محمد الشيخ | أستاذ وباحث في العلوم الفلسفية، المغرب
شهد حقلُ مبحث «الإبستمولوجيا» Epistemology ـ وقد أمسى يتصدّر مباحث الفلسفة الأساسيّة اليوم ـ تطوراً مذهلاً في العقود الأخيرة القليلة الماضية. وهكذا صار مبحث «الإبستمولوجيا» ـ بمعناها الجديد ـ يفيد دلالة: «نظريّة المعرفة والتسويغ» (روبرت أودي)؛ بمعنى: كيف نعرف الأشياء وكيف نبرّر معرفتنا بها؟ سواء أكانت هي معرفة بالحسّ أم بالحدس أم بالعقل، أو دلالة: «دراسة المعرفة: طبيعتها ومتطلباتها وحدودها»، أو «الدراسة الفلسفيّة لطبيعة المعرفة، وكيف تُكتسب وتسوغ» (لورانس بونجور). وبهذا صارت القضايا الجديدة / القديمة التي يتداول فيها الفلاسفة الإبستمولوجيون المعاصرون تنتظم على النحو التالي: الإدراك والاعتقاد والتسويغ، والمعرفة وتسويغها، والذاكرة والاستبطان والوعي بالذات، ومسألة الوعي بعامة، والعقل والتفكير العقلي، والشهادة وإمكانات الثقة بها أم التجريح فيها، والمصادر الأساسيّة للاعتقاد والتسويغ والمعرفة، وأُسس الاعتقاد، والنزوع الشكّي في المعرفة، والخلاف وإبستمولوجيته... وذلك على خلاف موضوعات نظرية المعرفة الكلاسيكيّة: هل يمكن أن نعرف الأشياء؟ وإذا كان ذلك ممكناً، فبأية وسيلة: أبالحس؟ أم بالعقل؟ أم بالكشف والذوق والحدس؟ وما طبيعة هذه المعرفة التي نحصِّلها بوفق هذه الطرق: أهي معرفة مطلقة أم هي معرفة نسبيّة؟
تلك قضايا الإبستمولوجيا المعاصرة كما أمست متداولة اليوم بعد أن تجدّد حقلها تجدُّداً. والحال أن النقاشات حولها سائرة ما بين:
أ ـ التناظر حول ما إذا كانت عمليةُ المعرفة البشرية سياقيّة أو مقاميّة ـ تقوم على فكرة «السياق» أو «المقام»؛ بحيث لا معرفة إلا وتتحدّد بسياق أو تنساق به ـ (مناظرة أورل كوني Earl Conee المشكك في المذهب القائل بانسياقيّة المعرفة، ضد ستيوارت كوهن Stewart Cohen المدافع عن ذاك المذهب).
ب ـ المناقشة حول النزوع الشكّي في المعرفة: أيمكن تفنيدُه (موقف جوناثان ڤوغل Jonathan Vogel) أم ليس يمكن ذلك (موقف ريتشارد فيمرتون Richard Fumerton)؟.
ج ـ أيمكن الحديثُ عن معرفة قبليّة (لورنس بونجور Laurence Bonjour) أم إن ذلك أمرٌ محالٌ (مايكل دوفيت Michael Devitt)؟
د ـ أيمكن تسويغ «الاعتقاد» بالاتساق وحده؛ بمعنى أن معيار صحة اعتقاد ما هو مدى اتساقه؟ والجواب دائر بين (نعم) (James van Cleve) و(لا) (Catherine Z. Elgin).
