حمادي ذويب | أستاذ محاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، تونس
لئن أفاض الباحثون في دراسة جوانب كثيرة من حياة الغزالي ومؤلفاته فإنّهم لم يخصّصوا لكتاب «المستصفى في علم أصول الفقه» ما هو به جدير بالدرس في مختلف مستوياته. ولا ندّعي أنّنا نروم بلوغ هذا المقصد من خلال دراستنا هذه؛ وإنّما ننشد تسليط الضوء على إشكالية بدت لنا جوهرية ذات صلة بهذا الكتاب هي: إلى أيّ مدى يمكن عد الغزالي مجدّدا من خلال المستصفى؟ ولعلّ ما يشرّع بحث هذه الإشكالية أنّ القدامى؛ إن وصفوا الغزالي بأنّه مجدّد؛ لم نجد ـ في حدود ما اطّلعنا عليه ـ من ينعته بأنّه جدّد الأصول؛ ذلك أنّهم يقتصرون على عبارة عامّة يسِمُونه بها هي تجديد الدين.
وقد يكون التجديد بمعنى الإحياء أو تجديد المذهب الفقهي. إلّا أنّ الأمر اللافت للنظر أنّ هذا التجديد ارتبط بقيد زمني هو القرن الخامس للهجرة، وهو ما أكّده السيوطي في قصيدة ذكر فيها أسماء علماء عدَّهم مجدّدي كلّ قرن. ومن الواضح أنّ هذا الموقف يمثّل محاولة تجسيد لدلالة الحديث المشهور: «إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها». لكن كيف يتمّ تحديد اسم المجدّد؟ يتمّ هذا عادة بناءً على إجماع العلماء كلّهم أو أغلبهم؛ لكنّ هذا المقياس النظري هيمنت عليه الخلفيات المذهبية؛ فكلّ مذهب يدّعي صفة المجدّد لعلمائه، وينتظر ظهور مجدّد القرن. وهكذا كان الشيعة ينتظرون رجعة الإمام، أمّا السنيون فإنّهم ينتظرون ظهور مجدّد كلّ قرن فيبحثون عنه في شخصيات بارزة من الفقهاء والمتكلّمين والفلاسفة.
ولئن كان يتوقّع أن تصدر الشهادة بأنّ عالماً ما مجدّد القرن من علماء مذهب ما أو من علماء المذاهب مجتمعة حتّى تكون موضوعية ومقبولة فإنّ الغزالي اختار أن يزكّي نفسه لمنصب المجدّد قبل أن يزكّيه غيره. فقد روى في كتابه «المنقذ من الضلال» كيف تغلّب على شكوكه الخاصّة بعودته إلى مهنة التدريس، وبيّن أن عودته سببها أنّ الله وعد بإحياء دينه على رأس كلّ مائة سنة، ويلمّح الغزالي بهذا طبعاً إلى حديث المجدّد، ويسعى إلى تنفيذه حرفياً من خلال الانتقال إلى نيسابور لاستئناف التدريس في أواخر القرن الخامس للهجرة تحديداً (ذو القعدة سنة 499هـ). ولعلّ هذا ما جعل السيوطي لا ينتظر رأي عامّة العلماء لاختياره مجدّداً؛ بل يعبّر عن أمله في أن يكون الله اختاره ليكون مجدّد القرن العاشر للهجرة. ولا شكّ في أنّ «المستصفى» ـ الذي كتب خلال سنة 503هـ ـ ينتمي إلى هذه الفترة التي آمن الغزالي فيها بأنّ العناية الإلهية اختارته ليؤدّي دور مجدّد الدين في القرن الخامس. لكن هل من دواع تجعل الغزالي يقدم على هذه المهمّة الجليلة والعسيرة؟ يبدو أنّ هذه الدواعي لا تخرج عن إطار الدواعي الموضوعية والذاتية؛ فعلى الصعيد الأوّل يظهر أنّ الغزالي قد ابتأس ممّا هيمن على عصره من تعصّب مذهبي أدّى إلى كثير من الانقسامات والنزاعات؛ لذلك كان مسعاه إلى التوفيق والمؤالفة بين المتنازعين واضحاً في خطابه الأصولي في ثنايا «المستصفى»، أمّا على الصعيد الثاني فالظاهر أنّ الغزالي قد أكبّ على دراسة العلوم غير النقلية ممّا جعله يكتسب أدوات معرفية ومنهجية جديدة سيسعى إلى توظيفها ليقدّم صورة جديدة لعلم أصول الفقه. وهذا الرأي يعضده في نظرنا قول ابن عساكر (ت 571هـ) بعد أن تحدّث عن خلوة الغزالي: «ثمّ حكى أنّه راجع العلوم، وخاض في الفنون، وعاود الجدّ والاجتهاد في كتب العلوم الدقيقة، والتقى بأربابها حتّى انفتحت له أبوابها».
ويبدو أنّ أثر هذه العلوم قد فعل فعله في «المستصفى» وأسهم في نحت مقوّمات التجديد فيه.
1 ــ مقوّمات التجديد في «المستصفى»
أ ـ مزج أصول الفقه بالمنطق:
إنّ دراسة أصول الفقه في كتاب «المستصفى» من دون التطرّق إلى دور المقدمة المنطقية فيه يمثل في نظرنا إخلالاً بالغايات التي رمى إليها صاحبها، وفي صدارتها اعتماد منهج جديد لمقاربة الأصول ينهض على دمج المنطق ضمن مباحث أصول الفقه.
وقد تفطّن الفقهاء والأصوليون القدامى إلى دور الغزالي الريادي في هذا الشأن، ومن ذلك قول الطوفي الحنبلي (ت 716هـ): «وإذا كان الشيخ أبو حامد الذي هو الأصل في ذلك، ولم يعلم أحد قبله ألحق المنطق بأصول الفقه، اقتصر في مقدّمة كتابه، وأحال من أراد الزيادة في ذلك على كتابيه «معيار العلم» و «محك النظر»، فمن هو تبع له في ذلك أولى بالإحالة على كتب الفنّ».
ويبدو أنّ هذا الموقف مبالغ فيه؛ لأنّ تأثر الأصوليين بطريقة علماء المنطق بدأت منذ القرن الرابع للهجرة؛ لكنّ فضل الغزالي أنّه توسع في عملية مزج المنطق بالأصول، فخصّص مساحة مهمّة للمباحث المنطقية في أهمّ موضع من مواضع الكتاب هو صدارته. إلّا أنّ الأهمّ من ذلك الموقف الصادم الذي عبّر فيه عن انتصار للمنطق غير مسبوق بين ممثلي العلوم الشرعية، يقول: «وليست هذه المقدّمة من جملة علم الأصول ولا من مقدّماته الخاصّة به؛ بل هي مقدّمة العلوم كلّها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً».
وتعدّ المقدّمة المنطقية في «المستصفى» مقوماً من مقوّمات التجديد إذا اعتبرنا قطع صاحبها مع موقف الشافعي السلبي من المنطق الأرسطي، فقد هاجمه بعنف، ووصل به الأمر إلى درجة تحريمه. ويعدّ موقف الغزالي من المنطق في «المستصفى» وجهاً من وجوه التجديد أيضاً إذا استحضرنا موقف الأشاعرة؛ فقد احترزوا في أصولهم من منطق أرسطو، وتجلّى هذا بوضوح لدى عدو لدود للتراث اليوناني هو الباقلاني (ت 403هـ).
وقد يكون أهمّ معيار لقياس أهمية ما قام به الغزالي في هذا المجال النظر في أثره في الفكر الإسلامي عامّة وفي علم أصول الفقه خاصّة؛ فعلى الصعيد الأوّل تأثرت العلوم الإسلامية بموقف الغزالي، فأدخلت المنطق اليوناني ضمن مباحثها، فانفتح بذلك الفكر الإسلامي على فكر الآخر من دون أن يشترط أن يكون الآخر متجانساً معه بالضرورة في المعتقد والدين واللغة. يقول ابن تيمية مخبراً عن هذا الأثر: «ولكن بسبب ما وقع منه ـ أي الغزالي ـ في أثناء عمره وغير ذلك صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخّرين يظن أنّه لا طريق إلّا هذا».
