في تجديد الفِقه الإسلامي وأصوله: أهمّيّة التنظير المقاصدي

الفقه.jpg

محمد شهيد | كلية الآداب، جامعة محمد الأول، وجدة ـ المغرب، تخصص مقاصد الشريعة

لم يكن الاجتهاد والتجديد ـ في وقتٍ من الأوقات ـ غريباً عن الثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي. فقد يفتر ويتراجع في وقت من الأوقات؛ لكنه يظل حاضراً في الذاكرة والعقل الجمعي للأمة الإسلامية؛ خاصة وأن الشرع ظلّ ينصّ عليه، ويؤكده في جملة من النصوص، حتى تأكد وترسخ أن الشريعة مجددة، وتنشد الاجتهاد في كل وقت وحين؛ لأنها موسومة من الله بالخلود، «فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلَّا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها»(1). والخلود لن يتحقّق إلا بقدرة المكلفين على تحقيق التجديد والاجتهاد، وذلك لمواكبة التحولات الكبرى التي تعرفها الإنسانية. وقد رسخ هذا النبي (ص) في نفوس الصحابة حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فَقَالَ له: «كَيْفَ تَقْضِي؟». فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟». قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ (ص) قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ (ص) ؟». قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ (ص) »(2) ، وكما جاء أيضاً في الحديث الشريف: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»(3)

وبذلك فقضية التجديد ارتبطت بحياة الأمة وبدينها، فأصبح وجودها واستمراريتها في الحياة مرتبطاً بها ومدين لها لتجاوز كل العقبات، والإجابة على الأسئلة المستجدة والمستمرة التي تطرحها الأمة والإنسانية جمعاء؛ لأن هذا الدين هدفه إسعاد البشرية، ومن ضمنها الأمة الإسلامية والبحث عن المصالح التي يحتاجها فيجلبها، كما يتخلّص من المفاسد والأضرار التي تعوق السير العادي والطبيعي لحياة الإنسان. وهو مطمح التنظير المقاصدي. وليس غريباً أن يربط الشاطبي في موافقاته بين الاجتهاد ومقاصد الشريعة حين عرَّفه في موقعين، ولاحظ ذلك فريد الأنصاري؛ فالشاطبي قال مرة معرّفاً الاجتهاد: «هو مجال استفراغ الوسع وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد»(4)، ثم في أخرى بأن «الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم»(5) وركب بين التعريفين الأنصاري، فقال: «الاجتهاد: هو استفراغ الجهد الواسع، وإبلاغ الجهد في تحصل العلم أو الظن بالحكم؛ طلباً لمقصد الشارع المتحد»(6)

1 ـ في تجديد أصول الفِقه:

ينظر إلى أصول الفِقه الإسلامي على أنها تمثل زبدة ما أنتجه العقل المسلم؛ إذ هي عبارة عن آلية أصيلة دورها قراءة النص الشرعي قراءة تمكن من الوصول إلى الأحكام الشرعية المناسبة للزمان والمكان والناس؛ لتحقق لهم المبتغى وتيسر لهم عبادة الله بتنزيل الشريعة على الواقع.

شكّل مصنف الشافعي «الرسالة» نقطة البداية في تدوين وتصنيف أصول الِفقه الإسلامي، ليضمنه المبادئ الأولية والأساسية لمنهج وتصور علمي، وضع فيها جملة قواعد وثوابت في نظم ييسر عملية الاستنباط. وقد سلك الشافعي «في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقاً مقرراً في ذهن مؤلفها، قد يختل اطراده أحياناً، ويخفى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض؛ ولكنه على كل ذلك بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى»(7)

ولم يتوقف التأليف في أصول الفِقه عند رسالة الشافعي، بل شهدت الساحة الثقافية والعلمية المسلمة ضخاً هائلاً وعظيماً في مصنفات هذا العلم. فقد زخرت المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات التي اتخذت طابع متنوعاً ومتعدداً بحسب المدارس الفقهية والمذاهب الكلامية، غير أنه يمكن إجمال هذه المدارس عامة في المدارس الكبرى التالية:

ـ طريقة سُميت بطريقة المتكلمين، وهي الطريقة التي اعتمدها أهل علم الكلام والعقيدة، وكان من أهمها رسالة الشافعي، و«البرهان» للجويني، و«المستصفى» للغزالي، و«المحصول» للرازي.

ـ طريقة الفقهاء، ويطلق عليها أيضاً طريقة الأحناف، تعتمد تقعيد القواعد انطلاقاً من الفروع، ومن أهمها «مآخذ شرائع الإسلام» للماتريدي، و«أصول الكرخي»، و«الفصول في الأصول» للجصاص، و«أصول السرخسي»..

ـ طريقة المتأخرين، وهي الطريقة التي تجمع بين الطريقتين السابقتين، ومن أهمها «جمع الجوامع» لتاج الدين السبكي، و«التحرير» للكمال بن الهمام، وكذلك موافقات الشاطبي.

وإذا كان استمرار التأليف في الأصول دليلاً على مكانتها بين باقي العلوم، وعلى حيوية هذا التخصص، فإن هناك بعض من يرى العكس؛ إذ هو دليل على تخبط الأصول في نظرهم، وأنها تعيد إنتاج ذاتها لا غير.

