، وأنّ الرأي المستبصر ينبغي أن يكونَ لموافقات وتوافقات الجماعة وإجماعاتها. والتوافُق بحسب هذا المنزع ممكنٌ بلوقريب إذا توافرت النية الصادقة، استناداً إلى كتاب الله و"السنة الجامعة غير المفرِّقة". وقد تكرر الاستحثاث على ذلك في أقوال المشاركين أو المعتزلين بحسب مرويات الأخباريين. وإذا أراد أخباريٌّ إظهار ميوله الخاصة؛ فإنما يكون ذلك باتهام الفريق الآخر في النزاع بأنه هو الذي يخالف الكتاب والسنة الجامعة وعادات الجماعة وأعرافها. ومن ضمن إجماعات الرواة على الأقلّ أنه لا أحد إلاّ وهو يريد دولة العرب والإسلام، ويعدّها مشروعه. أمّا الذين يُسِرُّون أو يعلنون غير ذلك فهم متآمرون أوغافلون أوعاملون لصالح الروم والتُرك، أو الشعوبيات المعادية للإسلام! ولنستمع إلى شعرٍ أنشده أحد المفجوعين بمقتل عثمان(يقال: إنّ اسمه حنظلة الكاتب):
عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلا ذليلاً
إنّ الخلافة هنا هي الدولة، والدولة دولةُ الإسلام؛ لكنها بحسب الواقع حتى منتصف القرن الثاني الهجري هي دولةُ العرب، وهي في وعيهم تقوم لأول مرة. وقد تحدّت القوتين العظميين: فارس وبيزنطة من أجل أن تجد لها مكاناً تحت الشمس. ولذلك ما كان يحسُنُ - تحت أيّ ظرفٍ من الظروف- العمل على إزالة تلك السلطة أو الدولة، بحجة الظلم والغبن أو الغلبة أو أي عذرٍ آخر. ولا شكَّ أنّ ظهور أُطروحة "حقبة الراشدين" الذهبية تأخرت حتى مطالع القرن الهجري الثاني. لكنّ مقولة الشيخين قديمةٌ فيما يبدو في مثل المرويات عن ابن مسعود أو حذَيفة بن اليمان أو أبي موسى الأشعري. وهؤلاء يتحدثون عن كسر باب الفتنة أو فتح البيئات الإسلامية على عواصفها، وهل يكون ذلك بمقتل عمر أم بقتل عثمان، وكلا الأمرين شرٌّ كبيرٌ على الدولة الجديدة والدين الجديد. ومن الباب نفسه تلك المرويات الطويلة العريضة عن مؤامرة ابن السوداء (= عبد الله بن سبأ) على عثمان وعلي ودولة العرب.
الأمر الأول إذن يتصل بطرائق عمل الأخباريين والمؤرخين، وأنهم - رغم الاختلافات المنهجية الكثيرة، والمصالح المختلفة، والانتماءات المتباينة - كانوا ينطلقون من جوامع الأمة والجماعة والكتاب والسنة الجامعة، والحرص على الدولة بقاءً وقوة.
أما الأمر الثاني- والذي يستحقُّ الانتباه وسط ظهور عالم مصطلحي جديد ذكرنا بعض مفرداته - فإنه يتصلُ بدخول مصطلح الفتنة إلى هذا العالم المصطلحي المتكون لتقف في مواجهة مصطلح أومفهوم الجماعة أو تكونَ نقيضه. لقد أسهم في ذلك المشاركون في الأحداث والمُعرِضون عن المشاركة والرواة والأخباريون بل وأهل السلطة. ولا شكّ أنهم استندوا في ذلك إلى المعنيين الرئيسين للفتنة بحسب القرآن: معنى الاختبار والامتحان والابتلاء، ومعنى النزاع الداخلي. وكأنما هذه الأحداث العظيمة للفتك والهول هي في الوقت نفسه ابتلاءٌ للأفراد ومحنة، وامتحانٌ لقدرة الجماعة على الاعتصام بالوحدة وتحدّي نوازع الانقسام والغلبة ومطامعهما.
لكنّ الطريف يبقى - رغم كل شيء - إدخال مفرد الفتنة ومفهومها في المنظومة المتكونة؛ في حين أنّ البارز في المصطلح العربي القديم، وفي النص القرآني للنزاع الداخلي في القبيلة أو القوم هو مفرد الفساد؛ ففي " أيام العرب" في الجاهلية حديثٌ عن"الفساد"؛ أي النزاع الداخلي الذي نزل بقبيلة طيء في مواطنها في جبلَي أَجَأ وسلمى. وفي القرآن الكريم زُهاء الخمسين آية يردُ فيها مفرد الفساد ومشتقّاته، وكلها تعني إثارة النزاعات الدينية أو الاجتماعية من جانب عصبةٍ أوعُصَب من أشرار الناس، مما يتسبّب بانقسامات داخلية مدمِّرة. وقد عظّم القرآن من شأن الفساد والإفساد بحيث ظهر تعبير (الفساد في الأرض). ونحن نعلمُ أنّ العصابات التي سمّاها القرآن المحاربين، وأقام عليهم حدَّ الحرابة، ووسم أفعالهم بسمة الفساد أيضاً عندما قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}( المائدة: 33). وفي موضعٍ واحدٍ في القرآن في سورة الأنفال:73 تقترن الفتنة بالفساد: {إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. والمقصود بالفعل هنا هو التضامُنُ والتناصُرُ والمُوالاة بين المؤمنين. فالوجهُ الآخر للتخاذُل أو الخذلان حدوثُ الانقسامات ( الفتنة)، مما يؤدي إلى ضعف الجماعة المؤمنة، وهو الأمر الذي يترتب عليه فسادٌ كبيرٌ لظهور الكفّار المتناصرين على المؤمنين المتخاذلين. ففي هذه الآية يبدو الفساد وتبدو الفتنة بمثابة وجهين لعُملةٍ واحدة. وعلى هذا، وبعد هذا التأمُّل لا أتبيَّنُ سبباً واضحاً لتقديم الفتنة على الفساد في استعمال المسلمين الأوائل، إلاّ أن يكونَ ما في مفرد ( الفتنة) من معاني الاختبار والامتحان والابتلاء والمُعاناة، والتي لا تبدو لدى المفسدين، الذين صار الشرُّ خليقةً لهم، فلا تُرجى لهم توبةٌ ولا أَوبة.
