مصطفى النشار | ستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة.
يحتلُ هيغل (1771 ـ 1831م) Fredrick Hegel بين فلاسفة العالم مكانة خاصة جداً؛ حيث يعد أعظم فلاسفة العصر الحديث على الإطلاق، ويمثّل حلقة الوصل بين فلاسفة عصره وفلاسفة العصر الحاضر؛ حيث خرج من عباءته معظم التيارات الفلسفية المعاصرة، سواء تلك التي تأثرت به بشكلٍ إيجابي، وأبرزهم ذلك التيار الذي ينسب إليه الهيغليون الجدد، أو تلك التي قامت على نقد مذهبه الإطلاقي؛ مثل التيارات التحليلية بمختلف صورها والتيار البراغماتي وغيرهما من التيارات الفلسفية المعاصرة.
وبالنسبة لفلسفة الدين، يُعدُّ هيغل واحداً ممن أرسوا قواعد هذا الفرع الجديد من الفلسفة في إطار الفلسفة الحديثة بكتابه الشهير «محاضرات في فلسفة الدين»، فضلاً عن كتاباته الأخرى التي تحلقت حول هذا الموضوع مثل «الكتابات اللاهوتية المبكرة» و«الإيمان والمعرفة» و«الدين المسيحي»، و«ظاهريات الروح».. إلخ.
لقد اهتم هيغل بالدين منذ شبابه المبكر، غير أن اهتمامه بالمحاضرة فيه تعود إلى عام 1821م، حينما نشر زميله في جامعة برلين شليرماخر كتابه «الإيمان المسيحي» في العام نفسه، وكان هيغل يفضلّ عليه زميله في جامعة هيدلبرغ ف. كروزر الذي كتب في هذا المجال كتابا مهما تحت عنوان «الرمزية والأساطير عند الشعوب القديمة لا سيما اليونان» عام 1810 ـ 1812م، ولقد نال شليرماخر هجوماً شديداً من هيغل جراء محاولته في ذلك الكتاب السابق الذكر تأسيس الدين على الشعور(1)
الحقيقة أن اهتمام هيغل بالدين ومحاضراته حوله جعله يطوّر هذه المحاضرات عاماً بعد آخر، واستغرق ذلك حوالى عشرة أعوامٍ من عام 1821 وحتى عام م1831 وهو العام الذي توفي فيه، والمعروف أن هذا الكتاب الذي نشرت فيه هذه المحاضرات نشر عام 1832م أي بعد وفاته بعامٍ. وقد تضمنت هذه السلسلة الطويلة من المحاضرات:
(1) المقدّمة التي عرض فيها لطبيعة الدين بصفة عامة، وعلاقته بالفلسفة وطبيعة فلسفة الدين ومدى حاجتنا إليها. ثم تقسم المقدمة موضوع البحث إلى:
(أ) الفكرة الشاملة عن الدين.
(ب) تطور الفكرة الشاملة أو الدين المتعين.
(ج) القمة التي تصل إليها الفكرة الشاملة أو اكتمالها أو ديانة الوحي أو ديانة القمة.
(2) الفكرة الشاملة عن الدين وتناقش:
(أ) الله أو الدين بصفة عامة.
(ب) العلاقات الدينية.
(ج) العبادة.
(3) الديانة المتعينة وتتألف من:
(أ) ديانة الطبيعة؛ أي الديانة البدائية والديانة الشرقية.
(ب) ديانة الفردية الروحية؛ أي اليهودية وديانة الإغريق.
(ج) ديانة الغرضية؛ أي ديانة الرومان.
