عبد الحميد عشاق | أستاذ وباحث بمؤسسة دار الحسنية، المغرب.
إنَّ القراءة الواعية لمجمل الأحداث التي يشهدها العالم الإسلامي والعربي منذ سنوات، وما رافقها من تدافع وصراع خارجين عن سنن العقل والحكمة، وقواعد العيش المشترك، تجعل الحاجة ماسّة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى الاهتمام بقضايا ثلاث وبحثها:
أولاها: التنويه بالمنظور الإسلامي للسّلم من حيث أبعادُه المحلية والكونية، كما أصّلته نصوص الوحي المبارك ومثّلتْه سيرة المصطفى (ص) ، ابتغاء بيان حقيقة هذا المنظور، وإزالة ما لحقه من غبشٍ وغموض.
وثانيتها: بيان أولوية مقصد السِّلم في سُلّم المقاصد الشرعية على أساس كونه البابَ الواسعَ لحفظ سائر المقاصد الكلّية التي ينشدها الناس.
وثالثتها: تحديد آليات حفظ السِّلم على الصّعيد الداخلي والخارجي، وهذا من القضايا العملية المهمّة الجديرة بعناية الباحثين والدّارسين؛ ذلك أن بناء الدولة والحفاظ على تماسكها واستقرارها يتم بالمحافظة على أمنها الداخلي والخارجي.
فالأول يحميها من الثارات والحروب الأهلية، وهذا يقتضي الاهتمام بمصالح مواطنيها، وصون حقوقهم، وترسيخ مبادئ الانتماء والعدالة والإنصاف.
والثاني يحميها من عواقب العدوان الخارجي، وغوائل الحروب العبثية المدمرة، وهذا يقتضي بناء علاقات متينة مع سائر الدول عن طريق العهود والاتّفاقات البينية، وعقود التبادل الثقافي والاقتصادي، وتوسيع دوائر التمثيل الدبلوماسي والشراكة الاستراتيجية.
ولما كان المطلوبُ في هذه المرحلة العصيبة ـ التي اهتزت فيها المفاهيم، واختلط فيها الحابل بالنابل، واشتدّ فيها الإرجاف والتلبيس حتى على البَدهيّات الجَليّات ـ التأصيلَ لمبدأ السِّلم في الإسلام، ارتأيتُ بحث وسبر أصول هذا المبدأ ومعانيه في نطاق نصوص الوحي ومقاصده، وفي ضوء آثار السّيرة النبوية العملية، وهوادي حركة التاريخ والخبرة الإنسانية المحصّلة.
وقد جعلته ـ بعد هذه المقدمة ـ في ثلاثة مباحث وخاتمة:
الأول ـ في بسط مفردات المنظور الإسلامي للسّلم.
والثاني ـ في بيان أولوية مقصد السِّلم في سُلّم المقاصد.
والثالث ـ في عرض وسائل حفظ السِّلم وآلياته.
والخاتمة ـ في استخلاص أهمّ النتائج والتّوصيات.
المبحث الأول: المنظور الإسلامي للسِّلم
من عزائم الأحكام في الإسلام أنّ الأصل في العلاقة بين الأفراد والجماعات هو السّلم والرّضا والاختيار والتعاون، وهو أصل كُلّي لا يجوز العدولُ عنه أو الخروج عليه إلّا في حالات مخصوصة وفق ميزان الضرورة الملجئة، وهذا ما تَعضُدُه نصوص القرآن المجيد والسُّنَّة المشرفة.
أ ـ السِّلم في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية:
عندما نتتبع مفهوم السِّلم في القرآن يتبين لنا أنه مفهوم شامل ومتكامل، فالإسلام ينشد السّلام في صلة الفرد بنفسه، وفي صلته بالجماعة من حوله، وفي صلته بالموجودات وسائر الكائنات، كما ينشده في العلاقات بين الشعوب والأمم.
فالإيمان يورث الفردَ الطمأنينةَ والسكينةَ. والأمنُ والسِّلمُ بجميع تجلّياته وأنماطه إنما هو ثمرة الإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾[الأنعام: 82].
والأحكام الشرعية جاءت لتنظّم سلوك أفراد المجتمع، وتكرّس أخلاق التعاون على البرّ، كما تضبط قواعد العيش المشترك وعلاقاته، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[الحجرات: 10]، وقال عز وجل : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[التوبة: 71].
وأما على صعيد العلاقات الخارجية؛ فالقرآن غني بالآيات الداعية إلى السِّلم والصلح، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[البقرة: 208]، من أجل ذلك، نجد القرآن حريصاً على الاستجابة الفورية لأي مبادرة أو فرصة سانحة من فرص السلام، قال تعالى: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[الأنفال: 61]، قال القرطبي: «والسِّلم والسلام هو الصلح»(1).
وتبعاً للنظرة الكلية للتصرّف النبوي التشريعي، نجد أنه (ص) كان يغلّب دائماً خيار السّلم على خيار الحرب، وبناءً على ذلك استنتج أبو العباس بن تيمية قاعدة كلّيةً بديعةً بقوله: «وكانت سيرته (ص)أن كلَّ مَن هادنه من الكفار لا يقاتله، وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا، وهذا متواتر من سيرته، فهو لم يبدأ أحداً من الكفار بقتالٍ»(2).
ب ـ نصوصٌ مُشكلة:
لكن مع ذلك، نجد من ينطلق ليقرّر أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم الحرب، ويستدل ببعض النصوص الجزئية من دون مراعاة سياقها الموضوعي أو التاريخي؛ كقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾[البقرة: 193]، وقوله (ص) : «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»(3)، حتى قالوا إن جميع آيات النهي عن الإكراه في الدين والأمر بالصفح، والسماحة، والبرِّ، وقول الحسنى، وعدم البدء بالاعتداء، والجنوح للسلم، وغيرها منسوخة بآية السيف، وجعلوا من عجيب القرآن أن «آية واحدة نسخت مائة وأربعاً وعشرين ثم نُسخت!»(4).
مع أن هذه الآيات جميعها تتحرك في نسق واحد مواكب لتطور تجمع المسلمين الطبيعي من الضعف إلى القوة، ومن العمل بمقتضى التبليغ والرسالة إلى التصرف بمقتضى السياسة والإيالة، وهو عين الحكمة المأمور بها في قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾[النحل: 125]، وفي جميع الأحوال يظل الأصل السِّلمَ وليس القتال أو الحرب. وهذا الأصل هو الغالب على تاريخ الدعوة ومسارها وتطورها.
ولا يُخفى أن الاتكاء على نصوص جزئية من أجل تقرير قواعد كلية؛ كالقول: «إن الأصل في الإسلام الحرب لا السّلم» من شأنه إهمال وإلغاء جملة من القواعد المعمول بها عند العلماء في التعامل مع النصوص الشرعية؛ كقاعدة الجمع بين النصوص واعتبار العموم والخصوص في تفسيرها، وقاعدة السّياق، وقاعدة النسخ، ومراعاة المآل، وغيرها.
وعليه، فإن الهدي النبوي والمنهج التشريعي لا يمكن استخراجه من نصٍّ واحدٍ، وإنما يستفاد من النظر في مجموع النصوص المتعلقة بمحل البحث على طريقة الجمع والمقابلة والترجيح، كما يستفاد من السنن النبوية الغالبة والمستمرة التي ترشد إلى التأصيل الكلّي العام.
