مفاهيم الرحمة وأصولها القرآنية

5adc3346b1f88.jpg

أنجليكا نويفرت | بروفسورة ومديرة معهد الدراسات العربية بجامعة برلين، ورئيس مشروع: المدونة القرآنية، سابقاً.

أعلن البابا فرنسيس عام 2016/2017 حَولاً للرحمة، وكان المعني من وراء ذلك تنبيهنا بقوةٍ إلى ما هو جوهر تقاليدنا الدينية: الرحمة، وهي تمثّل الهدية الحية إلى رفاقنا في الإنسانية. إنّ هذه القيمة تجد تأسيساً لها بأسلوبٍ فريد في مطلب المسيح (متّى 22، 37، 39): «أحِبَّ إلهك بكل قلبك، وبكل روحك، وبكل عقلك، وهذه هي الوصية الأعظم، والأكثر أهمية. أما الوصية الثانية من حيث الأهمية فإنها: أحِبَّ جارك، كما تحب نفسك». بَيْدَ أنّ هذه الوصية الثمينة لا ينبغي عدّها خاصةً باللاهوت المسيحي الأول؛ فالتراثان اليهودي والمسيحي مليئان بالوصايا والأقوال والأمثال التي تؤكد عمق هذا المبدأ العَقَدي، ولذلك سيكون غريباً ألّا يكون لهذا المبدأ أو لهذه القيمة أهميتها في الإسلام. وهو الدين الذي ظهر وانتشر في مساحة الزمن الكلاسيكي المتأخر. وبالفعل فإنّ البابا فرنسيس ـ الذي أكّد على هذا المبدأ في المسيحية ـ سارع إلى تأكيد وجوده في الإسلام. ثم إنّ المؤتمر الذي أُقيم في الـ PISAI (2016) ـ عن الرحمة في الديانات ـ كان المقصود به أيضاً التحدث عن هذه القيمة في القرآن والإسلام، وشأنهما في ذلك شأن كتب التقاليد الأُخرى، وليس للمقارنة فقط، بل وللتلاقي أيضاً.

إنّ هناك إشاراتٍ في القرآن لحضورٍ قويٍ لمفهوم الرحمة في المرحلة المكية الثالثة (القرآن 6: 54): ﴿ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍۢ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(الأنعام - 54) ﴾. فهو عهدٌ من الله لبني البشر أن ينشر رحمته في أوساطهم. ولذلك لم يكن غريباً أن يذكّرنا بذلك الأستاذ مهند خورشيد في كتابه: الإسلام هو الرحمة (2014)؛ لمواجهة عواصف العنف ودعواته والتي تُنشَرُ باسم الإسلام. إنّ مرافعة خورشيد ما بقيت دون ردود؛ إنما الذي يبقى وينبغي تأمله: هل تكون دعوة خورشيد لهذا الفهم للقرآن وللرسالة الإسلامية؟ أصـيلة في التقليد الإسلامي أم إنها تُـثار الآن ومـن وقـتٍ قريـبٍ تحت تأثير الدعوات المسيحية المعاصرة؟ وفي الواقع فإنّ الموروث الديني والثقافي الإسلامي لم تجْرِ متابعتُه عبر العصور فيما يتصل بهذه القيمة. وفي هذه المهمة فإنّ أولَ ما ينبغي فعْلُه الرجوع إلى القرآن لإثبات أو مساءلة أطروحة خورشيد. إنني أعدّ ورقتي هذه محاولةً أولية لمساءلة كتاب خورشيد، وأنا أستند في ذلك إلى الشواهد التي اجتمعت لدينا في المدوَّنة القرآنية Corpus Coranicum التي بدأنا العمل عليها في عام 2007 بأكاديمية العلوم في برلين.

وفي مطلع مقاربتنا أو مساءلتنا ينبغي القول: إنّ هناك رأيين بشأن طبيعة الدعوة القرآنية: هل القرآن رسالةٌ مُعْلِمةٌ بالعقاب الإلٰهي بالنظر إلى وجود آليات تقول بذلك؟ أم إنه وإنها رسالةٌ للرحمة (شأن ما هو معروفٌ عن الرسالة أو الرؤية الواردة في الإنجيل). وتشكّل هذه المساءلة تحديّاً أو تنافُساً بين مقاربتين تأويليتين: تلك التي تلتصق بالفهم الحرفي لآياتٍ مفردةٍ في القرآن بوصفها جاهزةً للتطبيق المباشر اليوم، وتلك الدعوة المغطَّاة، والتي تتضمن «روح» النصّ بأكمله، وتسمح ربما بفهمٍ آخر للآيات المعنية. إنّ قراءة القرآن من وجهة نظرٍ فيلولوجية، ألسنية وسياقية، يمكن لها أن تدلِّل للرؤيتين. إنما المقاربة التي تصل إلى وجهة نظرٍ فاهمة وحميمة هي تلك التي تميِّز بين التأويلات المقنعة والأخرى غير المقنعة. والملاحظات اللاحقة تنصبُّ على الإسهام أولاً وبالدرجة الأولى في هذه المهمة الهرمونيطيقية.

الإرهاب والرحمة:

لماذا تصبح مسألة الرحمة أساسية؟ إن الرحمة في السياق العربي القديم كانت مفهوماً غير مألوف، وكان على القرآن استدخالها؛ أمّا في التقاليد المسيحية المجاورة فإنّ وجودها كان قوياً جدّاً، وقد كان أرسطو (ت: 322 ق.م) ـ الذي ذكر في كتاب الشعر (الفصل التاسع) الموقع الفريد للرحمة والخيال ـ واعياً لأهمية هذا المفهوم في الأعمال الأدبية. وقد عدّه مفهوماً مفتاحياً في فهم دخائل النفس الإنسانية. وبحسب أرسطو أيضاً فإنّ هذين المفهومين ـ أي الرحمة والتأمل ـ ضروريان للوصول إلى حالة التطهر (Cathartic)، التي تحدث في نفوس مقدِّمي تلك العاطفة. وما تحدّث أرسطو هنا عن الآداب بعامة؛ بل عن جنسٍ أدبيٍّ محدد يقع بين الشعائر والطقوس من جهة، والتراجيديا الإغريقية من جهةٍ أُخرى. وتأملات أرسطو هذه ـ والمتعلقة بالبعد النفسي للتراجيديا ـ تركت آثاراً عميقةً في الفهم الغربي للتراجيديا، على الرغم من أنّ البُعد الشعائري أو الطقسي لم يعد وارداً، بل تضاءل الأمر إلى عدّ التراجيديا جنساً أدبياً فحسْب. بَيْدَ أنّ البُعد النفسي للتراجيديا ما بقي في الآداب الإسلامية، كما لم يبق بوصفه جنساً أدبياً. إنما يكون علينا أن نلحظ أنّ المعالم الرئيسة للعالم التراجيدي الإغريقي جرت استعادتها في نصٍ عربيٍ خالد هو القرآن الكريم. إنّ القرآن ـ كما في كتاب الشعر ـ يعكس البُعدين للتراجيديا: البُعد النفسي والآخر المخيف، أو بعبارةٍ أُخرى: الرحمة / الخوف أو الرعب. ومن جهةٍ أُخرى فإنّ القرآن يحقق ذلك أو يصل إليه بأسلوبٍ بلاغي يخالج النفوس بروعته. فالآيات القرآنية تبدو باعتبار المقصود منها مثيرة للتعاطف أحياناً، والخوف والخشية أحياناً أُخرى؛ ففي سورة الزمر (39: 23): ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٢٣﴾ ﴾.

