محمد الشيخ | باحث وأكاديمي من المغرب
ماكس فيبر (1864 ـ 1920م)، مفكر اجتماعي وسياسي، شغل الناس ميتاً أكثر مما شغلهم حيّاً؛ إذ ما زالت أطروحاته الفريدة في السلطة ونشأة الرأسمالية وحركة الدنونة والخروج «من» [وليس «عن»] الدين ونقد الحداثة ومنهج العلوم الاجتماعية... تثير اهتمام الباحثين: علماء اجتماع وعلماء اقتصاد وفلاسفة ومفكرين دينيين... ـ أيما إثارة. ولا يكاد يمضي عام من الأعوام حتى يخرج على الناس باحث بتأويل جديد لفكره، أو بقراءة مسألة تُعدُّ مهملة من نظره، أو بإعادة النظر في إشكال من إشكالات فكره عُدَّت من «سقط» فكره لأمدٍ طويلٍ، أو حتى إعادة كتابة سيرته...
أسوق هذا الكلام بمناسبة حديثنا هذا عن المفكر الاجتماعي الألماني الكبير ماكس فيبر الذي لا تُمَل قراءته، والذي تكاد تكون قد اُوِّلَت أنظاره بقدر عدد القارئين الذين قرأوه. ولا غرابة في ذلك؛ فإن المؤتمر العالمي لعلم الاجتماع المنعقد في مونتريال بكندا عام 1998 ـ الذي أجرى تصنيفاً بأهم الكتب العشرة الأوائل التي شكّلت ميراث علم الاجتماع في القرن العشرين، والتي كانت ذات الأثر العميق في علماء الاجتماع بشهادتهم ـ قد صنّف كتابه «الاقتصاد والمجتمع» في المرتبة الأولى، وكتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» في المرتبة الرابعة، فكان عالم الاجتماع الوحيد من بين أشهر علماء الاجتماع العالميين الذي حَظِيَ بشرف المرتبة الأولى، فضلاً عن أنه ذُكِرَ له كتابان في اللائحة نفسها. وقد عدّ الكثيرون من نقاد علم الاجتماع كتابه الثاني من أهم «المراجع المقدسة» Bibles في مضمار العلوم الاجتماعية.
والحال أنه إن نحن صَدَّقْنَا قول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر Martin Heidegger: «تُقاس خصوبة أي فكر عظيم بمدى التناقضات ـ [وليس الاتساقات؛ لأن من شأن اتساقات مفكر ما أن تكون مؤذنة بموت فكره، فالفكر الذي لا تعارض فيه ولا تناقض: فكرٌ ميت؛ بحكم أن الحياة مبنية على التدافع لا على التماثل، وقد اعترض أحد أفراد حاشية أميرة السويد كرستينا على الفيلسوف الألماني لايبنتز Leibnitz الذي آمن بمبدأ الاختلاف والتدافع هذا، فما كان من الفيلسوف إلا أن يستأذن الأميرة في أن يطلب من خدمها أن يأتوه من حديقة القصر بورقتين من شجرة واحدة تتماثلان في كل شيء. وكان أن أعجزهما ذلك !] ـ [التناقضات] التي نقف عليها في فكره؛ لأنها دالة على فكر ما يفتأ يتطور ويحيا الحياة»، فإننا نقف ـ في فكر ماكس فيبر ـ ولا سيما في تحليلاته للإسلام ـ التي تهمنا هنا في العالم الإسلامي أيما أهمية ـ على ما يمكن أن نعدّه «إشكالات» في فكر هذا العالم.
1 ـ اعتراضات عامة على مزاعم ماكس فيبر
تقوم نظرية ماكس فيبر في وجود «أشباه ونظائر» بين «الأخلاقية الكالڤينية» و«روح الرأسمالية» على استبعاد فكرة واستحضار أخرى:
فأما ما تستبعده نظريته، فهو أمران:
ـ الربط الميكانكي بين «خصائص ماهوية» للمعتقدات مفترَضة و«آثار اجتماعية» لها متوقَّعة؛ مثل القول: إن نزوع العقيدة الكاثوليكية إلى «استنكاف الحياة الدنيا»، وبلغة أبي حيان التوحيدي: الدينونة؛ بمعنى الإقبال على «الدين» والإدبار عن «الدنيا» ـ ونزوع العقيدة البروتستانتية إلى «الإقبال على الحياة المادية»، وبلغة أبي حيان التوحيدي: «الدينونة»؛ بمعنى الإقبال على «الدنيا» والإعراض عن «الدين» ـ و«الانفتاح على الحياة وعلى مسراتها وعلى مباهجها» هو الذي جعل البروتستانتية تتعالق مع الرأسمالية، وجعل الكاثوليكية تتخاصم معها(1)
ـ تضبيب مفهوم «الرأسمالية» لكي يشمل كل نزوع تجاري؛ ذلك أن ماكس فيبر يؤكد على أنه لا يقصد بالرأسمالية سوى الرأسمالية بمعناها الغربي الحديث؛ أي الرأسمالية على الطريقة الأمريكية / الغربية: «من البديهي، بحسب طرح المسألة، أن الأمر لا يتعلق هنا إلا بهذه الرأسمالية الأمريكية / الغرب أوروبية. لقد كانت هناك «رأسمالية» في الصين وفي الهند وفي بلاد بابل، وفي العصر القديم والعصر الوسيط على السواء. غير أنها افتقدت إلى ذلك الإيثوس [الأخلاقية]؛ أي إلى ذلك النظام الأخلاقي المميز»(2)؛ معنى هذا أن ماكس فيبر لا يستهدف الرأسمالية بالدرجة الأولى من حيث هي نظام اقتصادي، بقدر ما يقصدها من حيث هي «نظام أخلاقي»؛ ومن هنا جاء حكمه على الرأسمالية غير الغربية بأنها تفتقد إلى «إيتوس» الرأسمالية الغربية. ذلك أن هذه الرأسمالية هي ـ بالأولى والأحرى والأجدر ـ «أخلاقية»؛ أي سلوك معين مستملى من تصور مقدس، أو قل: هي جملة قواعد سلوك مستوحاة مما هو ديني. وهذه القواعد السلوكية الحياتية إنما مدارها على الأفكار التالية: «الرغبة الفطرية في الاكتساب»، «طلب الربح»، «إرادة ربح أقصى ما يكون من المال» ـ وهي «أخلاقية» ـ أي طريقة في السلوك وفلسفة في العيش ـ يرى ماكس فيبر أنه لا علاقة لها في حدِّ ذاتها بالرأسمالية(3).