إذا تقرَّر هذا الأصل، فهناك سؤال مهم قد يعكر أو يعترض ما سبق تقريره وهو:
لمَ جاهد النبي (ص) وصحابتُه من بعده؟ أو ما المغزى من الجهاد النبوي وجهاد الفتوحات؟
وقد حاولتُ الإجابة عن هذا السؤال من خلال الإلماعات الآتية:
أ ـ لم يكن جهاد النبي (ص)وقتاله استئصالاً للمخالف:
إنّ المتأمّل في السّيرة النبوية يدرك أن جهاده (ص) لم يقصد قطّ إلى محاربة أهل الأديان المخالفة واستئصالها على نحو ما شهدته بعض أطوار التاريخ البشري من حروب الاضطهاد الديني، والتطهير العرقي، ومحاكم التفتيش، قال ابن القيم: «ولم يكرِه أحداً قطّ على الدين، وإنما كان يقاتِل مَن يحاربه ويقاتله، وأما مَن سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه، امتثالاً لأمر ربّه حيث يقول: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[البقرة:256] ﴾»(5)
فإذا صحّ أن النبي (ص) لا يتعامل مع غير المسلمين إلا من موقع القتال، فكيف ينسجم هذا مع إيصائه باليهود والنصارى، ودعوته إلى حقن دماء الرهبان والعباد والمنقطعين في الصوامع في مواطن النزاع، مع أنهم الأصل في بقاء الدّين المخالف بما يبذلونه من جهد للدعاء إليه والاستمرار عليه؟ ولو تعلق الأمر باستئصال الدين المخالف لكان رجال الدين أولى بأن تتجه إليهم المقاتلة.
كيف يتّفق موقف القتال المطلق للمخالفين مع ما ثبت من أن النبي (ص) قد عامل يهود خيبر على رعاية النخيل وإصلاحه، وبعث معاذاً إلى اليمن وأمره أن يأخذ من غير المسلم ديناراً أو مقابله من ثياب؟ وإذا كان الإسلام يقاتل غير المسلمين، فكيف يؤسس أحكام المعاهدات والذمة، وأحكام الإبقاء على الكنائس وعمارتها وعدم مضايقة أهلها؟
يتبيّن إذاً أن تعامل النبي (ص) مع غير المسلمين كان تعاملاً سمحاً حضارياً لم يكن يروم الاستئصال أبداً(6)، على نحو ما لاحظه وول ديورانت حين قال: «ولم يكونوا يخيّرون الأعداء بين الإسلام والسيف، بل كان الخيار بين الإسلام والجزية والسيف»(7)، مما يعني أن الإسلام ـ وهو في أوج قوته ـ لم يجعل السيف الخيار الأول في التعامل مع غير المسلمين، بل لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى.
ب ـ جهاد النبي (ص)كان عدلاً في المنهج والغاية:
كانت السمة الرئيسة للفتوحات الإسلامية هي اتخاذ القسط مبدأً ومنهجاً وغايةً.
· فمن حيث المبدأ: جاء الإسلام لعمارة الدنيا لا لخراب العالم، ومن ثَمَّ لم يبادر النبي (ص) قطّ بقتالٍ كما سبق ذكره، بل كان يبعث القائد ليخيّر الشعوب بين الإسلام أو العهد أو القتال، فإن اختاروا العهد كان الوفاء واجباً، وإن اختاروا القتال كان بسبب ما اختاروا.
· وأما من حيث المنهج: فقد كان للقتال في صدر الإسلام ضوابط وأحكام تضمن للشعوب المغلوبة الكرامة وتقيهم العسف، جاء في الحديث أن الرسول (ص) قال: «سِيرُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً...»(8). وكان الصحابة يمنعون المجاهدين من الإفساد والتدمير، فمن وصايا أبي بكر الصّديق أنه قال: «لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرِماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تُخرِّبنّ عامراً، ولا تَعقِرَن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تَحرقَن نخلاً ولا تُغرقنّه، ولا تَغلُل، ولا تجبُن»(9)
· وأما من حيث الغاية: فإنّ سِيَر رسول الله (ص) وحروبه كانت ضد الظلم، فهي: إما جهاد دفع لرد العدوان، أو جهاد طلب لردع الدول المجاورة عن التفكير بنقض العهد والإخلال بالأمن على الحدود؛ ليصبح الجار دار هدنة وصلح وليس دار حرب وتهديد(10) فقد سعى (ص) والصحابة من بعده من خلال فتوحاتهم إلى إيقاف المدِّ الإمبراطوري التوسعي الذي كان سمة عصرهم، وتوجيه موازين القوى في محيطهم نحو المسالمة والموادعة والهدنة والتعاون.
ولعلَّ ما يشهد لذلك أن غزوة تبوك إنما كانت رداً على هجوم محتمل من الروم بالشام، كما يدلُّ عليه حديث عمر في الصحيح، عندما جاءه أخوه من الأنصار في بيته في وقت لم يكن يأتيه فيه، فقال عمر: «أجاء غسان؟»(11)؛ لأنهم كانوا يتوقعون غزواً من أحد ملوك غسان بالشام مدعوماً من الروم.
ومما يشهد له كذلك أن النبي (ص) لم يَغزُ الحبشة كما لاحظه مارسيل بوازار(12)، بل قال: «اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ»(13).
ومن الحقائق التاريخية المثيرة التي لم تنل حظّها من العناية والدرس: أن حركة الفتوحات لم تتجه شطر الأناضول، ولا شطر العالم الكاثوليكي في القرنين السابع والثامن الميلاديين.
ج ـ جهاد الرسول (ص)كان حماية لبيضة الإسلام:
من خصائص دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أنها كانت تسير جنباً إلى جنب مع بناء الدولة الفتيّة، مما أدّى إلى اختلاط مفاهيم الدعوة وأساليبها ومفاهيم الدولة وخططها، فخيّل لكثيرٍ من الناس أن الإسلام يحارب من أجل قضية الدّين أو قضية الدعوة، والحق أنه يقاتل ـ حينما يقاتل ـ من أجل حماية البيضة وسيادة الدولة، فثمة خيط رقيق دقيق بين تصرفاته (ص) من مقام النبوّة والتبليغ، وبين تصرفاته من مقام الإيالة والسّياسة.
وهذا مبني على خصيصة عظيمة من خصائصه لم يتبيّنها كثير من الدّارسين، وهي أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ جُمِع له بين النّبوة والسّلطنة كما يقول الغزالي في الإحياء(14)، وإلى كلامه أشار الحافظ السيوطي في «أنموذج اللبيب» في الخصائص التي اختصّ بها عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله(15)، ولما أورد السهيلي في «الرّوض الأنف» قول أبي سفيان للعبّاس لما حبسه في محتبس الوادي يوم الفتح: «لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً»، وردَّ العباس بقوله: «إنّها النبوة». ذكر عن القاضي أبي بكر بن العربي أن العباس إنما أنكر ذكر الملك مجرداً من النبوة، وإلا فجائز أن يسمى مثله ملكاً، وإن كان لنبي، فقد قال تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾[صۤ: 20]؛ وقال سليمان (ع) : ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾[صۤ: 35](16). فكان من خصائص نبي الإسلام أنه جُمعت له رئاسة الدولة، مع إمامة الدعوة.