(4) ديانة القمة أو الدين المطلق وهو المسيحية، ويناقشها مع تنوع واختلافات بين سلسلة المحاضرات (الله الأب والابن والروح القدس) وهو لا يتصور المسيحية على أنها دين من ديانات أخرى، بل على أنها عودة الفكرة الشاملة إلى ذاتها «خارجة عن التطور المتضمن في الديانة المتعينة، ومحققة للفكرة الشاملة عن الدين بطريقة لا تستطيع الديانات الأخرى أن تقوم بها. وهي تعبّر عن حقيقة الديانات الأخرى وترفع ما كان فيها حقاً»(2)
أ ـ مفهوم الدين عند هيغل:
إنّ مفهوم هيغل عن الدين لا ينفصل عن فهم معاصريه للدين؛ فقد كان عصره هو عصر الإيمان الديني العميق؛ إذ كان لا بدَّ لأي فيلسوفٍ أن يعالج الدين وأن يخصص له مساحة في فكره؛ فهيردر مثلاً نظر إلى الدين على أنه ذروة «الإنسانية» وقمة النمو المتناغم للقوى البشرية(3) ولذا نظر هيغل إلى الدين على أنه «ذلك النطاق للحقيقة الأبدية والراحة الأبدية والسلام الأبدي»، وما ذلك إلا لأننا «في الدين نسحب أنفسنا مما هو زماني مؤقت»، ومن ثَمَّ فإن «الدين هو بالنسبة لوعينا بذلك النطاق الذي منه كل ألغاز العالم تنحل، والتناقضات الخاصة بأعمق مدى للتفكير تجد معناها، وقد تكشفت بعد التحجب، وحيث صوت الألم يخرس». إن كل ما يسعى إليه الإنسان «لسعادته وعظمته وفخاره يجد محوره الأقصى في الدين وفي الفكر وفي الوعي والشعور بالله، ومن ثَمَّ فإن الله هو بداية كل الأشياء وخاتمة كل الأشياء»(4).
رأى هيغل أنه «لما كان الله هو موضوع الدين؛ فإنه لهذا هو حرٌّ حرية مطلقة، وهو يعين ذاته؛ لأن كل الغايات الأخرى تستهدف الالتقاء في هذه الغاية القصوى، وهي في حضرته تتلاشى، وتكف عن أن تكون لها قيمة من ذاتها»(5) ويرى هيغل أنه في الدين وفي الله «يجد الكل تحققه، ففي الدين حيث تنشغل الروح بذاتها، بهذه الغاية تنزل الأثقال عن كاهلها، أثقال كل تناهٍ، وتكسب لذاتها إشباعاً وخلاصاً نهائيين، فهنا لا تعود الروح تربط نفسها بشيءٍ غير نفسها، وهذا محدود، ولكن الارتباط باللامحدود واللامتناهي، وهذه هي العلاقة اللامتناهية، علاقة الحرية وليست علاقة التزمتية أو العبودية. هنا يكون وعيها حرّاً حرية مطلقة، ويكون في الحقيقة وعياً؛ لأنه وعي بالحقيقة المطلقة. وهذا الشرط للحرية في طابعه كشعور هو الإحساس بالإشباع الذي نسميه اليُمن أو البرَكة، بينما كنشاط فإنه ليس لديها شيء أبعد لتفعله أكثر من تجلية جلالية الله وكشف عظمته»(6)
لقد رأى هيغل أن الإنسان يبلغ قمة حريته وقمة سعادته حينما يرتقي لإدراك اللامتناهي اللامحدود؛ أي الله. وأن هذا الوعي بالوجود الإلهي على هذا النحو إنما هو الدين الحقيقى وهو أسمى ما يمكن أن يفعله الإنسان. وقد أكد هيغل ذلك حينما قال أيضاً: «إن الدين يستيقظ في القلب عن طريق المعرفة الفلسفية»(7)، ورغم أن ثمة تعارضاً يبدو أحياناً بين الإيمان الديني والمعرفة الفلسفية التي قد تبدو محددة بالعلة والمعلول أو بالارتباط الدائم بما هو محدد ـ بحسب تعبير هيغل ـ فإنه «على صعيد الدين يمتلئ القلب بما هو إلهي، ولكن من دون حرية أو وعي ذاتي». إن المعرفة الفلسفية تلك هي التي تكسب المرء هذا الشعور بالحرية. ومن ثَمَّ نشأت الحاجة إلى التوفيق بين الدين والشعور الديني الأصيل البسيط مع المعرفة والعقل، وهيغل يرى أنه في الدين المسيحي برزت الحاجة إلى هذا التوفيق على نحو أكثر مما يوجد في الديانات الأخرى؛ لأسباب شتى، منها:
1 ـ إن الدين المسيحي كانت له بدايته الأصلية الثنائية المطلقة أو الانقسام. وقد انطلق من ذلك الشعور بالمعاناة حيث يمزق الوحدة الطبيعية للروح، ويقطعها إرباً، ويدمر السلام الطبيعي. وفيه يبدو الإنسان شريراً من مولده ويكون في حياته الجوانية في تناقض مع نفسه.