هـ ـ وأيكون تعليل أو تسويغ الاعتقاد أمراً مباشراً (James Pryor) أم غير مباشر (Michael William)؟
و ـ الحقيقة هي الغرض الأسمى الأول لكل معرفة (Marian David)، أم لا (Jonathan Kvanvig)؟ وأنظار هذه القضايا وأشباهها(1)
وفي زمن الإبستمولوجيا المتجدد هذا، حيث صرنا نسمع عن «ما بعد التجريبيّة» و«ما بعد الوضعية» و«ما بعد كواين»، كما أمسينا نسمع عن ضربين من الإبستمولوجيا: إبستمولوجيا طبيعية Naturalistic epistemology وإبستمولوجيا معياريّة Normativist epistemology؛ إذ صارت الأولى ـ المنسوبة إلى الفيلسوف وعالم المنطق الأمريكي ويلاد ڤن أورمان كواين (1908 ـ 2000) ـ ترى أنه ينبغي التخلي عن الإبستمولوجيا التقليديّة، والاستعاضة عنها بالدراسة النفسية للعلاقات السببيّة بين الإثارة الحسيّة والاعتقاد، مع استبعاد كل اعتبار قيمي أو معياري من هذا المجال استبعاداً نهائياً. هذا مثلما ألفينا أنفسنا أمام تيارات إبستمولوجيّة جديدة، أو تيارات إبستمولوجيّة قديمة بمسميات جديدة، وذلك شأن التقابل بين «النزعة التأسيسيّة» Fondationalism و«النزعة الاتساقيّة» Coherentism: الأولى ترى أنه ما من اعتقادٍ إلا وينبغي التأسيسُ له؛ أي تسويغه وتبريره وتعليليه، بينما الثانية ترى في انسجام مجمل الاعتقادات التي نعتقدها معياراً كافياً لإثبات صحتها ومتانتها. كذلك هو التقابل الذي صار يحدث بين «النزعة الواقعية المباشرة» Direct Realism و«النزعة الواقعيّة التمثليّة» Representative Realism؛ الأولى ترى أن موضوعات الإدراك الحسي المباشرة هي الموضوعات الفيزيائيّة كما يدركها الحس المشترك، بينما الثانية ترى أن لا إدراك يكون مباشراً، بل كل إدراك يكون موسَّطاً بحالات ذهنية أو كيانات تدعى «المعطيات الحسيّة». كما ألفينا نجد أنفسنا أمام التقابل القائم بين «النزعة الخارجيّة» Externalism و«النزعة الداخليّة» Internalism؛ وذلك بحسبانه تقابلاً بين من يقول: إن «مُعتَقَداً» ما ليس ينبغي بالضرورة أن يكون موعى لصاحبه أو قابلاً لكي يعي به، بينما يلحُّ المذهب الثاني على شرط الوعي المعرفي هذا.
هذا مع ملاحظة التعالق الذي صار حاصلاً بين مبحث الإبستمولوجيا Epistemology ومبحث فلسفة الذهن Philosophy of mind، وذلك في دراستهما معاً للظواهر عينها: فينومينولوجيا الاعتقاد، ودور الخيال في الذاكرة والاستبطان، وتعدّد الخصائص الذهنية المصوّرة للمعرفة بالذات، والاستدلال والاستنتاج، وبنية معتقدات الفرد...
لا شكّ أن موضوع «الاعتقاد» أو «الاعتقادات» صار يحظى بأولوية خاصة في مبحث الإبستمولوجيا، وقد تجدَّد تجدُّده هذا، بل صار له مبحث إبستمولوجي خاص وقائم الذات يسمى مبحث «إبستمولوجيا الاعتقاد» Epistemology of belief،، وذلك مثلما أن موضوع «الخلاف» صار له مبحثه الإبستمولوجي الخاص به بدوره، فصرنا إلى الحديث عن «إبستمولوجيا الخلاف» Epistemology of Disagreement، وقس على ذلك «الوحي» الذي أمسى له مبحثه الإبستمولوجي المخصوص المسمى «إبستمولوجيا الوحي» Epistemology of revelation ؛ هذا ناهيك عن المناظرة، التي بات لها بدورها مبحثٌ إبستمولوجي خاصٌّ، هو مبحث إبستمولوجيا المناظرة أو الجدال Epistemology of controversy. .
وحول موضوع «الاعتقاد» دندن الكثير من الفلاسفة. فلقد أسس الفيلسوف الإسكتلندي ديڤيد هيوم (1711 ـ 1754) لفلسفة الاعتقاد، في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية» (1739)، رابطاً بذلك بين «الاعتقاد» و«طبيعة البشر»، فكان أن فتح بذلك للفلاسفة باباً جديداً هو باب الحديث عن «الإنسان المعتقد»؛ أي عن الإنسان بوصفه ذاك الكائن الذي يعدُّ الاعتقاد خِصِّيصته ولازمته، إن لم تكن هِجِّيرَاه التي لا ينفك عنها. وبناء على فلسفة ديڤيد هيوم ذاك وعلى مبدأه الشهير في الاعتقاد هذا: «من شأن الإنسان الحكيم أن يقيس اعتقاده بالنسبة إلى الحجج التي تتوفّر لديه»(2) ـ أنشأ الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني وليام كليفورد (1845 ـ 1879)، في بحث شهير له، مبحث «أخلاقيات الاعتقاد» (1877)، وأقامه على مبدأ أن لا أخلاق يمكن لها أن تسوغ اعتقاداً بلا حجة كافية.
