محمد الحدّاد | كاتب وأستاذ الدراسات الحضارية بجامعة قرطاج| تونس.
كلّ حديث في تطوير الدولة الوطنية وتجديدها لن يكون ذا فائدة إذا لم يسبقه إجماع واضح وصريح على أنّ هذا الشكل في التنظيم السياسي ليس بالمرحلة الانتقالية ولا الولادة المشوّهة، سيقع تجاوزه مستقبلا باتجاه شكل شرعي بأيّ مسمّى كان. بل الدولة الوطنيّة هي الشكل الأساسي للتنظيم السياسي، وكلّ التنظيمات الأخرى إما أن تندمج فيه (القبيلة، الطائفة، الحزب، الخ) أو تحصل بعد الاعتراف به (التجمعات الإقليمية والمنظمات الدولية، الخ).
والوطن -بحسب المعنى اللغوي للكلمة- هو المكان الذي تستوطنه مجموعة بشرية معينة. أمّا الدولة، فيمكن تعريفها تعريفا عاما بأنها "المنظومة" الأساسية التي تعتمدها هذه المجموعة لإدارة شؤونها المشتركة، أو ما يدعى بالشأن العام. والمقصود بالمنظومة جملة التشريعات والمؤسسات المعتمدة في هذه الإدارة والتي تنهار الدولة بانهيارها.
وتواجه كلّ دولة صعوبات عديدة يمكن أن تتجاوزها بالتطوير والتجديد، لكن بشرط ألا تتحوّل كلّ مشكلة إلى أزمة تنسف شرعيتها من الأساس. بيد أنّ الظاهرة الملازمة لأزمات الدول الوطنية في العالم العربي قد لخصها د. رضوان السيّد بالقول: "يتجدّد الحديث حول مشروعية هذا الكيان العربي أو ذاك، كلما تعرّض لتهديد، تعتبر النخبة أنه فشل في مواجهته، سواء أكان تهديداً داخلياً أم خارجياً"(1). ومع أنّ هذا التوصيف قد كتب في علاقة بارتدادات التدخل العسكري في العراق سنة 2003؛ فإنّه يتأكّد اليوم بصفة جلية مع ارتدادات الثورات العربية التي لم تؤدّ إلى حلّ مشاكل مجتمعاتها أو تطوير أوضاعها وتجديدها، بقدر ما أنتجت فائضاً ضخماً من الشعارات والصخب تحوّل في الغالب إلى عنف ودمار، وفي حالات أقلّ إلى جمود وعجز عن التغيير بسبب تقارب موازين القوى وغياب المشاريع الوطنية.
إنّ عقودا من تعميم التعليم وانفتاح النخب على التجارب العالمية كانت كفيلة بتوفير الحلول المعقولة لأغلب المشاكل التي دفعت إلى الغضب والاحتجاج. لا سيما أنّها -في جزء مهمّ- منها مشتركة مع العالم المعولم، واقتصاده القائم على النفعية، وقيمه التي جرّدت البشر من أعماق إنسانيتهم، وتكنولوجياته الاتصالية التي حطّمت أبواب البيوت ونوافذها وفرضت نفسها على حميمية كلّ كائن بشري. بيد أنّ قوتها التدميرية في المجتمعات العربية تبدو أكبر بكثير، والعجز عن مواجهتها على أرض الواقع يبدو بدوره أكبر أيضاً. وهذا ما يبرّر قولنا: إنّ قضية الشرعية السياسية في المجتمعات العربية تعمل كمكثّف للأزمات وتعقّد إمكانات تجاوزها.
لقد ترتّب على ما يمكن أن ندعوه بالموجة الثورية الثانية إعادةُ ما قد حصل سابقاً مع الموجة الثورية الأولى في خمسينات وستينات القرن العشرين، إذ زادت المشاكل استفحالاً مع تنامي الخطابات التي تدّعي حلّها، فتراجع الأداء في كلّ الميادين باستثناء إنتاج العنف. ووظّفت الانفعالات الدينية في الحاضر كما وظّفت الانفعالات العروبية في السابق لتقويض شرعية الدولة الوطنية دون تقديم بديل حقيقي وواقعي عنها، مع أنّ كلّ حلول التطوير والتجديد لا يمكن أن تنجح إلاّ في إطار الدولة الوطنية. وبعبارة أخرى: إنّ أكبر مهمة في التطوير والتجديد تطرح اليوم، ينبغي أن تتجه إلى دعم مشروعية الدولة الوطنية بدعم فكرة الاندماج المواطني للجميع، منعا لانفجارات اجتماعية تؤدّي إلى فوضى لا يمكن معها تحقيق إصلاح ولا تجديد. فاتجاه التجديد لا يكون إلاّ بتوسيع قاعدة المواطنة في إطار الدولة الوطنية التي لا بديل عنها.
1) أين الخطأ؟
يرى البعض أنّ الدولة الوطنية مستحيلة التحقيق في المجتمعات العربية والإسلامية، فضلاً على أن تكون قابلة للتطوير والتجديد، لأسباب يعزونها للثقافة والدين؛ ففي كتابه الأخير "نظام العالم" (2) دافع أستاذ العلوم السياسية ووزير الخارجية السابق للولايات المتحدة الأمريكية هنري كيسنجر عن أطروحة أساسية مفادها أن القواعد التي تحكم العالم لم تتغيّر منذ معاهدة "وستفالي" سنة 1648، وحذّر من الفوضى الحالية التي تهدّد النظام العالمي بسبب ظهور التكنولوجيات الجديدة؛ لأنّ هذه التكنولوجيات دفعت لظهور "لاعبين غير حكوميين" أصبح نفوذهم أقوى أحيانا من نفوذ الدول، وقد تجاوز هذا النفوذ كلّ دولة على حدة، ليصبح نفوذاً مسلطاً على نظام العالم ذاته؛ أي أنّ هذا النظام لم تعد تحدّده الدول فحسب، وإنما يتحدّد أيضا نتيجة نفوذ "اللاّعبين غير الحكوميين"، وهي تسمية شديدة الاتساع، يمكن أن تضمّ المنظمات العالمية لحماية البيئة، أو الدفاع عن حقوق الإنسان، كما يمكن أن تضمّ الشبكات الإرهابية المعولمة.
وفي الصفحات القليلة التي تعرّض فيها كيسنجر للعالم الإسلامي، نجده يميل إلى تفسير أزمة هذا العالم -وتخصيصا منطقة الشرق الأوسط الكبير- بأنها أزمة نظام إقليمي يأبي القبول بالقواعد التي سيّرت العالم منذ معاهدة "وستفالي"، ومنها نظام الدولة الوطنية. لذلك لا يرى كيسنجر من هذا العالم إلاّ الأزمات، وربما كان بعض عذره أنه كتب كتابه على وقع الثورات العربية، وفي ظرفية طغى فيها الإحباط والتشكيك في مصير هذه الثورات، والتخوف على مصير الاستقرار الإقليمي، وتداعيات كل ذلك على العالم. لكنْ ثمّة أيضاً عاملان أكثر خطورة، يوجهان ضمنياً رؤية صاحب الكتاب. أولهما: الرؤية المثالية للدور الأمريكي في المنطقة، ودورها في إرساء النظام العالمي عامة. وثانيهما: الخلفية الثقافية لتحليله، التي لا تبتعد عن أطروحتي برنارد لويس وصمويل هنتغنتون.