2 ـ والتوفيق والحاجة إليه تنكشف لأقصى درجة من أجل الإيمان، ولكن على نحو لا يسمح للإيمان بأن يكون مجرد نوع بارد؛ وذلك أن الروح قد خلفت بساطتها وراءها ودخلت في صراع باطني، إنها كخاطئة هي أيضاً في تعارض مع الحق. إنها تنسحب، تغترب عنه، والأنا في هذه الحالة من الانقسام ليست هي الحقيقة، ولذا فهي تطرح كمحتوى مستقل للفكر العادي، ونجد أن الحقيقة أولاً تعلو السلطة.
3 ـ وعندما يحدث ذلك أكون قد انتقلت إلى عالم عقلي فيه طبيعة الله وخصائص وأحوال الفعل التي تمت إلى الله تمثل للمعرفة.. وفي الشعور بالإثم وفي التأمل، في هذا فإن حريتي تنكشف لي بوضوح. ولهذا فإن المعرفة القبلية هي عنصر جوهري في الدين المسيحي نفسه. ففي الدين المسيحي نفسه يتوجب عليَّ أن أستبقي حريتي أو بالأحرى أصبح فيه حرّاً؛ ففيه يكون خلاص النفس، فيه يكون التفكير بالنسبة للفرد كفرد وليس النوع فحسب غاية جوهرية. هذه الذاتية هي المبدأ الحق للمعرفة العقلية. وهكذا نجد المعرفة العقلية هي المميز الأساسي في الدين المسيحي(8)
لقد رأى هيغل في ختام النصّ السابق أن المسيحية هي الديانة التي تمكِّن الفرد من ممارسة حريته في التفكير والفعل، ومن ثَمَّ فقد عدّها ديانة المعرفة العقلية، ورأى أن المعرفة العقلية هي المميّزة لها.
ولا يظن أحد أن هيغل هنا يتحدّث عن اللاهوت المسيحي بقدر ما يتحدث عمَّ يتصوره فلسفياً جوهر الدين المسيحي، إن هذا هو ناتج تحليله الفلسفي للدين المسيحي وليس للاهوت كما كان سائداً في عصره؛ لأن الواقع أن هيغل لم يكن راضياً عن اللاهوت في عصره. حيث كانت هناك على الأقل أربعة أنواع من اللاهوت قابلها هيغل باستهجان، حصرها الفيلسوف الهيغلي ميخائيل أنوود فيما يلي(9):
1 ـ اللاهوت العقلي الذي عبّر عنه مفكرو عصر التنوير من أمثال «فولف»(10)، الذي حاول البرهنة على وجود الله وحقائق دينية أخرى، فذلك يستغرق في نظر هيغل أكثر مما ينبغى وأقل مما ينبغى عن الدين، فهو يفترض سلفاً تمثلات دينية (لا سيما لله) بدلاً من اشتقاقها على نحو سليم، ومع ذلك فهو يعمل على إفقار مضمون الدين. إنه ينظر إلى الله وحده على أنه موضوع، ولا يضع اعتباراً لوحدتنا معه ووحدته معنا في الدين.
2 ـ رد كانط الدين إلى الأخلاق لا سيما في كتابه: «الدين في حدود العقل وحده».
3 ـ نظرة شليرماخر وياكوبي التي ترى أن الدين يقوم على الشعور أو الوجدان أو المعرفة المباشرة. وهذه النظرة تجعل الدين فيما يرى هيغل يضع خطوطاً فاصلة في مكان فارغ.
4 ـ اللاهوت التاريخي الذي يكتفي بسرد النظريات الدينية من دون أن يعرض لحقيقتها أو عقلانيتها. ومثل هذا اللاهوت لا يهتم إلا بالدين وليس بالله.
والطريف أنه رغم موقف هيغل النقدي من هذه الصور من اللاهوت في عصره؛ فإن فلسفته تعتبر حتى من وجهة نظره «ضرباً من اللاهوت»، فهو في فلسفته يهتم كثيراً بالله، كما أن الدين موضوعه الله؛ لكن فلسفة الدين عنده تختلف عن اللاهوت من النوع الأول السابقة الإشارة إليه، وكذلك عن النوع الثاني والثالث، من حيث إنها تهتم بالدين من حيث هو كذلك كطريق لتمثل الله، وبوصفها هي نفسها طوراً في تطور الله، وطالما أن وعينا الديني وعبادتنا هي نفسها مرحلة في الوعى الذاتي لله، وهي كذلك تتضمن العقل والتصور (أو الفكرة الشاملة) لا الفهم فحسب، فهي تختلف عن النوع الرابع من اللاهوت من حيث إنها تهتم بحقيقة وعقلانية الأديان(11).