ويؤدي هذا الأمر إلى قلب الصلة الكلاسيكية بين الرأسمالية والأخلاق؛ ذلك أنه بدل القول: «إن الرأسمالية تنتج أخلاقياتها»، ينبغي عكس القضية والقول بالضد: «إن الأخلاقيات تنتج رأسماليتها». هذا مع تقدم العلم أنه يعني بإعماله مفهوم «روح الرأسمالية» بالأولى: الكسب من أجل الكسب، وليس من أجل تلبية حاجيات العيش المادية(4).
على أن ثمة أولاً اعتراضات عامة على مزاعم ماكس فيبر بوجود صلة بين أخلاق الكالڤينية النسكية وتطور ذهنية الرأسمالية، صاغها كبار العلماء الاقتصاديين والاجتماعيين الغربيين أنفسهم (آخرها مثلاً اعتراضات عالم الاقتصاد الفرنسي فرنسوا فاتشيني François Facchini)؛ إذ يرى فاتشيني أن في أطروحة ماكس فيبر تتوسل الثقافة بالمذهب الديني، وذلك في التأثير على الإنجازات الاقتصادية. وهكذا يرى ماكس فيبر ـ مثلاً ـ أن الهندوسية شكلت «عائقاً» أمام التنمية الرأسمالية، بينما البروتستانتية أسهمت في تنميتها. على أن ماكس فيبر لم يقترح «تفسير عِلِّيا» من الصنف: «أ علة ب»؛ ولكنه يستعمل مبدأ علية دائري من النمط: «أ علة ب التي هي علة أ». ذلك أنه بقدر ما تؤثر أخلاقية الحياة في الاقتصاد؛ فإنها تتأثر بدورها بالعوامل الاقتصادية والسياسية داخل حدود جغرافية وسياسية واجتماعية معينة. فالديني يتعلق بالعلاقات الاقتصادية التي تتأثر به بدورها؛ إذ ثمة علاقة تأثير وتأثر، أو لنقل: علاقة «تآثر». فليس ثمة «علة» و«معلول»، وإنما ثمة «تعالل» يصير فيه الدين تارةً «علة» وتارةً «معلولاً» بحسب الظروف(5)
وفي كتاب «الأخلاقية البروتستانتية وروح الرأسمالية» طوّر ماكس فيبر استدلاله ثلاثة أطوار:
في طور أول قال ماكس فيبر: إن الأخلاق الطهرانية ـ بمعنى جملة من الاستعدادات تطبع الفعل بتوجيهها ـ من غير أن تكون «علة» التطور الاقتصادي الوحيدة، فإنها أسهمت في ازدهاره؛ وذلك لأنها حملت الإنسان على تصور الشغل بحسبانه رسالة دينية، وجعلته يتصور المثال المسيحي على صورة «الناسك»، ليس هذا فحسبْ؛ وإنما أيضاً على صورة «العامل» «الشغيل» المنخرط في المدينة. فكانت أول فرضية لماكس فيبر هي أن القيم الطهرانية تيسر الشغف بالكد والكدح، وتشجع روح المبادرة والرغبة في النجاح المهني، هذا بينما الكاثوليكية تشجع الإنسان على الإدبار عن الدنيا (الدنيوية) وعلى الإقبال على الله (الدينونة).
وفي طورٍ ثانٍ طوّر ماكس فيبر تفسيره بأن أضاف بأن الإصلاح الكالڤيني فرض أخلاقية الشغل بوصفه غاية في ذاته، وذلك على حساب أخلاقية الوهب والإحسان؛ ذلك أنه رأى أن أخلاقية الأخوّة تتعارض تعارضاً عميقاً مع حركة تطور الرأسمالية.
وفي طورٍ ثالثٍ فسّر ماكس فيبر إعطاء البروتستانتية قيمة عليا للشغل بأطروحة كالفن عن القضاء والقدر؛ ذلك أن كالڤن يرى أن النجاح هو «أمارة» من الرب على الخلاص في الحياة الآخرة، وأنه بتعاطي الإنسان كل التعاطي للشغل ـ جسداً وروحاً ـ فإنه لا يني يبرهن على أن الله إنما اصطفاه، بل إن عبادة الله الحقة لا تتم إلا بالعمل.
تأسيساً عليه يرى فرنسوا فاتشيني أن أطروحة ماكس فيبر ـ وإن هي كانت أطروحة جذابة ـ لا تطابق الحقيقة، وذلك لا من حيث الوقائع التاريخية، ولا من حيث الأفكار اللاهوتية:
1 ـ من جهة أولى، ثمة أمثلة مضادة: منها: إن اسكتلندة الكالڤينية كانت أقل تطوراً من إنجلترا الإنجليكانية ومن بلجيكا الكاثوليكية. ومنها: كانت هناك مراكز تطور رأسمالي حتى قبل مجيء كالڤن (ڤنيسيا، أوغسبورغ، كولونيا) ومنها: لعب يهود وأرمينيو هولندة دوراً يوازي دور الكالڤينيين في تطور هذا البلد. ومنها: القاسم المشترك بين التجار لم يكن يتمثل في كونهم كالفينيين، وإنما في كونهم مهاجرين قدموا من مراكز صناعية وتجارية كبرى أشير إليها سابقاً. كما أن التطور الاقتصادي ـ كما يشهد فرنسوا فاتشيني ـ لم يكن اكتشافاً بروتستانتياً، لأن الإسلام عرف في حقب من تطوره مراحل ازدهار اقتصادي حتى قبل الإصلاح الديني في أوروبا.
2 ـ ومن جهة ثانية، ثمة شك في الصلة العلية التي أقامها ماكس فيبر بين الكالڤينية وروح المبادرة الرأسمالية: ومنه: أن الكالڤينية نزعة تسلطية على الاقتصاد وتدخلية أكثر منها تحررية. ومنه: أن الكالڤيني لا يصير رأسمالياً؛ وإنما بالعكس الرأسمالي هو الذي يصير كالڤينياً؛ لأنه يكون مرحّباً به في الكنيسة الكالڤينية أكثر مما هو مرحّب به في الكنيسة الكاثوليكية. ومنه: أنه لا وجود لما تحدث عنه فيبر من أن ارتياب الكالڤيني من مصيره يوم القيامة هو الذي يحضّه على الكدح طلباً لمرضاة الله. ومنه: لماذا عَدَّ فيبر أن النجاح الاقتصادي أمارة على اعتقاد الكالڤيني بأنه نجا يوم الآخرة؟
2 ـ اعتراضات خاصة على مزاعم ماكس فيبر
تبدو ملاحظات ماكس فيبر عن الإسلام ـ بالقياس إلى دراساته الشمولية عن ديانات العالم الأخرى: المسيحية، اليهودية القديمة، ديانة الصين، ديانة الهند ـ ملاحظات قصيرة ومُنْبَثَّة في تضاعيف أعماله، وأحد أسباب ذلك ـ كما هو معلوم ـ أن ماكس فيبر مات قبل أن ينجز دراسته التي كان يعدّها حول الإسلام. وقد كتب عالم الاجتماع الأمريكي العارف بمؤلفات ماكس فيبر تالكوت پارسنز Talcott Parsons (1902 ـ 1979) في تقديمه لكتاب فيبر: «علم الاجتماع الديني» الذي نشر عام 1964، يقول: «هذه السلسلة بقيت غير مكتملة بعد وفاة فيبر، وكان قد خطط ـ على الأقل ـ لإجراء دراسة شبيهة لهذه الدراسات تخص الإسلام والمسيحية المبكرة والكاثوليكية الوسيطية [نسبة إلى العصور الوسطى ]».