أما الآية القرآنية التي تشير إلى عهد الله بممارسة الرحمة فتشكل موقفاً فريداً للوعد الإلٰهي. وهذه اللهجة التقريرية تشير إلى طابع التأكيد الذي لا تريده الآية أن يتخلخل، كما تشير إلى تأكيدٍ سابق، و«صيغة الرحمة» هذه هي التي تُعرف في التقليد اليهودي بوصفها الصفة الثالثة عشرة لله. وقد ذُكرت مراراً في الأزمنة الكلاسيكية؛ لكنها لعبت دوراً خاصاً في التراث اليهودي بوصفها: بين «الصفات الثلاث عشرة»؛ والتي يكثر اقتباسها في الأزمنة الكلاسيكية المتأخرة، وتلعب دوراً في الطقوس اليهودية؛ وذلك قبل أنّ تُذكر في سِفْر الخروج 19 ـ 32 وأسفارٍ أُخرى. بَيْدَ أنّ كل هذه المراحم جرت الإساءة إليها عندما عبدوا العجل الذهبي (الخروج: 32)، والتي تلاها تكسير موسى للألواح. وفي هذا السياق يمكن فهم سفر الخروج: 34، والذي يصوِّر يهوا بوصفه رحيماً ومنتقماً في الوقت نفسِه.

ورغم التأكيد على أنّ العدالة العقابية ينبغي أن تُنفَّذ؛ فإنّ الرحمة ظلّت تحتل مكانةً عليا. ولذلك ليس مصادفةً أنّ التقليد المسيحي يعدّ ما ورد في العهد القديم (سفر الخروج: 34) صيغةً للرحمة. وإذا عدنا للآية القرآنية نجد أنها لا تذكر السوابق، ولا تذكر العدالة العقابية؛ بل تكتفي بذكر الرحمة على وجه العموم. وهذا الإيجاز التعميمي ينبغي ألا يُنسينا على أي حال قيمة العدالة. وبذلك فإنّ مشروع الرحمة أو قرارها يظل مرتبطاً بمطالبة الله سبحانه بالحساب، وممارسة المولى سبحانه بوصفه قاضي اليوم الآخِر.

العدالة:

استناداً إلى الأمر السابق يصبح الاستطراد القصير في حديثٍ عن العدالة أو العدل ضرورياً؛ فالعدل ـ كما يمكن أن يُرضي بعضهم ـ هو القيمة الأعلى منذ العصور القديمة في الشرق، ويمكن أن نذهب إلى أنه كان قيمةً شديدةً الاحترام في المجتمع العربي القديم أيضاً. لكن من ناحية أخرى، يبدو ـ بحسب Spieckermann في دراسةٍ له عن العدالة في العهد القديم ـ أنه فيما بعد وللتخفيف من «قسوة» العدالة، حدث نوعٌ من التصحيح باتجاه الرحمة أو العفو؛ ليتحقق صلاح الحال إن فشلت العدالة في ذلك. ومع أنّ «العدالة» هي أهم مطالب الإنسان في حياته؛ فإنها في القرآن صفةٌ لله وإحدى خصوصياته وأُلوهيته. لكنّ العدالة تظل أيضاً مثلاً إنسانياً أعلى، وليست موضوعاً إسكاتولوجياً أو أُخروياً فقط، وإنما تقع في مقدمات الأشياء أو أُصولها. فالعدالة أو الاستقامة ـ وبالعبرية: صَدَق، والتي تتردد في القرآن ـ تبدو مثل جنسٍ أو نوعٍ تأتي تحته معانٍ متعددةٌ ومتقاربة. وهذا المصدر (العدل) يُعدُّ منذ الآيات القرآنية المبكرة أساس علائق الله بمخلوقاته؛ ففي (القرآن 15: 85) ﴿  وَما خَلَقنَا السَّماواتِ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما إِلّا بِالحَقِّ ۗ وَإِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَميلَ ﴾، وهذا الأمر يتكرر في عدّة آيات (49: 3، 44: 39، 45: 6). ونجد ما يماثل ذلك في الإنجيل (المزامير، 50 ـ 6): والسماوات تعلن عن عدالته؛ لأنّ الله قاضٍ بنفسه ولنفسه.

إنّ اللغة القرآنية ضاربة في أعماق المعارف الشرقية القديمة، ولذلك ليس غريباً أن نجد شبيهاً أو مماثلاً لمفرد: صدق، العبري؛ بوصفه هو العمل الإلٰهي من وراء عملية الخلق ـ وهو مفرد: الحق. بَيْدَ أنّ اللغة القرآنية في تكونها وتطورها أجْرت تعديلاتٍ وإعادةَ توجيهٍ لهذا المفرد أيضاً، كما جرى في العهد القديم. إذ ما بقيت العدالة أمراً كونياً أو وجودياً فحسْب؛ بل صارت للعدالة أبعادُها الإنسانية، بل القلبية. وصحيحٌ أنّ العدل يتمثل أولاً في عمليات الخَلْق واعتدال وانتظام الجسد الإنساني؛ بَيْدَ أنّ هذه القيمة ـ أو هذا النموذج البدئي ـ يصبح أيضاً أساساً في التكوين الاجتماعي. وبذلك يكون العدل من جهةٍ في عملية الخلْق وانتظامه، ومن جهة أُخرى يتجذر أيضاً في قلب المرء ومشاعره قيمةً حاكمةً في التصرف. وهذه القيمة أو هذا المبدأ يبلغ من سريانه أن يكون مثالاً للإنسان في الحياة الدنيا وفي الآخرة: يوم الدين، بمثابة المظلة أو الأُفق. وهكذا يوضع الكون كله تحت وعْدِ العدالة.