والحال أنه وُجهت ملاحظاتٌ كثيرة على مبدأ «أخلاقيات الاعتقاد» هذا الذي وضعه وليام كليفورد، ومن بين هذه الملاحظات الكثيرة أن الرجل عمد إلى استتباع التقويم المعرفي ـ الإبستمولوجي ـ إلى التقويم الأخلاقي ـ الإتيقي ـ أي إنه جعل الحكم المعرفي على صحة اعتقاد ما ـ «هذا اعتقاد حق» ـ تابعاً للحكم الأخلاقي على صواب فعله: «هذا اعتقادٌ أخلاقيٌّ [هذا اعتقاد حسن]». وكان أن تمّ طرح السؤال أولّا: هل ثمة تعالقٌ بين الأمرين: الحكم المعرفي على اعتقاد ما بكونه اعتقاد حق والحكم الأخلاقي عليه بكونه اعتقاداً حسناً؟ بمعنى آخر: هل يصح القول بأنه إذا ما هو كان ثمة اعتقادٌ غيرُ مبرر من وجهة النظر المعرفية ـ الإبستمولوجيّة ـ فإنه يكون ـ بالتبع ـ غيرَ مبرر من وجهة النظر الأخلاقية؟ بمعنى أنه إذا لم تكن لدي حججٌ كافيةٌ لتبرير اعتقادٍ ما، هل أكون قد أخطأت ـ أخلاقياً ـ بعرض هذا الاعتقاد على غيري ومحاولة إقناعه به؟ وقد صح أيضاً عكس السؤال: لَئِن ما كان اعتقاد ما اعتقاداً مبرَّراً ـ مسوَّغاً، مُعلَّلاً ـ بما يكفي، من وجهة نظر أخلاقية، أفيكون مع ذلك باطلاً من الناحية المعرفية؟
الحال أن مبحث «إبستمولوجيا الاعتقادات» يسعى إلى إعادة النظر في الصلة التلازمية التي أقامها وليام كليفورد بين «الحُكْم المعرفي» على اعتقادٍ معيَّنٍ و«الحكم الأخلاقي» عليه. وهو يرى أن المبدأين المتقدمين على مبدأ «أخلاقيات الاعتقاد» الشهير، هما:
1 ـ يمكن للمرء أن يعتقد في اعتقاد ما يتجاوز حدود التجربة ـ أي يعتقد فيما يغيب عنه ـ لكن فقط عندما يكون هذا الاعتقاد مستنتجاً من خلال التجربة، ومستنداً إليها ومستملىً عنها، وذلك كما يحدث للعلماء ـ مثلاً ـ من اعتقادٍ في «المادة السوداء»، أو في «الطاقة السوداء»، بناءً على حدوسهم وتخميناتهم. وذلك مع الإقرار بأن ما لا يعرفه الإنسان عديلُ ما يعرفه، وأنه كلما اتسعت مساحةُ معرفتنا اتسعت بالمقابل ـ ويا للمفارقة العجيبة ! ـ مساحةُ جهْلنا. فنحن نعرف ـ مثلاً ـ «المادة»، ولكن ننسى أنا لا نعرف «مضاد المادة» مثلاً، مع تفطّن الكثير من العلماء إلى أن المادة لا تحتل إلا جزءًا ضئيلاً من الكون، وأن اللامادة أكثر من المادة بكثير.
2 ـ يمكن أن نعتقد في صحة قولٍ ما (قضية معينة) قد يتقدّم به شخص آخر، من غيرنا نحن، وذلك عندما يوجَد سببٌ معقول يسمح بافتراض أن هذا الشخص من شأنه أنه «يعلم» ـ علم اليقين ـ الموضوع الذي يتحدّث عنه، أو يقول الحقيقة التامة بالقدر الذي يعلمها به. وتلك عرفناها «حجة السلطة»؛ أي تلك الحجة التي تقضي بالاتكاء على السلطة المعرفية ـ حجية ـ عند أهل الاختصاص، أو قل: هي «حجة المرجعيّة» التي تلزمنا بقبول الاعتقاد القائم على الثقة في أهل المعرفة.