والغريب أننا إذا ما تفحصنا أحد أهم الكتب التي خصصت لسيرة ماكس فيبر ـ وهو كتاب يواقيم رادكاو: ماكس فيبر (سيرة) (2005 الطبعة الألمانية، 2009 الطبعة الإنجليزية): A Biography Joachim Radkau, Max Weber ـ لوجدنا أن كلمة «إسلام» لم ترد في هذه الترجمة لحياته اللهم إلا مرة واحدة!
ولسعادة الحظ كُتِبَت بضعة تآليف في موقف ماكس فيبر من الإسلام:
ـ بعضها ألماني: Wolfgang Schluchter (dir), Max Webers Sicht des Islam (رؤية ماكس فيبر للإسلام) Frankfurt, a. M., Suhrkamp, 1987
ـ وبعضها إنجليزي: Bryan S. Turner, Weber and Islam. A Critical Study, London/Henly/Boston, Rouledge and Kegan, 1974, 1978, 1981
ـ وبعضها فرنسي: Youcef Djedi, Max Weber et l’Islam (Weber and Islam), Ens, Lyon, 2006
كما كُتبت عنه عشرات المقالات بمختلف اللغات الأجنبية.
كان برايان تورنر Bryan S. Turner أول باحث انتروبولوجي واجتماعي غربي أنتج دراسة مطولة وتحليلاً نسقياً لسوسيولوجيا الإسلام عند ماكس فيبر في كتابه: «فيبر والإسلام: دراسة نقدية» (نشر أول ما نشر عام 1974). وتتلخص أطروحته فيما يلي:
«لقد كان من الطبيعة الوراثية للمؤسسات السياسية الإسلامية هي التي عاقت بزوغ شروط تكون الرأسمالية؛ نعني: قانوناً عقلانياً، وسوق عمل حراً، ومدنا مستقلة، وعملة اقتصاد، وطبقة بورجوازية». لكن إلى أي حدٍّ يُعدُّ هذا التشخيص غير ظالم للإسلام وغير مختزل له؟ يجيب برايان تورنر بأن معالجة ماكس فيبر للإسلام من حيث هو حالة فشل في إنشاء نزعة زهدية تقشفية تؤدي إلى إنشاء الرأسمالية، لربما يكون قد أصاب فيه الرجل من حيث إنه تمكن من تبيين البنى الاجتماعية في الإسلام المبكر، بينما ينتقد عليه برايان تورنر كونه عدّ الإسلام «ديانة حرابة». فقد بدأ ماكس فيبر بالإقرار بأن الإسلام المكي كان ديانة توحيدية مبنية على نبوة أخلاقية ترفض السحر، وكان الله فيها قادراً بمطلق القدرة عالماً بمطلق العلم، وكان الإنسان كائناً واقعاً تحت القضاء والقدر. ولقد كان من الممكن ـ بحسب تقدير ماكس فيبر ـ أن تبرز فيه نزعة تقشفية تزهدية في هذا الإسلام الأولي كحلٍ لمشكلة النجاة والخلاص التي طرحها الإسلام المبكر، لكن نزوع الإسلام ـ بعد ذلك ـ نحو الحرب ونحو التصوف شكل عائقاً أمام تطور هذه النزعة.
ثاني دراسة كانت قد صدرت بالألمانية تحت إشراف البروفيسور فولفغانغ شلوشتر Wolfgang Schluchter من جامعة هامبروغ بألمانيا تحت عنوان: «رؤية ماكس فيبر للإسلام». وقد تضمنت أشغال ندوة عن سوسيولوجيا الإسلام لدى فيبر (1984). ولقد لخص البروفيسور شلوشتر مجمل الدراسات الواردة في الكتاب على النحو التالي:
ثمة أربع نقاط مفتاحية لمقارنة الإسلام مع أديان أخرى:
ـ نمط الأخلاقية الدينية الإسلامية: إعلان التسيد على العالم من خلال غزوه.
ـ نمط الهيمنة السياسية الإسلامية: الإقطاعية الشرقية.
ـ نمط المدينة الإسلامية: الفوضوية التمدنية الشرقية.
ـ نمط الشريعة: العدالة اللاهوتية والأبوية السلطوية المتمحورة على شخصية القاضي.
وبالجملة، فإن الذي عند ماكس فيبر أن الإسلام عانى من «النزعة المركزية» التي عاقت حرية المبادرة.
ثالث دراسة كانت قد صدرت بالفرنسية تحت عنوان «فيبر والإسلام»، وهي عبارة عن رسالة دكتوراه لباحث عربي Youcef Djedi نوقشت بفرنسا في عام 2006، وخلاصتها:
حتى ولو لم ينجز ماكس فيبر دراسة خاصة بالإسلام، وعلى الرغم من ملاحظاته التي كانت أحياناً متسرعة عن هذا الدين؛ فإن منهجية العالم الألماني وجهاز مفاهيمه يمكن أن يكونا من الخصوبة بمكان في فهم ذهنية «السلوك في الحياة» الذي يسلكه أصحاب هذه «الديانة الثقافية». فقد أنكر ماكس فيبر أن تكون لهذه الديانة أية نزعة زهدية تسلك داخل هذا العالم وليس خارجه، وذلك بسبب ما عدّل توجهها السياسي اللّذوي والقيصري، فإنه مع ذلك حَدَسَ إمكانات هذه الديانة في التشجيع على نسك دنيوي وعلى نزعة زهدية دنيوية، والمثال الإباضي يؤكد إلى حدٍّ كبيرٍ حدسه هذا.