وهكذا عُدّ الغزالي المازج الحقيقي للمنطق الأرسطي بعلوم المسلمين لا بسبب ما صنّفه من كتب منطقية؛ بل لتلك المقدّمة المنطقية التي وضعها في أوّل كتابه «المستصفى». ولعلّ هذا ما جعل كثيراً من الدارسين المعاصرين من مختلف المشارب يرون أنّ هذه المقدّمة من ركائز أهمّية «المستصفى»، وأنّها ذات طابع تجديدي. ولئن حرص الغزالي على ألا تتجاوز المباحث المنطقية مرحلة مقدمة الكتاب؛ فإنّ القالب المنطقي المتمثّل في البرهان الثلاثي البنية ـ أي مقدّمتين فنتيجة ـ تجلّى بوضوح في مواضيع عدّة تتعلّق بمختلف الأصول الفقهية، ومن ذلك قوله في الباب الأوّل من أبواب السُنَّة الخاص بإثبات أن التواتر يفيد العلم: «فإن عنيتم بكونه (العلم الحاصل عن الخبر المتواتر) نظرياً شيئاً من ذلك فنحن ننكره، وإن عنيتم به أن مجرّد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدّمتان:
إحداهما: أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامعٌ، ولا يتفقون إلّا على الصدق.
والثانية: أنّهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة، أما النتيجة فهي: «فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين. فهذا مسلّم ولا بدّ أن تشعر النفس بهاتين المقدّمتين حتّى يحصل له العلم والتصديق». ويحضر البرهان المنطقي أيضاً في مباحث القياس إلّا أنّ الغزالي يرفض أن يسمّيه قياساً مثلما يفعل الفلاسفة الذين يطلقون اسمه على تركيب مقدّمتين تحصل منهما نتيجة»، مثل قول القائل: كلّ مسكر حرام وكلّ نبيذ مسكر، فيلزم منه أن كلّ نبيذ حرام. فإنّ لزوم هذه النتيجة من المقدّمتين لا ننكره؛ لكن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة...».
ولا شكّ في أنّ موقف الغزالي من المنطق أثار ردود فعل متباينة سواء داخل علم أصول الفقه أو خارجه؛ إلّا أنّ ما يعنينا بالدرجة الأولى مواقف الأصوليين من إدراج المقدّمة المنطقية ضمن أصول الفقه.
ونلاحظ في هذا السياق فريقاً من المالكية وغيرهم اختاروا الاقتداء بصاحب «المستصفى» في وضع مقدمة منطقية في كتبهم الأصولية، ومنهم ابن قدامة (ت 620هـ) في كتابه «روضة الناظر وجنّة المناظر». والظاهر أنّ موقفه هذا كان محض متابعة للغزالي؛ لأنّه لم يكن متكلّماً ولا منطقياً مثلما ذكر الطوفي. وما يلفت النظر بعد هذا: شرح «لمستصفى» الغزالي لأبي عبد الله محمد العبدري (ت 626هـ) بدا فيه متأثراً بالمنطق على غير عادة الفقهاء المتجافين عنه؛ ولذلك قال عنه المراكشي (ت 695هـ): «كانت له مشاركة في فنون من العلم كالفقه وأصوله والعربية وغير ذلك وولوع بالمنطق حتى شرح كتاب «المستصفى»، فما زاد على أن أرى في مسائله كيفية الإنتاج بإظهار المقدّمتين في كلّ مسألة وما تنتجه وردها على ضروبها من الأشكال المنطقية على مراتبها. وقلّما تعرّض لغير هذا، وما سئم منه ولا كلّ على طول الكتاب». والظاهر أنّه منذ منتصف القرن السابع للهجرة على الأقلّ بدأ تأثر الأصوليين المالكية بمقدّمة «المستصفى» وبإدخال المنطق ضمن المباحث الأصولية. وهكذا وجدنا ابن الحاجب (ت 646هـ) يدشن كتابه «منتهى الوصول والأمل في علميْ الأصول والجدل» بمقدمة منطقية على غرار مقدمة «المستصفى»، وفعل القرافي (ت 684هـ) الأمر ذاته في كتابه «شرح تنقيح الفصول»، ومزج في كتابه الفقهي الموسوم بـ «الذخيرة» بين اللغة والمنطق وعلم الأصول، وسار على الطريقة ذاتها الأصفهاني الشافعي (ت 688هـ) شارح «المحصول» للرازي، فقال في مقدّمة كتابه «الكاشف»: وقد وضعت مقدمة في المنطق ملخصة محرّرة غاية التحرير في أوّل هذا الكتاب تأسياً بالإمام حجة الإسلام في وضعه في أوّل «المستصفى» «مقدّمة في المنطق». وفي القرن الثامن للهجرة مثّل ابن عرفة (ت 803هـ) إمام جامع الزيتونة بتونس مرحلة مهمّة من مراحل دمج تدريس المنطق ضمن دروس الفقه المالكي بفعل امتزاج المنطق ببحوث علمي أصول الفقه والدين.
أما القرن التاسع فإننا نلفي فيه ابن حلول القيرواني المالكي (ت 895هـ) يستهل شرحه لتنقيح الفصول في الأصول بمقدمة منطقية، ونرى الكمال بن الهمام (ت 861هـ) الحنفي يضع مقدّمة منطقية في صدر كتابه «التحرير»، ونسج ابن عبد الشكور (ت 1119هـ) على هذا المنوال في «مسلّم الثبوت»، وهكذا انتشر موقف الغزالي من المنطق عبر القرون والأصقاع والمذاهب.
وترتّبت على ذلك الانتشار نتائج كثيرة ومتنوّعة منها ـ على الصعيد الأصولي ـ إدراج معرفة المنطق ضمن شروط الاجتهاد، وقد نقل ذلك عـن الرازي والقرافي، ومنها على صعيد التعليم عدّ بعضِ العلماء في العصور المتأخّرة أنّ تعلّم المنطق فرض كفاية. وبناءً على هذا أدخل المنطق ضمن العلوم التي تدرّس لطلّاب العلم، وأدرج في مختلف برامج المعاهد العلمية التقليدية مثل الزيتونة والقرويين والأزهر، وهذا، ما جعل أغلب العلماء المتأخرين يرون الاشتغال بالمنطق راجحاً لا مرجوحاً. ومع كلّ ما تقدّم ينبغي ألا نتوهم أن انتشار مزج المنطق بعلم أصول الفقه وبغيره من العلوم تحقّق في وسط يسوده الانسجام والاتفاق؛ ففي إطار أصول الفقه مثلاً وجدنا من يرفض إدخال المقدمة المنطقية ضمن مباحث أصول الفقه حتى إن كان الأمر يتعلّق بمختصر «لمستصفى» الغزالي ذاته، من ذلك موقف ابن رشد (ت 595هـ) القائل في مقدمة كتابه الذي يلخص فيه «المستصفى»: «أبو حامد قدّم قبل ذلك مقدّمة منطقيّة زعم أنّه أدّاه إلى القول في ذلك نظر المتكلّمين في هذه الصناعة في أمور منطقية... ونحن فلنترك كلّ شيء على موضعه؛ فإن من رام أن يتعلّم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلّم ولا واحداً منها». والظاهر أن خلفية هذا الموقف ليست معاداة المنطق؛ وإنّما الحرص بدافع تربوي يروم تجنب طلب عِلْمين في الآن نفسه لمشقة الأمر يومذاك. وقد يكون ابن رشد تأثر في موقفه هذا بما كان سائداً لدى الفلاسفة من رفض الدمج بين علمين مختلفين.