ومن أهم وظائف الدولة وواجبات الإمامة: دفع العدوّ، وحماية البيضة، وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، وفي معناه رفض الضيم، ومقاومة الغزوِ الأجنبي والاحتلالِ العسكري الذي يهدم النظام ويخرق السّيادة.
ومن ثم، فإن ما يُسمّى بجهاد الطلب أو الجهاد الابتدائي غالباً ما كان بقصد حمل الغازي الصّائل على احترام معاهدات حسن الجوار وتأمين الحدود، وهذا من باب «السّلام المسلّح» الذي أصبحَ عرفاً دولياً تأخذ به جميع الدول لتكون في مأمن من العدو وأطماعه.
وإذا كان الشارع قد أجاز القتال عند نقض العهد، فذلك لعلة الدفاع عن الأمة وحماية بيضتها، وقديماً ذهب جمهور الفقهاء إلى أن العدو إذا نقض الهدنة بقتالٍ، أو بمظاهرة عدو، أو قتل مسلم، أو أخْذ مالٍ انتقضت الهدنة معه، كما أنها تنتقض بأشياء أخرى لا يتسع المقام لبسطها، ومما استدلوا به على ذلك قولُ الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾[التوبة: 7](17) وقوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾[التوبة: 12] (18)
وإذا خاف الإمام نقض العهد من الطرف الآخر جاز له أن ينبذ إليه عهده حينئذٍ، لقوله تعالى: ﴿ إِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾[الأنفال: 58]، أي: أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بانتهاء المعاهدة، ولا يكتفي بمجرد الخوف(19)
ومن أمثلة نبذ العهد بسبب الخيانة مسألة أهل قبرص في ولاية عبد الملك بن صالح، عندما نقضوا عهدهم مع المسلمين، فكتب الوالي يستفتي الفقهاء في أمرهم، وممن استفتي: مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، وغيرهم، فأفتى معظمهم بأن ينبذ الوالي عهدهم الذي نقضوه، مع توصية بعضهم بعدم التعجيل بذلك(20).
المبحث الثاني: أولوية مقصد السِّلم في سُلَّم المقاصد
السِّلم مقصد أعلى من التشريع:
إنّ السِّلم مقصد عظيم تتوقف عليه سائر المقاصد، أو على حدّ عبارة أستاذنا الشيخ عبد الله بن بيه هو «حاضنة الكلّيات الخمس من مقاصد الشريعة»، وهذا ما نبّه إليه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تقسيمه المصالح باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى كلية وجزئية، ومثّل لما يعود على جميع الأمة بحماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق والتنازع والاختلاف، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين، وحفظ القرآن من اندراس الحفظة.
وبناءً عليه خلص إلى القول بأنه: «إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحُه صلاحَ عقله، وصلاحَ عملِه، وصلاحَ ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه»(21)
وبعد أن ساق نصوصاً كثيرة من القرآن في معرض الحث على الإصلاح قال: «فهذه أدلة صريحة كلية دلّت على أن مقصد الشريعة إصلاح هذا العالم وإزالة الفساد منه، وذلك في تصاريف أعمال الناس...»(22).
فلا شكّ أن السِّلم من المقاصد الضرورية الكلية مما ينتمي إلى هذه المرتبة العالية؛ إذ لا بدّ منه في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقد وسُلب لم تجرِ مصالحُ الدنيا على استقامة؛ بل على فسادٍ وتهارج وفوتِ حياة.
ويمكن القول: إن السِّلم ـ باعتبار تعلقه بحفظ النظام وتأمين معايش الناس ـ هو أول مقاصد الشريعة على صعيد النظام الاجتماعي العام؛ إذ لا يتصوّر تحقيق مقصد آخر كالعدالة والحرية والكرامة والمساواة والتنمية إلا ببسط الأمن ونشر لوائه، فمن هذا الوجه قُدّم هذا الحق على سائر الحقوق لتعلّقه بعموم الأُمة، وأولوية حقِّها في الحياة ـ الذي هو من أخطر الحقوق ـ والكون في معايشها آمنة مطمئنة.
غير أن السِّلم لا يشتد عوده إلا في حصون العدالة، وكذلك العكس، فبينهما تلازم مستمر طرداً وعكساً؛ أي فكلما امتد سلطان العدل امتد ظل السِّلم، وكلما تقلّص سلطان العدل تراجع ظل السِّلم، وتفتقت مكانه ثغرات الخلل والهرْج.
وعليه، فإنّ المسّ بهذا المقصد مسٌّ بالقوام الضروري الذي يختل به نظام الحياة العام، ويتسبّب في زعزعة الاستقرار وترويع الآمنين، وهذا أمرٌ تعدّه الشريعة حرابةً وإفساداً في الأرض يستوجب أشدّ العقوبة، قال الحق سبحانه:﴿إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ﴾[المائدة: 33].
ومن أمثلة الأحكام الحافظة لمقصد السِّلم المحققة له، أو يتوقف التكليف بها على تحقيق مقصد الأمن والسلم:
أ ـ الوفاء بالعهد:
يتصل مبدأ الوفاء بالعهد ـ في نظر الإسلام ـ بالعدل الدولي؛ إذ هو مناط المصلحة الإنسانية كلها، ولا ريب أن هذه مصلحة عليا ثابتة على مرّ القرون والأجيال، بحيث تغدو كلُّ منفعةٍ عاجلةٍ إزاءها ثمناً بخساً وعرضاً تافها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[ آل عمران: 77]. وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(23)، وقال: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْداً، وَلَا يَشُدَّنَّهُ، حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ»(24). وفي سنن أبي داود عن رسول الله (ص) قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهداً، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة»(25).
لذلك عني الفقهاء عناية شديدة بتفصيل أحكام المعاهدات وشروطها، وبيان ما تتضمنه بنودها، وما ينبغي للطرفين الالتزام به، وعلى رأسهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله (26).
ب ـ الحدود والديّات:
إذا تأمّلنا باب الحدود والديّات في الفقه الإسلامي، ألفيناه محقّقاً لمقصد العدل الذي يثمر ـ من جهته ـ مقصد الأمن والسِّلم، والفقهاءُ في ثنايا تحريرهم للفروع المتصلة بهذا الباب يَنصّون على ذلك: قال البابرتي في معرض الحديث عن حد الحرابة في كتابه «العناية»: «وعندهما، أي: عند أبي يوسف ومحمد بن الحسن ـ أنها عقوبة تغلظت لتغلظ سببها؛ وهو تفويت الأمن في الأرض على التناهي بالقتل وأخذ المال»(27)، ولو شهر المحاربون السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخْذ المال، فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال أكثر العلماء: إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد، وهذا قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب(28).
فيتضح من هذا أنّ حدّ الحرابة إنما شُرع لأجل استتباب الأمن في الأرض، ومنع التعرض لحرمة دم الإنسان وماله وعرضه. فالخروج لمجرد قطع الطريق، وإخافة السبيل، ومنع الناس من المرور به، وإن لم يقصد من ورائه أخذ مال، ولا انتهاك عرض، ولا عداوة، ولا رغبة في إمارة، يدخل في مفهوم الحرابة لدى المالكية لعموم آيتها(29)، خلافاً لمن قال: إنه لا تطبق أحكام الحرابة إلا على من قتل أو أخذ مالاً(30)، ولم يراعوا الكفاءة في هذه العقوبة على الراجح، كما يقول ابن العربي: «لا خلاف في أن الحرابة يُقتل فيها من قَتَل، وإن لم يكن المقتول مكافئاً للقاتل، وللشافعي قولان: منهما أنه تعتبر المكافأة في الدماء؛ لأنه قتل، فاعتبرت فيه المكافأة كالقصاص»(31).