هذا وقد تكونت حول ماكس فيبر وموقفه من الإسلام في صلته بالرأسمالية حلقة من مؤيدي موقفه ومن معارضيه ممن صاروا يعرفون ـ منذ السبعينات من القرن الماضي ـ باسم «ما بعد الفيبريين» (6) كما قرئت أطروحته قراءات متباينة، بل وحتى متعارضة. وما زالت تقرأ حتى عُدَّ من المستشرقين ـ وما كان واحداً منهم ـ وعُدّت نظرته إلى «الديانات الآسيوية» نظرة استشراقية مدانة تكرر المقابلة التقليدية بين غرب «دينامي» وشرق «جمودي»(7). ومن هذه القراءات التعددية ما وجد في الصلة بين «الأخلاقيات الدينية» ـ وهي هنا الكالڤينية إيجاباً والإسلام سلباً ـ ونمو الرأسمالية أنها صلة «عِلِّية» تكاد تكون «ميكانيكية»؛ أي أن الأخلاقية الكالڤينية هي التي «أفرزت» الرأسمالية «إفرازاً». ومنها ما نفى ذلك بناءً على اجتهادات ماكس فيبر نفسه، الذي لم يصغ أطروحة نهائية ومنغلقة وقطعية في المسألة، بقدر ما عمد إلى مراجعتها مرارًا وتعديلها وتطويرها، حتى ما عاد يقبل بفكرة «العلة» الواحدة في نشأة الرأسمالية ـ وهو صاحب علم الاجتماع «التفهمي» غير «العلموي» وليس صاحب علم الاجتماع «التفسيري» ذي الجنوح «العلموي»ـ بقدر ما صار يؤمن بوجود «تناسبات» أو «تشابه في البنيات»، أو دعنا نسميها ـ أسوة ببعض الباحثين(8) ـ : «أنخاباً مختارة» Wahlverwandtschaften, Elective Affinities ـ تيمناً بعنوان إحدى روايات الأديب الألماني الشهير غوته. وهي «تعالقات» أو «أعلاق نفيسة» لم تقم بين «عقيدة» أو «فكرة دينية» أو «تعاليم دينية» وبين التطور الاجتماعي والاقتصاد، على نحو ما أوّلت به أطروحة الرجل تأويلاً غير دقيق، وعلى نحو ما مال إليه المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون (1915 ـ 2004) في كتابه الشهير عن «الإسلام والرأسمالية» (1966) من القول بأن أطروحة ماكس فيبر تفيد بأن «الرأسمالية لم تتطور في الإسلام؛ لأن الإيديولوجية السائدة في العالم الإسلامي كانت تتعارض مع العقلانية الضرورية لهذا التطور»، وإنما بين «الأخلاقية الإسلامية»؛ أي مجمل قواعد الحياة الاجتماعية والاقتصادية ذات الطابع المقدس والتي يراقبها «الفقهاء»، وما يسميه «الذهنية» أو «العقلية» أو حتى «الروح» Geist الرأسمالية ـ المتمثلة في روح المبادرة والمقاولة ـ عند نشأتها؛ بمعنى آخر، فإن ما هم ماكس فيبر ما كان هو «التعاليم»، بقدر ما كان هو ما سماه «المفعول الواقعي للدين»(9).
قد تكون ثمة تأثيرات «خفية» ومسالك «دهليزية» أثرت في أحكام ماكس فيبر عن الإسلام وعلى قوله بامتناع قيام روح الرأسمالية في الإسلام، ومنها:
ـ المنعطف الذي أحدثه المستشرق الفرنسي إرنست رينان (1823 ـ 1892) في الدراسات الاستشراقية الناشئة، بأن جعلها تبحث «لا فيما أنجزته» «الشعوب الشرقية السامية» وفيما «حققته»، وإنما فيما «لم تنجزه» هذه الشعوب وفيما «لم تحققه»؛ أي فيما «نقصها»، في «النقص» و«الغياب» و«الفقد». ومن ثمة، توجهت البحوث إلى التفتيش في هذا «النقص»، ما بين راء أنه «الديموقراطية»، وذاهب إلى أنه «العلم»، ومقدر أنه «حرية الرأي»، ومصمم على أنه «الملكية الخاصة»، وزاعم أنه إنما كان «الرأسمالية»، ومعتقد أنه بالأحرى «العقلانية»... وهكذا دواليك، تمَّ افتراض أنه لم يكن في الإسلام لا علم ولا ديموقراطية ولا حرية تعبير ولا ملكية خاصة ولا نزعة تقشفية؛ ومن ثم لا تقدم صناعي...(10)
ومنها أيضاً الأثر الذي تركه تلميذ ماكس فيبر الكبير وصديقه فيما بعد المستشرق الألماني كارل هاينريش بيكر (1876 ـ 1933) ـ صاحب البحث الشهير «الإسلام كمشكلة» ـ والذي ركز كثيراً على مسألة «القيم»، كما نقل البحث فيما عرف عند الألمان ـ أول ـ باسم «الدراسات الإسلامية» أو «الإسلاميات»، من «الإسلاميات القديمة» إلى «الإسلاميات الحديثة»(11)، وعكس كبار علماء الإسلاميات الألمان في زمانه، ركز هاينريش بيكر على التأثير الاقتصادي الهائل للأخلاقيات القرآنية، ثم بعد ذلك الإسلامية، وعلى التنظيم الاقتصادي للدول الإسلامية الكلاسيكية. وكان أن رأى أن ثمة ضرباً من الصلة بين التأخر الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق بالمسلمين، وانتهائهم إلى تصور للعالم جبري المنزع. وهكذا، عمد ماكس فيبر إلى معالجة الإسلام ـ الذي اعتبره إرثاً أميناً وموصولاً باليهودية في ما يخص شأن الأخلاقية الاجتماعية والاقتصادية ـ متأثراً بقراءته للمنعطف الذي أحدثه هاينريش بيكر في الإسلاميات، طارحاً السؤال: لماذا لم يفلح الإسلام ـ الذي هو في الأصل دين مقبل على الدنيا ونبوي وتوحيدي وخلاصي ـ في أن ينشئ لدى أتباعه ذهنية جماعية تشجع على العقلنة الرأسمالية؟
لكن، دعنا نتساءل ـ بدايةً ـ : ما الذي قاله ماكس فيبر بالذات عن الإسلام؟
أولاً: حاول ماكس فيبر فهم دور النبي محمد (ص) بوصفه «نبياً أخلاقياً»؛ وذلك من خلال التعاليم التي تلقاها وحياً، ومن خلال موقفه من قيم المجتمع العربي التقليدية. ولقد كان «النبي» شخصية جذابة ومؤثرة؛ أي بلغة ماكس فيبر شخصية «كاريزمائية». وما حضر عند ماكس فيبر أكثر هو صورة «محمد» الزعيم العسكري ومؤسس الدولة. وكان هذا يدخل في إطار من البحث موسع تجلى في اهتمام ماكس فيبر بالسلطة الدينية. لكن يبدو أن هذا التحليل ـ إذا ما قورن بما فعله ماكس فيبر في تحليل أنبياء بني إسرائيل ـ تحليلاً أقل تكاملية وشمولية.