وقد نسج أصولي مالكي هو الحسين بن رشيق (ت 632هـ) على منوال ابن رشد في حذف المقدمة المنطقية؛ إلّا أنّه يبرّر هذا الموقف أيضاً بدافع تربوي يتمثّل في اجتناب إثقال كاهل متعلّم الأصول بمسائل قد لا تثير انتباهه، يقول بعد أن مدح الغزالي وكتابه «المستصفى»: «إلّا أنّه ربّما زاد بسطاً يقتضي للطالب ملالاً، ويوجب له إهمالاً، ينتج إخلالاً واختلالاً، فإن هِمَمَ المستفيدين في هذا الزمن فاترة، ورغبتهم في العناية بالعلوم قاصرة. والمقصود التوصل إلى مقاصد العلوم بأبلغ لفظ وأدلّ منظوم. فقصدت إلى تلخيص معانيه، وتحرير مقاصده ومبانيه، وحذف ما يوجب الملال؛ رغبة في تقليل حجمه، وإعانة للطالب على حفظه بصغر جرمه». ولم يكن هذا السبب الوحيد لإسقاط المقدمة المنطقية من مطلع التأليف الأصولي، فقد برزت أسباب أخرى منها جهل علم المنطق وخشية ظهور التكلف إن وقع القيام بتلخيصها، ومنها عد المنطق من البدع الحادثة التي لم يعرفها الصحابة والسلف، وأنّه مدخل الفلسفة التي كانت مستهجنة، وبناء على هذا أورد ابن الصلاح (ت 643هـ) عبارة «المستصفى» حرفياً، وهي: «هذه مقدمة العلوم كلّها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً»، ثمّ تكلّم عليها بالإنكار. والظاهر أنّ هذا الموقف لم يكن خاصاً بالفكر السُّنّي، فبعض الشيعة عبّروا صراحة في القرن الخامس للهجرة عن رفض دمج المباحث الكلامية والمنطقية بأصول الفقه.
يقول الشريف المرتضي في هذا السياق: «قد وجدت بعض من أفرد في الأصول كتاباً قد تشرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتخطاها كثيراً، فتكلّم على حد العلم والنظر وكيف يولِّد النظر العلم... إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض خالص لأصول الدين دون أصول الفقه». وفي الجملة تخبر هذه المواقف وغيرها عن معركة طويلة بين خصوم المنطق وأنصاره، يبدو أنّها «انتهت لصالح أنصار المنطق؛ لأنّه أداة قبل كلّ شيء، وليس فيه ما يستوجب التحريم لذاته.... هذا يعني أنّ الحاجة إليه كانت بالأساس منهجية فكرية عبّر عنها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ت 1973م) باحتياج طلّاب العلم لصون الذهن عن الخطأ في النظر؛ إلّا أنّ استثمار موقف الغزالي المنتصر للمنطق لم يقتصر على مجال الفكر والتعليم؛ بل طال دائرة الإصلاح الاجتماعي والحضاري، فاقتباس المنطق اليوناني وأسلمته يعدّ شكلاً من أشكال الأخذ من الآخر غير المسْلِم، ودعوة إلى عدم الانغلاق على الذات. وهذا ما جعل خير الدين باشا رائد الإصلاح والنهضة في تونس (ت 1889م) يقول: «وإذا ساغ للسلف الصالح أخذ مثل المنطق من غير أهل مِلّتهم، وترجمته من لغة اليونان لما رأوه من الآلات النافعة حتى قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا يوثق بعلمه؛ فأيّ مانع لنا اليوم من أخذ بعض المعارف التي نرى أنفسنا محتاجين إليها غاية الاحتياج في دفع المكائد وجلب الفوائد».
ب) تجديد منهج التأليف
يبدو أن من أهمّ ما ترتب على اشتغال الغزالي بالفلسفة وأصول الدين والمنطق فكر منهجي لا يقبل من العلم إلّا المرتّب على وزان واحد، وقد انعكس ذلك من خلال منهج التأليف في «المستصفى» انعكاساً كان الغزالي أوّل مدرك له حين قال: «فصنفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب يطلع الناظر في أوّل وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه». وقد انتبه بعض قدامى المؤلفين إلى هذه الناحية، ومن ذلك قول ابن طملوس (ت 620هـ) في سياق حديثه عن تغير الموقف من كتب الغزالي في عهد الموحدين: «وندب الناس (ابن تومرت) إلى قراءة كتب الغزالي، وعرف من مذهبه أنّه يوافقه فأخذ الناس في قراءتها، وأعجبوا بما رأوا فيها من جودة النظام والترتيب الذي لم يروا مثله قط في تأليف»، ونوّه ـ في السياق ذاته ـ محمد الفاضل بن عاشور بما امتاز به «المستصفى» من حسن العرض ووضوح البيان واستقامة البراهين ونصاعة الحجج وحسن الجمع والترتيب والمقابلة والاستدلال. وعلى هذا الأساس جاءت مباحث الكتاب مترابطة ترابطاً منطقياً تبدو العلاقة من خلالها واضحة بين الموضوع وسابقه ولاحقه دليلاً على تحكّم الغزالي في خطة تأليفه، حتّى إنّه كان يدرك مكان كلّ مبحث فلا يستبق النظر في موضوعٍ ما قبل أن يأتي أوان النظر فيه في موضعه الذي يراه أهلاً للتطـرق إليه. ولعلّ أهمّ تجليات منهج دراسة موضوعات أصول الفقه تصويرها في شكل شجرة مثمرة ذات أربعة فروع هي الثمرة والمثمر وطرائق الاستثمار والمستثمر، يقول الغزالي: «اعلم أنّك إذا فهمت أنّ نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخفَ عليك أن المقصود معرفته: كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، ثمّ في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام فإنّ الأحكام ثمرات. وكلّ ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار، والثمرة هي الأحكام، أعني الوجوب والندب والكراهة... والمثمر هي الأدلة وهي ثلاثة: الكتاب والسُنَّة والإجماع. وطرق الاستثمار هي وجود دلالة الأدلة وهي أربعة... والمستثمر هو المجتهد ولا بدّ من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه».
وبناءً على هذا يستخلص الغزالي أن جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب أولها الأحكام، ثم الأدلة، ثم طرق الاستثمار، ثم المستثمر.
ولا يقتصر الغزالي على ذكر هذه الأقطاب بل يخصّص مبحثاً موسوماً بـ «بيان كيفية اندراج الشُّعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الأقطاب الأربعة»، يتضمّن ضبطاً للمواضيع الأصولية التي تدرج في إطار كلّ قطب ممّا يوضح الصلات بينها. وبهذا يكون الغزالي في عرض تصوّره العام لمضامين كتابه وفياً لما قرّره منذ المقدّمة من أن «كلّ علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه».