العدل وتكوين الخَلْق:

من أجل فهم المقولات القرآنية وإيضاحها في سياقاتها، وكيف تتدخل في العالم المصطلحي للنقاشات في الكلاسيكيات المتأخرة؛ ينبغي تتبعُ تموضُعها في السور القرآنية، وتطورات هذا التموضع في تطور المفاهيم. كانت العدالة مبدأ رئيساً في محيط القرآن ـ ومن ضمن ذلك التراث الإنجيلي ـ ولذا ليس غريباً أن تكون كذلك في القرآن. والجانب الرئيس في التصور القرآني للعدل هو أنه محور الإنفاذ في اليوم الآخِر: يوم الدين. لكنّ تعديلات ما لبثت أن طرأت في هذه المقولة الرئيسة؛ فمنذ السُوَر المكية الأولى ما عاد العدل حاكم يوم الحساب فحسْب؛ بل دخل في اعتبارات السلوك الإنساني أيضاً. فإذا كان النظام الإلٰهي من دعائمه وأسسه العدالة؛ فإنّ من مقتضياته العملية أن تكون العدالة رائدة في المجال الإنساني. إنّ عملية الخلق تتكون من نظام إشارات يستدعي الانتظام، وهو إدراكٌ تعقيلي. وإذا قارنّا ذلك بالتطورات الإنجيلية؛ نجد اختلافاً لدى القرآن ينبغي التنبيه إليه، وهو افتراقٌ بدئي أو مقولة بدئية، صارت سائدةً في الخطاب القرآني، ومختلفة عن سوائد المحيط. إذ إنّ مقولة العدل ترتبط فيها بمقولة الخير؛ ولننظر في ذلك في سورة البلد (90): ﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ۝ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ۝ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ۝  ﴾. تبدأ السورة بمجموعة من الأقسام (جمع: قَسَم)، أولها القَسَم بمكة بإعطائها قيمةً عليا بوصفها مركزاً حضَرياً، وبشكل غير مباشر بوصفها مكاناً مقدساً. وقد جرى من قبل ذكْرُ ذلك لأنها موطن النبي الذي يُوجَّهُ الخطاب إليه. أما القَسَم الثاني (ووالدٍ وما ولد) فيشير إلى البُعد الاجتماعي، بحيث يجتمع البُعدان الطوبوغرافي والديموغرافي. وهذان البُعدان اللذان سيتكرر ذكرهما سيصبحان عنصراً ثابتاً في ثيولوجيا اللغة القرآنية. ويتلو ذلك عنصرٌ سلبيٌّ في الظاهر يتناول ثيولوجيا اللغة أيضاً (لقد خلقنا الإنسان في كبد)؛ أي في مشقةٍ ومُعاناةٍ ونقص. وذلك يعود إلى سلوك المشركين الذي يفتخرون بإنجازاتهم الدنيوية (كسْب وإهلاك المال الكثير)، ويشبه ذلك ما يذكره الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد: وإذا شربتُ فإنني مستهلِكٌ مالي. فبحسب العُرف الجاهلي، يكون إنفاق المال بإسرافٍ دليلاً على الجُود والحَسَب. أما في سورة البلد فقد صار ذلك نقيصةً وليس فضيلة: أيحسب أن أحداً لم يره، وليس بموازين العُرف الجاهلي، بل بموازين حساب الآخِرة! هناك معالم جديدة للشخصية النبيلة، والرسالة النبيلة التي هيأَ الله عز وجل الإنسان لحملها: ألم يجعل له عينين للنظر والفهم؟! ولساناً وشفتين للكلام العاقل؛! والتصرف العاقل، وبالعقل والمراجعة هداه للنجدين؛ لكي يختار سبيل الخير، وهو بالطبع سبيلٌ صعبٌ؛ لأنه لا يجاري الرغبات غير الراشدة، ويكلّف جهداً ومالاً. لا بد من تجاوز «عقبة» الرغبات بإعتاق العبيد، وإطعام ذوي القربى واليتامى والمساكين بعامة. وهذه القائمة أو الجدول من فعال الخير والبر تعيد الربط مع القَسَم الثاني في مطلع السورة. فكما انتظم الجسد الإنساني في أعضائه ووظائفها؛ كذلك ينبغي أن ينتظم جسد المدينة (= البلد) في أجهزته وتوازناته الاجتماعية والسياسية الرشيدة. فالخير موجودٌ في طبيعة تكوين الإنسان، وهو مهيَّأٌ بالطبع لذلك، وإنما ينبعث هذا الوعي فيه، وتسقط عنه عقبات الغفلة والشهوات، بوعي الحساب والبعث واليوم الآخر.

إنّ هناك لغةً دينيةً أُخرى تنشر دعوةً للأمور ذاتها، وهي موجودةٌ في العهد القديم في سِفْر أشعيا: 58: 6 ـ 7: «إنّ مقاصد الصوم الذي أطلبه منك أن تسقط قيود المظالم وسلاسلها، وأغلال الظلم، وأن تدع المعذَّبين يذهبون أحراراً. تقاسم طعامك مع الجوعى، وافتح أبواب بيتك للفقراء الذين لا يملكون بيوتاً». أعمال الخير الثلاثة المطلوبة من جانب أشعيا ـ في أواخر الأزمنة الكلاسيكية ـ أُحيلت إلى طابع إسكاتولوجي مسيحي في إنجيل متّى (25: 34 وما بعدها)؛ ففي يوم الدين فإنّ المسيح سيبارك الناس «الجالسين على يمينه»، قائلاً لهم: «تعالوا أيها المباركون والمرحومون من أبي! لقد كنت جائعاً وأنتم أطعمتموني، وعارياً وأنتم كسوتموني.. وكنت غريباً وأنتم آويتموني في بيوتكم.. ومسجوناً وأنتم زرتموني». وسيجيبه الأتقياء: لكن أيها السيد متى رأيناك جائعاً فأطعمناك، ومتى عرفناك غريباً فآويناك في منازلنا، وعارياً فكسوناك ثياباً؟! وسيجيب الملك: إنني أقول لكم: أيما عملٍ قمتم به تجاه الفقراء والمساكين والمحتقَرين من إخوتي؛ فإنما فعلتموه من أجلي! ثم إنه سيلعن الجالسين على يساره، ويبعث بهم إلى النار؛ لأنهم فشلوا في أداء أعمال الخير والبرّ.

يشير القرآن إلى أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة؛ بما يشبه السيناريو المعروض في إنجيل متّى؛ بَيْدَ أنّ المهمَّ هناك ليس الإشارة إلى أعمالٍ للخير مذكور مثلُها في الإنجيل؛ بل رفْض القرآن لمقاربة العهدين لمسألة الخير والإحسان والرحمة؛ ففي متّى صُوِّرت هذه الأعمال كأنما قدّمت للمسيح نفسه. وهنا يقدّم القرآن تعليلاً آخر؛ فالخير ينبغي أن يقوم به الإنسان لانتظام ذلك مع خَلْقه الإنساني؛ إذ هناك عنصرٌ نبيل في طبيعة الإنسان؛ ولذلك فإنّ عمل الخير لا يُصنع من أجل مرجعية دينية، أو شخص مرشد أو منذر؛ بل هو ـ أو ينبغي أن يكون ـ نتيجة النموذج المجرد في اللغة لطبيعة الإنسان. هناك انتظام في عمليات الخلق، وفي تركيب الجسد الإنساني، وهذان الأمران يقتضيان القيام بأعمال الخير والبرّ في المجتمع؛ ليكون الانتظام كاملاً على المستويات الثلاثة.