ولذلك تميز الفِقه الإسلامي ـ على تنوع مذاهبه خصوصاً المذهب المالكي ـ بأحكام ومواقف صارمة من المحاربين، حيث توسّع في وسائلها ومكانها وزمانها وأشخاصها، وشدّد كثيراً في عقوبتها:
توسّع أوّلاً؛ في مفهوم الحرابة؛ فعدَّ كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه يتعذّر معه الغوث أو إخافة الطريق حرابةً، فيدخل في ذلك:
ـ الخروج لمجرد قطع الطريق، وإخافة السبيل، ومنع الناس من المرور به.
ـ الهجوم على الدور واقتحامها ليلاً أو نهاراً، ومقاتلة أهلها لأخذ مالهم، سواء تمكن من أخذه وإخراجه، أو ألقي عليه القبض قبل إخراجه.
ـ القتل غيلة وإن لم يأخذ مالاً(32).
وتوسّع ثانياً؛ في وسائل الحرابة، ولم يخصّها بفعل دون فعل، وسوّى في ذلك بين استعمال السلاح الناري والسلاح الأبيض، والعصي وحتى الأحجار لعموم آية الحرابة وإطلاقها(33).
وتوسّع ثالثاً؛ في مكان الحرابة فسوّى بين المدن والقرى والصحراء والمنازل، لعموم آية الحرابة(34)، خلافاً، لمن خصّها بالصحراء، وعدّ كل ما يقع في المدن والقرى سرقة لا حرابة(35).
وتوسّع رابعاً؛ في أشخاص المحاربين، فسوّى بين الحرّ والعبد، والمسلم والذمي، والرجل والمرأة، ومن باشر الحرابة بنفسه ومن تمالأ معه وساعده، كل هؤلاء تطبق عليهم أحكام الحرابة، ولم يستثن من عقوبتها إلا الصغير والمجنون، غير أن المرأة لا تصلب ولا تنفى، وإنما حدها القتل أو القطع من خلاف(36)، خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا تقتل المرأة ولا تقطع ولا من معها من المحاربين(37)
كما سوّى بين المحارب الواحد والاثنين والجماعة، خلافاً لمن خصّها بالجماعة، ورأى أن الواحد والاثنين لا يعد فعلهما حرابة(38).
وهذه المسائل والأحكام وإن كانت تروم مقصدَ حفظ النفوس، فإنها ذريعة لحفظ ما هو أعم من ذلك وأوسع، ألا وهو مقصد السِّلم.
ج ـ أحكام القضاء:
إنّ المقصد الأعلى الذي ينشده القضاء، هو صون السِّلم بواسطة العدل الذي يقوم على إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، ولأجل ذلك جاءت الأحكام القضائية لفضّ النزاعات وحلّ الخصومات وإصلاح ذات البين، وشواهد السُّنَّة والسيرة حافلة بالنصوص الدّالة على ضرورة العدل في أحكام القضاء وأثرها الجليّ في تسكين النفوس واستيفاء الحقوق ومنع الظلم والجور.
وأحكام القضاء تشكل مثالاً واضحاً للعلاقة الطّردية التلازمية التي تجعل العدل شرطاً للسلم، والسِّلم شرطاً للعدل، فلا يتحقق الأول إلَّا في ظل الثاني، ولا يتوصل إلى الثاني إلا بتثبيت الأول.
المبحث الثالث: وسائل وآليات حفظ السِّلم
بالتأمل في الهدي النبوي يتبين أن أهمّ الوسائل والآليات التي تنجع في بناء السِّلم ونشره واستتبابه هو العمل على عقد اتفاقات الأمن والسِّلم الاجتماعي، والتعاهد على احترامها وصونها من مختلف النقوض الواقعة أو المتوقعة.
أ ـ آليات السِّلم الداخلي:
إنّ السّؤال المهم في هذا الشأن هو: كيف بنى النّبي (ص)مشروعَه السِّلمي؟ وما الخطوات والوسائل التي اعتمدها لإحلال السِّلم داخل المجتمع الجديد الذي كان يشمل المسلمين وغيرهم من الأقلّيات والطوائف المختلفة؟
إنّ أوّل ما سمعه الناس من النطق النبوي الشريف في المدينة قوله (ص) : «أيها الناس؛ أفشُوا السّلام، وأطعمُوا الطّعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخُلُوا الجنّة بسَلام»(39). ففي هذا الخطاب النبوي إعلان عن المعالم الكبرى للدّين، ومقاصده العالية التي كان السلم أبرز أصولها، وأظهر سماتها، بدلالة تعلّق ثلاثة أرباع الدين بالعمل الصالح المتعدّي النفع، ولا يُخفى وجه إسهام ذلك في تحقيق السّلم الأهلي.
ولقد كان أولُ ما صنعه (ص) ـ بعد بناء المسجد والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين ـ إعادةَ ترتيب شؤون المدينة، وتنظيم علائقها الداخلية والخارجية، وتعيين الواجبات المطلوبة من كل طرف على أساس الرّضا والاصطلاح، وكان السبيل إلى ذلك هو الكُتُب والمعاهدات التي كان يعقدها (ص) لا سيما بعد أن تثبّت الإسلام واستقر. وقد ذكر القرآن المجيد عهوداً كثيرة أمضاها النبي عليه الصلاة والسلام مع غيره، منها ما أشار إليه الحق سبحانه وتعالى في قوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 56].
ومما يجدر التنويه به في هذا السياق صحيفة المدينة، ومما جاء فيها: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ... وكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... وَإِنّ ذِمّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ... وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ... وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلى الله عز وجل وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ»(40).
وقد كانت سياسة التحالفات التي أعملها النبي (ص) لبنةً من لبنات البناء المتكامل للأمة الجديدة، ومظهراً من مظاهر وحدتها المبنية على الذّمة الواحدة، وقواعد القسط والولاء والجوار والمواساة والعاقلة والفداء والنصرة. وتعدّ وثيقة المدينة نموذجاً دستورياً لإقرار الحريات والحقوق لغير المسلمين، كما شهد بذلك المستشرق الروماني جيورجيو قائلاً: «حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً، كلها من رأي رسول الله؛ خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان، وقد دُون هذا الدستور بشكلٍ يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية»(41)
ويتبيّن من هذا العهد أنَّه كان يروم بناءَ السِّلم بين مختلف الطوائف المستقرة في المدينة، كما أنَّه كان يرومُ «حُسْنَ الجِوَارِ، وتثبيتَ دعائم العدل. ويلاحظ أنَّ فيه نصّاً صريحاً على نصر المظلوم، فهو عهد عادل لإقامة السِّلم وتثبيته بالعدل ونصر الضَّعيفِ»(42). كما أن الشارع قد ضبط علاقة غير المسلم بالمجتمع الذي ينتمي إليه بـ «عقد الذمة». الذي يفرض واجبات عليه مشاركةً منه في بناء الدولة، ويضمن له حقوقه الضرورية، ويمنحه حرية كاملة في ممارسة شعائر دينه، ومن المواقف المشرقة في ذلك ما رآه الإمام الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة في مسألة بناء الكنائس من دخولها في عمارة دار الإسلام(43). ووافقهما على ذلك عبد الرحمن بن القاسم من المالكية(44).