ج) تجديد النظر في الهامش الأصولي: الاستصلاح أنموذجاً
لم يكن مستغرباً لدينا غياب شبه تام للتجديد ضمن الأدلّة المحورية التشريع، وهي القرآن والسُّنَّة والإجماع، فعصر الغزالي أغلق فيه تقريباً باب الاجتهاد في هذه الأصول؛ لذلك فإنّ صاحب «المستصفى» كان وفياً لآراء الشافعي والجويني والباقلاني غير متمرد على مرتكزات النظرية الأصولية الشافعية والسُّنيّة، وعلى خصائص منهج المتكلّمين في كتاباتهم الأصولية. يقول الشيخ الفاضل ابن عاشور متحدثاً عن «المستصفى»: ولكنّه في جوهره يلخص علم أصول الفقه على نحو ما هو عليه في كتاب إمام الحرمين «البرهان» أو في كتاب الباقلاني من قبله «التقريب والإرشاد»، فلم يأت الغزالي في كتاب «المستصفى» بأنظار جديدة في أصول الفقه، ولم يغيّر أصول الفقه». ومع ذلك ينبغي ألا نفهم من هذا الموقف أنّ الغزالي كان مجرّد متبع للسابقين؛ لأنه في كثير من المواقف الجزئية خالف الإمام الشافعي. وقد تراجع في «المستصفى» أيضاً عن كثير من الآراء التي تبناها في «المنخول» معبّراً بذلك عن تطور الموقف الأصولي لديه إثر نضج شخصيته العلمية وبلوغها مرحلة الاستقلال عن سلطة شيخه إمام الحرمين الجويني. ومن ذلك أنّه في «المنخول» سكت عن الأدلة القرآنية المثبتة لخبر الآحاد؛ إلّا أنّه في «المستصفى» ذكرها في المرتبة الرابعة والأخيرة مع التنصيص على أنّ الدليل القرآني غير قاطع في مجال إثبات الآحاد.
وفي مقابل هذا يمكن أن نتحدث عن حضور التجديد في «المستصفى» في قضايا أصولية غير محورية اصطلحنا عليها بالهامش الأصولي، وارتأينا في هذا الشأن التطرق إلى موقفه من المصلحة والاستصلاح، ولئن لم يكن الغزالي أوّل من استخدم مصطلح الاستصلاح في مباحث أصول الفقه فإنّه قد يكون أوّل من خصّص مبحثاً مستقلاً للاستصلاح. وإذا كان الجويني من أوائل الذين لفتوا النظر إلى المصلحة باعتبارها مفهوماً فقهياً ومصدراً للتشريع فإنّ نضج هذا المفهوم تحقق في كتابات الغزالي. وأصبحت له سلطة مرجعية لدى القدامى والمحدثين. ووقف الباحثون على دوره التجديدي المهم والمحوري، ومن ذلك اعتبار بعضهم أن الغزالي «عرّف المصلحة تعريفين: التعريف الأوّل الذي يرفضه يقرب من تلك الطريقة المرسلة التي كان مصطلحا عليها في عصره وقبل عصره في أوساط المالكية بالخصوص. والثاني هو التعريف الفني الدقيق الذي يأخذ به، والغالب على الظن أنّه من ابتكاره؛ إذ لم يسبق لنا أن وقفنا عليه عند غيره». والظاهر أنّ قصد هذا الباحث من التعريف الفني الدقيق للمصلحة هو إبراز المعايير الثلاثة التي وضعها الغزالي لقبول المصلحة، وهي أن تكون ضرورية وقطعية وكلية. ولعلّ الطريف أن الغزالي لم يتوصّل إلى هذا التقنين من خلال تفكير نظري خالص؛ وإنّما بواسطة التمثيل والتصوير الواقعيين وإن كانا يتنزلان في المجال الافتراضي. ويقوم الافتراض الأول في السؤال التالي: إذا تترس الكفّار بجماعة من أسرى المسلمين ما العمل؟ ويجيب الغزالي عن طريق افتراضين، أوّلهما: «لو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبونا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين». أمّا الافتراض الثاني فهو: لو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً. وهذا لا عهد به في الشرع. فما الحلّ؟ ويجيب الغزالي: «فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكلّ حال، فحفْظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، لأنّا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل. وكان هذا التفاتاً إلى مصلحة عُلم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل واحد معين؛ بل بأدلة خارجة عن الحصر. فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنّها ضرورة قطعية كلية»، ويعلّق عبد المجيد التركي على هذا قائلاً: «وهكذا فقد ضبط الغزالي الاستصلاح بهذه المنهجية الدقيقة، وتبيّن لنا أنّه مبدعها بتصوّرها ثمّ تطبيقها باعتبار أن لا أحد قبله خاض فيها بهذا المعيار»، وعلى هذا الأساس عدّ فهم الغزالي للمصلحة قاعدة انطلق منها العلماء اللاحقون لوضع معايير تأويل المصلحة واعتبر إسهامه كبيـراً ومحورياً. ومن تجلّيات هذه الإسهامات ارتباط المصلحة بالمقاصد أثناء تعريف الغزالي لها، فهو ينفي أن يكون معنى المصلحة لديه ذلك المعنى المألوف القائم على جلب المنفعة أو دفع المضرة؛ وإنّما يقصد بها المحافظة على مقصود الشرع، «ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم». ويعلّق بعض الدارسين على هذا القول: «صحيح أنّ هناك جانبا يمكن أن يوصف بالتجديد وهو المتعلّق بمقاصد الشريعة، فالمقاصد الضرورية منذ أن جدّدها الغزالي في المحافظة على الدين والنفس والعقل والنسب والمال لم يطرأ عليها أي تغيير بحسب قراءتي المحدودة سواء عند الفقهاء القدامى كالشاطبي أو المعاصرين».
والمحصلة أن تقنين الغزالي للمصلحة المقبولة شرعاً قد لقي رواجاً كبيراً وقبولاً واسعاً وذِكْراً حسناً عند أغلب الأصوليين بعده؛ إلّا أنّ هذا لم يمنع ظهور مواقف ناقدة له مثلها الأبياري (ت 616هـ) وتاج الدين السبكي وابن عبد الشكور، وتواصلت ردود الفعل نفسها في العصر الحديث، ومن ذلك من يرى أنّه في الوقت الذي كان الغزالي يرفض فيه أن يعد المصلحة أصلاً مستقلاً للتشريع فإنّ تجديد الشاطبي يكمن في قدرته على فصل المصلحة عن النظرية التقليدية للتشريع ذات الأصول الأربعة وعلى ربط المصلحة مباشرة بالقرآن والسُّنَّة.
د ـ الوسطية والنزعة التوفيقية
عدَّ بعض الباحثين المحدثين أن نزعة الغزالي إلى التوفيق والتأليف ـ بين الفقه الميّال إلى حرفية الوحي، والفلسفة المؤكّدة على استخدام العقل على حساب الروح، والتصوّف الذي جعل الفناء غايته وأهمل العبادات والأحكام ـ هي التي بواسطتها أضحى مجدّد الإسلام وواضع الأساس للاتجاهات المستقبلية أيضاً. لكن هل نلفي في «المستصفى» ما يدعم هذا الرأي؟
نقف منذ مقدّمة هذا الكتاب على ما يعضد النزعة الوسطية التأليفية التي انتهجها الغزالي في موقفه من العلوم؛ ذلك أنّه يذهب إلى أنّ «أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنّه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل. فلا هو تصرّف بمحض العقول بحيث لا يتلقّاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد».
ويبدو أنّ هذا الموقف يخفي ضمنياً رفضه للمغالين من ممثلي التيارات التي تمجد العقل وتعليه أو تلك التي تضخم منزلة النقل والنص. وقد سعى الغزالي إلى تطبيق موقفه النظري هذا من خلال مزج المنطق بأصول الفقه في «المستصفى»، فبدا بذلك متحرّراً من التأثير الأصولي التقليدي. وعدّ هذا الكتاب «تأليفاً بين الاجتهاد النصي وتوظيف المنطق الذي طالما ضحّى من أجل التأسيس له على نسق قياسي واستدلالي واضح، بعد أن مهد للكتاب بمقدّمة منطقية». والظاهر أنّ الغزالي كان مدركاً ـ وهو يصنف كتبه المنطقية ـ أنّه يطرق مجالاً غير مألوف عند علماء الشرع؛ لذلك اختار لكتبه تلك عناوين لا تدلّ على انتمائها إلى المنطق على غرار «معيار العلم» و «محك النظر» وكتاب «القسطاس المستقيم». وقام أيضاً بإيراد ألفاظ وأمثلة فقهية وكلامية مألوفة عند علماء زمانه.