ثانياً: يزعم ماكس فيبر أن المدينة في العالم الغربي إنما لها سمات مميزة خاصة تشجع على بزوغ المواطنة والمؤسسات المدنية الديموقراطية. ولكن بالضد من ذلك، كانت المدينة في الشرق الأوسط «معسكراً» بالأولى قائماً على الولاءات القبلية والعائلية، ولم يفلح أبداً الولاء الديني في كسر هذه الولاءات الموروثة بالتمام والكمال. ومن ثمة، لم يكن من الممكن أن تسمح بتأسيس مؤسسات مدنية مستقلة للحد من سلطة الدولة.
وإذا ما أردنا تلخيص النقط التي دار عليها الخلاف بين الباحثين وماكس فيبر بناءً على قراءته تلك للإسلام، فإنه يمكن رسم خطاطة تلخيصية نقدية عنها فيما يلي:
1 ـ مسألة مصير الإنسان بين التسيير والتخيير:
رأى ماكس فيبر ـ في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (نشر بداية عام 1904) ـ أن هذه المسألة هي المفتاح لفهم الصلة بين ضرب من الأخلاق الدينية وبروز الرأسمالية العقلانية الحديثة. وهنا عارض بين الكالڤينية والإسلام. فأما الكالڤينية فيشكل مبدأ الاصطفاء ـ اصطفاء الله للبشر يوم القيامة لإدخالهم جناته ـ مبدأ جوهرياً فيها. وكان أن طُرِح السؤال: كيف يمكن للكالڤينيين أن يتيقنوا من أنهم من المصطفين؟ والكالڤينيون لا يعلمون مصيرهم؛ لأن الرب عندهم متعالٍ لا تُعلم مقاصده، ولهذا واجهوا ارتياباً على هذا الصعيد. وفي كتابه «الاقتصاد والمجتمع» يذهب ماكس فيبر إلى أن مذهب الاصطفاء هذا هو الذي دفع أتباع كالڤن إلى محاولة نيل رضا الرب، ووجدوا أن الوسيلة الوحيدة للتحقق من ذلك هي العمل ومراكمة الثروة في سبيل مجد الرب، وقد نُظِرَ إلى هذين الأمرين على أنهما من «بشائر» و«أمارات» تأكد الكالڤينيين بأنهم من «المصطفين»، وبلغة فيبر، نظر إليهم على أنهم بُورِكوا من لدن الرب.
هذا بينما الإسلام ـ في نظر ماكس فيبر ـ كان على النقيض من هذا؛ ففي بحثه عن «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» يذهب إلى القول بأنه في الإسلام لا يتعلق الأمر بكون الإنسان قابعاً تحت مجاري أقدار الله في الحياة الآخرة يصطفيه لجناته إن شاء، وإنما هو جالس تحت مجاري الأقدار هنا في هذا العالم. إنما الإنسان المسلم مسير في هذا العالم لا في العالم الآخر. وقد قاد هذا الأمر المسلمين إلى الوقوع في ضرب من الجبرية شديد؛ فلم يقدروا الكدح والجهد حق قدره؛ يقول ماكس فيبر في أحد هوامش كتابه عن «الأخلاقية البروتستانتية وروح الرأسمالية: «وقد برزت في الإسلام هذه الانعكاسات القدرية [الجبرية]؛ لكن لأي سبب؟ لأن عقيدة القضاء والقدر في الإسلام تنزع إلى «التحديد المسبق للمصير» لا للاختيار المسبق، موجهة على المصير في الدنيا، لا على الخلاص الأخروي؛ لأن ـ من ثم ـ الأمر الحاسم أخلاقياً هو أن «الاختبار» للمختار لا يؤدي دوراً في الإسلام، ومن هنا فإن ما يتمخض عن ذلك هو جرأة حربية، لا نتائج مرتبطة بعيش منهجي؛ لأن المكافأة تعوزها»(12). ويعود ماكس فيبر في كتابات أخرى إلى التأكيد على ما يلي: «في الإسلام المؤمنون الأكثر تعلقاً بالله نسبوا إليه القدرة المطلقة... ذلك أن إرادة الله إرادة مطلقة حرة لا تُعقل بعقل، وإذ هي نتيجة منطقية لإحاطته علماً بكل شيء؛ فإنها قررت منذ الأزل مصير كل إنسان على وجه الأرض وبعد الموت. ذلك أن تحديد المصير على الأرض ـ كما القضاء بأمر العالم الآخر ـ كان قد قرر الله شأنهما منذ الأزل تقريراً».
وقد اجتهد بعض الباحثين في فحص من أين استقى ماكس فيبر فكرته عن «جبرية» الإسلام المبالغ فيها هذه. ومما قاده إليه البحث أن وراء الأكمة ما وراءها، ووراءها مستشرق ومبشر ألماني كان معاصراً لماكس فيبر اسمه فريدريش أولريش؛ فقد أعدَّ الرجل رسالة للدكتوراه بقيت طي مكتبة الكلية ولم تنشر، لكن ماكس فيبر اطلع عليها في مكتبة الكلية، وكان موضوعها حول «القضاء والقدر في الإسلام». وقد ربط فريدريش أولريش بين رؤية كل من المسلمين والمسيحيين لله، وتأثير هذه الرؤية في تصورهم للحرية والجبر. فكان أن رأى أن البينونة بين رب المسيحيين وإله المسلمين تكمن في أن الصلة بذاك مبنية على فكرتي «الإيمان» و«المحبة»، وأن الصلة بهذا مبنية على فكرتي «الشرع» و«الإلزام». ومنه استخلص ما استخلصه حول «حرانية» المسيحية و«جبرية» الإسلام. قال الرجل: «ما يميَّز المذهب الإسلامي حق تمييز هو أنه ينطوي بالأولى على مذهب في تحديد مصير الإنسان في هذه الدنيا... حيث يمسي الإنسان تابعاً إمّعة إِمَّرَةً بتبعية تامة لله الذي كانت إرادته المطلقة قد حددت أزلاً مصير الأفراد تحديداً. ومن ثمة، لا يوجد في المذهب الإسلامي ـ على التحقيق ـ قضاء ينتظر إلى الإبرام في اليوم الآخر، وإنما يوجد أولاً وقبل كل شي قضاء إلهي وقدر في هذا العالم الدنيوي»(13). وتأسيساً عليه، ينزع الإسلام نحو ما يسميه فريدريش أولريش «النزوع الجبري»، وهو نزوع يجد أنه ما فتئ يتعزز فيما يسميه «الذهنية المسلمة»، متعارضاً في ذلك مع ما يعدّه فريدريش أولريش الكالڤينية ذات النزعة الإدراية الحرانية.
لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح بهذا الشأن: أين هذا التصور للإسلام من قول المعتزلة والإمامية والإباضية بأن الإنسان خالق أفعاله؛ ومن ثَمَّ مسؤول عنها وصانع حياته؟ ألا يعد ماكس فيبر ومن ذهب مذهبه ممن كرسوا صورة الألمان اليوم عن «المسلم» بحسبانه «المستسلم المستكين تحت مجاري الأقدار تقلبه كيفما تشاء»؟
وإذن، أين ماكس فيبر مما قاله أبو الهذيل العلاف عن بِشْر المريسيّ [من القائلين بالجبر]: حمار بِشْر أعقل من بِشْر؛ لأنّك إذا أتيت به إلى جدول صغير طفره، وإذا أتيت ـ إلى جدول كبير لم يطفره؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر على طفره ـ وما لا يقدر، وبِشْر لم يفرّق بين مقدوره وغير مقدوره !
2 ـ مسألة الخلاص أو النجاة:
الذي عند ماكس فيبر بهذا الشأن أن ثمة ديانات خلاص وثمة غيرها. وديانات الخلاص ـ أو النجاة ـ تتضمن السعي إلى التحرر من الألم الذي يحصل للإنسان، وخفض التوتر الذي يجده بين ما يرجوه وبين ما يحدث في الواقع. وفكرة «النجاة» بمثابة قوة حاثة على النشاط في هذا العالم. ويعدّ سعي الفرد إلى نجاته مفتاحاً مميزاً للكالفينية؛ فعند الكالڤينيين السلوك الزهدي التقشفي والأعمال الصالحات هما «أمارات» النجاة في العالم الآخر. أما الإسلام ـ بحسب ماكس فيبر ـ فإنه كان على النقيض من الكالڤينية؛ فالبحث عن النجاة غريب عن روح الإسلام. وبينما نظر الكالڤينيون إلى السلوك الزهدي التقشفي وإلى مراكمة الثروة في إدارة الأعمال كأمارة نجاة، لم يفعل المسلمون ذلك.
والسؤال الذي نهض هنا هو: ألم تعدّ كل فرق الإسلام نفسها الفرقة الناجية حتى لا يعدّ ماكس فيبر الإسلام دين نجاة؟ وألم يحض المتكلمون المسلمون على العمل والكدح والتجارة؟ انظر صاحب المغني ـ القاضي عبد الجبار ـ يقول:
«واعلم أن جماعة من المتآكلة الذين سموا أنفسهم التوكلية خالفوا في هذه الجملة، وذهبوا إلى أن الطلب قبيح، واحتجوا لذلك بوجهين: أحدهما هو: أن الطلب يضاد التوكل وينافيه ويمنع منه فيجب القضاء بقبحه. والثاني هو: أن الطالب لا يأمن فيما يجمعه ويتعب فيه أن تغصبه الظلمة فيكون في الحكم كأنه أعانهم على الظلم وذلك قبيح، وهذا الذي ذكروه بخلاف ما في العقول.
أما قولهم إن الطلب ينافي التوكل ويضاده فمحال؛ بل التوكل هو طلب القوت من وجهه، وعلى هذا قال رسول الله (ص): «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»، جعل التوكل هو أن تغذوا وتروح في طلب المعيشة من حِلِّهِ.
وأما قولهم: (إن ذلك في الحكم كأنه أعان الظلمة على ظلمهم) فيجب قبحه، فمما تدفعه العقول. وقد تقرر في عقل كل عاقل حسن التجارات والفلاحات طلباً للأرباح. يؤكد ذلك ويوضحه أن التاجر إنما يتجر ليربح على درهم درهماً أو أقل من ذلك أو أكثر، لا ليغصبه السلطان، وكذلك الزراع فإنه إنما يزرع ليرزقه الله تعالى بدل حبة أضعافها لا ليحوزها الجورة والظلمة، فكيف يصح والحال ما قلناه أن يقال: «إن التجارة والفلاحة وغيرهما من أنواع الطلب إعانة الظلمة على ظلمهم»؟
3 ـ الزهد والتقشف
الزهد عند ماكس فيبر على نوعين: زهد داخل هذا العالم، وزهد في هذا العالم. الأول شأن الكالڤينيين الذين استعملوا وسيلة الزهد بغاية تغيير العالم بوفق معتقداتهم، بينما الثاني تعلق بحياة الأديرة والرهبان والصوفية الذين استعملوا الزهد أداة للفرار من هذا العالم. وبهذا يكون الزهد الكالڤيني قد لعب دوراً مهماً في نشأة الرأسمالية الحديثة بدءًا من نهاية القرن السادس عشر. ذلك أن زهد الكالڤينيين وهم يحيون في هذا العالم شجعهم على الكدح والكد والكسب والإدخار والاستثمار بغاية أن يربو المال. وعند ماكس فيبر، فإن الإسلام هو القطب المضاد لهذا المذهب التقشفي الزهدي؛ إذ لا يزهد المسلمون وهم مقبلون على هذا العالم، وإنما يزهدون فيه وهم مدبرون عنه. ولهذا كان الإسلام ـ في رأي ماكس فيبر ـ دين غزو، ودين «محاربين قوميين عرب». ومن ثمة أيضاً ما كانت أخلاقيات الإسلام أخلاقيات زهد، وإنما كانت أخلاقيات حرب. ففي الحقبة المدنية أمسى الإسلام تحت راية الجهاد والتمييز بين «دار الإسلام» و«دار الحرب»؛ ومن ثَمَّ أمسى «دين البطل داخل العالم ودين أخلاقيات المحارب». وحتى لما ظهر الزهد في المسلمين تطور إلى تصوف لم يرم إلى تغيير العالم، وإنما سعى إلى الفرار منه. وقد نقدت على ماكس فيبر أطروحته القائلة بأن الإسلام ديانة أخلاقية حربية نقداً شديداً،. واحتج على هذا النقد بأمثلة مضادة كثيرة منها مثال انتشار الإسلام في بلاد البنغال الذي ما كان بسبب «الغزو»، وإنما من تأثير «شخصيات ذات كاريزما» أو من «تجار ووعاظ جوالين». وما يعيبه برايان تورنر على ماكس فيبر ـ في بحثه الموسوم: «مراجعة فيبر والإسلام» ـ هو أن ماكس فيبر ركز على ما يسميه برايان تورنر «إسلام الشرق الأوسط»، ولم يركز على «إسلام جنوب شرقي آسيا» كما تجسد ـ مثلاً ـ في ماليزيا وأندونيسيا.