ولقد كان هذا الفقه ونظائره من أهم أسباب بسط الأمن، وإفشاء السلم، وتحقيق العيش المشترك والاندماج الاجتماعي بين مختلف مكونات الأُمة على تباين عشائرها وقبائلها ولغاتها وأعراقها وأديانها.
ب ـ آليات السِّلم الخارجي:
1 ـ المعاهدات:
وهي الاتفاقات أو العهود أو المواثيق التي تبرمها الدولة المسلمة مع غيرها من الدول في حالي السِّلم والحرب، وتُسَمَّى المعاهدة في ظروف الحرب موادعة أو مصالحة أو مسالمة، يُقَرَّرُ بمقتضاها الصلحُ على تَرْكِ الحرب، لقوله تعالى: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[الأنفال: 61].
وإذا كان الإسلام ينطلق من أن الأصل في العلاقات العامة السِّلم، فإن حال النزاع والحرب أمر طارئ يجب دفعه بأي وسيلة، ومن أنجع تلك الوسائل وسيلة الصلح. وقد أثبتت المواثيق والمعاهدات قدرتها على نشر السِّلم وتثبيته وبسطه، وهذا ما شهد به غير واحد؛ ومنهم المستشرق توماس أرنولد في كتابه: «الدعوة إلى الإسلام»، حيث لاحظ أن أهم فترة انتشر فيها الإسلام هي فترة السِّلم التي تلَتْ صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، وأن من دخل الإسلام خلال تلك الفترة ـ التي دامت سنتين ـ أكثر ممن دخله في المدة التي تقرب من عشرين عاماً منذ بزوغ الإسلام حتى ذلك الصلح.
وقد نجح النبي (ص) بفضل المعاهدات الكثيرة التي عقدها مع خصومه في صهر النزاعات القبلية والعصبيات والثارات الطائفية في بوتقة نظام جديد، وانتهج منهجاً حكيماً في تدبير الأمور والقضايا التي يجري حولها النزاع، وقد أوردت كتبُ السيرة جملة من المعاهدات النبوية، منها على سبيل المثال:
1 ـ 1 ـ صلح الحديبية:
وهو عقد صلح بين المسلمين وبين قريش عام ستة للهجرة، وقعت بمقتضاه هدنة بين الطرفين مدتها عشر سنين. ومما جاء في نص هدنة الحديبية: «باسمك اللهم، هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنّ النّاسُ وَيَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّداً مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشاً مِمّنْ مَعَ مُحَمّدٍ لَمْ يَرُدّوهُ عَلَيْهِ وَإِنّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً(45)، وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيه، وأنَّ مُحَمَّداً يَرْجِعُ عَنَّا عَامَهُ هَذَا بِأَصْحَابِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلاً فِي أَصْحَابِهِ، فَيُقِيمُ بِهَا ثَلَاثً، لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِسِلَاحٍ إِلَّا سِلَاحَ المُسَافِرِ، السُّيوف فِي القِرَبِ»(46).
وقد تضمّن هذا الصلح ثلاثة مبادئ مهمة من شأنها أن تجنب الأمة أتون الصراع، وغلواء الفتنة التي سرعان ما كانت تشتعل بين المجتمعات العربية في العصور السابقة لأتفه الأسباب.
المبدأ الأول: مبدأ العيبة المكفوفة.
المبدأ الثاني: مبدأ حرية الاختيار.
المبدأ الثالث: مبدأ التنازل من أجل السِّلم الدائم.
أما المبدأ الأول: فقد عبّرت عنه وثيقة صلح الحديبية بقولها: «وأن بيننا عيبةً مكفوفةً»، يعني صدوراً منطويةً على ما فيها، والأخذ بهذا المبدأ في حاضرنا يقتضي قبول التفاهم في الجملة، فالنفوس والصدور منطوية على ما فيها، والتعامل قائم على تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة، أما الاختلاف العارض فمطوي، ولا يجعل إنهاؤه شرطاً في التعامل والتعاون.
والمبدأ الثاني: وهو مبدأ الحرية الاختيارية الذي عبّرت عنه الوثيقة بقولها: «وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه»؛ ذلك أن احترام حرية الآخرين في اعتناق الدين الذي يرضونه لأنفسهم، وحرية ممارسة الدين في الحياة الخاصة للفرد والحياة العامة للجماعة من شأنه قطع دابر الفتنة، وتذليل طرق التقارب والتفاهم.
وأما المبدأ الثالث: فهو مبدأ التنازل المؤقت من أجل السِّلم الدائم، فقد رأينا في صلح الحديبية كيف أن رسول الله (ص) قدّم تنازلات كبيرة من أجل الصلح: تنازل عن كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم)، ليكتب بدلها (باسمك اللهم)، وتنازل عن كتابة (محمد رسول الله)، ليكتب بدلها اسمه واسم أبيه فقط. وتنازل فقبل أن يرد إلى المشركين من جاءه منهم، وألا يردّوا إليه من جاءهم من المسلمين.
1 ـ 2 ـ معاهدة قبيلة بني عادياء ـ 7هـ:
بعد أن وقعت مهادنة قريش في السنة السادسة للهجرة، اتجه الرسول إلى يهود خيبر الذين ألّبوا الأحزابَ على المسلمين ليستأصل الفتنة من جذرها. فلمَّا نجح في إنزال خيبر على حكمه، وتمت المصالحة بينهم، انصرف إلى ما حولها من القرى (وادي القرى، وفدك) فآل أمرهم إلى الاستسلام، فصالحهم. فلم يشعر يهود تيماء بما حدث حتى بعثوا إلى الرسول يطلبون المصالحة، فكتب بينهم هذه المعاهدة: «بسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم. هَذَا كِتَابٌ مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ الله لِبَنِي عَادِيَا: إنَّ لَهُمُ الذِّمَّةَ، وعَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ؛ وَلا عَدَاءَ وَلا جَلاءَ. اللَّيْلُ مَدٌّ وَالنَّهَارُ شَدٌّ(47).
1 ـ 3 ـ معاهدة يهود أَذْرُحَ ـ 9هـ:
لما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بالمسلمين يريد الشام، في غزوة تبوك، علم بخبره أهل أَذْرُحَ [وهم يهود، بلدهم من نواحي عَمَّان] فجاءه ملكهم فعرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا، فكتب بينهم هذه المعاهدة:
«بِسْمِ الله الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ (ص) لِأَهْلِ أَذْرُحَ، أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ الله وَأَمَانِ مُحَمّدٍ، وَأَنّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلّ رَجَبٍ وَافِيَةٍ طَيّبَةٍ، وَالله كَفِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالنّصْحِ وَالْإِحْسَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَجَأَ [إلَيْهِمْ] من المسلمين من المخافة والتّعزير إذا خَشَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهُمْ آمِنُونَ، حَتّى يُحْدِثَ إلَيْهِمْ مُحَمّدٌ قَبْلَ خُرُوجِه»(48).