إنّ المفاجئ أن سورة البلد ليست قطعةً واحدة، بل إنها تشير إلى نموٍ متتابع. فالآيات بين 17 و20 ـ رغم أنها تشكّل جزءًا من بناءٍ متكامل ـ وُضعت لاحقاً في السورة، من الفترة المكية المتأخرة، أو المدينة. فالآيات المذكورة أطول من آياتها الأولى، وهي ذات طابع تحليلي (الذين آمنوا بدلاً من المؤمنين). ثم إنّ الآية رقم 17 لا تتوجه للمستمع المنفرد كما في الآيات 1 ـ 16 بل إلى الجماعة؛ فهؤلاء هم المطلوب منهم هنا أن يتضامن بعضهم مع بعض، وهو الأمر الذي كان مطلوباً عندما كانوا مُحاصَرين بمكة، أو في حالات الحرب بالمدينة المنورة. إنّ عليهم أن يصبروا على الضيق والحصار، وهو الأمر الذي ما كان متصوَّراً في ظروف الدعوة الأولى بمكة؛ ففي الظروف المتأخرة نسبياً ما عادت الأعمال الفردية كافية؛ لقد صار التضامن السياسي مطلوباً؛ ذلك أنّ الأفراد صاروا جزءًا من جماعةٍ ناشئةٍ ومتنامية. وهكذا فإنّ النصّ القرآني الموجز شكّل تحولاً معرفياً على مستويين: في الأول بالمحيط الجاهلي، حيث كان الحَسَب يلعب دوراً اجتماعياً، فصارت قيمة الجود ـ بالمعنى القديم ـ محكومة بقيمةٍ أُخرى هي الخير والإحسان. كما صارت اللغة المسيحية للإنسان ـ صانع الخير من أجل المسيح ـ محكومةً بلغةٍ أُخرى متصلة بالانتظام الفردي / الاجتماعي، وبطبيعة الإنسان والجماعة كما خلقهما الله. وهذه التحولات لها بُعْدٌ لاهوتي أدَّى إلى إدخال طبيعة الإنسان والمحيط الاجتماعي في النظر. بل يمكن أن تكون الآيات إجابةً على تساؤلات المكيين: إن لم يكن عمل الفرد موجَّهاً من العادات والقيم السائدة، فإلى مَنْ يتوجه؟ ولماذا المحيط الاجتماعي؟ في العهد القديم كان التوجه إلى الشعب المختار، وفي العهد الجديد إلى شخص المسيح، أما في القرآن فظهرت الحاجة إلى دائرةٍ أوسع وأعمق وإلى العناية الإلٰهية: الكلمة المقدسة المطهَّرة أو سلطان اللغة.

لقد مضت العدالة إلى مستوى من الدخلنة؛ فمنذ البداية كانت العدالة مفهوماً قرآنياً أساسياً، وكانت لها أبعاد لاهوتية من الفترة المكية الأولى، وستظل من بعد في قلب الرسالة الجديدة حتى النهاية.

الرحمة:

كان مدخل القرآن ـ من مفهوم الرحمة إلى مقولتها ـ من خلال شخصية مريم. وفي حالة الرحمة فإنّ الأمر مختلفٌ تماماً في القرآن عنه في الديانات الإبراهيمة ومحيطها؛ فالرحمة الإلٰهية كانت بارزةً في كلاسيكيات ديانات التوحيد؛ بَيْدَ أنّ الموضوع لم يظهر بوضوح في الفترة المكية الأولى. الموقف القرآني من النبي هو منذ البداية موقف عناية وتعاطُفٍ ومؤازرة حتى من الجانب الشخصي، فلنتذكر (السورة القرآنية 94: 1) ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ﴾. وقد بارك الله دائماً الذين يرعاهم بإشاراتٍ على النعمة والرعاية. إنما في فترةٍ لاحقةٍ تدخل عناية الله في الجانب الإنساني والعطف وبلفظ الرحمة. وهذا الجديد يبدو في سياق القدس، والذي يأتي من ضمنه التوجه إليها في الصلاة. وهذا الذكر الصريح للرحمة، يأتي في سياق قصة زكريا / يحيى (يوحنّا) والمسيح. وموقع هذا القصص أو سياقاته لا يمكن عدّه مجرد تفاصيل. وهذا رغم أنّ الهيكل لا يظهر بوصفه موقع انتظار أو أحداث لاهوتية. وكذلك ليس هناك تذكر للأضحيات كما في اليهودية. كما أنّ تدمير الهيكل لا يُذكر بوصفه عقوبةً على قتل المسيح (كما يظهر في بعض الكتابات المسيحية منذ القرن الرابع). الهيكل مذكور فقط من خلال المحراب الذي كان يتعبد فيه زكريا، ويربّي فيه العذراء مريم تحت رعايته. إنما أحسب أنه ليس مصادفةً أن تكون القدس هي المكان الذي يتبلور فيه المعنى الجديد للرحمة، وربْط ذلك بمريم: ﴿ قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) ﴾. فقد صلّى زكريا ودعا ربه، ونزلت عليه رحمة الله إجابةً لدعائه؛ فالشيخ زكريا كان يرجو من وراء دعائه أن يكونَ له خَلَف (مريم: 4 ـ 6). وقد استُجيب رجاؤه بولادة ولده يحيى، وسيكون نبياً ومظهر نعمةٍ كبيرة. وتشبه قصة زكريا ويحيى في القرآن ما ورد في إنجيل لوقا (1، 5 ـ 25). إنما بخلاف لوقا فإنّ القصة القرآنية لمريم والمسيح لا تربطه بيحيى. يحيى في القرآن ليس شخصيةً تمهيديةً للمسيح، بل هو نبيٌّ مستقل. وولادته لأبٍ وأمٍ متقدّمين في السن هي معجزةٌ من الله، وشاهدٌ على رحمته. إنما لو تابعنا القصة إلى نهاياتها فسنجد أنّ يحيى لم يخلف والده في كهانته، بل غادر الهيكل وتمسّك بالكتاب المقدس، ولم يخلّف ذريةً بل كان حَصوراً (القرآن 3: 39). فبدلاً من حياة التضحية المقدسة، نذر نفسه (من خارج المؤسسة) لله. وهذه إشارةٌ إلى تغييرٍ في مآلات الخلاص.