- الفتنة في الآثار والمرويات: ذكرتُ فيما سبق أنّ معظم الآثار والمرويات والتحذيرات من الفتنة وعواقبها إنما هي من نتاج التاريخ، والتجربة التاريخية الأولى للجماعة. وهي بمثابة الفهم أو التفسير أو إبداء وجهات نظر المشاركين أو المعتزلين بطريقة المرويات والآثار؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ تجارب النزاع والافتراق والتحذيرات منها ليس لها سوابق في القرآن الكريم، وفي كلام رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه؛ ففي سورة الأنفال:46 {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. وهناك آياتٌ أُخرى في آل عمران 122 و152، والأنفال: 43 تقرن النزاع أوالتنازُع بالفشل.وفي أسباب النزول لتلك الآيات إيضاحٌ للمناسبات التي حدث فيهانزاعٌ بين المسلمين في أزمنة الحربوالسلم،وكيف عمد القرآن والرسولصلى الله عليه وسلم لمعالجة الأمر.وهناك آيةُ العصمة المشهورة في سورة آل عمران: 103 {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. وقد توالت تفسيراتُ (حبل الله) لدى الصحابة والتابعين من القرآن إلى الإيمان إلى الإسلام إلى الجماعة فإلى الإمام. وكُلُّها عُصمٌ من الفرقة والخلاف والفشل نتيجة ذلك. وهناك أخيراً آية المصالحة والإصلاح والخروج من الخلاف والتنازع في سورة الحجرات: 9{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. لقد تصوَّر القرآن إمكان الاقتتال بين المؤمنين، واشترع سُبُلا للإصلاح، بالعدل والقسط، وأنه لا غالب ولا مغلوب في النزاع بين أهل الدعوة الواحدة. وقد عدّ جماعة المسلمين وأهل الشورى والحلّ والعقد منهم المخوَّلين والمؤهَّلين لاستعادة التضامُن وإزالة أوضار البغي والعدوان. وسنعود لهذا الأمر عند الحديث عن توجهات الفقهاء في حالات الفتنة والتنازُع. ولدينا أحاديث في الصحاح، بعضها يعدّ النزاعات القاتلة من أمارات يوم القيامة؛ ففي صحيح مسلم بسنده إلى حُذيفة بن اليمان أنه سال رسولَ اللهصلى الله عليه وسلمعن السلوك الواجب في الفتنة، فقال له: "تلزمُ جماعة المسلمين وإمامَهم! فقلت: فإنّ لم تكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟! قال: فاعتزِلْ تلك الفِرَقَ كُلَّها ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنت على ذلك". إنّ اختفاء السلطة بالنسبة إلى حُذيفة يُضاهي اختفاءَ الأمة، وعندها لا مخرج من الهلاك إلاّ بالاعتزال المميت أيضاً. والمشكلة هنا في ظهور مصطلح أو مفرد الاعتزال في الفتنة. وتقديري أنّ هذا مبكِّر، وربما نعودُ لذلك فيما بعد.
إنّ تحديد الفِتَن الكبرى بأربع يردُ في كتب المؤرّخين وكتب الفتن والملاحم منسوباً إلى محمد بن سيرين (-110) قرين الحسن البصري المتوفّى أيضاً عام 110هـ. والمشكلة في هذا التصور أنّ الفتنة الرابعة بحسب هذا التصور هي التي تلت مقتل الخليفة الأُموي الوليد بن يزيد(-125هـ)، وما كان الرجلان وقتها موجودَين.
أما الآثار والمرويات عن الفتنة فهي هائلة الحجم وتبلُغُ المئات، وبعضُها مرفوعٌ وبعضُها موقوفٌ على الصحابة وبعض التابعين. ومعظم المرويات عن الصحابة تشي بالرُعب من النزاع الداخلي؛ لما ترتّب ويترتّب عليه من سفْك للدم، وتفرقةٍ للكلمة، وإمكانٍ كبيرٍ لحدوث الفوضى وسقوط السلطة وسقوط الهيبة أمام العدو. وأصلُ هذا الخوف المتنامي: مقتل عثمان بن عفان عام 35هـ ببيته بالمدينة بعد أن حاصره الثائرون القادمون من مصروالكوفة والبصرة. وبعد مقتل عثمان استُبيحت المدينة، وسيطر عليها لثلاثة أيامٍ الغافقي بن حربزعيم ثوار مصر؛ بحيث ما أمكن دفن عثمان إلاّ في حُشّ كوكب، لا في البقيع الذي كان يدفن فيه أهل المدينة على مقربةٍ من المسجد النبوي. وكل الآثار الواردة بين مقتل عثمان عام 35هـ، ومقتل عليٍّ بالكوفة عام 40هـ تشي بضياع كبيرٍ بين الصحابة كباراً وصغاراً. وهذا الضياع تعبّر عنه الآثارُ الواردةُ عنهم مرفوعةً وموقوفة. وترد أكثر الآثار بالترتيب عن حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود (وقد توفيا إبّان مقتل عثمان أو بعده بقليل)، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هُريرة. وهؤلاء الخمسة - إضافةً لسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر وأُسامة بن زيد- ما شاركوا تقريباً (يقال: إنّ عبد الله بن عمرو شارك مع أبيه في صفّين!) في وقائع المعارك التي دارت بعد مقتل عثمان، سواء بين علي وخصومه بالبصرة، أو بين علي ومعاوية في صفين. وتُظهر الآثارُ الواردةُ عدة موتيفات إذا صحَّ التعبير.