وقضية تجديد أصول الِفقه لم تلق القبول، كما لم تكن محل رفض أيضاً، حيث انقسم المهتمون وأهل التخصص فيها إلى قسمين كبيرين:

• صنف لا يقول بالتجديد وإعادة النظر في الأصول على أساس أن نموها قد اكتمل ونضج، ولا مجال فيها للزيادة ولا للنقصان. وقد يكون السبب في ذلك الاحتراز الشديد من دخول هذا المجال دخلاء لا يفقهون الميدان ولا يخبرونه، مما يوقع المنهج الإسلامي في المهلك.

• صنف آخر لا يخفي حماسته للتجديد الأصولي وإعادة النظر في بنية الأصول وفي مباحثها، وطبعها بطابع التحديث ومواكبة العصر؛ لتكون قادرة على الإجابة على التساؤلات التي يفرضها الواقع المعاصر.

ودرءًا لكل شبهة أو شك فإن «الاجتهاد الساقط المفروض هو العمل على نقض أصول الِفقه وقواعده التي أجمعت الأمة على أنها أصول وقواعد ثابتة؛ إذ هي من قواعد الإسلام ومنابعه التي إذا نقضت نقض الإسلام من قواعده وأزيلت حقيقته»(8)

وبعيداً عن التشكيك في نيات الداعين إلى الاجتهاد الأصولي أو الواقفين منه موقف الرفض المطلق، فإن الذي لا يشك فيه عاقل كون أصول الِفقه الإسلامي هو في نهاية المطاف عبارة عن مجهود عقلي وبناء نظري إنساني يعتريه النقص والضعف بلا ريب. فلا يعقل بذلك أن يضفي عليه أحد هالة من القدسية والعصمة حتى يرفعه إلى مكانة أكبر من مكانته، ويوضع في منزل يتجاوز المنزلة البشرية العادية التي ينبغي أن تكون له.

وإذا كان الأمر كذلك فإنه من المهم الاطلاع ـ ولو بشكل عام ـ على المقصود بهذا التجديد، والعمل المطلوب بهذا التجديد أو الاجتهاد في الأصول ليتناسب ويتوافق مع الواقع والعصر.

ـ فقد يكون التحديد في الأصول بمعنى التأسيس والتطوير بالزيادة والشرح والتفصيل لبعض المباحث والأبواب؛ لتصبح أكثر وضوحاً في العقول حتى يكتمل البنيان الذي يسعى الأصوليون إلى تحقيقه. وذلك كما صنع الشافعي ومن جاء بعده.

ـ قد يقصد بالتجديد إعادة الترتيب وإعادة بناء أصول الِفقه الإسلامي ترتيباً جديداً، وكذلك تشذيبه وتنقيته مما علق به من النقاشات التي تبدو الآن عقيمة، والتي لها علاقة في بعض الأحيان بالمنطق مثلاً، وربما ببعض القضايا العقدية والكلامية التي لا تتناسب مع الواقع وبعيدة عن الواقع الحالي، وكذلك صياغة الأصول وفق رؤية أخرى قد تكون مقاصد الشريعة الإسلامية والقواعد الكلية والمصالح الشرعية. وهذا مثل التجديد الذي جاء به الشاطبي في «الموافقات».

ـ وقد يكون التجديد أيضاً بمعنى التوفيق بين الآراء المتضاربة التي عرفت عن الأصوليين السابقين ومحاولة التوفيق بينها، خاصة وأن هذه الاختلافات متعدّدة وكثيرة، وهذا مثل الذي قام به الشوكاني في «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من الأصول».

ـ كما قد يكون التجديد بمعنى إعادة البناء بطريقة عصرية موافقة للواقع وتستجيب للتطلعات، وهي مثل دعوة حسن الترابي، وربما قد يكون سبقها دعوة رفاعة الطهطاوي في «القول السديد في التجديد والتقليد».

من جانب آخر تصاعدت أصوات متعددة تنادي بالتجديد في أصول الِفقه الإسلامي، وقد كان حسن الترابي من الأصوات التي اشتهرت بصيحته المعروفة في هذا المضمار؛ حيث دعا إلى تجديد أصول الِفقه ومراجعتها لأن الزمان والظروف التي ظهرت فيها أصبحت متجاوزة، وقد ظهرت مستجدات عدة تتطلب قراءة تجديدية للأصول. فالفِقه الذي بين أيدينا لا يستجيب للواقع الذي نعيشه؛ «ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادي، وهي تطرح قضايا جديدة تماماً في طبيعتها، لم يتطرّق إليها الفِِقه التقليدي، ولأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تماماً، ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف عام تحقّق مقتضى الدين اليوم، ولا توافي المقاصد التي يتوخّاها؛ لأن الإمكانات قد تبدّلت، وأسباب الحياة قد تطورت، والنتائج التي تترتب على إمضاء حكم معين بصورته السالفة قد انقلبت انقلاباً تاماً»(9)

وإذا كانت الدعوات المتعددة والمتنوعة تدعو إلى التجديد الأصولي؛ فإنها في الغالب تصب في تبريرات مفادها:

ـ مع طول الزمن تفشى تعطيل الاجتهاد الذي كان الأمل فيه كبيراً لاستيعاب التحولات المتلاحقة. هذا التوقف عن الاجتهاد زاد الطين بِلَّة، خصوصاً وأن الزمن والواقع قد لحقتهما تغيّرات هائلة، وبات الناس في حاجة إلى إجابات وحلول لقضاياهم المتجددة. وهذا ما لم تعد أصول الِفقه التقليدية قادرة على تحقيقه. ولذلك فالاجتهاد «فرض في الشريعة، وهو حياة التشريع، وهو ضرورة متجددة في كل زمان ومكان، بسبب التطورات واختلاف البيئات والأعراف، ولا غنى عنه لكل تشريع يراد له الدوام، ويقصد به في شريعتنا الحفاظ على هيمنة الشريعة على أحداث الحياة، وبقاؤها حيّة خالدة على مر الزمان؛ حتى لا يتفلت أحد من أحكام الشريعة؛ إذ ما من نازلة إلا وللإسلام حكم فيها بالحِل أو بالحرمة»(10).