أما الحاضر الرئيس الثاني في السورة فهو السيدة مريم، وقد وُلدت في ظل الرحمة الإلٰهية. واسمها مريم يعني في التقليد المسيحي: «المملوءة بركة» (لوقا: 1، 28). وهذا معنىً للاسم يبدو أنّ المستمعين للقرآن كانوا يعرفونه أيضاً. بَيْدَ أنّ الأهمّ أنّ مريم كانت منذورةً للرحمة أنثروبولوجياً؛ للصلة الوثيقة للمفرد بالرَّحِم، والذي يشير إلى العلاقة بين الأم وابنها الذي لم يولد بعد. والآيات التي تُذكرُ فيها مريم تُكمل ما بدأت به السورة من ذكرٍ لزكريا ويحيى (القرآن 19: 16): ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾. لقد أعدت مريم نفسها لتلقّي رسالة المبعوث من الله، باعتزال الناس: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴿  فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ ﴾. وصحيح أنّ مريم ما ارتبطت بالبركة والنعمة بدايةً، لكنها تشبه مريم في المسيحية: الممتلئة نعمة (لوقا: 1، 28). لقد بورك بها بتلقّي زيارة قُدْسية، حيث أخبرها الزائر بأنّ ابنها سيكون ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ (القرآن 19: 21). وليس معروفاً من القرآن المكان الذي تلقت فيه الرسالة أو الخبر، ولا المكان الذي ولدت فيه المسيح؛ بَيْدَ أنّ إخبار مريم بهذا الخبر العجائبي، دون أن يكون هناك اقترانٌ بعملٍ يرفع روحها المعنوية سبب لها بؤساً. ولذلك كان لا بدَّ من عملٍ من أعمال الرحمة أو إشارة إلى ذلك؛ لكي يتم إنقاذها من الموت في البرية وحيدةً بعد ولادة طفلها (22 ـ 23)، وعمل آخر من الأعمال العجائبية من خلال طفلها نفسه؛ لكي لا يقتلها بنو قومها (28 ـ 32). ولذا ليس هناك شكٌّ في أنها داخلةٌ في عملية الرحمة الإلٰهية، والدليل على ذلك ـ أي أنها مباركة ـ هو الصيغة الأدبية لقصتها. فالقصة متضمنة في سلسلةٍ من أمثلة الرحمة، حاضرة في كل سورة مريم؛ إذ في هذه السورة يرد مفرد الرحمة تكراراً بحيث لا تضاهيها سورةٌ أُخرى. وإلى هذا فإنّ سورة مريم هي أول سُوَر «الرحمٰن»، وهو الاسم المعروف مما قبل الإسلام للإله الواحد، والذي يظهر في سلسلةٍ متتابعةٍ من السور في المرحلة المكية الوسطى. وهو في هذه السور يحلُّ محلَّ مفرد: «ربّك». إنّ الدخول في مرحلة الرحمٰن يثير الانتباه. ويمكن مقارنة ذلك بظهور اسم «يهوا» في سفر الخروج 3. وهو عند العبرانيين مثّل الوعد بالبركة لشعب إسرائيل: سأكون أنا الواحد، أكون. إنّ الرحمٰن يمثّل بالمقابل وعد الرحمة وعهدها لمتّبعي هذه الرسالة، وهذا القرآن.

هناك إذن جديدان اثنان في السورة: البدء باستعمال مفرد الرحمٰن، واحداً من أسماء الله الحسنى، وإبراز شخصية نسائية بوصفها أماً للمختار، ومملوءةً بركةً ونعمةً ورحمة. وهذا اللقاء ليس مصادفة. لا تلتقي القصتان ولا ترتبطان مثلما حصل في إنجيل لوقا؛ نعني قصة زكريا ويحيى وقصة مريم. إنما على الرغم من ذلك هناك علاقةٌ ثيولوجيةٌ عميقة؛ فصلاة زكريا ودعاؤه لكي يكون له ولي ـ أي خَلَف ـ تحققت جزئياً فقط؛ فالابن وُلد؛ لكنه لم يذهب إلى الهيكل، ولم يصبح كاهناً. بينما مريم عاشت في الهيكل، وهذا يعني أنها حلّت محلَّ يحيى، أو أنها أنجزتْ ما لم ينجزه. ولذلك كانت الأدبيات المسيحية الأولى تعدُّها أم الكنيسة أو مؤسِستها. لقد سماها القرآن: أُخت هارون (28). وهارون هو صانع مؤسسة الكهانة في اليهودية، فتوشك مريم أن تكون هي التي تتابع التاريخ والرسالة، والتي تحلُّ فيها الكنيسة محلَّ الهيكل. وهناك عدة إشاراتٍ مجازيةٍ في سورة مريم إلى هذه الخلافة (القرآن 19، والقرآن 3). وصحيح أنّ هذه الإشارات ترد في القرآن جزءًا من القصة دون إعطائها وزناً يصل إلى مرتبة الماريولوجيا التي أحاطت بمريم في النموذج المسيحي؛ إنما ما يزال هذا التراكُبُ بين القصتين ممكن التفسير بالنظر إلى أنّ الحرمات التي طلبها زكريا من أجل تخليد الهيكل وجدت تحققاً إلٰهياً في حياة مريم، التي بدأت عهداً جديداً من عهود الرحمة الإلٰهية من خلال شخصيتها وممارستها ومن خلال المسيح. ولهذا المعنى فإنّ النصَّ القرآني يستبدل بالعمل الأضحوي الكهنوتي عملاً آخر، أو باراديغم آخر، هو باراديغم النعمة والرحمة.

سُوَر الرحمٰن:

خطاب الصلاة في سورة الإسراء:

في مرحلة «الرحمٰن» ـ بالفترة المكية الوسطى لتنزيل القرآن ـ يصبح مفرد «الرحمٰن» بمفرده سائداً تقريباً. وهذه الفترة لا تحمل هذا الاسم بالمصادفة؛ فهي الفترة أو المرحلة التي تصبح فيها العلاقة القوية بين الله وعباده المؤمنين مباشِرةً ودائمة؛ لقد بدأت الصلاة تلعب دوراً مركزياً. ولا يقوم بها مؤمنو الدعوة الجديدة فحسْب؛ بل وتُذكـر عن نوحٍ وموسى وإبراهيم. فسورة الإسراء هي سورةٌ أُخرى من سُوَر فترة الرحمٰن. وهي تذكر أبعاداً متعددةً للصلاة. والبارز في مقدمة سورة الإسراء التوجه نحو القدس بوصفها قِبلة، ويبدو ذلك في توجه النبي إلى المسجد الأقصى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. إنَّ هذه الآية الغامضة بعض الشيء تشير إلى رحلةٍ رؤيويةٍ قام بها النبي من المكان المقدس المحلي (الكعبة) بمكة إلى مكانٍ بعيد (المسجد الأقصى) للصلاة هناك. ولأنّ الآية تشير إلى المكان: الذي باركنا حوله، فهذا يعني حقاً أنها القدس. فهل المقصود الإشارة إلى الهيكل؟ الآيات لا تشير بالمسجد الأقصى إلى بقايا الهيكل، أو إلى معبدٍ آخر على الأرض، بل إلى مساحةٍ مقدسةٍ في السماء، وهو أمرٌ معروفٌ في التراث اليهودي. فالرحلة الرؤيوية للنبي ربما لم تنته به إلى السماء، لكنْ إلى وجودٍ رؤيوي مقدس يذكّر بالقدس. فالرحلة هي تجربةٌ روحيةٌ من خلال الصلاة التي تتخذ مكاناً مركزياً في سورة الإسراء، حيث يكون تسبيح الله وعبادته؛ بَيْدَ أنّ تجربة النبي في القُرب من الله من خلال الصلاة لا تظل تجربةً خاصة. فكل المؤمنين يتوجهون في صلواتهم اليومية إلى بيت المقدس؛ فالصلاة تمثّل تجربةً من جانب المؤمنين للانتقال من حياتهم المادية اليومية إلى أُفقٍ آخر روحي للرحمة والعلاقة الصادقة بالرحمٰن. ولذلك ليس غريباً الطلب من المؤمنين في الآيات 78 ـ 80 من سورة الإسراء أن يدعوا الله من أجل العيش بسلام، والخروج أو الانتقال بسلامٍ أيضاً: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء: 78 - 81] ﴾. وهي حرمات القداسة، التي يدخل إليها المؤمن عند الدخول في الصلاة. وكما تشير الرحمة إلى الرحِم في حالة مريم وابنها في سورة مريم؛ فإنّ سورة الإسراء تشير إلى علاقة الرحِم والرحمة؛ في صلتها بالأُمّ؛ 17: 22 ـ 38 وفيما يشبه الديكالوج ( = الوصايا العشر)، والتي تشكّل الآيات إعادة بناءٍ لها (سفر الخروج: 20، 2 ـ 17). تبدأ الآيات بأنّ العبادة ينبغي أن تكون لله وحده، ثم تلتفت مباشرةً إلى الأبعاد الإنسانية: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ﴾ ﴿ «أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ.لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. ﴾. وبخلاف الوصايا العشر في العهد القديم، والتي تشير إلى العناية بالأهل من أجل التضامُن الأُسري؛ فإنّ القرآن يطالب بالعناية والرحمة للوالدين المتقدمين في السن والفقراء، كما تَحْدَبُ الأم الرُّؤُومُ من الإنسان والحيوان على الصغار: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ (17: 23 ـ 24). وتستمر أجزاء الوصايا العشر إلى نهايات قصوى غير متوقعة النهاية، فيطلب القرآن الرحمة للأقارب البُعداء بل وللغرباء والمساكين، والذين بالتأكيد ما كان المكيون قبل الإسلام يهتمون بهم: (17: 26) ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۝  ﴾. وهناك تأكيدٌ على الرأفة الشخصية (17: 28) ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا (28) ﴾. وهذا الطلب يتجاوز بالتأكيد مطالب الوصايا العشر ومفهومها، ويصل إلى أفقه التوجيه بإقامة صِلاتٍ اجتماعيةٍ حميمة.

إنّ هذا النوع من العلاقات ما كان له مكانٌ في مجتمع ما قبل الإسلام؛ بل كان المطلوب ضبط النفس وسموّها: المروءة، وأحياناً كانت الفضيلة عند الجاهليين الغضب والجهل! لكن ليس هناك سبب يدعو للاعتقاد بأنه لم يكن هناك تفكير بفضائل اجتماعية قبل الوصايا العشر؛ فقد ذهب N. Sinai إلى أنه في المجموعات التوحيدية داخل الجزيرة كانت هناك غالباً تأثيراتٌ منها في المحيط العربي قبل نزول القرآن؛ فالسور المكيّة المبكرة تشير إلى مجموعة من الفضائل الاجتماعيّة التي يبدو أنها كانت مألوفةً في المحيـط المـكي؛ فالحثّ على العمل الخيِّر والصالح في السور المكية المبكرة يدخل في نوعٍ أدبي يمكن تسميته بقائمة أو جدول المآثر. ومن هذه الجداول يجري التركيز على أعمال الخير التي تتمثل في طقوس نُسكية وزُهدية؛ والتي تقابل أو تواجه قائمةً أو جدولاً للرذائل. والنموذج البارز لذلك في القرآن (70: 22 ـ 35): ﴿ {كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16)تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ (18) إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}﴾، وهذا كتالوج الشرور. أما كتالوج الأعمال الخيِّرة: ﴿ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)﴾

إنّ هذه الآيات تبرز في اللغة القرآنية، وبهذه الصيغة المميزة. وهي تشبه في الانتظام والمضمون ـ كما لاحظ Sinai وتور أندريه T. Andrae ـ مواعظ أفراييم النصيبيني ويعقوب السَروجي. والمفهوم الموازي أو المناقض هو الإحسان إلى الفقراء من جهة، وخوف القيامة من جهةٍ ثانية. ويعتقد سيناي أنّ هذا التأكيد في القرآن ـ على قائمة الفضائل هذه ـ يدلُّ على أنها كانت معروفةً في محيط القرآن الأول.

إنما في المرحلة المكية الوسطى، ما عاد يمكن القول: إنّ هذه التعاليم القرآنية يمكن فهْمُها بالمقارنة مع الميراث المسيحي؛ بل هناك بداياتٌ لمفاهيم جديدة يجري التركيز عليها ما كانت معروفةً من قبل. لقد صارت النبوة تقع في موقعٍ مركزي، وما كان ذلك ظاهراً في المرحلة المكية الأولى. ولذا فإنّ القرآن هنا يكوِّن تيبولوجيا هرمونيطيقية؛ ففي جدول الفضائل التي ذكرناها، كان التقي الورِع هو الذي يتسم بهذه السِمات دونما ذكرٍ واضحٍ للسلطة النبويّة؛ فليس النبي ولا أي شخص آخر، هو الذي يطالب بهذه الواجبات؛ بل إنّ الله هو المتحدث الوحيد. ولكي تكون أدلة Sinai واضحة؛ فإنّ الأمر هنا ليس مثل الرسائل السريانية، حيث يذكر المرء ذنوبه ويسأل الله المغفرة؛ بل هنا في القرآن يتحدث المولى إلى المؤمنين حديثاً مباشراً عن الرذائل والفضائل. القرآن لا يذكر هنا أشخاصاً آخرين هم الذين اتبعوا هذه السيرة، أو أعطوا هذه المآثر، بل يباشر الخطاب إلى عباده بالتدخل في التاريخ. وهذا شأن السُوَر المكية الأولى. أما في الفترة المكية الوسطى، فهناك تبادل وتعدد في الخطابات. وفي سورة طه (20) هناك سيرة محترمة لموسى، تشبه السِيَر الكلاسيكية. وحتى في سورة الإسراء يبدو كلٌّ من موسى ومحمد في سياق التنافس أو التشاكل. ثم إنّ الوصايا العشر تصبح جزءًا من الرسالة النبوية. وبعكس قائمة الفضائل؛ فإنّ الديكالوج يبدو بصورة القوانين العامة الإلٰهية، لا تقصد إلى خلاص الأفراد، بل إلى الخلاص الشامل. والرحمة بخلاف العدالة في المرحلة المكية الأولى؛ فالعدالة مطلوبةٌ من الأفراد؛ أما الرحمة في الفترة المكية الوسطى ـ ومثل الوصايا العشر أو الديكالوج ـ فهي قيمٌ وأخلاقٌ للجماعة المؤمنة شأن العائلة المقدسة في سورة مريم: الأهل ـ الطفل، ويذكّر ذلك بإنجيل متّى 5، 7: «مباركون هم الراحمون، وستنزل عليهم الرحمة».