الموتيف الأول: كن فيالفتنة كخير ابنَي آدم. والمقصود الآيات القرآنية التي تصفُ قتل قابيل لأخيه هابيل الذي أبى الدفاعَ عن نفسه:{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (سورة المائدة: 32). وهذا يعني المسالمة التامة في النزاعات الداخلية؛ لأنّ القاتل والمقتول في النار، وكن عبدالله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.
والموتيف الثاني: كن حِلسَ بيتك في الفتنة، أو اتخذ في الفتنة سيفاً من خشب، أو الأثر المروي عن علي وابن مسعود: كن في الفتنة كابن اللبون لا ضرع فيُحلب، ولا ظهر فيُركَب. إنّ المهم عدم المشاركة في الفتنة بيدٍ ولا لسان.
والموتيف الثالث: التعرُّب؛ أي العودةللبادية هرباً من الاقتتال في المدن على السلطة. وفي ذلك كما يرى أُهبان بن صيفي خطر ضياع ثواب الهجرة الذي كان أمراً كبيراً في عهد المدينة والإسلام الأول؛ لكنه خيرٌ من المشاركة في سفك الدم، وتفرقة الكلمة.
والموتيف الرابع: المقاومة السلمية؛ أي المغامرة بتحدّي صاحب الأمر بالامتناع عن القتال معه كما حصل مع عددٍ من الصحابة مع عليٍّ ومُعاوية، وفيما بعد مع الحجاج ويزيد بن المهلَّب، عندما أبى الحسن البصري وأصحابه القتال مع السلطة أو ضدَّها. وقد قال أيمن بن خُريم لعبد الملك بن مروان عندما طلب منه الذهاب معه لقتال الزبيريين:
ولستُ بقاتلٍ رجلاً يصلي على سلطان آخرَ من قريشِ.
والموتيف الخامس: ربْط الفتنة - أي الاقتتال الداخلي - بالملاحم في آخر الزمان، على أساس أنّ أمة الإسلام هي آخِرُ الأُمَم، وستظل سلطتها إلى قيام الساعة؛ فالدخول في الفتنة والاقتتال نذيرٌ بسقوط الأمة، وخروج الدجّال. ولذا ينبغي الابتعاد عن كلّ ما يُشعِرُ بزوال سلطان المسلمين.
والموتيف السادس: الابتعاد عن الدخول في النزاعات الداخلية،وإن كان ظاهر دعوى القائمين بها أو عليها حقاً أو رفعاً لمظلمة؛ لأنّ ذلك يعني الدخول في مؤامرةٍ على الإسلام ودولته من جانب الخصوم الظاهرين أو المستترين. ومن هذا الباب المرويات الكثيرة عن عبد الله بن سبأ وأعماله ضد عثمان، ثم تظاهره بالانتصار لعلي.
وما ظهر أهل السلم والسلامة كمجموعةٍ بين الصحابة في الأحداث على عثمان، أو في الصراع بين علي وخصومه. بل إنّ معظم الصحابة - باستثناء خمسة أو ستة ذكرنا أسماءهم - انحازوا إلى عليٍ أو عائشة أو مُعاوية. لكنّ كتب التاريخ والمرويات تذكر ظهور مجموعةٍ سلميةٍ في مناسبتين: مناسبة رفع المصاحف في صفّين، وعند فشل ثورة ابن الأشعث عام 84هـ؛ ففي صفين يقالُ: إنّ مجموعةً أكثرهم من تلامذة الصحابة - ويُسمَّون القراء- رفعوا المصاحف، ووقفوا بين الفريقين محاولين إيقاف القتال، وتحكيم كتاب الله. ويقال أيضاً: إنهم احتجّوا لموقفهم بالآثار المروية في تجنب الفتنة واعتزالها ومقاومتها. ويسميهم نصر بن مزاحم (- 238هـ) - صاحب كتاب(وقعة صفين) - : المعتزلة. ولا نعرف كثيراً عن مدى تأثيرهم في وقف القتال، ولا في اللجوء للتحكيم، مع أنّ هناك من يقول: إنهم هم الذين صاغوا الوثيقة التي وقّع عليها الطرفان المتحاربان، والتي توقّف بمقتضاها الاقتتال، وحصل التواعد للتحكيم. والغريب أنّ هؤلاء ما ذُكروا بعد عودة النزاع بسبب فشل التحكيم وبيعة معاوية لنفسه عام 38هـ، كما أنهم لم يُذكروا بعد مقتل علي. أمّا المجموعة الثانية والتي ظهرت عام 83- 84هـ فنعرفُ أسماءعددٍ منهم. وهؤلاء كلهم من التابعين، وما كانوا محايدين؛ بل قاتلوا مع عبد الرحمن بن الأشعث، حتى إذا حصلت الهزيمة فإنّ من بقي منهم على قيد الحياة أظهر ندماً شديداً على المشاركة في الفتنة وسفك الدم، وروَوا الآثار التي ذكرناها في تجنب الفتنة، وفي تحريم سفك الدم، وفي تأييد موقف كبيرهم الحسن البصري الذي ما شارك مع ابن الأشعث، ونهى عن المشاركة، ودعا للاعتزال، رغم كراهيته للحجّاج وللحكم الأُموي. وهؤلاء أيضاً يُسمَّون القراء؛ لأنهم كانوا من أهل القرآن، إنما ليس من بينهم أحدٌ له ذكرٌ في الوقائع بين علي ومعاوية قبل أربعة عقودٍ ونيِّف.