1 ـ 4 ـ معاهدة أَهْلِ أَيْلَةَ:
لما نزل النبي تبوك يريد الشام، علم بخبره أهلُ أيلةَ فجاءه ملكهم يُوحَنَّا بن رُوبَةَ، وأهدى له بغلة، فكساه رسول الله بردة، وكتب بينهم هذه المعاهدة: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ الله وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ الله لِيُوحَنَّا بْنِ رُوبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ: لِسُفُنِهِمْ، وَلِسَيَّارَتِهِمْ وَلِبَحْرِهِمْ وَلِبَرِّهِمْ، ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ كُلِّ مَارِّ النَّاسِ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثاً فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ طِيبَةٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلَا طَرِيقاً يَرِدُونَهَا مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ. هَذَا كِتَابُ جُهَيْمِ بْنِ الصَّلْتِ»(49)
1 ـ 5 ـ معاهدة بَنِي جَنْبَةَ (يهود من مقنا):
لما خرج رسول الله (ص) بجموعه يريد الشام، فلما نزل بتبوك علم بخبره أَهْل مَقْنَا [وهم يهود، من نواحي دمشق] فجاء ملكهم، فعرض الرسول عليهم الإسلام فلم يقبلوا، فكتب بينهم هذه المعاهدة: «أمَّا بَعْدُ، فَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ: مَنْ أَطْلَعَ أَهْلَ مَقْنَا بِخَيْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ أَطْلَعَهُمْ بِشْرٍ فَهُوَ شَرٌّ لَهُ. وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَمِيرٌ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ رَسُولِ الله. وَالسَّلَامُ».
1 ـ 6 ـ معاهدة أساقفة نجران:
حينما كتب الرسول (ص) إلى أهل نجران يدعوهم إلى الإسلام، وبعثوا إليه وفدهم لينظر في أمر محمد وما يدعو إليه، كان في الوفد أسقف يدعى أبا الحارث، فلما جاء كتب له الرسول ولمن ترك خلفه من الرهبان والأساقفة هذا الكتاب: كَتَبَ رَسُولُ الله (ص) لِأَسْقُفِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ وَكَهَنَتِهِمْ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَرُهْبَانِهِمْ: أَنَّ لَهُمْ عَلَى مَا تَحْتِ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ بِيَعِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ وَرَهْبَانِيَّتِهِمْ. وَجوَارُ الله وَرَسُولِهِ أَلَّا يُغَيَّرَ أَسْقُفٌ عَنْ أَسْقُفِيَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٌ عَنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا سُلْطَانِهِمْ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقلينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِين»(50)
وإذا كانت معاهدة الحديبية جاءت في ظروف ضعف واضطرار، فإن معاهدة أساقفة ونصارى نجران عقدتها الدولة النبوية وهي في أَوج قوّتها، وغاية منَعتها، وقد بيَّنتْ ـ من خلال ما نصّت عليه من حقوق وواجبات ـ أن تشريعات الإسلام تتعامل مع غير المسلم على أنه إنسان تُحترم آدميته، وتحث على قيم الانتماء والمواطنة والمواساة، وتمنع قيم العسف والابتزاز والإهانة، من حيث إشعاره بالانتماء إلى ذمّة واحدة، واحترام دينه، ومذهبه، وحياته، ودمه، وعرضه، وماله.
2 ـ عهود الصلح:
وهي عقود يرتفع بها النزاع بين الخصوم، ويتوصّل بها إلى الائتلاف بين المختلفين؛ فهي أسلوب من أساليب فضّ المنازعات، وحلّ الخلافات، وإماتة الضغائن، ووضع الحرب بطريقة ودّية يلجأ إليها المتنازعون من تلقاء أنفسهم. قال تعالى: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[الأنفال: 61]، والمعنى كما قال السّدي وابن زيد: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم.
والصلح بالمعنى المذكور يشمل ما كان يجري بين المسلمين وغيرهم من معاهدات واتفاقات تجلب الموادعة والمكافّة والسِّلم الدائم. وعلى هذا فالعلاقة بين المعاهدة والوساطة بالصلح متينة؛ فالمعاهدة كما عرفها الفقهاء: «عقد يتضمن مصالحة أهل الحرب على ترك القتال»(51)، أو: «هي الصلح على ترك القتال مدة بمالٍ أو بغير مال»(52). فهي تروم الإصلاح بين المسلمين وغيرهم خاصة، غير أنها تزيد على الصّلح بخاصية الإلزام؛ وذلك لأن المعاهدة يجب الوفاء بها؛ لأنها عهد ملزم.
وإذا ذكر الصلح ذكر التحكيم، فقد كان قاعدة معروفة بين العرب حتى قبل مجيء الإسلام، حيث كانوا يعدّونه طريقاً معتبراً لتحقيق العدالة والإصلاح بين القبائل المتنازعة في مجتمع كان الحق فيه متوقفاً على سطوة القوة وصولة السيف في غالب الأحيان. وقد حثّ الشارع على التحكيم طريقاً سلمياً لفضّ المنازعات، وحلّ الخلافات، وقرّر التزام نتائجه سواء كان بين فئتين مسلمتين، أو بين فئة مسلمة وغيرها. وقد روت لنا كتب الفقه والسير وقائع مهمة في التحكيم؛ منها على سبيل المثال التحكيم بين النبي (ص) وبين قبيلة بني قريظة لفضّ النزاع، فاحتكموا إلى سعد بن معاذ حليف اليهود.
خاتمة:
في ختام هذا البحث أودّ أن أستخلص بعض الاستنباطات والنتائج المعتبرة؛ وهي:
1 ـ إن عقد المعاهدات من الأمور التي مهَّدت للدولة النبوية الفتية سبيل التغلغل في شبه جزيرة العرب، فإن المسلمين ما كان لهم أن ينشروا الدعوة نحو اليمن ونحو الشام لولا أن جانبهم أصبح آمناً بفضل مصالحة جيرانهم من عرب الجزيرة وقبائلها.
2 ـ إن عظمة النّبي (ص) بدت في إمضاء المعاهدات والمواثيق الكثيرة، وإدارته الحكيمة لمختلف الأزمات والنزاعات، وتعامله بحنكة وبصيرة مع التقاليد والقواعد العرفية العربية؛ كالجوار، والانتماء، ومراعاة حرمة المواقيت الزمانية والمكانية، وبعث الرسل والكتب، فكل ذلك وغيره انتهجه النبي (ص)واستثمره استثماراً رائعاً في التمكين لمشروعه السِّلمي داخل المجتمع الجديد.
3 ـ إن التجربة النبوية الفذّة في بناء المجتمع والدولة في علائقها الداخلية والخارجية استطاعت أن تلفت الأنظار إلى نموذج جديد في رؤية العالم، والتعامل مع شؤونه، وتنظيم علائق شعوبه وقبائله على أساس التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
فالفتوحات الإسلامية لم تكن ـ في مرامها وروحها ـ إلا مشروعاً لتحرير المجتمعات من جور القوى الإمبراطورية التي كانت تستمرئ شن حروبها العبثية المدمرة على الأقاليم المجاورة. وعندما نقف على الظروف الموضوعية لدخول الشعوب في الإسلام في البلاد المفتوحة بالجهاد وفي غيرها، فإننا نلحظ أمرين:
1 ـ وجود كثير من غير المسلمين في البلاد الإسلامية، من دون أن يتعرضوا لأي اضطهاد في عقيدتهم من قبل السلطة السياسية أو من قبل آحاد الناس، مما يدلُّ على أن الإكراه على الدخول في الإسلام لم يكن مبدأ للفتوحات، سواء على صعيد السلطة، أو على صعيد المجتمع.