لكن إذا ما نحن سلّمنا ـ جدلاً ـ أن هذا الأمر ينطبق علينا في صلتنا بذواتنا، فهل يمكن أن ينطبق ـ يا ترى ـ على الوجود ـ المعي؛ أي على الوجود مع الأغيار؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن نفرض ذلك الاعتقاد الذي اعتقدنا فيه، مع غياب حجج كافية، أو بالاستناد إلى سلطة مرجعية على أي إنسان فيما يعتقده من اعتقادات؟
وجواب «إبستمولوجيا الاعتقاد» يأتي بالسلب أوّلاً: لا؛ ذلك أننا نعتقد في صحة قضايا كتاب الفيزياء المدرسي مثلاً، بناءً على الحجة المرجعية والسلطة العلميّة لمؤلفيه، لكن أنّى لنا أن نعتقد بالاعتقاد نفسه في كتابٍ عقائدي شأن «العهد القديم» على سبيل المثال؟ ولئن قيل لنا: إنه وحي أُوحي، فهل نعتقد في الوحي؟ وقبل هذا وذاك، ما هذا الذي ندعوه وحْياً؟ وما الحجج عليه؟ وما الحجج على أنه وحي؟ أليس يقتضي منا هذا الخوضَ فيما صار يعرف اليوم تحت اسم «إبستمولوجيا الوحي» و«إبستمولوجيا الخلاف»؟
يقول الفيلسوف النمساوي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وهو ما كتب سوى صفحات قصار حول «الاعتقاد» و«اليقين» ـ لودفيغ فيتغنشتاين (1889 ـ 1951): «أنا أعتقد جازماً في هذا الأمر». ويعقب هذا القول بالتساؤل: علام بنيت اعتقادي هذا؟ ويجيب: إن سلسلة التسويغات التي قد ألجأ إليها لتسويغ اعتقاد ـ لا محالة في ذلك، عاجلاً أم آجلاً ـ إلى أن تتوقف؛ كي لا تؤدي إلى خطأ التسلسل. وهي تقف عند «اعتقادات أولية» لا يمكن تسويغها؛ ذلك أنه «في أساس الاعتقاد المسوَّغ ينهض الاعتقاد غير المسوَّغ»(3) والحال أن القول بوجود «اعتقاد غير مسوَّغ» قولٌ بوجود «سلطة مرجعيّة» لا يمكن أن نطلب منها أن تسوِّغ اعتقاداتها بحججٍ. أوَلم يقل الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 ـ 1900): «إن التعوّد على مبادئَ فكريةٍ من غير حجج هو ما نسميه «الاعتقاد»»؟ فعند نيتشه من شأن السلطة الدينيّة ـ التي تضطر اضطراراً إلى تقديم الحجة تقديماً ـ ألا تعود «سلطةً دينية» على الحقيقة؛ بل يكون عليها أن تفقد سلطتها ومرجعيتها وحجيتها.