لقد استظهرتُ في أطروحتي عن "ثورة ابن الأشعث والقراء" عام 1977 أن يكونَ هؤلاء هم الذين صاغوا مبدأ "الاعتزال في الفتنة"، الذي صار في القرنين الثاني والثالث ضمن بنود عقيدة أهل السنة والجماعة. وأرى الآن أنّ الحسن البصريَّ نفسه هو الذي صاغ هذا المبدأ عام 101هـ عندما ثار يزيد بن المهلَّب على الخليفة الجديد يزيد بن عبد الملك (101 -105هـ) على أثر وفاة عمر بن عبد العزيز (99-101هـ). قال الحسن - وقد سمع يزيد بن المهلَّب يقول على منبر البصرة بعد الاستيلاء عليها: إنه يدعو إلى سُنّة العُمَرين: (عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق)(2) - :" إنّ من سُنّة العمرين أن يُوضَعَ قيدٌ في رِجْله ثم يُردُّ إلى محبس عمر بن عبد العزيز) الذي فيه حبسه... إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء ثم يسرِّحُ بها إلى بني مروان يريد رضاهم، فلمّا غضب غضبةً نصب قصباً ثم وضع عليها خِرَقاً ثم قال: إني أدعوكم إلى سُنّة العُمَرين!... أيها الناس، الزموا رحالكم وكفّوا أيديكم واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضاً على دنيا زائلة... إنه لم تكن فتنةٌ إلاّ كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخُيلاء، وليس يسلم منها إلاّ المجهول الخفي والمعروف التقي".
في أوساط المحدِّثين وأهل الأثر في القرنين الأول (أواخره) والثاني ظهرت ثلاثة أفكار إذن تتعامل كلّها مع مسألة النزاع الداخلي: فكرة الاعتزال في الفتنة، وفكرة الجماعة والطاعة، وفكرة "المُلْك العَضوض" التي تفصل عهد الراشدين الأربعة عن العهد الأُموي: "تكون الخلافة ثلاثين عاماً، ثم يكون مُلْكٌ عضوض".
جـ. الفتنة والمتكلمون: علم الكلام هو علمٌ عَقَدي؛ ولذا فإنّ لاهوتييه يميلون لإلحاق كلِّ شيء بالأُصول والعقائد، فتأْتي أحكامُهُم قاسيةً على سائر فرقاء النزاع حيناً، أو على الفريق الذي يعارضونه أحياناً، وهكذا فهم متحزبون لوجهة نظرٍ معينةٍ فلا يستطيعون أن يكونوا على الحياد، ولن يكون منهم في الغالب أحدٌ يقول بالاعتزال في الفتنة. وعلى سبيل المثال فإنّ أسلاف(تضاف) المعتزلة الأوائل(تحذف) وأنصارهم أو ما عرف بالقدرية المبكرة (تضاف) كانوا يعدّون رأي أهل السنة الأوائل أيضاً في اعتزال الفتنة والجماعة والطاعة، من توجُّهات العوامّ والغوغاء الذين يمشون وراء كل ناعق. إذ كان عليهم أنيتحزبوا ضد الظلمة والفُسّاق من الحكَّام وغيرهم (تحذف). والواقع أنه لا ينبغي المبالغة في أهمية آرائهم؛ لأنها جاءت متأخرةً بعد أن كانت معظمُ أجزاء المنظومة قد اكتملت، ومن ضمنها مفهوم الفتنة بوصفهِ واقعاً في مقابل مفهوم الجماعة. فأول مرةٍ نسمعُ فيها عن حركةٍ عمليةٍ من جانب القَدَرية/ المعتزلة باتجاه السلطة كانت عام 125هـ، عندما يقال: إنهم شاركوا في ثورة يزيد بن الوليد على ابن عمِّه الوليد بن يزيد. وقد كانوا يسعَون من وراء ذلك إلى القيام بثورة قصر، تكون نتيجتُها إقامة سلطة عادلة.
بيد أنّ المعتزلة ما كانوا أول المتكلمين ولا أقدمهم؛ فقد سبقتهم إلى التكون واصطناع العقيدة المحددة فرقة المرجئة بفرعيها الحجازي والشامي /العراقي، والإرجاء في أصله ردٌّ على راديكالية (تحذف) المحكِّمة الذين يربطون الإيمان وجوداً وعدماً بالعمل أو يطابقون بينهما. ولذا فقد اشتهر عن المرجئة أنهم يؤخّرون العملَ عن الإيمان، ولا يربطون تحقق الإيمان بتحقق العمل؛ بيد أن الفروع المختلفة للمرجئة تحت هذا السقف اختلفت أَولوياتها؛ فكان الحجازيون مهتمين بالردّ على السبئية(= الشيعة المتطرفين)؛ بينما كان العراقيون يركّزون على إشكالية الإيمان ومعارضة المتطرفين من الأزارقة(تضاف) المحكِّمة المتطرفين(= الأزارقة والصفرية).(تحذف) أما الشاميون فقد قدّموا الاعتبارات السياسية، وحاولوا - مثل القَدَرية - الدخول على برامج المعارضة للسلطة الأُموية من أجل الإصلاح. وفي برنامجٍ شبه سلمي كهذا ما كان منتظراً أن يُدخلوا مفهوم الفتنة في اعتبارهم. إنما هناك ما يُثبتُ أنهم فعلوا ذلك في العراق على الأقلّ تأثُّراً ربما بالحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وبأبي حنيفة، وقد قيل:إنه كان منهم.