قوننة القرآن:

الفاتحة:

سورة مريم (19)، وسورة الإسراء (17) من سوَر الرحمة في الفترة المكية الوسطى. لكنْ هناك سورةٌ ثالثةٌ من سُوَر الرحمة، والتي كان لها تأثير أكبر بكثير لدى جماعة المؤمنين، وهي ما تزال كذلك، وهي سورة الفاتحة. لقد اختيرت هذه السورة القصيرة من جانب لجنة الجمع العثماني لتكون مبتدأ لمدوَّنة المصحف. ثم إنها في الوقت نفسه نصٌّ شعائري. وهي تضع الرحمة مظلّةً وأساساً مثلما هي Eleos عند الإغريق، وعند العبرانيين حسد ورحاميم في طقوسهم. ونجد ذلك لدى اليهود والمسيحيين غالباً من مثل بسبب رحمتك الكبيرة، أو المولى الممتلئ رحمة... إلخ.

تبدأ الفاتحة بدعاءٍ بل إقرار: (الحمد الله ربّ العالمين. الرحمٰن الرحيم) وهذه الدوكسولوجي Doxology أو المقدمة الثنائية تشير إلى الرحمة بشكلٍ بارز من جانب ربّ العالمين. وصحيح أنّ هذا اللقب ظهر سابقاً في سورتين من سُوَر المرحلة المكية المبكرة ـ المطففين (83: 6) والحاقّة (69: 43) ـ لكنْ (ربّ) هناك ما كان مقترناً بالرحمٰن الرحيم. ولكي نتناول العالمين بالشرح لا بد من بعض الفيلولوجيا. ما المعنى الحقيقي لرب العالمين؟ العالمون يعني اجتماع العلماء أو إجماعهم؛ فهل الإشارة هنا إلى البشر؟ لكنّ المصدر: عالَم يشير إلى العالم World وليس البشر. ولذلك فإنّ جمع المفرد هذا ينبغي أن يكون العوالم. لكنّ الجمع بهذه الصيغة يعني أنه يشير إلى البشر وليس إلى العوالم المفترضة. ولذلك فضّل بعض المترجمين ترجمة المفردَين: ربّ البشر في كل العالم. وكذلك ذكر رودي بارِت(2)، ومحمد عبد الحليم. أما آرثر أربري فترجم: «ربّ الموجودات»؛ لكن لو أنّ القرآن أراد البشر فلماذا لم يقل ربّ الناس؟ أو اسم الجنس: الإنسان؟ والواقع أنّ المترجمين يتجاهلون البُعد اللاهوتي للعالم، والذي كان حاضراً في الأزمنة الكلاسيكية. فهو في تلك الأزمنة صار معناه: «ربّ هذا العالـم ومـا وراءه». وبالعبرية: ربون عولم تعـني ربّ العوالم، أو ربّ العالم بمختلف تجلياته.

وفي عقيدة مجمع القسطنطينية: ربّ العالم الآتي وهذا العالم. وأرى أن هذا هو الارتباط الإسكاتولوجي بين عالَم وعالِمين الذي يشير إليه التعبير القرآني. وإذا قُبل هذا التفسير؛ فإنّ هذه الصيغة المورفولوجية يمكن شرحها بأنها: العالميين؛ أي العالم بوجهيه الحاضر والآتي أو الآخِر. فهذا الإنسان الذي بدا في خسران في سورة العصر، يُرفع إلى مقام «المواطنية المزدوجة» هنا وفي العالم الآخر: الدنيا والآخِرة. وهو مرتبطٌ بربّه من موقعه الجديد، في المرحلة المكية الوسطى. فالله هو ربُّ العالَمَين، ولذلك فإنّ الإنسان مرتبط برحمته في العالمين أيضاً. وهذا المقام متفرد؛ ففي العبرانية: ربون عولم، الربُّ وحده هو الذي يشرف على العالَمَين دون شراكة. وكذلك في المسيحية فإنّ الـ aion هو مثار آمال، لكنّ الإنسان ليس هناك حتى الآن. أما في القرآن فإنّ الله والإنسان لهما ارتباطٌ بالإسكاتولوجيا. وهذا الربط يجعل العلاقة شبيهةً بالعلائق في الأُسرة.

إنّ الموقع المفضَّل للإنسان ـ والذي يحيله إلى الارتباط الوثيق بالله ـ هو بحد ذاته دليلٌ على الرحمة الإلٰهية. ويتبع ذلك مباشرةً: (الرحمٰن الرحيم)، وهما اسمٌ وصفة. وهذا يشير إلى موقفٍ إلٰهيٍّ من الرحمة. أما الصفة التالية فهي (مالك يوم الدين) ولا ينبغي أخذ الأمر هنا بوصفه نوعاً من السجع المنغَّم الذي لا يعني الكثير. بل معناه أنه هو عز وجلّ ضمان العدالة. وهذا قد يعني العقاب. إنما بوصفه هو الذي ينشر السلام بعد مشاهد القيامة المخوفة، فيدخل ذلك ضمن عناية الله بالبشر. وعند المسيحيين فإنّ العدالة هي أهم أهداف الإسكاتولوجيا.

وبعد هذه الأنشودة القصيرة؛ فإنّ المؤمنين يؤكدون على عبادة الله وحده. وربما كان ذلك لمناقضة اعتقاد المشركين الذين كانوا يعبدون عدة آلهة؛ بَيْدَ أنّ الدعاء الأخير للهداية يظلُّ الأبرز والأكثر تأثيراً. وهناك ثلاث طرق لفهم المذكورين، وربما كانت الثالثة هي الأرجح؛ فالذين أنعم الله عليهم ربما تكون إشارة إلى الأتقياء القُدامى كما في (القرآن 19: 58): ﴿  أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍۢ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُ ٱلرَّحْمَٰنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾. أما غير المغضوب عليهم، فقد يكون المغضوب عليهم هم اليهود الذين نقضوا العهد؛ لكنْ لا يبدو أنّ هناك مقاصد جدالية من وراء ذلك؛ بل هو سيرٌ مع الموروث المسيحي. ويبدو في الخاتمة أنّ المقصود الرغبة في اتباع الصراط المستقيم الذي لم تجرِ خيانتُه ولا مفارقته من قبل.