2 ـ وجود أكثريات إسلامية في المناطق التي لم يدخلها الفتح الإسلامي، أو التي دخلها ولم يستطع أن يؤثر فيها إلا بعد وقتٍ طويلٍ، مما يوحي بأن سلطة الكلمة والحوار، لا سلطة القوة القاهرة هي التي أسهمت في انتشار الإسلام في العالم من خلال المسؤولية الفكرية والقناعة الإيمانية بعقائده وشرائعه.
ومن الوقائع التاريخية التي تؤكد ما سبق: ما يذكره بعض الكتاب الأوروبيين أن الإسلام لم يشق طريقه في الصحراء بإفريقيا إلا بعد انحلال دولته الكبرى في المغرب، وكانت وسيلته إلى هذه البقاع هي الكلمة والفكرة والسلوك، ونشأت في الصحراء دول إسلامية قامت بدورٍ كبيرٍ في التاريخ، فهذا الكاتب الفرنسي هوبير ديشان حاكم المستعمرات الفرنسية بإفريقيا حتى سنة 1950 في كتابه «الديانات في إفريقيا السوداء»، يقول: «إنّ انتشار دعوة الإسلام في أكثر الظروف لم يقم على القسر، وإنما قام على الإقناع الذي كان يقوم به دعاة متفرقون، لا يملكون حولاً ولا طولاً إلا إيمانهم العميق بربهم، وكثيراً ما انتشر الإسلام بالتغلغل السِّلمي البطيء من قوم إلى قوم، فكان إذا ما اعتنقته الأرستقراطية ـ وهو هدف الدعاة الأول ـ تبعتها بقية القبيلة.
توصية:
ولا يفوتني قبل طيّ بساط القول في هذا البحث أن أتوجّه بتوصية غاية في الأهمية تتعلق بإحياء ونشر «أرشيف» العهود والمواثيق الدولية في السياق التاريخي الإسلامي، فمن الثابت المعلوم وجود الكثير من هذه المواثيق في مرابع البلدان الإسلامية شرقاً وغرباً، ولكن لم يقع الاهتمام بها كما ينبغي، ومن المؤسف القول: إن الكثير منها موجود في المصادر الأوروبية باللغة اللاتينية، فينبغي المبادرة إلى تحقيق نصوصها، والعناية بتعريب نصوص الدواوين الغزيرة المتوفرة باللغة اللاتينية، كالعمل التوثيقي الكبير الذي قام به العالم الألماني الشهير مولير MULLER بمعية العالمين الإيطاليين كارلو ميلانيزي MILANESI وأليساندرو جيراردي GERARDI، هذا العمل الذي يوثق المعاهدات الدولية بين مدن توسكانا وسط إيطاليا والمشرق المسيحي ثم الأتراك طيلة فترة العصور الوسطى، ويجمع العديد من النصوص والوثائق التي ترجع إلى قرون الحروب الصليبية ابتداء من القرن الحادي عشر، إنها ثروة كبيرة؛ لأنها تتضمن حوالى ثلاثمائة معاهدة ووثيقة حظيت بدراسات نقدية من قبل كثير من المؤرخين الأوروبيين(53)
وفي منتصف القرن السابع عشر الميلادي نَشِطَتْ حركةُ الاهتمام بتأليف الدواوين الخاصة بالمعاهدات نشاطاً قوياً، خاصة بعد حدوث عقد صُلْح وستفاليا [Traités de Westphalie] الذي كان في سنة 1648، والذي أتى عقِبَ نهايةِ حروبٍ حاميةِ الوطيس في أوروبا، واهتمام شعوب هذه القارة بمعرفة حقوق الأُمم التي تنتمي إليها. ومن جميع هذه الروافد ومن غيرها نما في طبقة المثقفين القانونيين الأوروبيين الحسُّ بأهمية تأليف الدَّواوين الخاصة بالمعاهدات وإحيائها وطبعها ونشرها، ووضعها في متناول العامة، خاصة لدى أهل البلاد الثلاثة: فرنسا، وألمانيا، وهولندا.
وفي هذا السياق ألَّفَ وطبع العالمُ الفرنسي فريديريك ليونارد [Frederic Leonard] ستَّةَ مجلدات من ديوان المعاهدات الأول في سنة 1693، وجاء محتوياً على ما لا يقل عن تسعمائة 900 نصِّ معاهدةٍ كانت فرنسا طرفاً فيها. وعنوانه:
Recueil des traités de paix, de trêve, de neutralité, de confédération, d’alliance, et de commerce: faits par les Rois de France, avec tous les princes, et potentats de l’Europe, et autres depuis près de trois siècles.
وفي هولندا، في سنة 1700، أخرج العالم اللاهوتي جاك برنارد [Jacques Bernard] في أربعة مجلدات ديوانَه:
Recueil des traités de paix, de trêve, de neutralité, de suspension d’armes, de confédération, d’alliance, de commerce, de garantie, et d’autres actes publics.
وقد ضمَّ هذا الديوان ما يناهز 1625 معاهدة بلُغاتها الأصلية، بإضافة تراجم فرنسية لها.
وهكذا توالت الجهودُ، فألَّفَ السيد دومونت [Dumont] ديوانه في ثمانية مجلدات، ونُشِر سنة 1728.
هذا، وكانت أعمال العالم [Georg Friedrich von Martens] من أشمل وأجمع تلك الأعمال، حيث بدأ سلسلةً من دواوين المعاهدات التي أُبرمت من سنة 1761 إلى سنة 1801، في سبعة مجلدات، وعنوانه:
Recueil des principaux traités d’alliance, de paix, de trêve, de neutralité, de commerce, de limites, d’échange, etc., conclus par les puissances de l’Europe tant entre elles qu’avec les puissances et États dans d’autres parties du monde, depuis 1761 jusqu’à présent.
ومما امتاز به عمله التوثيقي الكبير هذا أنه لم يتوقف بوفاته؛ وإنما حَظِيَ باهتمام خلَفه الذين طوَّروه إلى أن زاد على مائة [100] مجلد من المعاهدات. ويوجد في مجلداته هذه جمهرة غفيرة من المعاهدات التي كانت البلاد الإسلامية (كالإمبراطورية العثمانية، والمغرب، والجزائر) طرفاً في بعضها(54)
....
المراجع والمصادر والهوامش:
(1)أحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الشعب، القاهرة، 8/39.
(2) انظر «قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم» لابن تيمية، تحقيق عبد العزيز آل حمد، ط 1 سنة 1425هـ/2004م، ص 95.
(3) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة؛ ومسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
(4) انظر البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، 2/42. ط 1، دار إحياء الكتب العربية، 1376هـ/1957م.
(5) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ابن قيم الجوزية، الناشر: دار ابن زيدون، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1410هـ/1990م، 3/12.
(6) ينظر للتوسع: مصطفى بن حمزة، التأصيل الشرعي للتعامل مع غير المسلمين، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الرباط، ص 39 ـ 42.
(7) قصة الحضارة، عصر الإيمان، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، 13/73.