وقد تجلّت نزعة الغزالي التوفيقية كذلك من خلال موقفه من المذاهب الفقهية السنية واجتهاداتها ومواقفها، فلئن بدا في كتابه «المنخول من تعليقات الأصول» شديد الانتقاد لأبي حنيفة (ت 150هـ)؛ فإنّه تحوّل عن ذلك في «المستصفى»؛ فقد ترحم عليه في عدّة مواضع، وحاول في مواضع أخرى تبرير موقفه موسعاً بذلك باب الاجتهاد في النص القرآني ذاته. والمرجح أن موقف التسامح مع كثير من اجتهادات أبي حنيفة وغيره يعود إلى اعتبارها اختيارات فقهية ظنية تحتمل أكثر من دلالة، وأن كلّ مجتهد فيها مصيب. ومن ذلك قوله متحدّثاً عن مسألة القضاء بشهادة الزور هل يغيّر الحكم؟ «وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شيء منها فنختار منها ما نشاء فلا يتناقض. ولا يلزمنا في الأصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية؛ فإنّها ظنيات محتملة، كلّ مجتهد أيضاً فيها مصيب». وبناءً على هذا لم يكن من منهج الغزالي الترصد لسقطات المخالفين أو التعصب المذهبي؛ لذلك خالف في كثير من المواقف الإمام الشافعي وشيخه الجويني والقاضي الباقلاني؛ ذلك أنّه بلغ درجة من استقلال الرأي ومن الاجتهاد تؤهله ليكون متبوعاً لا تابعاً. والظاهر أنّ الاتجاه الكلامي في دراسة الأصول أسهم في ابتعاد الغزالي في «المستصفى» عن التعصب المذهبي؛ ذلك أن هذا الاتجاه يخوض في قضايا الأصول بمنأى عن الفروع المذهبية، وأصحابه يعملون على إنشاء القاعدة الأصولية المناسبة سواء أدّت إلى خدمة مذهبهم أم لم تؤدّ.
ويبدو أنّ الغزالي تأثر في نزعته التوفيقية الوسطية بإخوان الصفا وبابن سينا إن صدّقنا ما قاله في هذا الشأن ابن تيمية. ولعلّ الأهميّة الكبيرة لهذه المواءمة ـ بين العقل والنقل أو بين الفلسفة والشرع ـ أنّها لم تؤثّر في الفكر الإسلامي فحسب؛ بل تجاوزته إلى الفكر اليهودي والفكر المسيحي لتغدو بذلك جسر تواصل بين الأديان الكتابية الثلاثة مثلما يقول ابن تيمية: «وما ذكره أبو حامد فيه من تقرير النبوة في الجملة على الأصول التي يسلّمها المتفلسفة، ويعرفونها ما ينتفع به من كان متفلسفاً محضاً فإن ذلك يوجب أن يدخل في الإسلام نوع دخول، وكلام أبي حامد في هذا ونحوه يصلح أن يكون برزخاً بين المتفلسفة وبين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى...».
2 ــ مستصفى الغزالي وتلقيه في المغرب الإسلامي
لعلّ الوقوف على قيمة كتابٍ ما يرتبط في نظرنا بأمرين رئيسين: أوّلهما قيمته في ذاته، والثاني قيمته التي تبرز من خلال غيره. ولئن كنّا حاولنا في القسم السابق من بحثنا أن ندرس بعض خصائص التجديد التي تبرز قيمة «المستصفى» في ذاته؛ فإنّنا في هذا القسم نعتزم دراسة الجانب الثاني؛ أي قيمة «المستصفى» من خارجه ممّا يعني أنّنا سنسعى إلى تبيّن تجليات تلقيه في مكان محدود من الفضاء الإسلامي هو المغرب الإسلامي. ولمّا كانت مستويات التلقي متنوّعة ـ إن في إطار الثقافة الشعبية، أو في مجال الثقافة العالمة ـ فإنّنا اخترنا الانشغال بالمستوى الأخير؛ لأنّ الكتاب الذي ندرس ينتمي إلى علمٍ من أرقى علوم الثقافة العالمة. وقد لا نجد له امتدادات تذكر في الثقافة الشعبية على خلاف مصنفات أخرى ألّفها أبو حامد الغزالي.
أ ـ المستوى الأوّل من مستويات التلقي: الاختصار
استقبل علماء المالكية بالمغرب الإسلامي كتاب «المستصفى» بحفاوة عبّرت عنها المختصرات الكثيرة التي خصّوه بها، وقد ذكر الزركشي (ت 794هـ) إحدى أقدم الشهادات على هذا التلقي الإيجابي قائلا: «والمستصفى للغزالي وقد اعتنى به المالكية أيضاً فشرحه أبو عبد الله العبدري في كتابه المسمى بالمستوفى، ونكت عليه ابن الحاج الإشبيلي وغيره، واختصره ابن رشد وابن شاس (ت 610هـ) صاحب الجواهر وابن رشيق».
والظاهر أنّ قائمة الزركشي هذه محدودة جدّاً؛ لأنّه لا يذكر على سبيل المثال أوّل مختصر «للمستصفى» وصلتنا عنه بعض المعطيات وهو «المقتضب الأشفى في اختصار المستصفى» لعلي التلمساني المشهور بابن أبي قنون (ت 577هـ). ولئن كان هذا المختصر مفقوداً فإنّ المختصر الثاني للمستصفى وصلنا، وهو مختصر ابن رشد الأندلسي (ت 595هـ) وقد طبع حديثاً بعنوان «الضروري في أصول الفقه». وورد ذكر هذا المختصر في عدّة مصادر قديمة كـ «البحر المحيط» للزركشي و «الديباج المذهب» لابن فرحون (ت 799هـ). والجليّ أن تاريخ تأليف هذا المختصر هو سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بحسب ما هو مذكور في آخر الكتاب، ويمكن من خلاله استنتاج أنّه من مؤلفاته الأولى إن لم يكن أوّلها على الإطلاق. وبناءً على هذا يمكن الإقرار أنّ ابن رشد «ابتدأ أصولياً قبل أن يكون فيلسوفاً على الرغم من صعوبة التمييز في مختصره هذا بين الأصولي والفيلسوف، كما يمكن أن يفضي بنا هذا إلى إعادة النظر في علاقة أبي الوليد بأبي حامد. ويبدو من خلال عدد من الشواهد أنّ مختصر ابن رشد أضحى متداولاً إلى درجة أن من يترحم على علماء الأندلس لا يفوتـه ذكره. وقد أثبت هذا المختصر حضوره أيضاً في بعض الكتب الأصولية وغيرها؛ فالزركشي أحال عليه عند بحثه مسألة التواتر، وذكره الونشريسي (ت 914هـ) أثناء دراسته لبعض مباحث القياس.
ويعدّ اكتشاف مختصر «المستصفى» لابن رشد وتحقيقه حدثاً مهمّاً؛ لأنّه يمكّن الدارسين من تبيّن الآراء الفقهية والأصولية لصاحبه من خلال كتابين هما «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» و «مختصر المستصفى» بعد أن كان ذلك غير ممكن إلّا من خلال الكتاب الأوّل. وممّا ترتب على ظهور هذا المختصر استنتاج أنّ الاشتغال بالفقه وأصوله ظلّ حاضراً في مختلف مراحل مشروع ابن رشد الفلسفي، وأنّه كان متزامنا مع اهتمامه بمجالات معرفية أخرى؛ ذلك أنّه بعد خمس سنوات من تأليف مختصره الأصولي ألّف مختصراً في المنطق سمّاه «الضروري في المنطق»، وشمل أغلب مباحث الأورغانون الأرسطي. والملاحظ أنّ ابن رشد أشار إلى مختصره في ثنايا كتابه «بداية المجتهد»، ويظهر أنّ الضرورة التربوية والتعليمية دفعت إلى اختصار «المستصفى» نظماً على يد الإمام ابن مناصف القرطبي (ت 620هـ). وقد يكون هذا المختصر وجد طريقه إلى التحقيق.