ب ـ علاقة الفلسفة بالدين:
ومما سبق نكتشف أن فلسفة هيغل والدين لديه يكادان يكونان شيئاً واحداً، وهو نفسه يكشف عن مدى ذلك التقارب بينهما لديه حينما يقول: «إنهما كذلك من حيث الموضوع؛ فموضوع الدين وكذلك الفلسفة هو الحقيقة الخالدة في موضوعيتها (الله) وليس شيئاً غير (الله)، تفسير (الله). إن الفلسفة ليست كلمة عن العالم؛ بل هي المعرفة بذلك الذي ليس من العالم، إنها ليست معرفة تهتم بالكيان الخارجي أو الوجود التجريبي والحياة، بل هي معرفة ما هو أبدي، ما هو (الله)، وما يصدر عن طبيعته»(12)
وإذا كان ذلك هو الموضوع المشترك بين الفلسفة والدين، فإن عمل الدين كعمل الفلسفة، وعمل الفلسفة كعمل الدين؛ حيث «إن الفلسفة» لا تعمل شيئاً سوى أن تفض نفسها وهي تفض الدين، وهي تفض نفسها تفض الدين وتكشفه»(13) وهكذا ففي رأي هيغل «يصبح الدين والفلسفة شيئاً واحداً، فالفلسفة في ذاتها هي في الواقع عبادة؛ إنها ديانة؛ فبالطريقة نفسها تتخلى عن الأفكار والآراء لكي تنشغل (بالله). ومن ثَمَّ فإن الفلسفة تتوحد وتتطابق مع الدين، والفرق هو في طريقة فريدة متميزة عن طريقة النظر للأشياء والتي تُسمى ديناً على هذا النحو. والشيء المشترك بين الدين والفلسفة هو أنهما دين، وما يميّزهما الواحد عن الآخر هو مجرد نوع وطريقة الدين التي نجدهما في كل منهما»(41)
إذن، فإن الدين والفلسفة يتطابقان من حيث الموضوع المشترك بينهما وهو «الله»، ولعل هيغل يذكرنا هنا بمعظم الفلاسفة في تاريخ الفلسفة الإلهية من قبل، فمنذ أفلاطون وأرسطو نجد أنهما يريان أن الموضوع الأساس للفلسفة، هو تأمل الحقيقة خارج نطاق الأشياء وخارج هذا العالم المحسوس، لقد رأى أرسطو أن الوجود الإلهي هو الموضوع الرئيسي للفلسفة ومن ثم فإن تأمل الإله هو المهمة الأسمى للفيلسوف، وبقدر ما يقترب الإنسان العادي من ذلك يكون فيلسوفاً ومدركاً للوجود الإلهي. ولعل هذه النظرة ذاتها هي ما سادت الفكر الفلسفي طوال العصور الوسطى لدى فلاسفة اليهودية والمسيحية والإسلام. فلقد رأوا جميعاً أن الموضوع الأسمى للفيلسوف هو «الله»، ومن ثم ففلسفاتهم الدينية تكاد توحد من هذه الزاوية بين الفلسفة والدين. إن موضوعها واحد هو «الله».
في الحقيقة إنه رغم أن هيغل حاول في الفقرة التالية من «محاضراته في فلسفة الدين» إقرار بعض الفروق بين الفلسفة والدين، بعيداً عن هذا المحتوى المشترك لهما؛ فإنه من حيث لا يشعر عاد إلى التأكيد على وحدتهما(15)
ولعل السؤال الآن هو: لو أن للدين مضمون الفلسفة نفسه كما أشرنا عند هيغل لكن في صورة أدنى، فلماذا نحتاج إلى الدين؟! وإجابة هذا السؤال الذي جاء بلسان أنوود أحد تلاميذه المعاصرين، له عدة إجابات عند هيغل لخصها تلميذه فيما يلي(16):
1 ـ إنّ الدين كان في فترات ـ معينة مثل المسيحية المبكرة ـ يعرض حقيقة ما مثل الحرية والمساواة بين البشر بطريقة أكثر كفاية وإقناعاً من الفلسفة المعاصرة له.