وقد سبق أن قال الشاعر والمفكر الألماني هاينريش هاينه (1797 ـ 1856): «ما إن يحاول دينٌ ما طلب المساعدة من لدن الفلسفة، حتى يصير أفولُه أمراً مَقْضِياً؛ ذلك أنه يمسي يبحث عن الدفاع عن نفسه، فإذا به يتورط ـ أكثر فأكثر، في الجدل الكلامي الذي سرعان ما يؤدي به إلى دماره. إنما الدين، شأنه في ذلك شأن أية نزعة إطلاقية ـ ما كان له أبداً أن يسعى إلى تسويغ نفسه وإلى تبرير وجوده، وإلّا ما عاد هو دِيناً يُدان به». وألم يتقدم لفيتغنشتاين نفسه أن قال: إنما شأن المعرفة بالشيء أن تستند إلى التعرف على الشيء؛ أي أن تكون تعرفاً على معالمه؟(4)
لكن التحدّي المطروح هو: لئن كان ـ على نحو ما تقدّم بذلك وليام كليفورد ـ اعتقادنا في غياب حُجج كافيةٍ ليس فقط أمراً باطلاً من وجهة نظر إبستيميّة ـ معرفيّة ـ وإنما هو ـ فضلاً عن هذا ـ أمرٌ خاطئ ـ غير صائب، غير حسن، غير طيب ـ من وجهة نظر أخلاقية؛ فإن السؤال الذي سرعان ما يُطرح هو: ألا نكون آنَها مخطئين بخطٍّ مزدوج إذا قبلنا ـ في أمر الاعتقاد ـ باللجوء إلى «سُلطٍ» ليست في مستوى البرهنة على الأشياء التي تؤكدها، من حيث هي أشياء تملك حق معرفتها أو ترفض أن تفعل ذلك؟ ذلك أنه ينبغي أن تكون لنا «ضمانةٌ عقلية» على أن تلك السلط المرجعية «تعرف» حقّاً ما «تدعي» أنها تعرفه، و«تعلم» أكيداً ما «تدّعي» أنها «تعلمه»، وليست فقط «تعتقد» أنها «تعلمه» و«تحسب» أنها «تعرفه». أَوَلم يقل فيتغنشتاين نفسه: «حتى عندما يطمئنني الشخص الأكثر مدعاة إلى الثقة بأنه يعلم الأشياء على حقيقتها من حيث هي كيت أو كيت؛ فإن هذا الأمر وحده غيرُ كافٍ لكي يقنعني أنه يعلم بالفعل ذاك الأمر علم اليقين، وإنما قصاراه أنه يعتقد أنه يعلمه»؟(5) مع تقدم العلم بالبينونة بين «العلم بالشيء» و«الاعتقاد بالعلم به». والمثال الذي يسوقه فيتغنشتاين على ذلك هو مثال ما يقع في المحكمة أمام المحامين والقضاة؛ ذلك أن تأكيد الشاهد على أنه «يعلم» ما «حدث» ليس بمكنته أن يقنع أحداً، بل الأمر أدْعى إلى أن «يبرهن» الشاهد على أنه كان في الموقع الذي يسمح له بأن «يعلم» ما «علمه» إن كان «علمه» حقاً (6).
على أنه من الأمور التي أمست تطرحها «إبستمولوجيا الاعتقادات» مسألة «الاعتقادات الدينيّة» بالذات؛ فقد حاول الكثير من الفلاسفة المعاصرين الردّ على وليام كليفورد في تأسيسه الاعتقاد الصحيح على الحجة الكافية، بما في ذلك في مضمار الاعتقادات الدينيّة.
هذا الفيلسوف التحليلي الأمريكي پـيتر ڤان إنواغن يقول لسان حاله ضد وليام كليفورد: أنا غير مهيأ إطلاقاً إلى سماع وشْوَشَاتِ شبح كليفورد، والعمل بما توحي به إليَّ؛ بمعنى آخر: أنا لست مستعداً لكي أستحيل إلى من يقولون بمذهب «اللاأدرية» في كل أمر خارج حالات الأمور القابلة للتحقق اختبارياً. بالفعل وأنا أصدقكم القول في هذا: أنا عاجز عن فِعْل هذا الأمر، وأنا أقطع ـ ولا أستثني في هذا ـ بأن كل الناس الآخرين تقريباً ـ بحسب ما أظن، يوجدون في وضعيتي نفسها. أنا عاجز عن الاعتقاد بأن كل نزعة أدرية [تقول: «أدري»، بدل قول: «لا أدري» التي تؤسس للنزعة «اللاأدرية»] ـ دعوني أدعوها هكذا ـ هي بالضرورة نزعةٌ غير عقلانية [كما يدّعي وليام كليفورد]. وهكذا فإنني ـ وكما أسلفت ـ غير مستعد لسماع مثل هذه الوشوشات؛ إلا أني في الوقت نفسه وبالقدر إياه عاجزٌ غير قادر على الجواب عنها(7).
ويعقب الفيلسوف الفرنسي جاك بوفريس (1940 ـ ) على قول پـيتر ڤان إنواغن هذا: «على الرغم من أني ـ وعلى خلاف المؤلف ـ لست مؤمناً؛ وعلى الرغم من أني ـ وعلى ضده ـ أكثر حساسية لوشوشات شبح كليفورد؛ فإنني مع ذلك ـ وأنا أقرّ بهذا ـ أُوجد في وضع ليس يختلف كثيراً عن وضعه [وضع إنواغن ] ».