وينتمي كيسنجر إلى المدرسة الواقعية في العلوم السياسية، ويدرك أنّ الصراعات والنزاعات وجدت منذ وجود البشر على البسيطة، وستستمرّ بوجودهم، لكن من الممكن الحدّ منها وإيجاد آليات لاحتوائها، وهذه مهمة السياسة. وعلى هذا الأساس يرى أن تجربة "وستفالي" قد أرست القواعد الرئيسة لتحقيق هذا الطموح الواقعي للبشرية، وهي الإقرار بالتعددية، واعتماد مبدأ السيادة، وتحويل الصراع من مجال العقيدة إلى مجال المصلحة التي يمكن التفاوض بشأنها، والبحث عن توازن القوى، وتغليب الديبلوماسية على الحرب كلما كان ذلك ممكنا.
فمشكلة العالم الإسلامي -حسب كيسنجر- أنه يظلّ معارضاً لنظام "وستفالي"، لأنه يعدّ الولادات الوطنية انحرافاً دينياً، لذلك تجد التصورات الأصولية المستمدة من "الإخوان المسلمين" والجماعات المشابهة صدى واسعاً لدى شعوبه؛ لأنها تقوم على نقض الدول الوطنية باسم الدين، ونقض السلام مع الغير بسبب الاختلاف الديني.
لقد منعت النظرة التمجيدية للدور الأمريكي في النظام الدولي من أن يتعمّق الكاتب في تحليل التبعات السلبية لهذا الدور، وقبله دور بريطانيا وفرنسا، وتحديد مسؤوليته في تعميق الفوضى في الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى من العالم، لاسيمّا أنّ الغرب قد احتفظ بقواعد "وستفالي" لنفسه، ولم يعامل بقية العالم على أساسها، وقد مثّل الاستعمار أكبر تناقض مع مبدأ السيادة التي هي جوهر ذلك النظام. ولم تكن السياسة الأمريكية في المنطقة -وقد حلّت محلّ بريطانيا وفرنسا- إلاّ مواصلة لمبدأ الكيل بالمكيالين. لذلك يلتجئ كيسنجر -مثل برنارد لويس وصمويل هنتغنتون- إلى تفسير ثقافوي للوضع؛ أي عدّ الوضع موضوع التحليل ناتجاً عن الثقافة (وتحديداً الدين الإسلامي) بدل جعل الثقافة السائدة نتيجة من نتائج الوضع، كما يحتاج إلى اختزال الثقافة (والدين خاصة) في الأطروحات والتأويلات الأصولية، واعتبار الأصوليين هم الممثلين للروح العميقة للمنطقة. لا يمكن أن نوافق كيسنجر على هاتين المصادرتين في قراءة أوضاع العالم الإسلامي، لكن ينبغي أن نقرّ بأنّ فكرة تمرّد العالم الإسلامي على نظام "وستفالي" دون أن يكون قادرا على تقديم بديل واقعي عنه هي معاينة مصيبة، وأن الثورات العربية قد قدمت مجدّداً إثباتاً لصحتها.
وعلى عكس كيسنجر نميل إلى اعتبار أن نظام الدولة الوطنية -الذي بدأ مع معاهدة وستفالي- لم يعرض على العالم الإسلامي كي يرفضه، وأنّ ما عرض عليه هو في أحسن الحالات صورة مشوّهة منه، إن لم تكن نقيضه، تمثّلت في الاستعمار والتجزئة. ولعلنا نجازف بالقول: إنّ مقابل "وستفالي" في الشرق الأوسط هو "سايكس-بيكو"، فإذا كانت "وستفالي" قد قامت على الندية واحترام الاختلاف واقتسام المصالح والإقرار بالسيادة والبحث عن التوازن، فإن "سايكس-بيكو" مثّلت النقيض التام؛ فهي معاهدة سريّة بين وزيري خارجية القوتين الاستعماريتين بريطانيا (مارك سايكس) وفرنسا (جورج بيكو)، وقّعت دون علم شعوب المنطقة، وكان يمكن أن تبقى مخفية لولا قيام الثورة البلشيفية في روسيا، وقرار فلادمير لينين نشر الوثائق السرية للنظام القيصري. فهي التعبير الأفضل عن التهاون بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، واستحواذ قوى خارجية على الوصاية عليها، فضلا عن ارتباطها بمسار من المناورات العدوانية، من مؤتمر برلين (1878) الذي قسمت فيه تركة الرجل المريض أي الإمبراطورية العثمانية المتداعية، إلى تحقيق وعد بلفور (1917) مقابل نقض وعد إقامة الدولة العربية الكبرى.
ليست القضية إذن تعارضاً بين ثقافتين، أو صراعاً بين نموذجين حضاريين، أو تقابلا بين منظومتين دينيتين؛ وإنما هي اختلاف في التجربة التاريخية. فإذا كانت التجربة الأولى إيجابية؛ لأنها أوقفت الحروب الدينية في أوروبا وفتحت المجال لنهضتها الحديثة وثورتها العلمية والتكنولوجية، وامتدت آثار ذلك إلى القارة الأمريكية التي افتكّت بعد الحرب العالمية الأولى الوصاية على النظام العالمي؛ فإن التجربة الثانية كانت سلبية في وعي الشعوب المعنية بها؛ لأنها لم تحلّ مشاكلها بل زادتها تعقيدا، فضلا عن تعميق الشعور بالإهانة بسبب الوقوع في وصاية الغير وهيمنته. وإذا كان طريق الخلاص قد بدا في المرحلة الأولى مرتهنا بالدفاع عن الإمبراطورية العثمانية في وجه التحديات الغربية؛ فإن هذه الطريق قد تحوّلت بعد ذلك من المحسوس إلى المتخيّل، وحلّ محلّ الدفاع عن الإمبراطورية بعد سقوطها الدفاع عن مشروع استعادة الخلافة الإسلامية، فحصل انتقال من مشروع سياسي إلى ثقافة سياسية اضطلعت بدور التعويض النفسي عن الهزيمة، ولم تكن مهيّأة منذ البداية بأن تقدّم نظرية بديلة يمكن أن تختبر على أرض الواقع، أو تنافس نظام الدولة الوطنية محليّا ونظام الأمم المتحدة عالمياً، إذا افترضنا أن النظامين قد تطوّرا نتيجة سلام "وستفالي" المشهور.