2 ـ وحتى عندما لحقت الفلسفة بالدين وعرضت الحقيقة نفسها بمصطلحات فلسفية، فإن ما فعلته كان يفترض سلفاً ما أنجزه الدين. والتقدم الفلسفي في فترة من الفترات بصفة عامة أو عند الفرد يفترض سلفاً التقدّم الديني.
3 ـلا يمكن الاستغناء عن الدين حتى لو لحقت به الفلسفة، فالفلسفة مقصورة أساساً على فئة قليلة من الناس، كما أنها لا هي جذابة ولا معقولة عند معظم الناس في صورتها المجردة. أما الدين فهو ـ على العكس ـ يجذب خيال الجماهير، ويفتنها، ويعرض لهم حقائق عميقة عن الكون ومكانهم فيه في صورة جذابة، حتى إن الفيلسوف لن يكون مصيباً إذا عدّ إلى أن يعتبر المحاضرات والمؤتمرات بديلاً كافياً عن العبادة العامة.
4 ـ يخدم الدين أغراض النظام الأخلاقي والسياسي، غير أن الدين والتكوين السياسي لا بدّ أن يكونا في تناغم وانسجام، ما دام ما يصوره الإنسان من قوانين ليس له سوى تأثير ضئيل على الضمير الديني.
وفي هذه النقطة الأخيرة بالذات يؤكد هيغل بالفعل أن الدين مهم جداً لدعم الدولة؛ انظر إليه يقول: «إن الدولة يجب أن تستقر على الدين؛ ففي الدين تجد أولاً أي يقين مطلق وأمان مطلق لميول الناس، والواجبات التي يجب أن يؤدوها للدولة»، فضلاً عن «أن الإلزامات الأخرى غير الإلزام الديني يمكن التدخل فيها بالانتقاص من القوانين وتنظيمات الدولة، أو الاستخفاف بالأفراد الذين يحكمون والذين هم في السلطة.. إن الدين هو وحده الذي يخمد كل هذا النقد الذاتي، ويزن المبررات ويغنيها، ويبث في هذا اللاتناهي الإلزام المطلق.. بالاختصار: إن تبجيل (الله) أو الآلهة يؤسس الأفراد والأُسر والدول ويحفظهم، بينما احتقار (الله) أو الآلهة يفكك أساس القوانين والواجبات، ويحطم روابط الأُسرة والدولة ويؤدي إلى دمارها»(17)
ولعل هذا التقدير الشديد من هيغل ـ للدين ودوره في حماية الأفراد والأسرة والدولة ـ يذكرنا بما قدمه أفلاطون في محاوره «القوانين» من دولة مثالية تقوم على أمرين اثنين هما: القانون والدين، وبلغ من احترام أفلاطون لدور الدين وأهميته للدولة أن سن قانوناً يحرِّم الإلحاد وينصُّ على معاقبة أي فرد خارج على الإيمان الديني بأي صورة من الصور(18). لقد اتفق هيغل مع أفلاطون على أهمية الدين لاستقرار الدولة، لكن هيغل لم تأته أبداً جرأة أفلاطون في هذه الدعوة الغريبة بمعاقبة الملحدين ومحاربة الإلحاد. لقد اكتفى هيغل بالبرهنة قدر طاقته على «أنه عندما يكون الدين هو الأساس فإن ممارسة الصوابية يحقق الاستقرار، وأن تحقيق الواجب يصبح آمنا»(19)، وأن القوانين من ثَمّ يمكن أن تحترم طالما تتوافق مع الدين ولا تتعارض معه. فالإيمان الديني هو في رأيه أساس الإلزام المطلق، وهو الذي يحمي الأفراد والأُسرة والدولة من الضياع والدمار.
ج ـ الله عند هيغل:
إنّ جوهر الفلسفة والدين إذاً عند هيغل كما أشرنا فيما سبق هو (الله)، ومن ثَمَّ فإن إدراك حقيقة الله من وجهتي النظر الدينية والفلسفية مسألة ضرورية ولا غنى عنها. وإن كان الأمر بالنسبة للدين مسلّم به، فإنه من ناحية الفلسفة يحتاج إلى جهد الفيلسوف حتى يصل إلى هذا اليقين الهيغلي بأن الله هو الحقيقة المطلقة.