وما دخل مفهوم الفتنة في برنامج المحكِّمة بالطبع على اختلاف فرقهم؛ لأنهم كانوا في شبه ثورةٍ دائمةٍ لاعتبارهم أنّ نظام الحكم قد فَسَد مذ أسهموا في قتل الإمام علي، وحاولوا قتل معاوية وعمرو بن العاص(تحذف) تحكيم الحكمين بين الإمام علي ومعاوية(تضاف). فالذي يُدخلُ الفتنة في اعتباره لا يثور، ولا يتسبّب بسفك الدم.
ولدينا أخيراً الاتجاهات الصريحةُ للمعتزلة بعد القدرية. وهؤلاء الذين ظهروا أول ما ظهروا بالبصرة كانوا راديكاليين في تبرئهم من عثمان وعلي وكل من شارك في سفك الدم.وقد اعتدلوا بعض الشيء في مدرسة بغداد تُجاه آل البيت؛ لكنهم ظلُّوا (رغم تعاونهم مع العبّاسيين لبعض الوقت) يعدّون مرتكب الكبيرة في منزلةٍ بين المنزلتين( أي: الإيمان والكفر). وأفظع الكبائر من وجهة نظرهم الجبرُ والقتلُ. ولذلك لم تحضُرْ لديهم بوضوح مفاهيمُ الفتنة والاعتزال والجماعة والطاعة، باستثناء فرقةٍ صغيرةٍ منهم سُمُّوا "صوفية المعتزلة". لقد قال هؤلاء: "إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ملكاً ولم يُملِّكْ على أمته أحداً. قالوا: والملك يدعو إلى الغلبة والاستئثار، وفي الغلبة والاستئثار فساد الدين وإبطال أحكامه"، "وإذا كان هذا هكذا فالأصلح للناس ألا يتخذوا إماماً.. لما يُخشى من حدوث الفتن والاختلاف، فليعش الناسُ كالخير من ابنَي آدم(3)، وليتجنبوا الصراع والقتل، وليعتزلوا الفِتَن، وإذا تكافّ الناسُ عن التظالم استغنوا عن السلطان!".
ثانياً:الفتنة والفقهاء: اختلف الفقهاء عن المحدِّثين وعن المتكلمين في أنهم كانوا يتابعون حياة الناس اليومية بالفتوى والرأي، ويتولَّون تعليم الناس دينهم في المساجد ثم في المدارس، ويتابعون أعمال الدولة، ويتولَّون مناصبَ القضاء في إداراتها. وقد أشبهوا المحدِّثين وأصحاب الآثار في الوعي الشديد الذي تكوَّن لديهمعن أحداث القرن الأول الهجري وما جرى فيه من وقائع عظام. وما كانوا متفقين بشأن المشاركة أو عدمها في حركات التمرد والثورة؛ إذ يقال: إنّ أبا حنيفة كان من أنصار المشاركة في الهيعات على الأُمويين وعلى العباسيين؛ ولذلك فقد اتهمه بعضُ المحدِّثين بأنه "كان يرى السيفَ في الأمة". وشأن أبيحنيفة في ذلك شأن سفيان الثوري. في حين كان مالك والشافعي وأحمد وآخرون كثيرون من الفقهاء يرون الاعتزال في الفتنة بعدأن تبلورت صياغة مفاهيم الاعتزال فيها على يد الحسن البصري. بيد أنّ أولوية الفقهاء ما كانت إصدار أحكام عقدية أو سياسيةوالوقوف عندها شأن بعض المتكلمين وأهل الآثار؛ بل فكّروا طويلاً في أمرين اثنين يتصل كلاهما بالنزاعات الداخلية وبالفتن:
الأمر الأول: كيف يمكن تجنُّب النزاعات الداخلية؟
والأمر الثاني: إذا حصل النزاع، فكيف يمكن الخروج منه؟ لقد رأى أبوحنيفة ومالك والشافعي أنه لا مجال لإلغاء التنازُع على السلطة وعلى المصالح وعلى المظالم؛ بيد أنّ تجنب أسوأ الوقائع والآثار إنما يكون بإقامة أنظمة الحكم الصالح من طريق الشورى، ومن طريق المعدلة في قسمة الفيء، ومن طريق التعامُل الشفوي مع الرعية؛ بحيث تكونُ للناس مساربُ وقنواتٌ تحولُ دون الاضطرار للجوء إلى العنف المسلَّح. وهكذا ومن البداية كانوا هم الذين صاغوا فيما بين القرنين الثاني والثالث للهجرة نظريةً للسلطة، ناظرين في ذلك إلى عهد الراشدين في الشورى وأهل الحلّ والعقد، ثم سياسات العدل والإنصاف التي ظهرت في العهد الراشدي وبخاصةٍ في عهد عُمر. ومن المعروف أنّ الفقهاء الذين كان يلجأُ إليهم الحكّام والعامة للاستشارة هم الذين كتبوا في السِيَر؛ أي سياسات الدولة في الحرب والسلم، وكتبوا في الخراجوالأموال، كما كتبوا في الولايات، وفي القضاء وآدابه. وقد كان ديدنهم توصيف الحالات التي تعني أنّ "الشرعية" قائمةٌ ومستقرةٌ من خلال المؤسسات ومن خلال السياسات.