ـ تضخم المباحث في أصول الِفقه التي تعتمد أساساً على استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الشارع بواسطة القواعد، مقابل قلة الاهتمام بحكمة الشريعة ومقاصدها. وهذا ما ذهب إليه عبد الله دراز حين بيَّن أن استنباط أحكام الشريعة يعتمد ركنين: لسان العرب وعلم أسرار الشريعة ومقاصدها؛ «لكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالاً، فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس، عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها، وأنها بحسب الأول ثلاثة أقسام: ضروريات وحاجيات وتحسينات، مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل، وبالاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جلبت إلى الأصول من علوم أخرى»(11).

والذي يهمُّ أكثر في هذا المقام أن أصول الِفقه الإسلامي تطور بشكل «أعرج»؛ «فبدل أن يجتهد المجتهد وفق ما فهمه من حكم ومقاصد، ووفق ما يحقق المصلحة الشرعية ويدرأ المفسدة، صار يتعين عليه ـ وفق القياس الصوري ـ أن يجتهد وفق ما في القضية من تطابق صوري، ومن شبه شكلي أو اشتراك لفظي؛ لأن هذه أمور واضحة ومنضبطة، فصار القياس مقدماً على المصالح الشرعية المعتبرة اعتباراً عاماً، وصار مقدماً على الكليات»(12).

ومن المفيد التنبيه إلى قضية مهمة هنا، وهي أن التجديد في الأصول يضعنا أمام «أحد أعقد الأسئلة العارضة في إشكالية التجديد الأصولي، وهو مناط التجديد ومحله، فوقع لبسٌ خطيرٌ بين الدعوة للتجديد في علم أصول الِفقه والدعوة إلى تجديد أصول الِفقه، وبين الجانبين من الفروق ما بين السماء والأرض؛ لأن النظر في علم أصول الِفقه نظرٌ في الأفهام العقلية الإنسانية المترتبة عن استثمار أصول الِفقه، والنظر في أصول الِفقه نظرٌ في الأصول المصدرية ومراجعة لها، وهذا أمر في غاية الخطورة تأباه العقول السليمة المسلمة بالنقل»(13)

ثم قضية أخرى قد لا تقل أهمية عن القضية السابقة؛ ذلك أنه قد لا يكون «إعادة النظر في علم الأدلة والأصول هو السبيل إلى تحقيق التجديد الأصولي المنشود؛ إنما ينبغي البحث في طرق توظيف هذه الأصول بالحال المناسب والمجدي، والواقع يؤكد ثراء وإبداع الأصول أو المسالك الاجتهادية ومرونتها، ولا سيما على مستوى إعمال المصالح المرسلة، واعتبار الأعراف، والنظر إلى مآلات التصرفات»(14)؛ لأن مآسي المجتمع والإنسان في هذا الوقت ازدادت تعقيداً، وهي في الوقت نفسه تتسم بالشمول، وبذلك فليس من الضروري اعتماد هذه الوسيلة ـ التجديد الأصولي ـ للخروج من الأزمة التي يعرفها الإنسان المعاصر؛ إذ الحل ربما يكون في جوانب أخرى غير المنهج الأصولي لا بد من استقصائها والبحث فيها بعمق وجدية أكثر.

من جانب آخر قد يستنتج من الدعوات المتعددة إلى التجديد الأصولي أنها في نهاية المطاف تتوخى القول في التوسع والإبداع في مناهج لقراءة النصّ قراءة شافية تراعي الواقع ولا تصطدم بالشرع، وحتى الترابي الذي كتب في هذا المجال يخلص إلى أن التجديد في أصول الِفقه هو في الحقيقة توسع في القياس ـ القياس الواسع ـ وتوسع في الاستصحاب ـ الاستصحاب الواسع ـ وكذلك في المصلحة ليخلص إلى القول: «والترتيب النظري: أن يبدأ المجتهد بالنصوص مستعملاً القواعد التفسيرية، ثم يتسع في النظر باستعمال هذه الأصول الواسعة؛ من مصلحة، واستصحاب. وهذا ترتيب نظري لا بد من تقريره، لتستقيم أولويات النظر والتقدير»(15)

غير أنه يمكن للمتابع لهذه المهمة ـ التجديد الأصولي ـ أن يسجل بسهولة أن الداعي إلى التجديد في أصول الِفقه الإسلامي ـ سواء أكان من القائلين بها والداعين لها أو من الرافضين لها، والمحاربين لها أيضاً ـ هو في نهاية المطاف الإلحاح بشدة إلى توظيف مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فالمقصد من تجديد أصول الِفقه هو في الحقيقة القول بالمقاصد وتوظيفها.

2 ـ في تجديد الفِقه الإسلامي:

الفِقه الإسلامي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية، وموضوعه ينصبُّ على أفعال الإنسان من حيث مطالبتهم بها، إما فعلاً كالصلاة، أو تركاً كالغصب، أو تخييراً كالأكل(16)، وبذلك فهو نتيجة فهم للوحي سواء القرآن الكريم أو السنة النبوية. وإذا كان الأمر كذلك ـ نتيجة فهم ـ فلا يعدو أن يكون في الحقيقة عملاً عقلياً بشرياً يعتريه الصواب كما يعتريه الخطأ.