إنّ بداية الدين ـ عند هيغل ـ «هي التصور الذي لم يتطور بعد للدين نفسه، ألا وهو (الله) هو (الحقيقة) المطلق، حقيقة كل شيء، وأن الدين وحده هو المعرفة الحقة بشكل مطلق.. وبالنسبة لنا نحن الذين من قبل نمتلك الدين، فإن ماهية الله هي شيء نحن على ألفة به، حقيقته الجوهرية ماثلة في وعينا الذاتي»(20).
وإذا كان ذلك هو منظور الدين بالنسبة لله عند المتدين، فماذا عنه عند المتفلسف؟!
يجيبنا هيغل بقوله: «إذا ما نظرنا إلى ذلك من الناحية العلمية، فإن (الله) هو أولاً اسم مجرد عام.. وإن فلسفة الدين التي هي التكشف والتي هي الاستيعاب لله موجودة، وعن طريقها فحسب تكون معرفتنا الفلسفية بطبيعة (الله)»(21).
وعلى ذلك فإن السؤال هو: ما هي طبيعة الله كما تكشفها المعرفة الفلسفية من وجهة نظر هيغل؟!
يقول: «إن (الله) هو (الكلي).. هو تام في ذاته، هو وحدة مطلقة مع ذاته.. إن الله هو الكلي، هو العيني، هو الحافل بالمحتوى، إن (الله) هو (الواحد) الأحد، وليس الواحد المقابل لآلهة متعددة بل لا يوجد إلا (الفرد الصمد) ألا وهو (الله).. إن (الله) هو (كليته هو)، والذي فيه لا يوجد حد.. والذي فيه لا يوجد تناهٍ، والذي فيه لا توجد جزئية. إنه (الوجود) بألفٍ ولام التعريف، المطلق المكتفي بذاته.. إنه الحقيقة الحقة الوحيدة، وكل شيء عداه ليس حقيقياً في ذاته، ليس له وجود حقيقي من ذاته. إنه الحقيقة المطلقة الوحيدة.. ومن ثَمَّ فإنه (هو) (الجوهر) المطلق...»(22).
ولا شك أن هذا التصور التجريدي لماهية الله بهذه الطريقة إنما يبدو فيها تأثر هيغل الواضح باسبينوزا الفيلسوف الهولندي الشهير (1632 ـ 1677) الذي كان يرى أنه لا يوجد إلا جوهر واحد، وقد عرفه بأنه ما هو في ذاته ويجري تصوره من ذاته، وتصوره لا يحتاج إلى تصور من أحدٍ غيره»(23) وقد اعترف هيغل نفسه بأن هذا التصور بهذه الطريقة التجريدية للإله إنما هو بالفعل «نزعة اسبينوزية»(24).
ولكن السؤال هو: كيف الطريق إلى إدراك هذا الواحد ـ الكلي ـ المطلق؟!
إنه لا طريق إلا الشعور بالإيمان في التصور العادي، لكنه بالنسبة لمن يفكرون ويتأملون ويتفلسفون سيختلف؛ لأن طريقهم هو التفكير، والتفكير في الله ـ فيما يقول هيغل ـ «يعني أن نرتفع عمَّ هو حسي، عمَّ هو خارجي، عمَّ هو جزئي، إنه يعني أن نرتفع إلى ما هو خالص، إلى ذلك الذي هو في وحدة مع ذاته، إنه تجاوز فوق (أو وراء) الحسي، وراء ما ينتمي إلى مجال الحواس، إلى النطاق الخالص (للكلِ). وهذا النطاق هو (التفكير)»(25).
ولا شك أن حديث هيغل هنا يتقاطع مع حديث معظم الفلاسفة الباحثين عن الألوهية منذ فلاسفة منف في مصر القديمة حتى أفلاطون وأرسطو ثم فلاسفة الدين المحدثين والمعاصرين، باستثناء كانط الذي نهانا عن هذا التفكير المجرد في طبيعة الله والبرهنة على وجوده.