وبذلك فقد قسموا وضع "الشرعية" إلى قسمين: شرعية تأسيسية، وهي التي تعني توافر الوحدات الثلاث: وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة. والقسم الآخر: شرعية المصالح، وهي تعني السياسات التي تتبعها السلطة من خلال مؤسساتها لتحقيق العدالة. ولا شكَّ أنّ نموذجهم في ذلك كان عهد الراشدين، على كثرة المشكلات التي حدثت خلال المرحلة التأسيسية تلك. لقد كان هناك تصور آخر لما ينبغي أن تكون عليه السلطة في ظلّ الإسلام. أما الفقهاء فقد كانوا بوجهٍ عامٍ يرونأن مشروع الدولة القائم مشروعهم، ويسعَون لتحسين الأداء، ويتراوحون – بحسب سلوك السلطة- بين الطاعة والنصرة. وقد كان منهم مَنْ أعرض عن تولّي القضاء؛ بيد أنّ أكثرهم كان يقبل المنصب اعترافاً منه بشرعية السلطة من جهة، وضرورة حفظ مصالح الناس من جهةٍ ثانية.
لقد كان هذا التمهيد ضرورياً لمعرفة فهم الفقهاء للسلطة ومهماتها، ومهماتهم هم وأدوارهم. وقد ظلّت مجموعةٌ منهم في القرنين الثاني والثالث متمسكةً بالشرعية التأسيسية وضروراتها؛ بيد أنّ كثرةً منهم مالت أكثر للعمل على شرعية المصالح؛ لما في ذلك من خدمةٍ للناس وللدولة في الوقت نفسِه.
لقد حدثت الانقساماتُ والفِتَن والتي أنهت العهد الراشدي(في الفتنة الأولى والكبرى)، ثم حدث الانقلاب الكبير بسقوط سلطان بني أمية. ولدينا من الفترة الأُموية رأيٌ للفقيه الكبير محمد بن شهاب الزُهري(-124هـ) بشأن كيفية معالجة آثار الفتنة والانقسام إنْ كان؛ ففي تاريخ أبي زُرعة الدمشقي(-281هـ) أنّ سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الزهري عن الحكم في الثائرين بعد إلقاء السلاح في"الفتنة"؛ فأجاب الزهري:"أدركت الفتنة المسلمين وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فرأَوا أنه لا تبعة على أحدٍ في دمٍ أو مالٍ في الفتنة". ولنلاحظ هنا أنّ الزهري يرجع في فتواه ليس إلى التاريخ القريب فقط؛ فقد كان من التابعين؛ بل وإلى آية المصالحة والإصلاح في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. يتصور القرآن إذن إمكان حصول اقتتالٍ بين المؤمنين، والقرآن لا يقول بأنه حاصلٌ بين السلطة والمعارضة، ولا يعدّ إحدى الفئتين علىحقٍ دون الأُخرى، بل يطالبُ أهل الرأي من المسلمين بإجراء المصالحة. فإن أبت إحداهما الإصغاء لضرورات الإصلاح، فعلى المسلمينجميعاً التعاوُن ضدَّها. لكنْ عندما يجري إخضاعُها- بأن تُلقي السلاح (تفيء إلىأمر الله في الإصلاح)- فإنّ جهود المصالحة ينبغي أن تتابع لحين حدوث المصالحة بالفعل. ويأمر القرآن بأن تكونَ شروط المصالحة حتى مع البُغاة والمعتدين عادلةً ومُقْسِطةً. لقد استنتج الفقهاء أنّ أهل المعارضة(السياسية) وإن حملوا السلاح يظلُّون مختلفين عن المحاربين(= قُطّاع الطرق والعصابات المسلَّحة)، ولذلك لايخضعون لمايخضع له أولئك، بمعنى أنه لاتبعةعليهم في دمٍ أومالٍ، كما قال الزهري لسليمان بنهشام.
سلك الفقهاء إذن منذ البداية مسلكاً مختلفاً عن مسالك المتكلمين وأهل الفرق والمحدِّثين وأهل السلطة. لقد قالوا - منذ منتصف القرن الثاني الهجري بحسب كتب السِيَر للفزاري والأَوزاعي والشيباني -: إنّ البُغاة أو المعارضين السياسيين هم قومٌ خرجوا على السلطان بتأويلٍ سائغ؛ أي أنه كانت عندهم مطالب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وفي هذه الحالة، وإذا انحازوا - أي خرجوا من المصر متجمهرين - فإنّ على السلطة نفسِها أو من طريق أهل الرأي والفقه والسياسة أن تُصغي لمطالبهم، وأن تُجيبَ إلى المعقول والمُنصف منها في مفاوضاتٍ لا بأس بأن تمتدَّ وتتطاول اجتناباً للفتنة وسفك الدم؛لأنّ الثائرين والمثور عليهم"دعوتُهم واحدة". وماذا لو أنّ المفاوضات فشلت، وحمل أولئك السلاح؟ يختلف الفقهاء هنا؛ فالمالكية والشافعية لا يرون أن تبدأهم السلطة بالقتال. بينما يرى الأحناف جوازَ ذلك. حتى إذا نشب القتال وجرى الانتصار على "البغاة" هؤلاء وألقوا السلاح؛ فإنّ على السلطة أن تصونَ عليهم حيواتهم وحرياتهم وممتلكاتهم. بل إنّ هناك من يقول من الفقهاء: إن على السلطة أن تردَّ عليهم سلاحهم ما داموا قد تفرقوا!