ومهما يكن من أمر، فإن المستفاد مما تقدّم أن العديد من فلاسفة اليوم ما عادوا يخلدون الاعتقاد الديني في ركن ركين، بحجة ـ أو بِتَعِلَّة ـ أنه اعتقادٌ غير عقلاني، وما عادوا يؤمنون بأنه لا يمكن للمرء أن يعتقد اعتقاداً دينيّاً، اللهمّ إلا ما إذا ما تم التدليلُ على ذاك الاعتقاد بالعقل. وهذا حال إنواغن، كما هو حال زمرة من فلاسفة اليوم شبيهة له.
وقد دفع هذا الأمر بجاك بوفريس إلى تلخيص الوضع الجديد ـ الذي صار إليه معظم الفلاسفة ـ والذي يقطع مع البراديغم الأنواري المعادي ـ في جملته ـ للدين عداء مستحكماً ومستفحلاً:
«إن إحدى سمات التطور الحالي، فيما يتعلق بالسجال الذي حدث حول الدين ـ هو أنه ـ بكل تأكيد ـ المؤمنون وغير المؤمنين أمسوا يتوافقون ـ أكثر من أي وقت مضى ـ على أن يعامل بعضُهم بعضاً معاملة الشريك للشريك. وهذا يعني أن المواجهة صارت تحدُث اليوم بين خصومٍ انتهى الخلافُ الدائم المستمر إلى أن جعلهم أكثرَ حفظاً للمسافة مع معتقدهم الخاص وأقل ثقة بأنفسهم؛ ذلك أن أولئك الذين لا يؤمنون أضحوا يَقْبلون ـ على نحو أيسر مما فعلوا بالماضي ـ فكرةَ أنه يمكن للإنسان أن يؤمن إيماناً عاقلاً، وأن عدداً معتبراً من الناس لا زالوا يفعلون ذلك؛ وبالمقابل، فإن أولئك الذين لا يؤمنون يمكنهم أن يؤمنوا هم كذلك بضرورة الاعتقاد. والنتيجة أنه ـ بلا شك ـ أمسى ضربٌ من أنواع التعاون يحلّ محل المواجهة التي كانت هي السارية لأمد طويل. يحافظ الاعتقاد عموماً على حضور معين؛ لكن العبء الذي يمثله أمسى موزعاً على الأفراد توزيعاً أغلب الظن أنه تغيّر، وكان من أثره تخفيف العبء عن البعض كما عن الآخرين. وبهذا أمسى الاعتقاد ـ ومن الآن فصاعداً، وبمعنىً ما من المعاني ـ تحت حماية مشتركة أكبر، وذلك عن طريق التوليف بين مؤمنين أقل اقتناعاً وغير مؤمنين أكثر تفهماً. وكان أن أمست المسألة برمتها تكْمُن في معرفة ما إذا كانت الأشياء تَقْدِر أم لا على أن تذهب أبعد في هذا الاتجاه، وإلى ماذا ستؤول النتيجة».
وهكذا، فإنه في مضمار مبحث «إبستمولوجيا الاعتقادات» أمسينا أمام مذهبين متعارضين:
مذهبٍ أول يمكن أن نسميه ـ باللسان العربي ـ باسم مذهب «النزعة الحُجية» Evidentialism؛ وهو اسم مشتق من الاستناد إلى «الحجة» Evidence في تسويغ الاعتقادات؛ أي اعتقادات سواء أكانت دينيّة أم غير دينيّة. ويعد وليام كليفورد من رواده، وكما يعد ديڤيد هيوم من ممهِّديه. وهذا المبدأ يقضي بأن تكون الاعتقاداتُ تابعةً إلى قوة الحجج الدامغة والمُلزمة. وهو مذهب ـ في جوهره ـ «تأسيسيُّ» أو قُل: ينهض على «نزعة تأسيسية» Fondationalism؛ أي إنه يدعو إلى «تأسيس» الاعتقادات تأسيساً؛ بمعنى أنه يطالب بتأسيسها بالتعويل على «الحجج»؛ فلا اعتقاد يحقّ ـ من وجهة نظره ـ إلا ما استند منه إلى حجج تسوغه وتعلله وتبرره.