4 ـ العقلنة
يرى ماكس فيبر أن بين الكالڤينية والإسلام تعارضا على مستوى تدبير شؤون الحياة؛ فأما الأولى ـ وقد تسلحت بمبدأ الاصطفاء ـ فتذهب إلى تعقيل السلوك في الحياة، بحيث يقول لسان حال الكالڤيني: إذا ما أنا كدحتُ وكددتُ ربحتُ، وإذا ما أنا ربحتُ نجحتُ في أن أكون من عباد الله المصطفين، بينما لسان حال المسلم يقول: مهما فعلتُ ومهما كدحت، فإن الله قد قضى أمراً مقضياً منذ الأزل. وإذن؛ من الأفضل لي أن أستكين إلى قضائه، فلا أبادر إلى أي شيء، لأنه قُضِيَ الأمر الذي يمكنني فيه أن أبادر.
والحال أن الاعتراض على فكرة فيبر الأولى كالاعتراض على هذه.
وبالجملة، فإنك مهما استشهدت بنصوص من التراث الإسلامي تحثُّ على روح المبادرة «الربحية»، بل وتحض على «مديح التجارة»، بل وتغري حتى بـ «تقريظ الربح» ـ وهي النصوص التي لم يطلع عليها ماكس فيبر ـ فإنه لن يعير اهتماماً إليها. وإذا ما نحن استوحينا عبارته الذائعة الصيت عن أولئك «الدنيويين» أو «الدهريين» «الذين ليست لهم أذن موسيقية للدين»، فإنه يمكننا أن نقول محاكاة له: إن ماكس فيبر «ليست له أذن موسيقية لسماع هذا». اضرب بيدك إلى كتاب أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي ـ الموسوم بالاسم الدال بهذا الشأن: «الإشارة إلى محاسن التجارة وغشوش المدلسين فيها» ـ تَرَ كيف يمدح التاجر الغني مدحاً: «الغني ينبئ عن خلال شريفة ويخبر عن خصال كريمة جداً؛ وذلك أن توهم غنى الرجل موروثاً أخبر عن نعمة قديمة ونسبة كريمة، وإن توهم مكتسباً أخبر عن همة عالية وعقل وافر ورأي كامل؛ وذلك أن الضعيف في الرأي والتدبير يفرق المال المجتمع، فمتى يظن بصاحبه جمع المفترق واكتساب ما ليس له أصل، وإن توهم ذلك مجتمعاً في جوائز الملوك ومعادن السلطان أنبأ عن جلالة قدر ونباهة ذكر وأصالة رأي، وإن توهم باتفاق ومصادفة من غير قصد إليه أنبأ عن سعادة جد ويمن طائر، ولو لم يكن في الغنى إلا أنه من صفات الله عز وجل لكفى فضلاً وشرفاً عظيماً. والأموال جميعها نافعة إذا تدبرت كما يجب، وبعضها أفضل من بعض، وتختلف باختلاف أحوال الزمان، وبحكم ما هي عليه من صفاتها المكروهة أو المحبوبة وأحوالها المحمودة أو المذمومة»(14). ويضيف في فصل تحت عنوان: «فصل في ذكر محاسن التجارة»: «التجارة إذا ميزت عن جميع المعايش كلها وجدتها أفضل وأسعد للناس في الدنيا، والتاجر موسع عليه وله مروءة. ومن نبل التاجر أن يكون في ملكه ألوف كثيرة»(15). ويا لتوارد الأفكار العجيب، فإن أبا الفضل الدمشقي يعمد إلى المقارنة بين «أخلاقية التجارة» و«أخلاقية الجندية» التي ينسب إليها ماكس فيبر تشكيل روح الإسلام، فيضيف معارضاً بين «التاجر» و«الجندي» مفضلاً الأول ـ ويا للغرابة! ـ على الثاني: «فإن كان [الإنسان] جندياً، فمؤنته أغلظ وعيشه أنكد، وهو عند الناس ظالم وإن أنصفهم، ومبغض وإن تحبب إليهم، ومكروه الجوار وإن أحسن إليهم»(16). ويضع الدمشقي للتاجر «أخلاقية» خاصة به عجيبة غريبة، في فصل جاء تحت عنوان: «فصل فيما يجب أن يحذر في إنفاق المال»، وقد اهتم بأمر «صيانة المال وحفظه وتمييزه؛ إذ هو العدة على اتساق التدبير»، ودعا إلى تثميره، مستشهداً بقول حكيم: «إن تثمير المال آلة المكارم وعون على الدين»، فيقول: «أما إنفاق المال فينبغي أن يحذر فيه خمس خصال ـ وهي اللؤم والتقتير والسرف والبذخ وسوء التدبير... وأما السرف فهو انهماك في اللذات واتباع الشهوات، وأما البذخ فهو أن يتعدى الرجل ما يتخذه أهل طبقته وطوره فيما يتغذى به أو ما عساه أن يلبسه طلباً للمباهاة، وأما سوء التدبير فألا يوزع نفقته في جميع حوائجه على التقسيط والاستواء حتى يصرف إلى كل باب قدر استحقاقه»(17).