ويريد بعض الفقهاء المتأخرين أن يفرّقوا بين المعارضين والخوارج التاريخيين! لكنّ في ذلك تناقُضاً؛ لأنّ الفقهاء يقولون: إنهم يتبعون في آرائهم إزاء البغاة المسلك الذي سلكه علي بن أبي طالب مع خصومه، وهو قد قال: إخوانُنا بغَوا علينا. وَمَنْ يُسمَّون نبزاً بالخوارج هم من أولئك المعارضين؛ فلا ينبغي التفرقةُ بنيهم وبين البُغاة أو المعارضين السياسيين.
لقد جرى عُرف الفقهاء - منذ منتصف القرن الثاني الهجري كما قدّمنا - على عقد فصلٍ في كتبهم في السِيَر للمعارضة السياسية وأحكامها. ومنذ كتاب الأم للشافعي دخل فصل أحكام البغاة في كتب الفقه العام بسائر المذاهب. وكان المقصودُ به معالجة آثار الثوران المسلَّح بما لا يزيد التوترات والاستنزافات؛ ذلك أنّ العنف والعنف المضادّ لا ينتهيان إن لم ينته التمرد بإنصاف الثائرين، وصون دمائهم وحرياتهم وأعراضهم وممتلكاتهم. فالفتنة أو النزاع الداخلي يظلان ممكنين وإن كانت السلطة عادلة. لكنّ التسوية العادلة والمقْسِطة تصونُ قوة الدولة وشرعيتها، وتقلّل من إمكانيات تعاظُم الثوران أو تكرار التمرد.
لقد عدَّ المحدِّثون والفقهاء النزاعات الداخلية فتناً تُذهب الدولة والهيبة. ولذلك فإنّ المحدِّثين قالوا بالاعتزال في الفتنة؛ أي الحياد والخضوع السلبي؛ لكنّ الفقهاء مارأَوا في ذلك حلاً؛ لأنّ المشكلة ستتجدد كما أَوضح القرآن. ولذلك كان لا بد من الاشتراع للمعارضة السياسية، واصطناع قنواتٍ للتفاوض رجاء الوصول إلى حلولٍ تتّسمُ بالعدل والقِسْط لسائر الأطراف من أهل "الدعوة الواحدة".
ثالثاً: خاتمةٌ في الفتنة والاضطراب الإسلامي المعاصر:
يشيع الاضطراب السياسي والديني والإستراتيجي في سائر أنحاء العالمين العربي والإسلامي. وهذا بالإضافة إلى سوء العلاقة السائدة بين المسلمين والعالم.
في عام 2004 أصدر الباحث الفرنسي المعروف جيل كيبيل كتاباً عنوانه: "الفتنة: الحرب في قلب الإسلام" Fitna: Guerre au Coeur de l’islam؛ لكنّ المترجم نزار أورفلي غيَّر العنوان، وسمّى الكتاب في ترجمته العربية: "الفتنة، حروب في ديار المسلمين". وهناك حروبٌ في ديار المسلمين نجم بعضُها عن الغزو الخارجي. لكنّ قصد الكاتب الفرنسي - كما يظهر من العنوان ، ومن مضامين فصول الكتاب - أن يقول: إنّ هناك نزاعاتٍ بداخل الإسلام( السني)، وهو الأمر الذي ينطبقُ عليه الفهم القديم لمفرد الفتنة أو مصطلحها. المؤلّف يذهب إلى أنه تشابكت هناك ظروفٌ خارجيةٌ وأُخرى داخلية أفضت إلى تفجير الإسلام من الداخل. فقد كتب تمهيداً عن انهيار اتفاقية أوسلو للسلام، ثم جاء الفصل الأول عن ثورة المحافظين الجدد بالولايات المتحدة وتأثيراتها الخارجية. وبالتوازي مع ذلك ظهرت إستراتيجية القاعدة في "حرب العدو البعيد"، فإلى مطاردة القاعدة من جانب الولايات المتحدة في الحرب العالمية على الإرهاب. ثم يأتي فصلٌ عنوانه: المملكة العربية السعودية في عين الإعصار لسببين؛أحدهما: داخلي بسبب انفجار السلفية في قلب المملكة والإسلام، وثانيهما: خارجي في إرادة الولايات المتحدة أن تهاجم السلفية التي هاجمتْها في عُقْر دارها. ويضاف لذلك عنصر التفجير بين السنة والشيعة والذي تسبّبت به الولايات المتحدة في غزوها للعراق. ليأتي فصلٌ بعد ذلك بعنوان: معركة أوروبا ذات العقلية المنقسمة وقتها بين الانضمام إلى الولايات المتحدة في حروبها أوإيثار النهج التقليدي في علاقات السلم والتجارة مع العرب والمسلمين، ونهج المواطنة والاندماج مع المسلمين الأوروبيين. وليختم الكاتب مطالعته هذه بخاتمةٍ عنوانها: فيما يتجاوزُ الجهاد والفتنة. وهذه خاتمةٌ ذكيةٌ لأنّ الجهاد يعني تقليدياً مناضلة العدو الخارجي؛ بينما تظلُّ الفتنةأو يظلُّمصطلحهامعنياً بالانقسام الداخلي في ديار المسلمين أو دينهم.وما يقصده الكاتب مرةً ثانيةً أوثالثةً هوأنّ ما يحيط الحربعلى الإرهاب يتجاوز المفهومين أو الواقعتين: واقعة الهجوم (الجهادي) للقاعدة على الولايات المتحدة،وواقعة التفجر بداخل الإسلام. إنّكلَّ ذلك لا يمكن فهمُهُ إلاّ على المستوى العالمي للسياسات الأميركية والدولية. فلا الجهاد المتجدد هوبؤرة المشكلة، ولا الانقسام بداخل الإسلام ينفرد بفهم ما يجري على المستوى العربي/ الإسلامي أو على مستوى علائق المسلمين بالعالم.