إنّ الفاتحة إذا بحثنا عن نوعها الأدبي؛ فهي أدنى إلى أن تكون صلاة، وقد قارنها بعضهم بصلاة المسيح. وقد اشتهر أن النصين مكونان من سبع وحدات، وكلا النصّين يحمد الله، ويطلب الصفح. وكلا النصّين يذكر المخالفين: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾. ونهاية الصلاة الإلٰهية عند المسيحيين: ولا تُدخلْنا في التجارب، ونجِّنا من الشرير. فهل الفاتحة ـ كما قال نولدكه Th. Nöldeke وآخرون ـ هي نوعٌ من «صلاة الربّ» الجديدة (أبانا الذي في السماوات)؟ وظيفة الصلاتين متشابهة؛ لكن هناك اختلافٌ أساسي. بَيْدَ أنّ «أبانا الذي في السماوات» لا يمكن مقارنته بتعبير: ربّ العالمين؛ الأكثر سموقاً وتجريداً، وفي الوقت نفسه أكثر قرباً وحميمية. وصحيح أن: ﴿  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾ يقارن بـ «ليكن ملكوتك، كما في السماء كذلك على الأرض». إنما ومرةً أُخرى فإنّ الجزء الأخير من الصلاة مختلف عن الجزء الأخير من «أبانا»، فالورِع المسيحي يريد أن يُصان من الشر الذي ما يزال متجذراً في قلب الإنسان. فمنذ الخطيئة الأولى ما يزال الشر كامناً في النفس، رغم افتداء المسيح. وقد يستيقظ في التجارب أو المِحَن بينما تكونت صورة جديدة للإنسان في القرآن. وربما كان بين أسباب تجاوز مسألة الخطيئة القابعة في الأعماق مع الشر، مقولة الرحمٰن القرآنية الشاملة التي احتضن بها الرحمٰن الإنسان منذ كان.

يكتسب وضع الفاتحة في بداية المصحف أهميةً قصوى؛ لكنْ هل اكتسبت السورة اسمها من وضعها من جانب اللجنة العثمانية في مطلع القرآن؟ هذا الأمر لا يمكن تأكيده. فالصلاة ذاتها ـ كل صلاة ـ تبدأ بالفاتحة، وإن كانت تحتوي على آياتٍ من غيرها. ولذلك أنا أُرجّح أنّ سبب التسمية هو بدءُ كل صلاةٍ بها، وليس أنها مفتَتح المصحف. ولذلك مشابهات في الصلاة اليهودية: العميدة، وفي صلاة سان جون كريسوستوم. إنما هناك بعد البداية الثالوث في المسيحية وهو مختلفٌ. لكن الصلاة المسيحية كيرياليسون Kyrie eleison: ارحمنا يا ربّ، تستعيد المشابهة. والاختلاف لا يقلل منه الزعم بأنّ في الفاتحة ثالوثاً بين ربّ العالمين، والرحمٰن الرحيم. فالمشابهة شكلية وظاهرية، وغير حقيقية. وعلى أي حال فحتى في حالة كيرياليسون هناك طلبٌ للحرمة ورجاء، أما في القرآن فإنّ نعمة الرحمة مُعطاةٌ أصلاً.

البسملة:

لكن ماذا عن البسملة الموضوعة في بداية كل سورة (ما عدا السورة رقم 9)؟ بسم الله الرحمٰن الرحيم. إنّ هذا المبتدأ السائد في الحياة اليومية عند المسلمين، تقابله صيغة التثليث عند المسيحيين، ولذلك يقال: إن البسملة استُبدلت بها. وهناك خلاف ٌ بين الباحثين متى وُضعت البسملة في بدايات السُوَر. ولأنّ البسملة تقع في مطلع الفاتحة، فالمرجح أن وضْعها في بداية السُوَر يعود إلى الفترة المكية الوسطى أيضاً. وهناك سورة قرآنية من المرحلة المكية الوسطى هي سورة النمل (27: 30) وُضعت فيها بسم الله الرحمٰن الرحيم مفتتحاً أو عنواناً لرسالةٍ من سليمان إلى ملكة سبأ. ولذلك أُرجّح أنّ بسم الله الرحمٰن الرحيم وُضعت حينها في مطلع السُوَر الأبكر أيضاً.

لكنْ لماذا هذه الصيغة الخاصة؟ ولماذا: الرحمٰن الرحيم؟ هل لأنّ الفاتحة في مضمونها تبعث رسالة الرحمٰن هذه؟ هناك ربّ العالمين، والرب يعني العناية، وكذلك الرحمٰن، وكذلك الرحيم. نعم إنها رسالةُ الرحمة الإلٰهية، والتي أُريد لها أن تشمل الرسالة القرآنية كلها.

لكن لنعد إلى ما بدأنا به ما هي رسالة القرآن، هل هي العدالة العقابية أم الرحمة؟ لقد أوصلتنا قراءتنا للسورة المكية في المرحلة الوسطى إلى أنّ رسالة القرآن هي رسالة الرحمٰن (الرحمة) وليس العدل العقابي. ولنمضِ مع هذا الاستنتاج. فالسور المكية توجّه المؤمنين الأوائل إلى الأمل برحمة الله، وتوصيهم بالتعامل فيما بينهم بمقتضى هذه المقولة، وهذه الشراكة في الرحمة بين الله وعباده. ثم إنّ المؤمنين في زمن الرسول وفي تلاوتهم للقرآن كانوا يبدأون بالبسملة سواء في التلاوة كما قلنا أو في كتابة أجزاء وسورٍ من القرآن. وما تزال الدراسات حول المرحلة المدنية من القرآن قليلة جداً لجهة هذه المقاربة. لكنّ اختيار وضع البسملة في مطلع السُوَر المدنية أيضاً، واختيار لجنة الجمع العثماني التي دوَّنت القرآن كاملاً في المصحف، بالاستمرار في وضع البسملة في مطلع السُوَر، واختيار وضْع الفاتحة في مبتدأ المصحف؛ كلُّ ذلك يشير إلى أنّ جامعي القرآن إنما اتبعوا التقليد الذي كان سائداً منذ أيام النبي. ويعني ذلك أيضاً أنّ قراءة القرآن مع مفتتحه بالفاتحة، يؤكّد أن دخلنة الرحمة ـ بوصفها القاعدة اللاهوتية للدين ـ هي رسالة القرآن كلِّه.

...

المراجع:

(1)المقالة منشورة في Islamochristiana - 42 (2016) وترجمها رضوان السيد.

(2) بارِت ترجم القرآن إلى الألمانية، ومحمد عبد الحليم إلى الإنجليزية (المترجم).

أخبار ذات صلة