(8) مسند أحمد بن حنبل، المحقق: شعيب الأرناؤوط، عادل مرشد، ط. مؤسسة الرسالة، 2001، 30/17 برقم: 18094.
(9) المصنف في الأحاديث والآثار، المؤلف: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، الناشر: مكتبة الرشد ـ الرياض، ط 1، 1409، تحقيق: كمال يوسف الحوت، 6/483، برقم 33121.
(10) الشيخ عبد الله بن بيه، الإرهاب: التشخيص والحلول، العبيكان، الرياض ـ ط 1، 2007 ـ ص 131.
(11) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها.
(12) Marcel A. Boisard, L’Humanisme de l’Islam, édition Albin Michel, p 212.
(13) سيرة محمد بن إسحاق، تحقيق محمد حميد الله، ط. معهد الدراسات والأبحاث، 2/154 برقم 215.
(14) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ط. دار المعرفة ـ بيروت، 4/98.
(15) أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب، الجلال السيوطي، تحقيق عباس أحمد صقر الحسيني، ص 11 وما بعدها.
(16) انظر الروض الأنف: 4/155، وأحكام القرآن لابن العربي: 4/58.
(17) وهبة الزحيلي، العلاقات الدولية في الإسلام، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1981. ص 136.
(18) المصدر السابق نفسه.
(19) انظر: المبسوط للسرخسي، ط. دار المعرفة ـ بيروت، سنة 1414هـ/1993م، 10/5. وبدائع الصنائع للكاساني، ط. دار الكتب العلمية، سنة 1406هـ/1986م، 7/109.
(20) انظر تفصيل فتاواه: في: فتوح البلدان للبلاذري، طبعة القاهرة، 1959، ص 159 ـ 162.
(21) مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، دار النفائس، ط 2، سنة 1421هـ/2001م، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي، ص 273.
(22) المرجع السابق، ص 274 ـ 275.
(23) صحيح البخاري، كتاب أبواب الجزية والمتابعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر.
(24) أخرجه الترمذي في جامعه، تحقيق بشار عواد معروف، كتاب أبواب السير عن رسول الله (ص) ، باب: ما جاء في الغدر، 3/195 برقم 1580.
(25) سنن أبي داود، تحقيق: شعَيب الأرناؤوط، دار الرسالة العالمية، الطبعة: الأولى، 1430هـ/2009م، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، 4/658 برقم 3052.
(26) يعد محمد بن الحسن الشيباني من الأئمة الأوائل الذين أفردوا مؤلفات خاصة للعلاقات الدولية، تتناول أحكام الجهاد والحرب، وأحكام الصلح والمعاهدات، ينظر كتابه الفذ شرح السير الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد. وينظر: المعاهدات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني: دراسة فقهية مقارنة، عثمان بن جمعة ضميرية، دعوة الحق، س 15، 1417، ع 177.
(27) العناية شرح الهداية، البابرتي، ط. دار الفكر، من دون طبعة ومن دون تاريخ 7/478.
(28) دقائق التفسير لابن تيمية، تحقيق محمد السيد الجليند، 2/38.
(29) الشرح الصغير للدردير على أقرب المسالك، ط. دار الفضيلة، 5/185.
(30) المغني لابن قدامة، ط. مكتبة القاهرة، 9/147.
(31) أحكام القرآن، راجع أصوله وخرج أحاديثه: محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية، بيروت ط 3، 1424هـ/2003م، 2/101.
(32) خصائص المذهب المالكي، الشيخ محمد التاويل، مطبعة أنفو برانت، ط 1، فاس، 2014، ص 106 ـ 108.
(33) الذخيرة للقرافي، تحقيق سعيد أعراب وآخرين، ط. دار الغرب الإسلامي ـ بيروت، ط 1، سنة 1994، 12/123.
(34) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، 6/151.
(35) المغني لابن قدامة، مصدر سابق، 9/144.
(36) قال ابن عرفة: الصبي إن حارب ولم يحتلم ولا أنبت عوقب، ولم يقم عليه حد الحرابة. مواهب الجليل، ط. دار الرضوان ـ نواكشوط، 6/518.
(37) البناية شرح الهداية، بدر الدين العيني، ط. دار الكتب العلمية، 7/93.
(38) الشرح الصغير للدردير، مصدر سابق، 5/186. المغني لابن قدامة، مصدر سابق، 9/145.
(39) رواه أحمد، مصدر سابق، 39/201 برقم 23784.
(40) السيرة النبوية لابن هشام، دار الجيل، 1411هـ، بيروت، 3/31 ـ 35.
(41) نظرة جديدة في سيرة رسول الله ص 192. نقلاً من كتاب «الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة» لمحمد شريف الشيباني، ص 53.
(42) العلاقات الدولية في الإسلام، محمد أبو زهرة، ص 81.
(43) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز، ص 69. وانظر للتوسع: شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، ج 2، و ج 5، تحقيق صلاح الدين المنجد، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، القاهرة، 1971.
(44) منح الجليل شرح مختصر خليل، محمد عليش، دار الفكر، 1409هـ/1989م، 3/222.
(45) تكني العربُ عن الصدور والقلوب التي تحتوي على الضمائر المخفاة بالعياب (ج. عَيْبَة)، وذلك أن الرجل إنما يضع في عيبته حر متاعه وثيابه، ويكتم في صدره أخص أسراره، فسميت الصدور عياباً تشبيهاً. والمقصود هنا أنَّ بينهم صدراً نقياً من الغل والخداع، مطوياً على الوفاء بالصلح. والمكفوفة: المشدودة. تاج العروس للزَّبيدي، ط. دار الهداية، 3/449، النهاية في غريب الحديث والأثر، ط. المكتبة العلمية ـ بيروت، 1979م، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ـ محمود محمد الطناحي، 3/327.
(46) مصنف ابن أبي شيبة، 7/385، برقم 36851.
(47) انظر: طبقات ابن سعد: 1/241. وأبا جعفر الدّيبُلي، ضمن كتاب إعلام السائلين لمحمد بن طولون: 152
(48) انظر: الواقدي 3/1032، والطبقات الكبرى لابن سعد: 1/251
(49) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام: 2/305. وسيرة ابن هشام: 2/406.
(50) الطبقات الكبرى لابن سعد، تحقيق إحسان عباس، ط. دار صادر ـ بيروت، 1968م، 1/264.
(51) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، محمد أحمد الرملي. مطبعة الحلبي، 1938م، 8/10.
(52) تحفة الفقهاء، السمرقندي، 3/507، ولمزيد من التفصيل ينظر: المعاهدات الدولية في فِقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني: دراسة فقهية مقارنة، عثمان بن جمعة ضميرية، ص 27.
(53) قارن بـ: الإسلام والقوى الدولية، حامد ربيع، دار الموقف العربي، القاهرة، ط 1، 1981، ص 102 نقلا عن: Muller , Documenti Sulle Relazioni Delle Citta Toscane Coll- Oriente Cristiano E Coi Turchi, 1966.
(54) للمزيد، يمكن الرجوع إلى مقدمة الكتاب ـ التتمة (الحاشية) الآتي:
Supplément au Recueil des principaux traités d’alliance, de paix, de trêve, de neutralité, de commerce, de limites, d’échange, etc., conclus par les puissances de l’Europe tant entre elles qu’avec les puissances et États dans d’autres parties du monde depuis 1761 jusqu’à présent.