وقد أثر «مستصفى» الغزالي ومختصر ابن رشد له في الطبيب أبي عبد الله الندرومي (ت 623هـ) ـ وهو تلميذ ابن رشد ـ فألّف مختصراً للمستصفى سمّاه «مستصفى المستصفى» على حدّ رواية ابن أبي أصيبعة (ت 662هـ)، ويبدو أنّه ابتدأه ولم يتمّه.
وتواصل اختصار «المستصفى» في الأندلس، من ذلك مختصر أبي العبّاس الإشبيلي المعروف بابن الحاج (ت 651هـ)، والمرجح في رأينا أنّ تأليف هذا المختصر إمّا أنّه يعود إلى طلب شخصي من الأمير أبي زكريا الحفصي، وإمّا أنّه يقصد به التقرب إليه. وما دعانا إلى هذا الرأي ما رواه السيوطي من أنّ ابن الحاج نزل بتونس، وأنّه اشتهر خاصّة بدراساته اللغوية، وألّف تأليفاً مفيداً في القوافي جمعه بإشارة الأمير أبي زكريا أمير إفريقية. والمؤكّد أنّ هذا المختصر كان متداولاً لدى علماء القرن الثامن للهجرة؛ ذلك أنّ الزركشي أحال عليه في عدّة مواضع من كتابه «البحر المحيط»؛ لكنّه لا يذكر عبارة المختصر؛ بل عبارة التعليق تارة، والنكت تارة أخرى.
وبرز في أواخر القرن السابع للهجرة في المغرب الإسلامي مختصر للمستصفى لفقيه من أهل إفريقية هو ابن الطبير (ت بعد 675هـ)، وقد ذكر الغبريني (ت 704هـ) أنّه اختصر كتاب «المستصفى» اختصاراً حسناً نقلاً عن شيخه الفقيه أبي محمّد عبد الله بن عبادة.
ولئن كان بحثنا يركّز أساساً على أثر «المستصفى» في المغرب الإسلامي؛ فلا بأس أن نلمع إلى مختصرات أخرى تنتمي إلى خارج هذه الرقعة الجغرافية، خاصّة أنّ أغلبها لعلماء مالكيّة، ونجد في البداية كتاب «التنقيحات في أصول الفقه» لشهاب الدين يحيى بن حبّش السهروردي (ت 587هـ). وقد ذكر أنّه صاحب الفلسفة الإشراقية؛ لكن يبدو أنّ هذا الرأي ينبغي أن يعاد فيه النظر. ولئن لم يكن صاحب الكتاب يفصح عن مصادره؛ فإنّ مقارنة أقواله بما يوجد في «المستصفى» يبرز أنّه أهمّ مصادره، وأنّه في بعض المواقع لا يزيد على اختصار ما في «المستصفى».
ومن مختصرات «المستصفى» في المشرق مختصر ابن شاس المصري المالكي (ت 616هـ). وقد ذكرنا سابقاً أنّ الزركشي هو من أخبر أنّ ابن شاس ضمن من اختصروا «المستصفى».
ويعدّ كتاب: «روضة الناظر وجنّة المناظر» لابن قدامة الحنبلي اختصاراً أو تهذيباً «للمستصفى»؛ ذلك أنّه نقل كثيراً من نصوص الغزالي وألفاظه وبنى كتابه عليها؛ لكنّه حذف منه بعض الاعتراضات الجدلية والأدلّة العقلية واختصر بعضاً آخر.
ويعدّ «لباب المحصول في علم الأصول» للحسين بن رشيق المصري المالكي (ت 632هـ) اختصاراً لكتاب «المستصفى» مثلما أقرّ بذلك صاحبه في مقدّمته، ولم يقتصر ابن رشيق على عملية التلخيص فحسب؛ بل أتى بنقود وردود كثيرة على الغزالي وعلى غيره من الأصوليين.
ب ـ المستوى الثاني من التلقي: الشروح
يبدو أنّ من الشروح الأولى لمستصفى الغزالي شرح العبدري (ت 626هـ) الموسوم بـ «المستوفى في شرح المستصفى»، وقد ذكر هذا العنوان أكثر من مرّة في كتاب «البحر المحيط» للزركشي، ومنها قوله: «وقال العبدري في شرح المستصفى: الخلاف في أنّ العقل محلّه ماذا؟ ممّا يلتبس على الكثير...» ومنها قوله: «وفي اقتناص الحدّ مذاهب حكاها العبدري في «المستصفى في شرح المستصفى».
ويظهر من خلال المواقع المتعدّدة التي ذُكرْت فيها آراءُ العبدري في كتاب «البحر المحيط» أن له تمكناً من كافة القضايا الأصولية، وأنّ له اجتهادات وترجيحات وأجوبة واستشكالات يتضح من خلالها امتلاكه لرصيد من المعرفة الأصولية محترم فضلاً على معرفته بعدّة مجالات أخرى؛ مثلما يذكر المراكشي نقلاً عن ابن الزبير: «كانت له مشاركة في فنون من العلم كالفقه وأصوله والعربية وغير ذلك وولوع بالمنطق حتى شرح كتاب «المستصفى». فميزة هذا الشرح إذاً هي الاهتمام بالناحية المنطقية، وهو أمر طريف خاصّـة إذا مـا علمنا أنّ الكثير من الفقهاء كانوا ينبذون المنطق اليوناني. وبرز بعد هذا التاريخ شرح السكوني (ت 717هـ)، ومن تآليفه الكثيرة «شرح المستصفى». وفي النصف الثاني من القرن السابع للهجرة شرحه الحسين بن الناظر (679هـ) الفهري الغرناطي وهو نحوي وأديب وفقيه وصوفي تولى القضاء بالمرية.
وبعد ذلك شرح «المستصفى» أحمد العامري الغرناطي (ت 699هـ) وهو فقيه مشارك في كثير من العلوم، وقد وصف بأنّه شرح حسن. وعلاوة على هذا شرح زين الدين سريجا بن محمد الملطي (ت 788هـ) «المستصفى» شرحاً سمّاه «مستقصى الوصول إلى مستصفى الأصول».
ج ـ المستوى الثالث من التلقي: التقييدات والتعاليق
لئن وقع الاهتمام بالمستصفى في مستوى الاختصار والشروح فقد ذكرت كتب التراجم والطبقات مستويات أخرى من الاهتمام به، منها التقييدات أو التعاليق، ومن ذلك مثلاً تقييد على «المستصفى» للفهري الأصولي (ت 612هـ). ولسهل بن محمد الأزدي الغرناطي المالكي (ت 639هـ) تعاليق علـى «المستصفى». وممّن استفاد منها تلميذه الرعيني (ت 666هـ)، يقول: «وحضرتُ مجالس مذاكراته في كتاب «المستصفى» لأبي حامد، وقيّدت عنه بعض ما قيّد عليَّ مسائله وقرأت ذلك عليه... وأجاز لي جميع ما يحمله مع جميع مـا ألّف». وبرز من ناحية أخرى صنف من المؤلفات يهتمّ أساساً بأحاديث «المستصفى» منها تأليف كتبه أبو الحجاج يوسف البياشي (ت 653هـ)، جمع فيه ـ بطلب من تلميذه الأمير أبي زكريا الحفصي ـ أحاديث «المستصفى»، وخرّجها من أُمَّهات كتب الحديث النبوي، ونبّه على الصحيح منها والسقيم.
وألّف في الموضوع ذاته «المستوفى في رفع أحاديث المستصفى» لابن عربية (ت 659هـ) وهو شاعر من المهدية من شعراء الأمير أبي زكريا الحفصي (ت 647هـ).