ومذهب ثانٍ يعارض المذهب الحجي كل المعارضة، ولا يرى أن يتمّ «تأسيس» الاعتقادات تأسيساً، وإن كان يرى حق المعتقدين بالاعتقادات في الدفاع عنها. وهكذا يرى ـ مثلاً ـ الفيلسوف الأمريكي المعاصر ألفين بلانتينغا أنه ليس من شأن الاعتقادات أن تؤسَّس التأسيس، وإنما شأنها أن يتمّ الدفاع عنها دفاعاً من لدن معتنقيها.
وبالجملة، لقد صرنا نرى الناظرين من الفلاسفة في أمر «الاعتقادات الدينيّة» منقسمين إلى فريقين:
1 ـ فريق الفلاسفة البريطانيين ديڤيد هيوم وووليام كليفورد وبرتراند راسل: وهو فريق يمكن تلخيص دعواه في أمرين:
أ ـ تلزم الحجة للمعتقَد.
ب ـ للمعتقَد معيار هو الحق.
2 ـ فريق الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس (1842 ـ 1910) والفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو والفيلسوف الكندي تشارلز تايلور. وهو فريق يمكن تلخيص دعواه في أمرين اثنين:
أ ـ لا حجة على معتقَد.
ب ـ معيار المعتقَد هو المعتقَد نفسه.
كما أمسى ـ فضلاً عن هذا ـ يتم التمييز في «إبستمولوجيا الاعتقادات» بين صنفين من «الإبستمولوجيا»:
صنف يسمى «الإبستمولوجيا المتواضعة» Modest Epistemology، والتي تقوم على مبدأ قبول أصحابه أن يكون المعتقد الديني موضوع معرفة بالمعنى العادي؛ أي أن يقبل أن يجرى عليه الفحص كما يجرى على سائر الاعتقادات؛ فلا يعد على هذا النطاق اعتقاداً استثنائياً أو اعتقاداً شاذّاً. وهكذا يرى الفيلسوف الأمريكي ألفين بلانتينغا (1932 ـ ) أنه ليس للاعتقادات الدينية طابعٌ «استثنائي» ولا لها طابع «مَرضي»؛ إذ يمكن للاعتقاد الديني ـ شأن سائر الاعتقادات ـ أن يكون نابعاً نبوعاً «طبيعياً» عن عمل «وظيفي» عادي لملكاتنا المعرفية. ومن هنا يأتي نزوع بعض إبستمولوجيي الاعتقاد إلى ما يمكن عدُّه ضرباً من «تطبيع الاعتقاد الديني»؛ أي إلى إزالة هالة الاستثناء والتأبي والاستعصاء على التعقيل التي لطالما ألصقت به. وصنف آخر لا يزال يستهول الاعتقاد الديني ويستعجب من أمره.
فإذن يرى مذهب الحُجِّيَة أنه لا ينبغي لنا أن نعتقد باعتقادٍ معين من دون حجة evidence أو من دون داعٍ أو سببٍ أو مبرر reason، وإنما شأن الاعتقاد أن يتناسب مع المعطيات ـ الحجج ـ التي نملكها. وبذلك يقوم هذا المذهب على مبدأ علل الاعتقاد الكافية الذي جاء به وليام كليفورد: «من الخطأ (الأخلاقي) ـ في كل حين وفي كل موضع ـ أن نعتقد على أساس معطيات (حجج، أدلة) غير تامة».
وقد جوبه هذا المذهبُ باعتراضات كثيرة، أهمها:
1 ـ الاعتراض البراغماتي: يمكن أن نبرر لأسباب عملية واحترازية اعتقاداً ما، أكثر مما نحتاج في ذلك إلى اللجوء إلى حجج إبستيمية (معرفية)... وهنا يأتي مبدأ أولوية العمل على النظر؛ ذلك أنه إن كان اعتقادُ ما يريحني عملياً نفسياً مثلاً؛ فإنني أولى باعتناقه من أن أحاول تسويغه بحجج نظرية منطقيّة عقليّة.
2 ـ الاعتراض النسباني: يمكن لشخصين ـ من دون غلط بيّن في الاستدلال صادر من أحدهما أو من كليهما ـ أن يسوغا اعتقادهما في أمرين متناقضين. فأين مطلب التسويغ هنا إذا كان ثمة تكافؤ في الأدلة؟ وأين الحجية إذا ما تساوت الحجج؟
هذا ويمكن ـ على وجه الإجمال ـ التمييز ـ في «إبستمولوجيا الاعتقادات الدينية» هذه المرة وليس «إبستمولوجيا الاعتقادات» بعامة ـ بين ثلاثة توجهات أساسية:
1 ـ موقف إثباتٍ: وهو موقف يقضي بإثبات الاعتقادات الدينية، ولسان حاله يقول: الاعتقادات الدينية حقٌّ.