وكباقي العلوم الإسلامية فقد مرَّ الفِِقه الإسلامي بأدوار متعددة عبر تاريخه، كانت شاهدة على التطور الكبير الذي لحقه عبر فترات كثيرة.

ففي عهد الرسول (ص) شكّل كل من القرآن الكريم وسُنَّة النبي المصدرين الرئيسين للفقه والتشريع الإسلامي، حيث كان القرآن ينزل ويتعهد حياة النبي (ص) ومعه الصحابة بالتوجيه والترشيد من أجل بناء الأمة الإسلامية بناءً سليماً، تتحقق به القدوة والأسوة التي سوف تلهم المسلمين فيما بعد لاستكمال طريق بناء الأمة، وكان الصحابة أيضاً يجتهدون أحياناً، فيقر النبي بعضاً من اجتهادهم ويقبله إن كان موافقاً للشرع، ويدعو إلى غيره ويرده إن رأى فيه غير ذلك.

وبعد وفاة النبي (ص) دخل الفِقه الإسلامي دوراً جديداً؛ حيث شهدت الأمة توسعاً كبيراً وفتوحات وسَّعت مساحة الأمة الإسلامية، لتشمل أجناساً وأعراقاً أخرى غير العرب كالفرس والرومان، مما فرض تحديات جديدة وأسئلة حديثة أمام الفِِقه الإسلامي، وأُضيف إلى هذا العصر مصدر جديد للفقه الإسلامي بالإضافة إلى الكتاب والسُّنَّة: الاجتهاد، وهو ما كان يُعرف آنذاك بالرأي.

ثم جاء دور التابعين، حيث استمرت الفتوحات الإسلامية، وزادت التحديات أمام الفِِقه الإسلامي، وظهر مصدر جديد للفقه الإسلامي ـ بعد القرآن والسُّنَّة واجتهاد الصحابة ـ وهو اجتهاد التابعين. وظهر التوسّع في الرأي، وبدأ يتسع الخلاف، وبرزت مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة.

بعد ذلك جاءت مرحلة التدوين وظهور الأئمة المجتهدين، فدُوِّنَ الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند أحمد، ودوّنت المسائل الفقهية والمذاهب الفقهية، وازدادت قوة الاختلاف.

وإذا كانت الأدوار السابقة قد شهدت تطوراً ونمواً ملحوظاً في حيوية وحركية الفِِقه الإسلامي؛ فإن المرحلة اللاحقة بدأت تعرف الجمود والتراجع وكذلك التقليد. ويرد ذلك الحجوي لأسباب، منها: «قصور الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية، والاختيار منها. واقتصروا على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت همتهم لشرح كتب المتقدمين وفهمها، ثم اختصارها، وفكرة الاختصار ثم التباري فيه مع جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل هو الذي أوجب الهرم، وأفسد الفِِقه، بل العلوم كلها؛ إذ صاروا قراء كتب لا محصلي علوم، ثم في الأخير قصروا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور، ومن اشتغل على الحواشي ما حصل على شيء»(17).

وترتب عن هذا الجمود الفقهي عدة أمور منها: ترك الاشتغال بعلوم الاجتهاد، ومحاربة المجتهدين، وشيوع المناظرات والجدالات، وشيوع الاختلافات المفضية إلى النزاعات والبغضاء، وغمط أصحاب الفضل والعلم، وانتشار الخراب والفتن، وتضييق أتباع المذاهب على أنفسهم، والاشتغال بالفرضيات والمسائل المستحيلة، وكثرة الجهل وقلة العلم(18).

ولمَّا كان موضوع الفِقه الإسلامي هو أفعال المكلفين وثمرته هي امتثال أوامر الله عز وجل، فإنه حين تراجع التجديد فيه والاجتهاد انعكس سلباً على حياة الإنسان مباشرة، ويشخِّص هذه النتائج بشكل آخر محمد الغزالي حين يقول: «أمة هي خمس العالم من ناحية التعداد، وتبحث عنها في حقول المعرفة فلا تجدها، في ساحات الإنتاج فلا تحسّها، في نماذج الخلق الزاكي والتعاون المؤثر والحريات المصونة والعدالة اليانعة... فتعود صفر اليدين !!

بماذا شغلت نفسها؟ بمباحث نظرية شاحبة، وقضايا جزئية محقورة، وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى.

واستغرقها هذا كله، فلم تعط عزائم الدين شيئاً من جهدها الحار، وشعورها الصادق، فكانت الثمرات المرة أن صرنا حضارياً وخلقياً واجتماعياً آخر أهل الأرض في سلم الارتقاء البشري !!»(19)

وقد استمر هذا الجمود الفقهي إلى الآن، والحقيقة أن هذا الجمود يتمثّل أصلاً في كون الفِِقه الإسلامي توسع وتضخم كثيراً في الأحكام، حتى إن بعض المباحث قد قتلت بحثاً ولربما لم يبق فيها مزيد بحث؛ فالفقهاء «جعلوا الآيات موضوع الدراسة هي آيات الأحكام التي وضعوا له أعداداً متقاربة (300 ـ 500)، أما ما وراء ذلك من آيات السنن والقوانين والشروط التي قد تكون أكثر أهمية وأولى بالنظر من حيث البناء الحضاري، وشروط القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، فلم يعيروها أدنى اهتمام، أو الاهتمام الكافي على الأقل، وبقيت آيات القرآن الأخرى على أهميتها تتلى للتبرك، إلى درجة وصلت عند بعضهم وكأن القرآن كله أصبح كتاباً لفِقه آيات الأحكام فقط! حتى الآيات التي وردت لتبيّن أسباب سقوط الأمم السابقة وعللها»(20)