وفي القرن التاسع للهجرة صنّف سليمان بن داود الغرناطي (ت 832هـ) تعليقة على المستصفى.
أثر «المستصفى في المدوّنة الأصولية الفقهية:
إنّ هذا الموضوع جدير بأن يدرس في بحث مستقل؛ لأنّه يكاد لا يخلو كتاب أصولي منذ القرن السادس من ذكر «المستصفى» أو الاستفادة من آراء صاحبه في كتبه المتنوّعة. ومن المعلوم أنّ فخر الدين الرازي (ت 606هـ) استمد كتابه «المحصول» من المستصفى، وأنّ الآمدي (ت 631هـ) اختصر كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» انطلاقاً من معتمد أبي الحسين البصري (ت 436هـ) و «مستصفى» الغزالي، وقد ذكر القرافي (ت 684هـ) «المستصفى» في كتابيه «شرح تنقيح الفصول» و «نفائس الأصول في شرح المحصول». وذكر الطوفي الغزالي في كتابه «شرح مختصر الروضة» في ثلاث وأربعين مناسبة؛ لكنّه لم يذكر «المستصفى» إلا في ست مناسبات. وأحال الشاطبي مرات كثيرة في «الموافقات» على الغزالي؛ إلّا أنّه لم يذكر من كتبه الأصولية صراحة سوى «شفاء الغليل». والظاهر أنّه أخذ من «المستصفى» من دون تسميته. أمّا حلولو المالكي فإنّه استفاد من «المستصفى» في ستّ عشرة مسألة من مسائل كتابه «الضياء اللامع شرح جمع الجوامع».
والظاهر أنّ أثر «المستصفى» وتلقيه الإيجابي قد تضخم خلال القرن السابع للهجرة داخل المذهب الشافعي، فوجدنا بعض ممثليه يحفظون «المستصفى» برمته، ويتدخل المتخيل لنسج رواية تعقد الصلة بين هذا الحفظ وبين رؤية الغزالي في المنام؛ إذ يروي السبكي في هذا الصدد أنّه «يحكى أنّ الآمدي رأى في منامه حجّة الإسلام الغزالي في تابوت، وكشف عن وجهه وقبّله، فلمّا انتبه أراد أن يحفظ شيئاً من كلامه، فحفظ «المستصفى» في أيّام يسيرة». ونقل السبكي أن محمد بن الحسن العامري الحموي (ت 680هـ) ـ قاضي القضاة بمصر ـ حفظ مستصفى الغزالي كله.
ولعلّ السؤال الذي يفرض نفسه بعد عرض كلّ هذه الكتب التي اهتمّت بمستصفى الغزالي: ما هي العوامل الكامنة وراء هذا الاهتمام الذي تركّز خاصّة في صفوف المذهب المالكي؟ لم نجد لدى الدارسين الذين عدنا إليهم مَنْ أجاب عن هذا السؤال باستثناء دارس واحد قدّم سبباً وحيداً ورئيساً يفسّر عناية المالكية بالمستصفى، وهو أنّه مليء بأقوال القاضي الباقلاني، وبالفعل وقفنا على كثرة النقول عنه في كلّ مسألة من المسائل الأصولية تقريباً. وقد ذكره ستين مرّة باسم القاضي، وذكره بهذا الاسم مترحماً عليه في أربع وعشرين مناسبة، وهو ينقل رأيه حتى وإن خالفه فيعبّر عن ذلك بلطف وتقدير؛ كأن يقول في رأيٍ للقاضي لا يوافقه: «وفيه نظر». وليس هذا بمستغرب من الغزالي فإنّه يكتب ضمن تيار التأليف الأصولي الكلامي الذي يعدّ الباقلاني من أقطابه ومن مؤسسيه البارزين، وفضلاً على هذا يجمع بينهما الانتماء إلى الأشعرية. وهذا الانتماء كان دافعاً قوياً للمالكية للاهتمام «بالمستصفى» لا على صعيد التأليف فحسب؛ بل على صعيد التدريس كذلك؛ إذ يُروى على سبيل المثال أنّ أحد مدرسي أصول الفقه بمالقة وهو عبد العظيم البلوي (ت 666هـ) كان مدافعاً شديداً عن الأشعريّة، وكانت له حماسة خاصّة لتدريس «المستصفى»، وقد تابع ابن الزبير دروسه المتعلّقة «بالمستصفى»، وكانت تتميّز بروح نقدية شديدة. ولعلّ ما قوّى الإقبال على «مستصفى» الغزالي أنّه يعدّ تحولاً لافتاً في موقف الشافعية من الباقلاني، فأبو حامد الإسفراييني الشافعي (ت 406هـ) كان شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام، وفي المقابل لا يبدو الغزالي بهذه الصورة.
ويعدّ الموقف من مالك (ت 179هـ) علاوة على هذا من أسباب الإقبال على «المستصفى»؛ ففي عدّة مرّات يذكر موقف مالك إلى جانب موقف الشافعي، بل يذكر أحياناً رواية للشافعي عن مالك. ولئن بيّن أنّ عمل أهل المدينة ـ وهو أصل من أصول المالكية ـ لا يستقيم؛ فإنّه حاول التخفيف من هذا الموقف أثناء بحثه «في ما ترجح به الأخبار»؛ حيث ذكر أنّ المرجح الحادي عشر هو «أن يكون أحد الخبرين على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى؛ لأن مما رآه مالك 5 حجة وإجماعاً، إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح؛ لأنّ المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ، فيبعد أن ينطوي عليهم». ولا شكّ في أنّ هذا الشاهد خير دليل على النزعة التوفيقية التصالحية التي يسعى من خلالها الغزالي إلى الابتعاد عن واقع التعصب بين المذاهب.
لكنّ الدوافع الفكرية والمذهبية لا تفسّر وحدها رواج «المستصفى» فقد تعاضدت معها دوافع سياسية تمثّلت خاصّة في تشجيع الدولة الموحدية والدولة الحفصية على الاهتمام بمؤلفات الغزالي ومنها «المستصفى»، ومن أقدم الشهادات على هذا قول ابن طملوس (ت 620هـ): «ثم لم تكن تمتد الأيام إلا قليلاً وجاء الله بالإمام المهدي (ابن تومرت) فبان للناس به ما كانوا قد تحيروا فيه، وندب الناس إلى قراءة كتب الغزالي، وعرف من مذهبه أنّه يوافقه فأخذ الناس في قراءتها وأعجبوا بها وبما رأوا فيها... ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب الغزالي إلّا من غلب عليه إفراط الجمود من غلاة المقلدين، فصارت قراءتها شرعاً وديناً بعد أن كانت كفراً وزندقة.
وقد شجع الموحدون على دراسة أصول الفقه بعد أن كان المرابطون قبلهم يحثون على دراسة الفروع والفقه. ولمـّا كان التعليم والتأليف في العصور القديمة غير منفصل عن السلطة السياسية فممّا لا شكّ فيه أنّ الاهتمام بالمستصفى كان بدافع من السلطة الحاكمة. ومن ذلك مثلاً أنّه في بداية الدولة الحفصية في تونس كان الرعيني السوسي يدرّس «المستصفى»، ومن الشخصيات السياسية التي حضرت هذه الدروس أبو زكريا أول سلطان حفصي (ولد بمراكش سنة 599هـ وبويع له عام 625هـ بالقيروان ثم جددت له البيعة بتونس)، الذي أبدى اهتماماً بأحاديث «المستصفى»، فكتب له الرعيني كتاباً في هذا الموضوع.
ولعلّ انتماء الغزالي إلى علوم عدّة أسهم في دفع بعض العلماء إلى الاهتمام «بالمستصفى»، من ذلك أنّ المتصوف الأندلسي الششتري (ت 668هـ) كان يعطي إجازات تدريس «المستصفى».