ولا يحتاج الشرق الأوسط إلى مشاريع جديدة لإعادة التقسيم؛ لكنه يحتاج إلى إعادة تحديد مسألة الشرعية السياسية. إنّ كل التقسيمات، الممكنة لن تحلّ المشاكل العالقة؛ إذ ستبدو مشروعة من وجهة نظر المستفيدين ومرفوضة من وجهة نظر المتضرّرين، فتتواصل معها المواجهات والصراعات دون نهاية (3) أمّا قضية الشرعية فتحتاج إلى حلّ عقدتين تاريخيتين، ترتبطان بشعور المهانة المترتّب على وقائع الفترة الممتدة من القرن التاسع عشر إلى اليوم. وهما تحديدا عقدة "الخلافة"، وعقدة "سايكس-بيكو". الأولى هي ردّ انفعالي لا يمكن أن يتحوّل إلى نظرية سياسية قابلة للتطبيق، والثانية اختزال مسار معقّد في حادثة نوعية؛ لكنّها لا تهمّ إلاّ جزءا من الشرق الأوسط. ولم يكن هذا الجزء موحّدا فقسّمه الاستعمار، ولا كان مستقرّا فدفعه الاستعمار إلى الصراع. وكما أن الجدل حول الخلافة لا يمكن أن يمثّل الحلّ السياسي للمجتمعات الإسلامية، فإن مشاكل هذه المجتمعات لا يمكن أن ترمى فقط على عاتق الاستعمار والتدخّل الأجنبي. وهذه المشاكل مشتركة بين مجتمعات خضعت سابقا لنظام الخلافة ومجتمعات لم تخضع لهذا النظام، وبين مجتمعات مرّت بعهود الاستعمار وأخرى لم تعرف هذه العهود.
وفي الغالب، يظلّ النقاش محصوراً في مقاربتين: مقاربة ثقافوية ماهوية تربط الانسداد السياسي للدول العربية والإسلامية بالعامل الديني أساساً، ومقاربة تاريخوية تآمرية تردّ على الأولى بإبراز مجموعة كبيرة من الأحداث ذات الطابع العدواني التي تعدّ السبب الأساسي في هذا الانسداد، وفي مقدمتها طبعا مشاريع التقسيم الاستعمارية. إنّ رفضنا للمقاربة الأولى لن يدفعنا إلى الاستسلام للثانية، فهي مجرد جدل كلامي (نسبة لعلم الكلام القديم) للردّ والمخاصمة ولا يمكن أن تسهم في بناء وعي سياسي تجديدي. فالأحداث التاريخية تخضع بدورها إلى تأويلات مختلفة، والنقاش ينبغي أن يتكفّل أيضا بتقديم التأويلات الممكنة والمحتملة للأحداث المطروحة. المقاربة التأويلية التي نقترح-بديلا عن السابقتين معا- تتجه إلى قضية الشرعية ذاتها، وليس إلى الأحداث الحافّة بها. والشرعية تأويل وليست حدثا، وإن كانت تنشأ دائما من حدث نوعي يتخذ بعدا مرجعيا في وعي مجموعة بشرية معيّنة.
2) تجديد الشرعية بإعادة تأويل التاريخ
سأسعى في هذا المقال للاستدلال على الفكرة التالية: إذا كان الغرب قد دخل نظام الدولة الوطنية مع معاهدة "وستفالي" المشهورة؛ فإن العالم الإسلامي قد سعى بدوره إلى دخول هذا النظام، حسب ظروفه الخاصة، مع إصلاحات القرن التاسع عشر. لكنّ هذا السعي همّش لاحقا بسبب الاستعمار، وتمّ التركيز بدل ذلك على معاهدة "سايس-بيكو" التي قدّمت على أنها الحدثالمؤسّس للنظام السياسي الحالي في المنطقة. وعلى هذا الأساس حجب نظام "وستفالي" بنظام "سايكس-بيكو"، الأوّل ذو دلالة إيجابية، والثاني مرادف الفشل والخيانة والتدخّل الأجنبي.
ينبغي الخروج من هذا الوضع التأويلي وهذه المقابلة المتعسفة وإعادة طرح الموضوع بالانطلاق من مسألتين أساسيتين: أولهما: أنّ كل نظام سياسي يحتاج إلى أن يقوم على شرعية معينة، وثانيهما: أنّ الشرعية مفهوم ذو تاريخية وتتطوّر عبر العصور.
ما كانت شرعية الشكل السياسي الإمبراطوري في القديم؟ لنأخذ مثلا آخر الإمبراطوريات الكبرى في العالم الإسلامي أي الإمبراطورية العثمانية. لقد استندت شرعيتها أساسا إلى الدور الذي اضطلعت به لإيقاف المدّ الصليبي نحو المنطقة الإسلامية، والحيلولة دون أن تتواصل حركة "الاسترداد" المسيحية (Reconquista)التي قادها في إسبانيا الملوك الكاثوليك، فتتجاوز الأندلس التي سقطت إمارتها الإسلامية تباعا، لتلتحم بمشروع الحروب الصليبية، وتستردّ كلّ المناطق التي كانت مسيحية قبل ظهور الإسلام، من الشام وبيت المقدس إلى كل الشريط الساحلي المتوسطي الجنوبي، الذي يشمل بالتقسيمات الحالية مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب.
هل كان ممكناً للعرب مواجهة هذا المشروع بأنفسهم لو لم يغزُ سليم الأول مصر والشام سنة 1517؟ هذا الاحتمال وارد؛لقد أثبت حكم الشرفاء بالمغرب قدرته على التصدّي لحركة "الاسترداد" دون مساعدة مباشرة من الدولة العثمانية، لكن لولا السيطرة العثمانية على سواحل وموانئ ليبيا والجزائر (حسب التقسيمات الحالية) لوجد المغرب نفسه بين فكّي كماشة، فالسيطرة على بقية ما كان يدعى بالغرب الإسلامي قد كفته مؤونة الجبهة الشرقية وضيقت مجال المواجهة في الجبهة الشمالية. أما الدول الممتدّة بين المغرب ومصر، وأهمها الدولة الحفصية، فلم تقدر على المواجهة. ويمكن طبعا أن نتصوّر مسارات تاريخية عديدة، مثل استقلال مصر بنفسها، أو وجود دولة "عربية" مستقلة على امتداد مصر والشام منذ القرن السادس عشر، وهذا المسار هو الذي طرحته القومية العربية في العصر الحديث لتحمّل العثمانيين مسؤولية تخلفها التاريخي؛ لكنّه يدخل في مجال الإمكان لا التاريخ. وحتى لو افترضنا استقلال دولة عربية عن الإمبراطورية العثمانية، فلا شيء يؤكد أنها كانت ستختلف عن النظم الأساسية، السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في المجال العثماني الواسع، لاسيّما أنّ العديد من المقاطعات العربية في العهد العثماني، كانت تتمتّع بالحكم الذاتي. كما أنّ النظم العثمانية إنما واصلت ما كان سائدا سابقا في المجتمعات الإسلامية، ومنها العربية، ولم تحدث قطائع نوعية- لا بالسلب -ولا بالإيجاب- تبرّر أن يُعدّ العصر العثماني بداية مرحلة الانحطاط أو بداية العصر الحديث. لكنّ كلّ هذا الجدل انتهى إلى إضعاف شرعية الدولة الوطنية العربية التي وجدت نفسها محاصرة بين مشروعين أيديولوجيين أحدهما قائم على القومية، والثاني على استعادة نظام الخلافة.