3 ـ على سبيل الختم: مفارقات الفكر العربي والإسلامي في قراءته لنظرية فيبر عن الإسلام:
تمثلت أول مفارقة ـ وهي مفارقة قديمة تعود إلى عصر النهضة واطلاع المسلمين على الإصلاح الديني البروتستانتي ـ في محاولة قراءة الإصلاحيين الإسلام قراءة بروتستانتية، واعتبار أن الإصلاح الذي يحتاجه الإسلام لا بد أن يكون قائماً على النمط البروتستانتي؛ أي أن جوهره: حَيَّ على الشغل. وقد عزز ذلك: القول المنسوب إلى لوثر المشجع على الشغل والذي يقول فيه: «لو أعلمتُ أن قيامة العالم سوف تقوم غداً؛ لرغبتُ مع ذلك في غرس شجرة تفاح»، وهي المقولة التي ما تفتأ تذكر المسلمين بقول نبيهم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها». فإذن؛ حتى وإن اعترض الكثير من الباحثين على قراءة ماكس فيبر للإسلام، فإنها أثرت فيهم من حيث لا يشعرون، بل وحتى قبل أن يطلعوا عليها، فكان أن قرأوها قراءة معكوسة: ما ذكر ماكس فيبر أنه غير موجود في الإسلام وإنما موجود في البروتستانتية: ذكروا هم أنه هو الموجود بعينه في الإسلام. وهذه من المفارقات التي يختم بها برايان تورنر بحثه «الإسلام والرأسمالية وأطروحات فيبر»؛ ذلك أنه يرى أن أطروحة ماكس فيبر عن الإسلام والرأسمالية «تناسب» دعاوى الإصلاحية الإسلامية الحديثة ـ جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا ـ وذلك لا لشيء إلا لأنهم كانوا واقعين تحت تأثير النظرة الأوروبية، فكان أن رأوا أنه لتحقيق النمو الرأسمالي لا بد من قراءة الإسلام قراءة بروتستانتية، لا سيما وأن المفكر والمؤرخ الفرنسي فرنسوا غيزو (1787 ـ 1874) قد أوضح في كتابه «التاريخ العام للحضارة بأوروبا» (1836) أن التقدم الاجتماعي بأوروبا قد تقدمته حركة الإصلاح البروتستانتية، فكان لا بد من اللجوء إلى منطق الأشباه والنظائر. ولهذا يختم برايان تورنر بحثه المشار إليه أعلاه بالقول: «لا غرابة أن يرى الأفغاني في نفسه لوثر الإسلام»(18).
ثاني مفارقة من مفارقتي قراءة المسلمين لأطروحة ماكس فيبر ـ وهي مفارقة حديثة ـ: إن الباحثين المسلمين وغيرهم، في إطار ردودهم على ماكس فيبر، استطاعوا كشف حقيقة لم يكونوا يعلمونها من قبل، أو على الأقل لم يعبّروا عنها: ما وجده ماكس فيبر في الكالڤينية مشجعاً على الرأسمالية هو ما رأوه هم في سلوك الإباضية المقبل على العمل الصالح الدنيوي القائم على فلسفة الكدح والسعي والكسب والربح الحلال. وذلك ما عبّر عنه باحث من أصول عربية حين أبدى أسفه من أن الإباضية لم تجد إلى حد اليوم ماكس فيبر خاص بها يدرس أخلاقياتها الاقتصادية. لا سيما أنه منذ أن نشأت الإباضية أبدت ـ كما أوضحت ذلك ناتالي بريڤوست Virginie Prevost في دراستها عن الإباضية ـ أن الإباضيين كانوا دائماً تجاراً حاذقين، بلغ حدّ حذقهم التجارة ما يشبه التصور البروتستانتي الأمريكي الشمالي... وكان من قبل قد ذهب عالم الاجتماع الفرنسي پيير بورديو (1930 ـ 2002) منذ عام 1958 إلى القول بأن الإباضيين ـ وهم مسلمون منسجمون مع أنفسهم، و«طهرانيون» ـ قوم «مستثمرون» في مجال النخليات، ومفاوضون تجاريون حذاق؛ لكنّ للمقارنة حدّاً تقف عنده، فلا تعدوه.
.....
المراجع والهوامش:
(1) ماكس فيبر: «الأخلاقية البروتستانتية وعقلية الرأسمالية»، ضمن كتاب فيبر «مقالات في سوسيولوجيا الدين، الثقافة البروتستانتية»، ترجمة منير الفندري، المنظمة العربية للترجمة، سلسلة أعمال ماكس فيبر 6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، 41 ـ 42.
(2) ماكس فيبر: «الأخلاقية البروتستانتية وعقلية الرأسمالية»، ضمن كتاب فيبر «مقالات في سوسيولوجيا الدين، الثقافة البروتستانتية، ص 51.
(3) المصدر السابق، ص 18.
(4) المصدر السابق، ص 53.
(5) François Faccini, “Culture, Diversité Culturelle et Développement Économique, une mise en Perspective Critique de Travaux récents”, in Revue Tiers Monde, n°195, 2008/3, p. 523-553.
(6) انظر، مثلا: Philippe Besnard, Protestantisme et Capitalisme, La controverse Post-Weberienne, Paris, Armand Colin, 1970.
(7) Bryan S. Turner, “Revisiting Weber and Islam” in The British Journal of Sociology, London School of Economics and Political Science, 2010, p. 161.
(8) انظر مثلاً: Olivier Carré, “A propos de Weber et l’Islam”, in Revue: Archives des Sciences Sociales des Religions, 1968, 61/1 (Janvier-Mars), p. 140.
(9) ماكس فيبر: «الأخلاقية البروتستانتية وعقلية الرأسمالية»، ضمن كتاب فيبر: مقالات في سوسيولوجيا الدين، الثقافة البروتستانتية، ترجمة منير الفندري، المنظمة العربية للترجمة، سلسلة أعمال ماكس فيبر 6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، الهامش 1، ص 32.
(10) Olivier Carré, “A propos de Weber et l’Islam”, in Revue: Archives des Sciences Sociales des Religions, 1968, 61/1 (Janvier-Mars), p. 140.
(11) Mark Batunsky, “Carl Heinrich Becker: From Old to Modern Islamology. Commemorating the 70th Anniversary of “Der Islam als Problem””, in International Journal of Middle East Studies, Vol. 13, No. 3 (Aug., 1981), pp. 287-310.
(12) ماكس فيبر: «الأخلاقية البروتستانتية وعقلية الرأسمالية»، ضمن كتاب فيبر «مقالات في سوسيولوجيا الدين، الثقافة البروتستانتية»، الهامش 27، ص 121.
(13) Friedrich Ulrich cité par Youcef Djedi in “Prédestination ou Prédétermination dans l’Islam?”, Revue Européenne des Sciences Sociales, n°49-2, Décembre, 2011, p. 260.
(14) أبو الفضل الدمشقي: الإشارة إلى محاسن التجارة وغشوش المدلسين فيها، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1999، ص 14 ـ 15.
(15) المصدر السابق، ص 62.
(16) المصدر السابق، ص 62.
(17) المصدر السابق، ص 73 ـ 74.
(18) Bryan Turner, “Islam, Capitalism and the Weber Theses” in The British Journal of Sociology, London School of Economics and Political Science, 2010, p. 158.