وربما كان لتلاميذ الغزالي دور محوري في هذا السياق، فبعضهم التقاه وأخذ عنه بالمشرق على غرار ابن العربي (ت 543هـ)، وكان التقاه في بغداد عام 490هـ ، وأدخل مجموعة من كتبه إلى الأندلس لا يمكن أن يكون المستصفى بينها؛ لأنه كتب سنة 503هـ. ولما رجع بعد عام إلى موطنه ظل يتابع أخبار شيخه، والمرجح أنه اطلع على المستصفى؛ لأن ابن خير الإشبيلي (ت 575هـ) يذكر أنه أجيز بتآليف أبي حامد رواية عن القاضي أبي بكر بن العربي.
خاتمــة
لقد آثرنا ألا نبدأ ببيان أهمية «المستصفى»؛ لأنّ ذلك معلوم للباحث المتخصّص في الفكر الإسلامي، ولأنّنا أردنا أن ننظر في الدواعي التي أفضت إلى المنزلة التي تبوأها هذا الكتاب، فمنذ القديم اعتبـر ابن خلدون أنّه أحد الكتب الأربعة التي تمثّل عمدة علم أصول الفقه. ولئن كانت قيمة هذا الكتاب مضاهية لقيمة كتاب «إحياء علوم الدين» ـ بحسب بعض الباحثين ـ فإن هذا له ما يفسّره، «فالمستصفى» آخر الكتب القيمة والكبيرة التي صنّفها، لذلك يمثّل في محتواه وخطته وأسلوبه قمة النضج العلمي لصاحبه، وقد أنهى فيه صياغة أصول الفقه على الطريقة الكلامية والشافعية السُنيّة. وهو ما فعله أيضاً في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد»؛ حيث أكمل صياغة أصول الدين التي بدأ الأشعري عمليّة التنظير لها.
ولا شكّ في أنّ الانفتاح على العلوم العقلية خارج الثقافة الإسلامية قد أسهم بشكل كبير في بناء «المستصفى» وعناصر التجديد فيه، وإن عدّ ذلك عند بعض الباحثين التقليديين نقيصة من نقائص عمل الغزالي التجديدي.
وقد وقفنا على ما كان لمزج المنطق بأصول الفقه في «المستصفى» من أثر إيجابي وسلبي في إطار المذاهب السنية؛ إلّا أنّ الواقع أنّ هذا الموقف انتشر على نطاق أكثر اتساعا فقد شمل الفكر غير السني. وقد عثرنا في أحد كتب الأصول الأباضية ـ وهو من مؤلفات القرن السادس للهجرة ـ تأثراً «بالمستصفى» وبالمنطق، ولاحظنا أنّ صاحبه ـ وهو أبو يعقوب الوارجلاني (ت 570هـ) ـ يرى هذا العلم وسيلة ضرورية لكلّ العلوم.
وانتقل الإعجاب بمنطق الغزالي إلى الفكر المسيحي، ففي الفترة المتراوحة بين 1276م و 1282م ترجم رايمون (Raymond) منطق أبي حامد من العربية إلى اللاتينية ثم من اللاتينية إلى القطلونية.
ولعلّ الدرس الذي يجدر أن نتعلّمه من موقف الغزالي من المنطق أنّ تجديد العلوم ـ وإن كانت علوماً مرتبطة بالمقدّس ـ يمكن أن يكون من داخل الثقافة التي ينتمي إليها المشتغلون بتلك العلوم، ويمكن أن يكون أيضاً من خارجها؛ لأنّ العلم والحقيقة لا جنسية لهما فهما إرث إنساني مشترك. ولعلّ هذه المعطيات البديهية عند أغلب الناس في عصرنا هي التي دفعت الباحثين المحدثين إلى الدعوة إلى مزج مباحث أصول الفقه بمباحث عدّة علوم حديثة مثل علوم الاجتماع والنفس واللّسانيات. وقد وقفنا في عملنا هذا على أن من أهم مقوّمات التجديد في «المستصفى» نزعته التوفيقية والوسطية، ولعلّ مردّ ذلك أنّ الغزالي بعد أن نهل من كلّ العلوم تقريباً وصل في آخر حياته إلى نوع من الاقتناع بأنّ الحقيقة ليس لها وجه واحد يمثّلها، وليست لها فئة من النّاس تختصّ بها وحتى العلماء الذين فضّلهم على العوام ليسوا معصومين عن الخطإ، وقد تؤدي اجتهاداتهم إلى اليقين مثلما قد تؤدّي إلى الظنّ.
وقد تكون هناك مقوّمات للتجديد في «المستصفى» لم نعتن بها؛ إلّا أنّنا نشير إلى مقوّم منها ينبغي أن ينظر فيه بعمق هو الطابع الواقعي والعملي فلئن كان الخطاب النظري طاغياً على «المستصفى»؛ فإنّنا لا نعدم فيه إشارات إلى الواقع التاريخي، وسعياً إلى مراعاة الواقع في النظرية الأصولية لذلك آثر الغزالي أن يخفّف شروط الاجتهاد، وأجاز تجزؤه، وأقرّ أنّ ممارسة الاجتهاد هي ما به يصبح المجتهد مجتهداً في عصره، يقول: «نعم إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدرجة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك».
وممّا ترتّب على مقوّمات التجديد في «المستصفى» احتفاء به مخصوص في الفكر الإسلامي عامّة وفي المذهب المالكي بشكل خاص. وقد عبّر كثير من المختصرات والشروح والتعاليق والتقييدات التي كتبت على «المستصفى» عن هذا التلقي الإيجابي له، فسجلت بذلك علاقة جديدة بين المذهبين المالكي والشافعي بعد مرحلة من التوتّر بينهما خلال القرنين الثالث والرابع. ولعلّ أبرز نتائج هذا التفاعل بين المذهبين التأثر الجلي لكتب الفقه والأصول المالكية بالعلوم العقلية وخاصّة منها الكلام والمنطق. وتخبر كثرة المؤلفات التي وضعت على «المستصفى» أنّ الكتابة في الأصول في المغرب الإسلامي أضحت أمراً يسيراً بعد أن كانت في عهد المرابطين أمراً محفوفاً بالمخاطر. ولنتذكّر هنا ابن النحوي التوزري (ت 513هـ) الذي كان يلام على تدريس أصول الفقه، ومنع فعلاً من التدريس بسجلماسة، وهو علامة دالة على أن من كان يطالع كتب الغزالي لم يكن يتلقّى علمه فحسب؛ بل يتمثل كذلك روحه المنتصرة لمنهج التأصيل والرافضة لمنهج التقليد والفروع. وهذه الروح تجلّت في «إحياء علوم الدين» مثلما تجلّت في «المستصفى»؛ حيث أعلن أنّ التقليد ليس طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع.
إلّا أنّ ما ذكرناه من إيجابيات اختصّ بها «المستصفى» ينبغي تنسيبها؛ لأنّ «المستصفى» له حدوده المعرفية والعقدية التي لم يستطع الانفكاك منها، وفي صدارتها أنّه لم يغيّر أصول الفقه، وأن تجديده لها ظلّ شكلياً ومنهجياً لا يمسّ جوهر العلم في ذاته.
ولا ينبغي أن ينسينا الاحتفاء بـ «المستصفى» وجود مواقف ناقدة له سواء داخل الفكر السني أو خارجه.
...............
المصادر:
ـ انظر نقد المازري له في كتابه، إيضاح المحصول من برهان الأصول، ص 138. وانظر أيضاً نقداً مالكياً له ولمن اتبعه كابن شاس وابن الحاجب لدى السراج، الحلل السندسية، 3/638 - 640. والملاحظ أن بعض الكتب صنفت قصد نقد المستصفى؛ لكنها لم تصلنا على غرار كتاب ابن أبي الحديد، انتقاد المستصفى، وهو مذكور في قائمة مؤلّفاته.