وقضية تجديد الفِقه الإسلامي شغلت الناس مدة طويلة وتناولها العلماء كثيراً وانقسموا حولها، غير أنه: «ما عاد مألوفاً اليوم وجود فقيه لا يقول بالاجتهاد والتجديد. فحتى أولئك الذين يصرون على الإتباع في مواجهة الابتداع، إنما ينصب نقدهم للاتجاهات التجديدية في الفِِقه على عدم ممارسة الاجتهاد بطرائق سليمة، بَيْدَ أنّ الكثرة الكاثرة من فقهاء العقود الأخيرة، إنما يعنون بالتجديد في مسائل محددة، أو يقترحون مجالات جديدة ما اتسع لها الفِِقه الإسلامي من قبل، وتفرضها متغيّرات الظروف المعاصرة»(21)

ويضع يوسف القرضاوي معالم لما يسميه «التجديد الفقهي المنشود»، وهي عبارة عن خطوات عملية وخارطة طريق يلتزم بها العلماء قصد تحقيق التجديد في الفِقه. وقد حدده كما يلي:

«أولاً: تنظير الفِقه الإسلامي.(صياغة أحكام الفِقه الجزئية وفروعه المتفرقة في صورة نظريات كليات عامة).

ثانياً: الدراسة المقارنة.

ثالثاً: فتح باب الاجتهاد.

رابعاً: تقنين الفِقه.

خامساً: عرض الفِقه الإسلامي في موسوعة فقهية معاصرة حديثة.

سادساً: الإخراج العلمي لكتب الفِقه.

سابعاً: نشر المخطوطات(22)

لكن الذي يبدو أن التجديد الفقهي ينبغي أن ينصب أساساً على استرجاع الفِِقه الإسلامي لمكانته في الساحة العلمية، ليؤدي دوره بشكل إيجابي وفعال في الواقع. وبذلك يعود إلى الموقع الريادي في الثقافة والفكر الإسلامي على المستوى الشعبي، كما على مستوى المتخصصين والعلماء. إن الفِِقه الإسلامي في حاجة إلى تلميع وتنظيف؛ أي الفِقه في حاجة ماسة إلى تنظيفه وتنقيته من العديد من الآراء التي أصبحت متجاوزة، والأحكام التي ربما لم يعد الإنسان في حاجة إليها في الوقت الراهن.

بالإضافة إلى ذلك فتجديد الفِقه الإسلامي يعني أيضاً مواجهة التحديات المعاصرة، والتصدي للأسئلة التي تقض مضجع الناس في العصر وفي كل مكان، وذلك بفعل التغيرات الهائلة التي طرأت على العالم ومنها العالم الإسلامي.

والفِِقه ما لم يختر القضايا المصيرية التي تهمُّ الأمة والعالم ليعالجها ويعرض القول السديد فيها فلن يحقق أهداف الشريعة الإسلامية، لذلك لا بد من «العناية بالحياة المتطورة المعاصرة التي لا تعقيد فيها ولا ازدواجية، ولا قصور ولا تخلف، ليتخلص المسلم من الشعور بالنقص أو الانهزام الداخلي أو القصور على المستوى الذي يجده في الحياة الغربية والنهضة الصناعية الكبرى. ويكون الاجتهاد في هذا الإطار بقصد إذكاء روح الجهاد للقضاء على وطأة التخلف، وذلك بما يتفق مع ظروف الحياة المعاصرة»(23)

إن أمام الفِِقه المعاصر تحديات بالجملة أفرزتها جملة أسباب، تجتمع هذه الأسباب تحت مسميات عدة، يمكن إجمالها تحت عنوان الاستعمار والتغريب والاستشراق والحداثة. لقد تدرج هؤلاء في أداء أدوار تنطلق من الغزو العسكري وإخضاع الأمة بالسلاح ومحاربة كل مقومات المناهضة والمقاومة للاستغلال وللاستعمار. بعد ذلك وضع السلاح جانباً في محاولة التقرّب من الأمة وإظهار الوجه «الجميل» للغزاة والمستعمرين، وبذلك ـ وفي هدنة من جانب واحد ـ نزع هؤلاء إلى الغزو الفكري والثقافي الشامل. وقد يكون هذا النوع من العمل هو الأخطر والأخبث، وذلك ليس للضحايا من الموتى التي يخلفها؛ ولكن للآثار الناجمة عنه؛ فالأمة سرعان ما تتجاوز جراحاتها وتلملم ضحاياها؛ لكن الجروح الفكرية والأعطاب الثقافية تدوم طويلاً، وتحتاج إلى عملية جراحية حقيقية وليس تجميلية فقط. وخطورة الغزو الثقافي تكمن في فرضه لنمط عيش جديد وغريب على الأمة لم تعهده من قبل، ويهددها في مبادئها وفي ثوابتها، وآنذاك يتهدد وجودها بالكامل. «وقد جرى هذا الأمر لا بطريق الإقناع وتبادل الرأي؛ ولكنه جرى في الأساس بالترويج والدعاية والإغراء وإثارة نوازع التقليد والمحاكاة، وذلك في أساليب العيش والعلاقات بين الناس في مختلف وجوه النشاط. ولما استتبت قاعدة اجتماعية من هذه العادات والأساليب، بدأ يظهر التعارض بين «واقع الحياة» وبين فقه الشريعة وفكرها»(24)