بيد أنّ المهمّ في التاريخ هو ما حصل لا ما كان يمكن أن يحصل. والتاريخ يبيّن أن الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الإسلامية قد ارتكزت في مجال الشرعية على هذا النجاح المتأكّد في منافسة القوّة المسيحية الغربية على اقتسام المتوسط، ومنع حركة الاسترداد المسيحي من التواصل إلى الضفة الجنوبية للمتوسط، وفتح جبهة جديدة ضدّ أوروبا على حدودها الشرقية، بلغت مدينة فيينا في الحصار المشهور سنة 1683. فلو نجحت حركة الاسترداد المسيحي في الانتقال للضفة الجنوبية لعادت المسيحية بقوّة إلى مواقعها السابقة في العهدين الروماني والبيزنطي؛ أي الشريط الساحلي للجزائر وتونس وليبيا ومصر إضافة إلى الشام. ولو اخترق العثمانيون فيينا لدخل الإسلام بقوّة إلى أوروبا الغربية مثلما دخل البلقان؛ لكن المحصلة الواقعية هي أنه لم يتحقّق الحلم الكوني الإسلامي ولا الحلم الكوني المسيحي بالسيطرة على العالم القديم، ونشأ توازن قوى بين الطرفين. وكان هذا التوازن المصدر الأساسي للشرعية في الدولة العثمانية، ولم يكن كذلك في الإمارات الأوروبية، وهذا الاختلاف هو الذي سيباعد بين التشكل السياسي للدولة في الفضاءين، قبل أن يلتقيا مجدّداً في القرن العشرين.
إذا كان مصدرُ الشرعية للدولة العثمانية وخلافتها الإسلامية الدورَ الذي اضطلعت به لتحقيق هذا التوازن بين الإسلام والمسيحية في العالم القديم، وحماية المجتمعات الإسلامية من الغزو الأوروبي؛ فإنّ من الطبيعي أن تسقط هذه الشرعية يوم تصبح عاجزة عن القيام بهذا الدور. ومن هنا فقد سقطت هذه الشرعية عندما سيطر الإنجليز على الهند. ومع أن الهند لم تكن محميّة عثمانية فإنّ مبدأ التكافل بين الدول الإسلامية كان يحمّل الإمبراطورية العثمانية مسؤولية المبادرة بالقيام بشيء ما، مثلما تدخلت سابقا في تونس للتعويض عن انهيار الدولة الحفصية. ثمّ تأكّد هذا الانهيار العثماني عندما غزا بونابرت مصر سنة 1798 ،ثم عندما دخل الفرنسيون الجزائر وكانت ولاية عثمانية سنة 1830.
حول هذه اللحظة المحورية طرحت قراءتان للتاريخ: قراءة تقوم على المؤامرة- وقراءة تقوم على الملاءمة. قراءة المؤامرة-وعليها ارتكزت خطابات القومية العربية والأصولية الإسلامية- هي تلك التي تعدّ كلّ هذه الأحداث مؤامرة ضدّ العروبة أو الإسلام. لكن، إذا سلمنا بهذا المنطق في تفسير التاريخ، فإن الغربيين سيرون بدورهم أن الإمبراطورية العثمانية كانت مؤامرة ضدّ المسيحية، منعتها من استرداد المناطق التي كانت منتشرة فيها قبل ظهور الإسلام، ومن استعادة الوحدة بين جزئيها الشرقي والغربي. إنّ قراءة التاريخ بهذه العقلية التآمرية ستفتح الباب على مصراعيه لأصحاب نظرية صراع الحضارات ومنظري التطرف الحضاري والديني. فالحاضر يصبح بمقتضى هذه الرؤية مجرّد ثأر للماضي، بدل أن يفتح المجال لملاءمة تجديدية مع تطورات التاريخ البشري.
وانطلاقا من هذه اللحظة المحورية تضخّمت نظرية المؤامرة في الثقافة الإسلامية السائدة، لتصبح المفتاح الرئيس لقراءة انهيار الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية. وما لم تنسف المعرفة التاريخية النقدية هذه النظرية وآلياتها الانفعالية العميقة؛ فإننا نظلّ عاجزين عن إقامة الدولة الوطنية؛ لأن كل شرعية حديثة ستعدّ جزءًا من هذه المؤامرة الكبرى ضدّ الإسلام، وسيجعل من السهل تحريك الشحنات العاطفية للجماهير للبقاء في مستوى التنظيمات الأولية للحضارة، بدل الارتقاء إلى التنظيمات الأكثر تطوّرا، وتحويل كلّ أزمة داخل الدولة إلى مراجعة لشرعيتها ومشروعيتها في الآن ذاته.
لماذا انهارت الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الإسلامية؟ الجواب التاريخي هو أن هذا الانهيار هو جزء من حركة تاريخية شاملة، تضمّنت انهيار كل الإمبراطوريات القديمة، في آسيا وأوروبا أيضاً، وإعادة تشكلها على أسس حديثة. لقد انهارت لأنها كانت تحمل في ذاتها القابلية على الانهيار، وليس فقط لأنها تعرّضت لضربات الدول الغربية، فهذه الضربات كانت متبادلة بينها وبين هذه الدول منذ قرون.
أجل كان انهيار الإمبراطورية دراميا من وجهة نظر تقتصر على متابعة التاريخ من الداخل الثقافي الإسلامي فقط؛ لأن الذين عاصروا انهيارها لم يكونوا مطّلعين على تواريخ الشعوب الأخرى، ثم أيضا لأن هذا الانهيار قد ارتبط بالاستعمار وما أعقب هذا الحدث من شعور بالمهانة، فقد مثّل عاملا إضافيا لخنق الحسّ النقدي وتقوية الردود الانفعالية والرؤى الأسطورية. لكن إذا نظرنا إلى الموضوع برؤية مقارنة؛ رأينا أن انهيار النظام الإمبراطوري لم يمنع اليابان والصين من أن تعودا إلى مسرح التاريخ العالمي، ولا انهيار الإمبراطورية القيصرية من عودة الروس، ولا قبلها انهيار الدولة الرومانية ثم انهيار حلم إعادتها من نشأة النهضة الأوروبية الحديثة. فالمشكل ليس في الانهيار بل في العجز عن إعادة تأسيس الشرعية.