والطريف أن هيغل يتفق مع هؤلاء الفلاسفة أيضاً ـ وخاصة مع أرسطو ـ في أن طبيعة (الله) هي التفكير، كما أن طبيعة المفكر فيه هي كذلك التفكير. يقول هيغل: «إن التفكير وحده هو نشاط (الكلي)؛ إنه (الكل) في فعاليته، في إجراءاته.. وهذا الكلي الذي يمكن أن ينتجه (التفكير) والذي هو من أصل (التفكير) يمكن أن يكون مجرداً تماماً. إذاً فإنه ما يتعذر تقديره، إنه اللامتناهي، إنه محو كل حد، إنه محو كل تجزيئي»(26).
ولا ينبغي أن يفهم من ذلك إلا أن المفكِّر والمُفكَّر فيه ماهيتهما الفكر، لكن بينما المفكر هو مجرد شخص، فإن المُفكَّر فيه ـ الذي طبيعته وفعاليته هي التفكير أيضاً ـ إنما هو الله بهذه الصفات المجردة، فهو الواحد، وهو المطلق وهو الكلي، وهو اللامتناهي، وهو الذي تنمحي معه الجزئيات.
أقول: لا ينبغي أن يفهم من ذلك أي توجه لهيغل نحو عقيدة وحدة الوجود بشكل مطلق؛ لأنه ينكر ذلك بوضوح؛ إذ إن وحدة الوجود على هذا النحو «ليست موجودة في أي دين»(27). والأفضل في رأيه «على نحو أكثر دقة تسميتها فكرة «الجوهرية». إن الله هنا يتميّز في البداية على أنه (جوهر) فحسب. إن (الذات) المطلقة، أيضاً (الروح) تظل جوهراً.. وهي أيضاً محددة ذاتياً كذات»(28).
إنّ هيغل ينفي وحده الوجود المطلقة بحديثه عن ما أطلق عليه: المعرفة المباشرة والتوسط، وحينما قال بوضوح شديد: «إنني (أنا) و(الله) مختلفان الواحد عن الآخر، فإذا كان الاثنان واحداً، إذاً ستكون هناك علاقة مباشرة، سيكون هناك تحرر من أي توسط، ستكون هناك وحدة من دون علاقة؛ أي وحدة من دون تمايز أو تباين أو فرق.. ولما كان الاثنان مختلفين فإن (الواحد) ليس ما عليه (الآخر)»(29).
إنّ المعرفة الفلسفية بالله تقتضي في نظر هيغل هذا التمايز بين العارف والمعروف، بين الذات الإنسانية والذات الإلهية. يقول هيغل: «إننا حينما نتناول معرفة الله، نكون مهتمين بشكلٍ مباشرٍ بما له شكل قياس. إن الاثنين مختلفان، وتوجد وحده حيث هما في (واحد) من خلال (ثالث)، هذا هو القياس.. هنا معرفة (الله) تنطرح كمعرفة تتم بالتوسط»؛ ولكن ليس معنى ذلك الإخلال بواحدية الإله؛ لأن «ذلك الذي هو واحدٌ (الواحد) لا يتعرض للتوسط ولأن أدلة وجود الله تمثل معرفة (الله)؛ لأنها تحتوي على توسطية داخل ذاتها هي»(30).
وهذا التمايز الذي أقره هيغل بين الذات الإلهية والذات الإنسانية العارفة إنما يعني بالضرورة أنه يرفض وحدة الوجود بالشكل المتعارف عليه، وإن نادى بأن طبيعة الله هي المطلق وهي الكل، وهو الذي تنمحي معه الجزئيات. فكل هذه تعبيرات قصد بها إثبات الجوهرية الإطلاقية لله، ولم يقصد بها أن ذاته الكلية تحتوي هذه الجزئيات أو تبدو من خلالها!
إنّ حديث هيغل هنا عن معرفة الله عبر القياس والتوسط لا يعني أبداً أنه ممن يفضلون هذه البراهين العقلية على وجود الله؛ إذ إنه في مطلع محاضراته عن أدلة وجود الله قد قال صراحة: «إن أدلة وجود الله هي ـ إلى مدى بعيد ـ تقع في قبضة التشكيك فيها، حتى إنها تعد شيئاً عتيقاً أكل عليه الدهر وشرب، وإنها تنتمي إلى ميتافيزيقا أيام ولت، إنها صحراء قاحلة قد هربنا منها»(31). ولا شك أن هذه العبارة من هيغل تذكرنا بما قاله كانط عن هذه الأدلة وانتقاداته لها، لكن ما البديل عند هيغل؟!