وهكذا فالفِِقه الإسلامي ورث إرثاً كبيراً من الأحكام الشرعية في التراث الإسلامي المتراكم منذ فجر الإسلام، ليفاجأ بسلسلة من التحولات الكبيرة، وبعديد القضايا التي تحاصر المسلمين، وتحارب العيش العادي والطبيعي للمسلمين. وهذه التحولات التي تتناسل وتتعاظم تشمل كل المجالات المتاحة أمام الناس؛ كالتشكيك في العقائد وفرض نظام اقتصادي ربوي، والسعي إلى تحديث المجتمع ليكون مجتمعاً استهلاكياً تغريبياً بعيداً عن قيم ومبادئ المجتمع الإسلامي.

وبالإضافة إلى تبعات التخلف والاستعمار والتحولات التي عرفها المجتمع الإسلامي؛ فإن الفِِقه الإسلامي أمامه جبهة أخرى غير هذه الجبهة الداخلية أو الذاتية التي سبق تناولها، وهي الجبهة الخارجية أو الجبهة الإنسانية؛ فالفِِقه الإسلامي مدعو لمجابهة القضايا الإنسانية في العالم كافة؛ لأن ذلك جزء من مهمة الدعوة الإسلامية. والدعوة الإسلامية لن تنجح إلا بالإجابة عن الأسئلة المحيرة والتي تؤرق الإنسان في الداخل وفي الخارج.

وهذا الأمر ليس بالجديد على الفِِقه والثقافة الإسلاميين؛ ذلك أن العلماء استطاعوا ـ بفضل المجهودات العلمية في مجال الفِِقه خصوصاً ـ استيعاب العديد من التحولات الكبرى التي واجهت الدعوة الإسلامية إبّان الفتوحات الإسلامية؛ فقد كانت الفتوحات كثيرة ومتسارعة في الوقت نفسه، وكانت صعوبتها تظهر أكثر في تنوع الأعراق والأجناس والتقاليد التي لقيها الفاتحون والفِِقه الإسلامي في البلدان المفتوحة، وكانت مختلفة تماماً عن نظيراتها في بلاد الإسلام. ومع كل ذلك استطاع الفِِقه الإسلامي استيعاب هذه الفئات الواسعة المتنوعة في الإسلام وفي الثقافة الإسلامية بسهولة كبرى.

وبذلك فأمام الفِقه الإسلامي المعاصر تجربة ورصيد مهمان من التراث الفقهي الإسلامي، قد يكون معيناً له في مهمته الجديدة / القديمة؛ مهمة التجديد الفقهي لاستيعاب التحولات الجديدة والشعوب الكثيرة.

وهناك تجربة لا تقلّ أهمية في هذا المجال قد تكون جد مفيدة للتجديد الفقهي؛ إنها تجربة الردة وتجربة الانشطار والتشتت الذي عرفته الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي (ص) ، فقد وجدت الأمة الإسلامية نفسها أمام تحد جديد مختلف الأبعاد، فقد ارتدت قبائل عديدة، وحملت السلاح في الوقت نفسه في وجه الدولة الإسلامية، فاجتمع التحدي الثقافي مع التحدي السياسي والتحدي العسكري في جبهة واحدة ضد معسكر الإسلام، وكان للفقه الإسلامي ـ بقيادة علماء الصحابة ـ أجوبة متعددة في تلك اللحظة الحاسمة، أسهمت بشكل كبير في إعادة الأمور إلى نصابها.

لا بدَّ للمجددين في الفِقه الإسلامي أن يأخذوا بعين النظر لكل هذه التجارب وكل هذا الثراء الفقهي الغني الذي يعرفه التراث الإسلامي العظيم. وإذا تمَّ التأكيد على الاستفادة من التراث والتجارب الفقهية والثقافية المتنوعة من تاريخ المسلمين، فهذا لا يلغي مطلقاً القول بتجاهل الواقع المعاصر. فالتجديد في الفِِقه الإسلامي لن يستطيع طرح حلول للمشاكل الحالية إلا باستحضار التجارب السابقة والتاريخ مع الأخذ بعين النظر للتحولات التي يشهدها العالم والعصر، وطبعاً مع استحضار حاكمية الشرع.

وقضية مهمة ينبغي أن يستحضرها دعاة التجديد هي أن هذه المهمة الشاقة لا يستطيع أن ينهض بها فقيه لوحده، ومن ثم فلا ينبغي عدّها قضية شخصية، يقوم بها أفراد منعزلون كل في مكتبه يصنف ويكتب كتباً ومجلدات مجردة وبعيدة كل البُعد عن الواقع؛ إذ من الواقعية أن تتجنّد لهذا العمل الجبار جماعات من الفقهاء والعلماء، أو مؤسسات عدة ومعاهد تشمل تخصصات وعلوماً أخرى ـ بالإضافة إلى الفِقه ـ تكون مفيدة في صياغة أجوبة وحلول للواقع وللمشاكل التي يحياها الناس.