لقد كانت الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الإسلامية فسيفساء من الأعراق والأديان، انفجرت بتباين المصالح بين مجموعاتها البشرية التي لم يندمج بعضها ببعض، رغم تعايشها في الإمبراطورية نفسها على مدى قرون. ولقد حصل هذا التعايش دون اندماج، بسبب البنية الاجتماعية التقليدية وهيمنة الهوية الدينية، السبب الرئيس في القابلية للانهيار أمام الضغط الخارجي. لقد نسف صراع الهويات داخل الإمبراطورية نظام المليات الذي كان متقدّما عالميّا بقياس القرون الأولى لقيام الإمبراطورية، لكنّه أصبح متجاوزا تاريخيا بعد عصر الأنوار والثورات الكلاسيكية الكبرى وانتشار فلسفة المواطنة والمساواة. وقد قبلت مجموعات بشرية عديدة الحكم الإسلامي عندما كان يحقّق مصالحها، وبدأت تتمرّد عليه عندما تقلّصت هذه المصالح. ونظام الحكم لم يكن يسمح باندماجها اندماجاً عميقاً يماهي بين وجودها ومصلحة الدولة؛ لأن العقد الاجتماعي القائم لم يكن عقد دولة بالمعنى الحديث، وإنما كان عهدا حربيا بين منتصر ومنهزم. وإذا كانت شرعية الدولة قائمة على الانتصار فإن من الطبيعي أن تقوم هوية المجموعات الهامشية على ذكرى الهزيمة. ماذا كان شعور يوناني يعيش في عاصمة الخلافة وهو يرى كنيسة آيا صوفيا-معقل المسيحية الأرتدوكسية- تتحوّل إلى مسجد؟ لذلك لم يكن غريبا أن يقود اليونان أوّل تمرّد انفصالي كبير على الإمبراطورية، ذاك الذي حصل سنة 1821، ولا يمكن النظر إليه من زاوية المؤامرة الغربية فحسب؛ فالتحليل بالمصالح من جهة، وفهم ثقافات الأقليات من جهة أخرى؛ يبيّن بسهولة أنّ ثمّة أسباباً داخلية أيضاً وراء هذا الحدث الذي مثّل تاريخيا بداية التفكّك.
لقد بدأت نظرية الدولتين-بل نظرية صراع الحضارات عامة- مع هذا الحدث الذي كان البداية والفاتحة؛ ففي حين اتجهت الثقافة الإسلامية السائدة إلى إعادة تفعيل الشعور الديني بالمؤامرة، قامت الثقافة الغربية بدورها بتصوير المواجهة على أنها معركة بين الحضارة (الغربية) والبربرية (العثمانية/الإسلامية)، ناهيك أن أدباء مرموقين-مثل الفرنسي فكتور هيغو والإنجليزي جورج بيرون- قد أسهما في إذكاء هذه الصورة بأشعارهما (قضي الثاني "شهيدا" وهو يساند الثوار اليونان سنة 1824). أمّا من الناحية السياسية فإن النتيجة معروفة؛ فقد تكتلت القوى الحربية "الإسلامية" (تركيا وولاياتها الكبرى ومنها مصر وتونس، الخ) ضد القوى الحربية "المسيحية" (إنجلترا، روسيا، فرنسا) وانتهت بهزيمة ساحقة للقوى الإسلامية في معركة نافارين سنة 1827. لقد كتبت سابقا بخصوصها ما يلي: "لم تفهم القيادات الإسلامية معنى معركة نافارين من جهة أنها هزيمة حضارية وليست مجرد هزيمة عسكرية، لقد كانت مؤشرا إلى أنّ التوسع الأوروبي المدعوم بقرون من تراث التطوّر أصبح ذا تفوق نوعي على التوسع الإسلامي ذي النمط التقليدي، الذي لم يكن يحظى -في أحسن الحالات- إلا ببعض مكاسب الاقتباس من ذلك التطور الأوروبي"(4).
لو حصل الاختيار باتجاه المحافظة على النظام القديم لتواصلت الهزائم الداخلية أمام الحركات الانفصالية والهزائم الخارجية أمام القوى الغربية الناشئة، ولو حصل الاختيار باقتباس الأنظمة الغربية لأصبحت الدول المقتبسة تحت رحمة تلك القوى الأوروبية. على الورق تبدو المفارقة غير قابلة للحلّ، لكن تاريخيا نجح الروس واليابانيون والصينيون في التطوّر حيث فشلت الدول "الإسلامية"، من المغول في الهند إلى العثمانيين ومصر في عهد محمد علي، وتونس في عهد أحمد باشا، والمغرب في عهد الشرفاء. ثمة شيء مشترك بين هذه المجتمعات هو المحافظة الاجتماعية والثقافية التي تقف عائقا دون الاستجابة السريعة لتغيّرات الأوضاع، والمسارعة بالإصلاح قبل فوات الأوان، بل قُلْ: سيطرة ردود الفعل الانفعالية بدل المواجهة الإستراتيجية المعقلنة للتحديات. ونظرية المؤامرة هي جزء من هذه الانفعالية؛ لأنها ترمي بالمسؤولية كلها إلى العوامل الخارجية، وهي موجودة دون شك، لكن لا ينبغي الاقتصار عليها إلى درجة إلغاء كلّ تحليل معمّق للعوامل الداخلية، لا سيما أنّ العوامل الداخلية هي القابلة للتحكّم والتغيير لو توفّرت الإرادة.
لقد ترسخت حركة التنظيمات العثمانية مباشرة بعد الإقرار باستقلال اليونان في مؤتمر لندن (1928)، وأصبح أمام كل الشعوب العثمانية-ومنهم العرب والأتراك- ثلاث إمكانيات : البقاء في النظام الإمبراطوري القديم، الإصلاح في إطار التنظيمات العثمانية التي كانت تسعى إلى تحويل الرابطة العثمانية الحربية إلى رابطة عثمانية سياسية قائمة على الدستور والقانون، الاقتداء بالنموذج اليوناني المتمرّد على الإمبراطورية. ومن هذه الإمكانيات نشأت التطلعات الكبرى التجريدية: استعادة مجد الخلافة الإسلامية، أو تحقيق الوحدة القومية، أو إنشاء الدولة الوطنية. لا واحدة من هذه التطلعات سهلة التحقيق، بسبب العوامل الخارجية والداخلية التي ذكرنا، لكن بعد قرنين من التّردّد الحضاري، حان الوقت للحسم والاقتناع بأن التطلع الثالث-أي الدولة الوطنية- هو الوحيد الواقعي والقابل للتحقيق، والباقي طوباويات هائمة. وقولنا: أنه واقعي لا يعني أنه متحقّق أو سهل التحقيق، وإنما يعني أنه لن يتحقّق طالما ظلّ مختنقا بالشحنات الانفعالية القوية المسلطة ضدّه. فلا مناص من الوضوح؛ لأنه لا يمكن التقدّم على ثلاثة مسالك متباينة، ولأنّ ثمن الانسداد السياسي أصبح باهظ الثمن ومأساويّ العواقب على الشعوب المعنيّة.