إنّ البديل عند هيغل هو «الإيمان الحي» وهو «الشعور الدافئ للدين» على حد تعبيره. وهذا الإيمان الحي والشعور الداخلي بوجود إلهٍ من منظور ديني ليس بحاجة إلى أدلة عقلية لإثبات وجوده، «فالبرهنة على الحقيقة الدينية قد فقدت الكثير من المصداقية»(32)، فتلك الأدلة العقلية على وجود الله قد أصبحت معروفة، وهي قد «عفّى عليها الدهر»، وهي تُعدُّ في نظر هيغل «أمراً لا دينياً»(33). لقد كانت هذه الأدلة لها ضرورتها لإشباع الفكر والعقل، لكن هذه الضرورة قد اتخذت في الثقافة الحديثة وضعاً مختلفاً تماماً عمّا كانت عليه في السابق»(34).
إنّ هيغل يستند في إيمانه العقلي بوجود الله إلى الشعور الجواني الذي لا يطرح فيه التناقض بين الفكر والإيمان؛ لأن هذا التناقض من شأنه أن يجعل الانقسامات أشد إيلاماً في أعماق الروح»(35).
المراجع والهوامش:
(1) ميخائيل أنوود: معجم مصطلحات هيغل، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المشروع القومي للترجمة (186)، نشره المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، من دون تاريخ، ص 329.
(2) المرجع السابق، ص 330 ـ 331.
(3) المرجع السابق، ص 472.
(4) فريدريك هيغل: محاضرات في فلسفة الدين، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة، مصر 2001م، الحلقة الأولى، مدخل إلى فلسفة الدين، ص 23.
(5) المصدر السابق، ص 24.
(6) المصدر السابق نفسه.
(7) المصدر السابق، ص 25.
(8) المصدر السابق، ص 41 ـ 42.
(9) ميخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيغل، سبقت الإشارة إليه، ص 472 ـ 473.
(10) هو البارون ڤون وولف (فولف) Von Wolff فيلسوف ألماني، وُلد في 24 يناير 1679، وتوفي في 9 إبريل 1754م، وكان بمثابة المتحدث الرسمي باسم: التنوير الألماني، وهو من تلاميذ الفيلسوف الألماني الشهير ليبنتز.
(11) المصدر السابق، ص 473.
(12) هيغل: محاضرات في فلسفة الدين، الترجمة العربية، سبقت الإشارة إليها، ص 49.
(13) المصدر السابق نفسه.
(14) المصدر السابق، ص 49 ـ 50.
(15) انظر: المصدر السابق، ص 51 ـ 52.
(16) المرجع السابق، ص 470 ـ 476.
(17) هيغل: محاضرات في فلسفة الدين، الحلقة الثانية من الترجمة العربية لمجاهد عبد المنعم مجاهد (فلسفة الدين)، دار الكلمة في القاهرة، 2002م، ص 28.
(18) انظر كتابنا: مدخل إلى الفلسفة السياسية والاجتماعية، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان ـ الأردن، الطبعة الأولى، 2012م، ص 162. وراجع: أفلاطون: القوانين (ك 12) ترجمة محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، ص 162 وما بعدها.
(19) هيغل، المصدر السابق نفسه.
(20) المصدر السابق، ص 13.
(21) المصدر السابق نفسه.
(22) المصدر السابق، ص 14 ـ 15.
(23) انظر هامش المترجم في الصفحة السابقة نفسها، ص 15 من النص.
(24) هيغل: المصدر السابق، ص 15.
(25) المصدر السابق، ص 17.
(26) المصدر السابق نفسه.
(27) المصدر السابق، ص 19.
(28) المصدر السابق نفسه.
(29) المصدر السابق، ص 115.
(30) المصدر السابق، ص 116.
(31) فردريك هيغل: محاضرات فلسفة الدين، الحلقة الثامنة (أدلة وجود الله)، الترجمة العربية، مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة في القاهرة، 2004م، ص 46.
(32) المصدر السابق نفسه.
(33) المصدر السابق نفسه.
(34) المصدر السابق، ص 46 ـ 47.
(35) المصدر السابق، ص 47