وفي النهاية «فالاجتهاد حركة دائمة مستمرة والآراء الاجتهادية ـ أيّاً كانت منزلة أصحابها من الفقهاء ـ لا يجوز إسباغ صفة الثبات عليها، فالثبات لنصوص الكتاب والسُّنَّة دون غيرهما، أما الاجتهاد فينبغي أن يساير الواقع المتغير دائماً؛ حتى يحقق مقاصد الشريعة، أما تجميده واقتصار الدراسة الفقهية على نقل أقوال السابقين وحفظها وتكرارها فهو من أسباب توقف النمو في حياة الأمة الفكرية عموماً والفقهية خاصة»(25)

فالتجديد في الفِِقه الإسلامي وإن اختلفت الآراء حوله، بين ناقد رافض متمسك بالأصيل بوصفه مستوعباً لكل جديد مهما كانت الظروف والملابسات، وبين متبنٍ مرحب رافض للتقليدي بوصفه قاصراً عن الاستجابة لمتطلب العصر؛ فإن الجميع متفق على ضرورة مواجهة التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة الإسلامية والناس أجمعين، انطلاقاً من الثوابت مع مراعاة المتغيرات التي تزخر بها الثقافة الإسلامية، مع ملاحظة روح الشريعة وتبني مقاصدها التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في العاجل وفي الآجل.

خاتمة:

أمام التنظير المقاصدي آفاق واسعة، ومساحات كبيرة. وتنفتح تلك الآفاق من كون هذه الشريعة لم يختر لها الله عز وجل بقعة معينة دون أخرى، أو قبيلة دون أخرى، أو جيلاً دون آخر؛ فهي رسالة إلى البشرية جمعاء دون استثناء. لقد خصها الله تعالى بالإنسانية وبالعالمية لقدرتها على مخالطة الناس وتبني همومهم والتصدي لمشاكلهم والتخفيف عنهم والتيسير عليهم.

فهذه الرسالة تقدر الناس وتراعي مكانتهم الاجتماعية والنفسية، وإن كانت في الوقت نفسه ترى أن أكرم الناس أتقاهم. فهي لا تحرجهم ولا تتنصل منهم، وكذلك ليست في حاجة إلى تجريدهم من مكانتهم لينضموا إلى صفوف الإسلام وهم أذلة صاغرين وقد تخلوا عن ممتلكاتهم ومناصبهم، فهي وإن خاطبتهم تراعي كل هذا؛ لأنها لا تسعى إلى التفرقة والتشتت بقدر ما تسعى إلى الجمع والتوحيد.

لذلك لا بد للخطاب الإسلامي في الوقت الراهن من أن يتخذ لنفسه أسلوباً معاصراً ومضموناً عميقاً، يتجاوز تناول القضايا الذاتية وحدها والانفراد أو التخصص في مشاكل الأمة الإسلامية دون الالتفات إلى مشاكل الإنسانية؛ فالإسلام دين مقصده قيادة البشرية ليخرجها من الظلمات إلى النور ومن الجاهلية وجورها إلى الإسلام وعدله.

وهذا الخطاب ـ الذي يعبّر عن أحد أساليب الدعوة الإسلامية ـ عاجز عن الوصول إلى العالمية والكونية بما هو عليه الآن دون الرجوع إلى التراث الإسلامي الغني. وليس الرجوع فقط بل إعادة قراءته قراءة تراعي الواقع والمستقبل دون أن تغفل ثوابت الأمة؛ ذلك أن الناس وهمومهم تتغيّر وتتحول وتتنوع فلا بد من استيعاب لهذه الهموم، وإيجاد الحلول الواقعية والمناسبة لها.

لكن شساعة التراث الإسلامي تقف حاجزاً كبيراً أمام استيعابه كاملاً، مما يدفع إلى تناول زوايا من بعض جوانبه؛ لذلك فالذي يناسب المقام هنا هو الاهتمام أصلاً بقضية التجديد في بعض الجوانب:

ـ فالتجديد في أصول الِفقه الإسلامي، وإن اختلف فيه الدارسون بين مؤيد للتجديد فيه ومعارض لهذه العملية، فهم في نهاية الأمر مجمعون على قضية مهمة، هذه القضية ينبغي للتنظير المقاصدي الاهتمام بها والتركيز عليها؛ لأن مهمته هي الجمع والوحدة والتوحيد أكثر من التشتيت والتفريق. إن المخالفين والمؤيدين يجتمعون كلهم حول القول بأن الشريعة تهتم بهموم الناس، ولا بد من منهج وأصول تستطيع استيعاب هموم الأمة وهموم الناس أجمعين، وكذلك لا بد من مراعاة المقاصد الشرعية في ذلك، مما يفتح الباب على مصراعيه لتحليل ودراسة الضروريات الخمس مثلاً، وتنزيلها على أرض الواقع، مع مراعاة التحولات الكبيرة التي عرفتها المجتمعات في العالم بأسره.

ـ والتجديد في الفِقه الإسلامي هو نفسه لم يسلم من الانقسام بين الداعين له والرافضين له؛ ولكنهم مع ذلك يجتمعون على القول بأن الشريعة الإسلامية تملك أجوبة لحلِّ مشاكل الناس في هذا الكون. لذلك استجدت أمام الفِِقه الإسلامي العديد من الأحداث في العالم الإسلامي وطرأت نوازل في حياة الأمة، لا بد للفقه الإسلامي من أن يختار الحكم الشرعي الذي يناسب الأمة ويستجيب لتحقيق السهولة واليسر المطلوبين في الحياة. كما أن العالم عرف قضايا فتنت الناس وصعّبت من حياتهم، ولم يكن لها حكم شرعي سابق، فالفِقه الإسلامي مطالب بالانخراط في الحركة الفكرية المعاصرة لإعطاء التصوّر الإسلامي القادر على الإسهام في تيسير الحياة على الناس.