3) كيف كانت بدايات الدولة الوطنية؟
نعود حينئذ إلى أركيولوجيا نشأة شرعية الدولة الوطنية في العصر الحديث، متخلصين من الشحنات الأيديولوجية العدوانية التي سلطت عليها، من أصحاب نظريات الماهوية الثقافية في الغرب، مثل برنارد لويس وهنتغنتون وكيسنجر، وأصحاب الطوباويات التائهة، القومية والأصولية في الثقافة العربية المعاصرة. يتفق المؤرخون على تحديد نقطة البداية بسلام أوغسبورغ (Augsbourg) المنعقد سنة 1555 ثم بمعاهدتي وستفالي (Westphalie) سنة 1648خاصة. كانت أوروبا قد شهدت في القرنين السادس عشر والسابع عشر تحديات دينية عنيفة من صنفين؛ فالصنف الخارجي مثّله تقدّم الإمبراطورية العثمانية باتجاه شرق أوروبا والوصول إلى أسوار فيينا. أمّا الصنف الداخلي فقد مثّله الانشقاق داخل المسيحية نفسها بين الكنيسة الكاثوليكية والتيار الديني المتمرّد عليها، وقد قاده لوثر وكلفن وآخرون. وحاولت أوروبا في البداية رأب هذا الصدع بالطرق التقليدية؛ أي قرارات الحرمان التي كانت الكنيسة تصدرها ضدّ مخالفيها؛ لكنها فشلت في ذلك، إذ استأثرت الحركة البروتستانتية بتعاطف العديد من الأمراء لأسباب متنوعة، ثمّ ما فتئت تستهوي شرائح اجتماعية مهمة كانت متعطّشة لتديّن جديد مختلف عن ذاك الذي فرضته الكنيسة، معتبرة أن المسيحية الحقيقية قد حرّفت بسبب جشع رؤساء الدين وتهافتهم على السلطة والمال. ودخلت أوروبا بسبب ذلك مرحلة من الحروب الدينية أشهرها ما يعرف بحرب الثلاثين سنة (1618- 1648)، وعاشت مجازر مروّعة منها مجزرة سانت برتليمي المشهورة (1572)، وأصبحت أوروبا آنذاك تجسّد العنف الديني، حتى إنّ السلطان العثماني أصدر بيانا لإدانة مذبحة سانت برتليمي ودعوة الأوروبيين للتسامح!
أمام هذا التحدّي المزدوج-أي الخطر العثماني من الخارج والحرب الدينية من الداخل- كان أمام أوروبا حلاّن:
الحلّ الأوّل: جسّده الحاكم الكبير شارلكان في القرن السادس عشر، وتمثّل في استعادة وحدة المسيحيين، وإحياء الإمبراطورية الرومانية المسيحية التي كانت قد سقطت في جزئها الغربي أمام زحف البرابرة، ثمّ سقطت في جزئها الشرقي باحتلال السلطان العثماني محمد الفاتح للقسطنطينية. واتخذ هذا المشروع اسم "الإمبراطورية المقدسة". ويجمع المؤرخون على أن شارلكان كان حاكما فذّا، وكان شديد الإيمان بهذا المشروع، وكانت الإمبراطورية العثمانية ترى أنه العدوّ الأكبر لمشاريعها في التوسّع نحو أوروبا، فناصبته العداء، وتحالفت مع غرمائه ملوك فرنسا، ومنحتهم امتيازات تجارية ومالية ضخمة، كما منحتهم حماية المؤسسات المسيحية في الإمبراطورية، محاولة منها في شقّ الصفّ الأوروبي المسيحي.
الحلّ الثاني: جسّده صلح أوغسبورغ سنة 1555 وقد أقرّ بانقسام "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" مقاطعات أوروبية واسعة محورها ألمانيا (بالحدود الحالية) بين مذهبين دينيين هما الكاثوليكية والبروتستانتية، وقلّص من صلاحيات الإمبراطور مقابل توسيع صلاحيات أمراء المقاطعات، بما في ذلك صلاحياتهم الدينية، بما يعني أن المقاطعات الكاثوليكية والبروتستانتية تتوقّف عن الحرب ويتعايش بعضها مع بعض على مبدأ "ديانة الرعية هي ديانة الأمير(باللاتينية: regio ejus religio cujus). هكذا كانت البدايات الأولى لفكرة "السيادة" و "الحرية الدينية"، وقد كانت مجسّدة في الأمراء والملوك، قبل أن تتحوّل بعد قرون إلى الشعوب. وقد ترسّخ هذا التوجّه بمعاهدتين وقّعتا سنة 1648 بين ممثلي المقاطعات والجماعات الأوروبية، عرفت بمعاهدتي "وستفالي"، جاءت نتيجة مفاوضات تواصلت لعدة سنوات، وأنهت الحروب الدينية في أوروبا. وقد وقعت المعاهدة الأولى في مدينة منستر الكاثوليكية، والثانية في مدينة أوزنبروك البروتستانتية، وكلاهما يقع في الإمبراطورية المقدسة ومقاطعاتها الألمانية، فأعلنتا انهيار الحلم التوحيدي للإمبراطورية، وانقسام أوروبا إلى مجموعة كبيرة من الدويلات والمقاطعات، تتحدّد العلاقة بينها بمقتضى المبادئ المعروفة بمبادئ "وستفالي"، ويسود السلم بين سكانها باحترام بعضهم لبعض، بما في ذلك احترام الاختلاف الديني بين الكاثوليك والبروتستانت المنقسمين بدورهم إلى لوثريين وكلفنيين. وبذلك رسخ سلام "وستفالي" مبدأ الحرية السياسية والدينية وأخرج أوروبا من مرحلة طويلة من العنف والمآسي، وأنشأ نظاماً دولياً جديداً يقوم على احترام حدود الدول، فكان فاتحة نظام الدول الوطنية الذي حلّ محلّ النظام الإمبراطوري بالشكل القديم. فهو نظام نشأ في أوروبا؛ لكنه توسّع شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبح في القرن العشرين نظاما عالميّا، تجسّده منظّمة "الأمم المتحدة" القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن، وذلك بعد أن التزمت القوى الأوروبية-بحكم انهيار مركزها العالمي بسبب تلك الحرب- باحترام مبدأ السيادة في الدول غير الأوروبية ورفع الاستعمار عنها، مثلما أقرّت بمبدأ السيادة داخلها في معاهدتي وستفالي.
أيهما كان الأفضل لأوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر: مواصلة الحكم بإقامة الإمبراطورية المسيحية العالمية الخاضعة للسلطة الوراثية للإمبراطور والسلطة الدينية الكنيسة؛ قصد إيقاف التمدّد العثماني/الإسلامي في الشرق الأوروبي، وسحق البروتستانتية بالعنف والحرب بوصفها هرطقة دينية؟ أم القبول بالانقسام السياسي والتعدديّة والتنوّع داخل الفضاء الإمبراطوري القديم، مع إدارة هذا التعدّد بمبادئ سلمية قائمة على الحرية والسيادة، وإيقاف نزيف الحروب الدينية باحترام العقائد المختلفة ومنع السلطة السياسية من إرغام الناس على عقيدة معينة؟
لقد أدانت الكنيسة آنذاك سلام "وستفالي"، وشعر الكثيرون بالخيبة من هذه المعاهدة وعدّوها تفتيتا لأوروبا وللمسيحية، وانهياراً لفكرة الكونية السياسية والدينية المرتبطة بحلم استعادة الإمبراطورية الرومانية والمثل الديني الأعلى للمسيحية،القائم على تحقيق خلاص البشر جميعا بالسيّد المسيح وبحسب المبدأ المشهور "لا خلاص خارج الكنيسة". لكنّ التاريخ بيّن أنّ التعددية عندما تدار حسب مبادئ رشيدة تصبح عامل قوّة لا عامل ضعف، كما أن الوحدة إذا كانت مصطنعة وقائمة على القهر لا توفّر ظروف النجاح. لقد أفسح سلام "وستفالي المجال للطاقات الأوروبية لتتحوّل من العنف والتعصب إلى الإبداع الحضاري، فشهدت القارة نهضة علمية وتجارية وفنية وأدبية غير مسبوقة، جسدها الروّاد مثل غوته صاحب الدعوة الشهيرة للتآخي بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، ثم عصر الأنوار الذي أعاد ترتيب المفاهيم الفلسفية والسياسية الكبرى على أساس الحرية والسيادة للعقل البشري. وسيطر الأوروبيون على العالم من جديد بفضل تطوّر العلم والتقنية، وليس باستعادة الشكل الإمبراطوري الروماني. وأصبح لزاما على كل من يسعى إلى التصدّي لهم أو منافستهم أن يتسلحبسلاحهم نفسه، وقد نجح الأمريكان واليابانيون والصينيون لاحقاً في التفوّق على أوروبا باعتماد نظمها الجديدة وتطويرها لصالحهم.