في أواخر العام ذاتِه (2004) - ولم يكن كتاب كيبيلKepelقد تُرجم بلقرأْتُهُ بالفرنسيةُ - أصدرتُ كتابي:"الصراع على الإسلام، الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية". ومع أنني ما كنتُ أُوافقُ وقتَها المؤلّف الفرنسي على عدّ الأمر مجرد"فتنة"؛ فإنني عمدتُ إلى تحليل ظواهر التفجير من خلال عدّ الصراع في الإسلام وعليه صراعاً للقبض على روحه من ثلاثة جوانب أو جهات: جانب الظاهرة الإحيائية والأصولية المتفجرة بداخل الإسلام، والتي تريد الاستيلاء على الدين قبل الديار. وجانب السلطات العربية والإسلامية التي تريد مكافحة السلفية الجهادية حفظاً للوجود ووحدة المجتمعات والبلدان. وجانب السياسات الدولية (الأميركية وقتها) التي تريد الانتقام لهجمات سبتمبر، وفي الوقت نفسِه تريد القبض علىهذا المارد الخارج من القمقم، تارةً بمقاتلته في سائر مواطنه بالقوة العسكرية، وطوراً بشنّ "حرب أفكار" كما قال رمسفيلد وزير دفاع الرئيسبوش الابن "من أجل استنقاذ فكرة الحرية والعيش الحر والآمِن فيالولايات المتحدة والعالم". مؤسسة راند الأميركية التي تُعنى بأبحاث الأمن القومي كانت قد أصدرت عام 2003 دراسةً بقلم شيريلبينارد عنوانها: "إسلامحضاري ديمقراطي، شركاء وموارد وإستراتيجيات". ولذا فإنّ مقولة رمسفيلد عن "حرب الأفكار" جاءت تعبيراً عن مطمح مؤسسة راند الأميركية، لاصطناع بديلٍ للإسلامالأصولي أو للسلفية الجهادية.
لماذا أذكر هذا كلّه استطراداً؟ بعد اثني عشر عاماً على كتاب جيل كيبيل، يبدو بالفعل ومن الجهة الأولى أنه صراعٌ على مصائر الإسلام. أما من الجهة الثانية فيبدو صراعاً على العرب ومصائرهم إنساناً ودياراً. وهو صراعٌ متعدد الجوانب والاتساع والانتشار والتعدد، بحيث لا يمكن تحديد مصائره أو تقريرها في حربٍ أو حروب. ولذا فإنّ الجهات الدولية الفاعلة اختارت هذه البقعة العربية للضرب على هذا القلب الثائر والعشوائي، وفي الحسبان أنه إذا سقط القلب أو تكسَّر؛ فإنّ بقية أجزاء الطائر العملاق يسري إليها العطب، فينجو العالم من الشر الذي تعتقد الدوائر الإستراتيجية العميقة أنّ الخطر كامنٌ فيه، وأنّ التفجرات ستستمر ما دام القلب حياً ونابضاً.
بيد أنّ هذا التعليل أو هذه السياسات لا ينبغي أن تصرف أنظارنا عن تتبع مظاهر وظواهر التفجر الداخلي الناجع، والذي صارت له آلياتٌ تبدو مستقلةً في عملها واضطرابها حتى عن الإستراتيجيات الدولية. إنها فتنةٌ بالفعل في قلب الدين والدولة. وكنتُ في هذا البحث قد ناقشتُ أسباب التركيز في الأدبيات الكلاسيكية على مفرد الفتنة وتجاهُل مفرد الفساد، وهو قرآنيٌّ بدوره؛ فالاضطراب الداخلي الهائل ليس فتنةً فقط؛ بل هو فسادٌ كبير ينال من الدين ومن العيش ومن إنسانية الإنسان: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
...........
الهوامش
- سبق أن كتبتُ مقالةً بمجلة التسامح عدد 21، 2008، ص 20-227 عنوانها: الفتنة وأخواتها في النص والوعي والتاريخ. وفي العدد نفسه مقالةٌ لفيصل الحفيان (ص196-209) بعنوان: والفتنة أشد، والفتنة أكبر. وهناك مقالةٌ ثالثةٌ في العدد نفسه لمحمد حلمي عبد الوهاب عنوانها: الفتنة وسياقاتها المعرفية لدى تيارات التشدد (ص 227-246). وفي التسامح، عدد 9 مقالةٌ لرضوان زيادة عنوانها: التوظيف السياسي لمفهوم "الفتنة" في التاريخ الإسلامي (ص 76-90).
- تاريخ الطبري (نشرة دي غويه) م2، 1392، 1400-1401.
- الناشئ الأكبر( أو جعفر بن حرب): مسائل في الإمامة والكتاب الأوسط في المقالات، نشرة يوسف فان أس، ص 50.