ـ كما يمكن للتجديد أيضاً أن يشمل جانباً مهماً من التراث الإسلامي، إنه علم الكلام. وعلم الكلام ـ أو العقائد الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو أصول الدين ـ يتناول التوحيد وكل القضايا الفكرية التي تهم التصور الإسلامي. فإذا كان علم الكلام في السابق يهتم بالفرق الإسلامية والرد على المبتدعة وكل الفرق الضالة التي تحاول المسّ بالعقيدة الإسلامية، سواء أكانت من الداخل أو من الخارج؛ فإنه في الواقع المعاصر ظهر العديد من الأفكار التي تشوِّش على عقائد المسلمين، كما تهدد كل دين من الديانات الأخرى. وبهذا فأمام علم الكلام مساحات واسعة للتحرك والتجديد والاجتهاد، ما دام القصد من علم الكلام هو الدفاع عن العقيدة وعن التوحيد.

وفي كل الأحيان فإن التنظير المقاصدي مدعو للتجديد في النوازل والقضايا الجديدة أمام الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء. والتنظير المقاصدي بالضبط هو المؤهل لهذه المهمة؛ وذلك لأن دعاة الاجتهاد والتجديد وإعادة قراءة التراث، وكذلك الرافضين الذين يرون في التمسك بالقديم والأصيل غنى عن كل هذه الدعوات ـ يجمعون على أهمية الرؤية المقصدية أو الفكر المقاصدي في هذه العملية التجديدية.

....

المراجع والمصادر والهوامش:

(1)  محمد بن إدريس الشافعي (204هـ): «الرسالة»، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية ـ بيروت، (د،ت)، ص 20.

(2)أخرجه الترمذي: كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي.

(3)أخرجه أبو داود: كتاب الملاحم، باب: ما يذكر في القرن المائة.

(4)أبو اسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي: «الموافقات في أصول الشريعة»، تحقيق عبد الله دراز، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط 1، 1991، 4/83.

(5)  الشاطبي: (م، س)، 4/92.

(6)فريد الأنصاري: «المصطلح الأصولي عند الشاطبي»، دار السلام ـ القاهرة، ط 1، 2010، ص 298.

(7)مصطفى عبد الرازق: «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، مكتبة الثقافة الدينية ـ القاهر، ط 1، 2005، ص 251 ـ 252.

(8)أبو الطيب مولود السريري: «استثمار النصّ الشرعي على مدى التاريخ الإسلامي»، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط 1، 2009، ص 421.

(9)حسن الترابي: «تجديد أصول الِفقه الإسلامي»، ضمن كتاب «تجديد الفكر الإسلامي»، دار القرافي، ط 1، 1993، ص 34 ـ 35.

(10)وهبة الزحيلي: «الاجتهاد الفقهي الحديث: منطلقاته واتجاهاته» ورقة ضمن أعمال ندوة «الاجتهاد الفقهي: أي دور وأي جديد»، ص 44.

(11)عبد الله دراز: من تقديمه لـ «الموافقات في أصول الشريعة»: 1/7.

(12)أحمد الريسوني: «الاجتهاد: النصّ، الواقع، المصلحة» بالاشتراك مع جمال باروت، دار الفكر ـ دمشق، ط 1، 2000، ص 147.

(13)الحسان شهيد: «نظرية التجديد الأصولي: من الإشكال إلى التحرير»، مركز نماء ـ الرياض، ط 1، 2012، ص 24 ـ 25.

(14)الحسان شهيد: «الخطاب النقدي الأصولي: من تطبيقات الشاطبي إلى التجديد المعاصر»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ فرجينيا، ط 1، 2012، ص 340.

(15)حسن الترابي: «تجديد أصول الِفقه الإسلامي»، ص 43.

(16)وهبة الزحيلي: «الفِِقه الإسلامي وأدلته»، دار الفكر ـ دمشق، ط 2، 1989، 1/17.

(17)محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي: «الفكر السامي في تاريخ الفِِقه الإسلامي»، 3/189.

(18)عمر سليمان الأشقر: «تاريخ الفِِقه الإسلامي» دار النفائس، ط 3، 1991، ص 166 ـ 183.

(19) محمد الغزالي: «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل»، دار الشروق (د، ت)، ص 7.

(20)عمر عبيد حسنة: «كيف نتعامل مع القرآن»، ص 63.

(21)رضوان السيد: «من فلسفة الفِِقه إلى مقاصد الشريعة»، مجلة «المنطلق الجديد» ـ بيروت، ع 1، خريف 2000، ص 31.

(22)يوسف القرضاوي: «الفِقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد»، مكتبة وهبة ـ القاهرة، ط 2، 1999، ص 30 ـ 74.

(23)وهبة الزحيلي: «الاجتهاد الفقهي الحديث: منطلقاته واتجاهاته»، ص 33.

(24)طارق البشري: «ملاحظات منهجية حول التجديد في الفِِقه الإسلامي»، مجلة الاجتهاد ـ بيروت، س: 3، ع 9، ص 146.

(25)جمال الدين عطية: «تجديد الفِِقه الإسلامي» بالاشتراك مع وهبة الزحيلي، دار الفكر ـ دمشق، ط 1، 2000، ص 21.

أخبار ذات صلة