لم ينتشر هذا النظام ويتخطّ حدود أووربا بالصدفة؛ بل لأنه أثبت صلاحيته وفوائده لمجموعات بشرية مختلفة، عاشت بدورها الحروب والمنازعات، وأدركت ما أدركته قبلها الشعوب الأوروبية، وهو أن من الأفضل احترام التنوّع والعيش المشترك على الرغبة الجامحة في تحقيق وحدة سياسية ودينية مستحيلة بين البشر. وأصبحت الديبلوماسية جزءًا من العلاقات الدولية الحديثة، ترتبط بالتفاوض على المصالح بدل المناظرة حول الحقائق الدينية. وجعلت الأمراء يتنافسون بعضهم مع بعض في استقبال العلماء والمفكرين ورعايتهم وتشجيعهم على الإبداع.
4) التجديد بتعميق المواطنة
لا يمثّل الحديث عن شرعية الدولة الوطنية ومشروعيتها مجرّد قضيّة نظريّة مجردة، وأولى ألا يكون تبريراً للأوضاع السائدة وخلطا بين الدولة والسياسات المعتمدة لتسييرها. إنّ أفضل طريقة لتحقيق الهدف المنشود هو تعميق المواطنة التي تمثّل حجر الأساس في هذه الشرعية. والمقصود بذلك توسيع دائرتها لتشمل كل المعنيّين بها، وتحقيق أكبر قدر من العدالة والإنصاف ليشعر الجميع بالاندماج فيها؛ ذلك أن غياب المساواة بين الأفراد والمجموعات يغذّي الشعور بالنقمة ويضعف الارتباط بالدولة، وهذا سبب رئيس في انهيار المجتمعات والدول في التاريخ البشري كلّه، ومنه تاريخ الشرق الأوسط منذ تفكّك دوله الكبرى في العصر الحديث. لا يصعب على الملاحظ أن يرى أن الدول الوطنية العربية قد وفّرت العديد من الوسائل العصرية لإدارة الشأن العام؛ لكنها لم توفرها بصفة عادلة ومنصفة بين الأفراد والجماعات والجهات والأقاليم، فأصبحت قضية التفاوت أكبر مشاكلها، وتجاوزت-كما ذكرنا- مستوى نقد السياسات المتبعة إلى مستوى الطعن في شرعية الدولة الوطنية ذاتها.
ومن الخطأ الاعتقاد أن مراجعة الدساتير والتشريعات والقوانين سيكون كافياً لمواجهة هذه القضية؛ فلئن كان الجانب التشريعي مهمّاً فإن نجاعته لا تتحقّق إلاّ بتغيير عميق للثقافة السائدة. وعلى سبيل المثال، تثبت التجارب المعاصرة أنّ مجتمعا ذا تركيبة طائفية لا يمكن أن يتحوّل إلى الديمقراطية بمجرّد سنّ دستور ديمقراطي وإقامة مؤسسات سياسية مقتبسة من التجارب الديمقراطية العالمية، كما يشهد على ذلك لبنان أو العراق. فما يحصل في هذه الحالات هو مجرّد انتقال للبنية الطائفية إلى تنظيم حديث في الشكل دون المضمون. فيقع اقتسام المؤسسات طائفيا، ويحصل الانتخاب على أساس الولاء الطائفي دون البرامج السياسية، ويتعذّر قيام إدارة محايدة تجسّد استمرارية الدولة وتقدّم الخدمات الأساسية للمواطنين بعيدا عن التجاذبات السياسية، مثلما حصل في بلجيكا عندما تعذّر تشكيل الحكومة لمدة سنة كاملة دون أن يتغيّر شيء من الحياة اليومية للمواطنين، ويتعذّر على التعليم والإعلام القيام بدورهما الإدماجي في المجتمع، وذلك من خلال تذويب الاختلافات الطائفية في مجال تداولي مفتوح، يدعم المقترحات الإبداعية المتجهة إلى المستقبل بدل تكرار القضايا الهوياتية، التي تحكم على الناس بالبقاء في مستوى صراعات الماضي ومشاكله ورؤاه العقيمة للأشياء.