2 ـ موقف نَفْيٍ: وهو موقف يقضي بأن الاعتقادات الدينية باطل، أو اعتقادات مدحوضة؛ أي إنه ينفي الاعتقادات الدينية؛ بمعنى أنه ينكر أن تكون مبنية على أساس.
3 ـ موقف «تعليق الحكم» أو «التوقف» أو «الوقف» بلغة الأقدمين؛ أي الامتناع عن الحكم عن الاعتقادات ما إذا كانت حقّاً أم باطلاً.
ويلاحظ ـ فيما يخصّ التوجه الثاني ـ أن ثمة نوعين من «عدم الاعتقاد» أو من «نفي الاعتقاد»:
1 ـ عدم الاعتقاد؛ بمعنى رفض الاعتقاد الديني أصلاً (عدم إرادة الاعتقاد الديني)؛ أي الجحود: وذلك إما بالقول باعتقاد يضاد ما كان يعتقده الإنسان من قبل، أو بمضادة ما يعتقده القوم (مثال: الإلحاد).
2 ـ عدم الاعتقاد؛ بمعنى عدم التوصل إلى الاعتقاد، أو الجهل بما إذا كان ثمة اعتقاد (مثال: اللاأدرية).
نعود لنذكر بسياق «أخلاقيات الاعتقاد»، وهو السياق الفلسفي الغربي؛ إذ يطلق مفهوم «أخلاقيات الاعتقاد» ـ في الفلسفة الغربيّة ـ على النقاش الذي دار بين فئتين من الفلاسفة فيما يتعلق بمسألة «تسويغ» أو «تعليل» أو «تبرير» الاعتقاد. الأوائل هم «البَيِّنِيُّون» أو «الحُجِّيون» الذين لا يعتقدون إلا فيما قام على «بيّنة» أو «علّة معرفية». والثواني هم «اللَّابَيِّنُون» أو «اللاحجيون» الذين ينكرون ضرورة الحجة ولزوميتها. فلا يعني أن تكون للمرء حجة على ما اعتقده أن تلك الحجة تسوغ له ما اعتقد. ينسب الموقف الأول إلى عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني وليام كليفورد (1845 ـ 1879) القائل بمبدأ: «من الغلط دوماً ـ ومهما يكن من أمر ـ أن يعتقد شخصٌ ما اعتقاداً معيناً استناداً إلى حجة غير كافية» (1877). أما الموقف الثاني فينسب إلى نزعتين: «النزعة التقوية» (وهي نزعة الفيلسوف الدانماركي سورن كيركغارد (1813 ـ 1855)) ونزعة «البراغماتية العمليّة» (وهي نزعة الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس (1842 ـ 1910)). وهما نزعتان تشتركان في القول بأن الاعتقاد الديني لا ينبغي أن يُتعقل بعوامل معرفيّة إبستيميّة؛ لأنه ما كان مسألة «معرفة»؛ وإنما هو مسألة «إيمان»؛ أي إنه مسألة عمليّة؛ بل هو عند كيركغارد «قفزة» إيمانيّة ليست للتعقل.
..........
المراجع والمصادر والهوامش:
(1)للإحاطة بهذه المناظرات يُنظر كتاب: Contemporary Debates in Epistemology / Edited by Matthias Steup and Ernest Sosa, First published 2005 by Blackwell Publishing Ltd.
(2) انظر: David Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding, Edited with an Introduction and Notes by Peter Millican, Oxford Worlds Classics, Oxford University Press, Oxford/New-York, 2007, Section XX, (4), p. 80: “A wise man … proportions his belief to the evidence.”
(3) Ludwig Wittgenstein, De la certitude, traduction de l’anglais par Guy Durand, tel, Gallimard, Paris: 1976, §253.
(4) Ibid, §378.
(5) Ibid, §137.
(6) Ibid, §449.
(7) P. Van Inwagen, “Listening to Clifford’s Ghost.” in Royal Institute of Philosophy Supplement (65), 2009, p. 15-35