إنّ العمل الدؤوب من أجل تجديد الثقافة السائدة يمثل الشرط الأساسي والضروري والمكمّل لكل السياسات والتشريعات. وفي الغالب طرحت مشاريع التطوير والتجديد دون إيلاء اهتمام حقيقي بالتجديد الثقافي، بل إنّ كلمة ثقافة لا تعني في بعض البلدان العربية أكثر من إقامة المهرجانات ومواعيد الفرجة، وبعض وزارات الثقافة هي وزارات ترفيه ليس إلاّ. فأين الدور الثقافي في ترسيخ الدولة الوطنية؟ وهل نعجب بعد ذلك من انتشار الخطابات المعادية للدولة الوطنية، بشتّى مسمياتها، وتفكّك المجتمعات بفعل العولمة المتوحشة التي تسعى إلى استبدال الدولة/الأمة بالدولة/السوق، واستغلال التناحرات الداخلية لمصالح خارجية، وتدويل الثروات الوطنية عبر تدويل النزاعات المحلية؟
ذلك أنّ عوائق التجديد أمام الدولة الوطنية لا تقتصر على المشاكل الداخلية وحدها؛ فكما عطّل الاستعمار والهيمنة الخارجية مسار تطوّر الإمبراطوريات القديمة في العالم الإسلاميإلى دول وطنية في العالم الإسلامي، وألغى الجهد الذي قام به روّاد التنوير في القرن التاسع عشر -وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوي- لتبيئة المفاهيم السياسية الحديثة- مثل الدستور والحريات وفصل السلطات- في الثقافة الإسلامية والمتاح الاجتماعي العربي، فإنّ العولمة المتوحّشة لا تيسّر حالياً مسارات إصلاح الدول الوطنية، بل تمارس على هذه المسارات ضغوطا تجعلها تحيد عن أهدافها الحقيقية، أو تتراجع إلى الجمود والتمسّك بالموجود تحسّباً من عواقب التغيير. ولا يخفى أنّ مصطلح "الحكم الرشيد" الذي يتداول اليوم بكثرة هو نفسه قد نشأ مرتبطاً بالخلفيات الأيديولوجية العميقة لهذه العولمة، وقد طرح أوّل مرّة من خلال الوثائق التوجيهية الكبرى للبنك الدولي (5)،وفي تواصل مع الإصلاحات الهيكلية التي فرضت على الدول النامية في ثمانينات القرن العشرين وآلت إلى الفشل في الغالب، فوقع تفسير ذلك الفشل بطبيعة الحكم، ونشأت آنذاك فكرة ترشيده بدعم الشفافية ومحاربة الفساد وتنظيم الانتخابات والسماح بإقامة الجمعيات، إلخ. ومع أنّ المفهوم قد تطوّر منذ ذلك الحين؛ فإنه لم ينقطع تماما عن خلفيته الاقتصادية المتمثلة في دفع بلدان العالم إلى فتح أسواقها على الاقتصاد المعولم، والحدّ من دور الدولة في المجال العام وتفكيك أجهزة الدولة كي تعمل باستقلالية بعضها عن بعض، وهذا ما دعاه البعض بديمقراطية السوق التي تحوّل القطاع الخاص المرتبط بالاقتصاد المعولم إلى محور الحياة الاجتماعية، فيتحوّل بالتنظيم السياسي من الدولة/الأمّة إلى الدولة/السوق. ودون الدخول في الجدل عن علاقة نمط التنمية بترشيد الحكم، فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ الثروات الطبيعية المتوفرة في منطقة الشرق الأوسط تسيل لعاب العولمة المتوحّشة، وتطرح قضيتين في الآن ذاته؛ القضية العامة التي تشكّل منذ سنوات طويلة محور هذا الجدل، وهي: هل الحكم الرشيد-بالمواصفات التقنية الدولية التي وضعها البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية والإعمار (PNUD)- مفيد للمجتمع ككل، أم مفيد لتطوير القطاع الخاص المرتبط بالعولمة؟ والقضية الخاصة ببلدان الشرق الأوسط، وهي الأطماع الخاصة بثرواته، والتي لا تحتاج لتنمية قطاع خاص من الأصل بل هي عرضة للاستحواذ المباشر بالإغراء والتغرير! فهذا الوضع الخاص يؤكد مجدّدا أن التجديد لا يمكن أن يقتصر على الوصفات التقنية المتداولة في الخطابات المعولمة حول الحكم والتسيير، بل ينبغي أن تنطلق من رؤى ثقافية تعيد تأويل الماضي وتفتح الآفاق للمستقبل.
كما أنّ المواطنة مفهوم قد تطّور في العلوم السياسية ولم يعد مقتصرا على المنوال الكلاسيكي القائم على جرد الحقوق والواجبات وترسيخ هوية مفروضة على الجميع. فمع أنّ فكرة الاندماج تظلّ أساسية فإنّ المنظرين المعاصرين لفلسفة المواطنة ربطوا هذه الفكرة باحترام التعددية والاختلاف والتراث الفكري والروحي لكلّ مجموعة بشرية. وكما يقول أحد الباحثين: "لقد طرأ على الجدل الفلسفي حول التعددية الثقافية تغيّر جذري في السنوات الأخيرة من حيث مداه ومصطلحاته الأساسية. فحتى منتصف الثمانينات، قليل هم الفلاسفة السياسيون أو أصحاب النظريات السياسية الذي اشتغلوا في هذا المجال؛ لكن اليوم قفزت مسألة التعدّدية الثقافية إلى واجهة النظرية السياسية؛ وذلك لأسباب عدّة، منها أن انهيار الشيوعية أطلق العنان في أوروبا الشرقية لمواجهة من الحركات القومية ذات الطابع الإثني أثرت على نحو كبير في مسار الديمقراطية. فقد كذبت المسائل المتعلقة بالإثنية والقومية التوقعات المتفائلة بانبعاث هادئ وسلسل للديمقراطية الليبرالية في تلك البلدان... (ومنها) ردّ الفعل العنيف لسكّان الديمقراطيات الغربية ضدّ الوافدين على بلدانهم من المهاجرين واللاّجئين"(6). إنّ جزءا من التحديات التي تواجهها الدولة الوطنية اليوم يرتبط بهذه التغيّرات العالمية العامة، وينخرط في الحركية الجديدة للفكر السياسي الحديث، وينبغي أن يطرح بمفاهيم الحاضر وآليات عمله.
لا ريب أنّ نشر ثقافة قائمة على التفاهم واحترام الاختلاف والتعامل المنصف مع الجميع هي التي ستعيد لشرعية الدولة الوطنية بريقها، وتمنعها من أن تسقط ضحية الجهل من الداخل والمكر من الخارج، وتجعلها تحافظ على مكوناتها التاريخية، ومنها الدين والمذهب واللّغة، دون تعصّب ولا انغلاق. إن الثورة الحقيقية التي تحتاجها المجتمعات العربية هي ثورة ثقافية، تفتح ورش التجديد على الأساس الذي ذكرنا؛ أي التسليم بشرعية الدولة الوطنية مع توسيع دائرة المواطنة، سواء في مستوى ترشيد الحكم، أم إقامة الإدارة التشاركية، أم تشجيع الاقتصاد القائم على المبادرة، أم تطوير التعليم المنفتح على القيم الكونية، أم دعم المجتمع المدني الملتزم بالثوابت الوطنية. ولن تنجح هذه الحلول التجديدية إذا ما قدمت في شكل وصفات تقنية أو مبادرات تشريعية، ولم ترتبط بمشروع ثقافي متكامل يتخلّص من عقد الماضي ومن التعامل الانفعالي مع تحديات الحاضر.
.....
المصادر:
- رضوان السيّد، مقالة في الإصلاح السياسي العربي. بيروت، دار النهار، 2004.
- صدر بالإنجليزية في سبتمبر 2014 وتجاوزت طبعاته العشرين وترجم إلى لغات عديدة.
World Order. New York: Penguin Press, September, 2014
- نقلت وكالات الأنباء بتاريخ 12/02/2016 نبأ تعيين الانفصالي رياك مشار نائبا لرئيس جنوب السودان سيلفا كير، بما يذكر بتعيين كير نفسه في السابق نائبا لعمر البشير قبل أن ينفصل جنوب السودان عن شماله، وقد يكون التعيين الثاني مقدّمة لانفصال جنوب جنوب السودان عن جنوب السودان المنفصل عن السودان. وهكذا يمكن أن يستمر مسلسل تقسيم بلد إلى ما لا نهاية، كما يبدو من الحالة السودانية.
- د محمد الحدّاد، الإسلام بين العنف والإصلاح، بيروت، دار الطليعة، 2007، ص 80.
- طرح هذا المفهوم أوّل مرّة في وثيقتين مرجعيتين للبنك الدولي وهما:
Governance and development (1992)
Governance : The World Bank perspective (1994)