مفهوم العلاقات بين المسلمين والهندوس في ضوء الكتب الفقهية في عصر سلطنة دلهي

الهند-min-780x405.jpg

صاحب عالم الأعظمي الندوي | أستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، مصر.

بدأت تظهر المسائل المتعلقة بالعلاقات بين المسلمين والهندوس عند وصول التجار المسلمين العرب إلى سواحل جنوب الهند، وقيامهم بإنشاء مستوطناتهم فيها لتفعيل النشاطات التجارية والدعوية بالحسنى، وقد اتخذت العلاقات بينهما الجدية التامة لدى تأسيس الدولة الإسلامية بعد الفتوحات الإسلامية لها، مما أدى إلى ظهور القضايا المختلفة حول طبيعة العلاقات بين الطرفين. فقد ظهر كثير من القضايا الدينية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت مهمة من ناحية النظم السياسية والإدارية إلى جانب أهميتها الدينية والشرعية، ومنها وضع الهندوس الشرعي وإيجاد العلاقات وتحديدها بين الطرفين على ذلك الأساس.

وقبل أن ندرس الكتب الفقهية ونحلل المواد المتعلّقة بهذه العلاقات بين الجانبين، علينا أن نلقي سريعاً الضوء على بداية العلاقات بينهما لدى الفتوحات الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية في السند. فقد بدأت تتدفق قوافل المسلمين العرب على المناطق الساحلية الهندية منذ نهاية القرن السابع الميلادي. وتنسب المهمات العسكرية البدائية إلى ساحل منطقة تهانة وبهروج الهندية بعصر الخلافة الراشدة، لا سيما منذ عهد الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه (2) وحسب بعض الباحثين بدأ تردد التجار المسلمين العرب على السواحل الجنوبية منذ القرن الثامن الميلادي، وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار الإسلام بين أهالي هذه المناطق، وقيام المراكز الدينية والثقافية في الأماكن المختلفة مما ساعد على تنشيط عملية نشر الدعوة الإسلامية وترويجها فيها(3). ولكن إذا كان تاريخ العلاقات التجارية بين الطرفين يرجع إلى ما قبل الإسلام، فكيف لنا أن نقول: إن المسلمين التجار وصلوا إلى هذه المناطق في القرن الثامن أو التاسع؟ فهل انقطعت رحلاتهم الصيفية والشتوية بعد الإسلام؟ فالذين كانوا يرحلون إلى الهند قبل البعثة النبوية، استمروا في رحلاتهم التجارية بعد اعتناق الإسلام بطبيعة الحال(4). ومن هنا نستطيع القول: إن المسلمين التجار من العرب استمروا في العملية التجارية في المناطق الساحلية الهندية قبل الفتوحات الإسلامية لها وبعد تأسيس الدولة فيها، والتي تم تأسيسها بيد القائد محمد بن قاسم الثقفي إثر الفتوحات الإسلامية لها في عام 712م في منطقة السند التي صارت فيما بعد مركزاً مهماً لنشر الإسلام وترويجه ولإسهام المسلمين في تطوير الحضارة والثقافة.

وكما أسلفت إنه قد بدأت المهمات العسكرية الإسلامية الأولية إلى السواحل الهندية الغربية، سيما «تهانه» و«بهروچ» وغيرها، وذلك منذ عهد الخليفة الثاني عمر الفاروق رضي الله عنه (5)، مما وفّر المـزيد من الفرص لتجار العرب للاستقرار وتنشيط عملية التجارة واستقرار الجاليات العربية في المناطق الساحلية العديدة، وهو الأمر الذي أدى إلى فتح كثير من المراكز الدينية والثقافية لتفعيل النشاطات الدعوية الإسلامية(6). ولكن الفتوحات الإسلامية تمت وبصورة شاملة في عهد والي المشرق الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/713م). في عصر الدولة الأموية بيد القائد الشاب محمد بن قاسم الثقفي (ت 95هـ/713م) وقامت الدولة الإسلامية في عام 94هـ/712م، وبدأت فترة جديدة لنشر الثقافة الإسلامية. وعلى الرغم من أنه لم يجد القائد محمد بن قاسم الثقفي وقتاً كافياً لترسيخ دعائم الدولة الفتية، مما أدى إلى انكماش نطاق السيادة الإسلامية إلى بعض المناطق من المنصورة إلى ملتان، إلا أن هذه الدولة استمرت ولو بصورة ضعيفة إلى عام 375هـ/985م، ثم تمكن القرامطة من القضاء على هذه الدولة الإسلامية السنية وأقاموا الدولة الشيعية(7)

ولا نستطيع التغاضي عن حقيقة أن هذه الفتوحات الإسلامية لم تكن مفيدة فقط لتقوم الدولة العربية بتوسيع نطاق سيادتها فحسب، بل كانت فاتحة خير للعرب من الناحيتين الاقتصادية والتجارية، كما وفرت للمؤسسات الدعوية الفرص لنشر الثقافة الإسلامية السمحة وتفعيل الدعوة الإسلامية، وهو الأمر الذي أدى ـ في ما بعد ـ لتوسيع نشاطات الفتوحات في المناطق الهندية الأخرى، ومن هنا يطلق على هذه الفتوحات المبكرة على السند «باب الإسلام في الهند». وعلاوة على ذلك كانت لهذه الدولة العربية الفتية أهمية سياسية ودينية أيضاً، حيث أتاحت للمسلمين الفرصة لتطوير العلاقات، والتعامل ولأول مرة مع أهالي الهند كحكّام. وأهم من كل ذلك أن الفاتح والحاكم الأول محمد بن القاسم أرسى قواعد للتسامح مع غير المسلمين مع تحديد وضع الهندوس في زمرة الذميين في إطار الشريعة الإسلامية(8)، وكانت تلك المبادرة إلى وضع الأصول والضوابط حسب القانون الإسلامي قد صارت المنهج لجميع الدول الإسلامية وإماراتها التي قامت في ما بعد.

ومن الصعب تناول جميع أحوال الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية وطبيعة العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في هذا المقال، إلا أنني سأتناول هنا الأرضية التي أقام عليها محمد بن القاسم العلاقات مع الهندوس؛ وذلك أنه بعد قيام الدولة العربية في السند، كانت أول إشكالية أمام الإدارة الجديدة تحديد وضع شرعي للهندوس؛ أي تحديد ما إذا كان سيتم التعامل معهم على أساس أنهم من الذميين أم أن الهند ستكون بالنسبة لها داراً للحرب، ويتمّ التعامل مع الأهالي بناءً على ذلك. وعلى حسب المصدر المعاصر، وضعهم محمد بن القاسم الثقفي في زمرة الذميين على حسب القانون الإسلامي، وأعطاهم الحرية الدينية والثقافية مع السماح لهم ببناء وترميم المنادر القديمة، وقامت الإدارة بتحرير الوثيقة القانونية مع التأكيد لأهالي الهند على الحرية الدينية وعدم التعرض لأموالهم وممتلكاتهم(9). وعلى الرغم من أنه لا توجد مادة تاريخية موثقة تؤكّد قيام محمد بن القاسم بذلك بناءً على التعليمات الآتية من المركز؛ إلا أنه يمكن فهْم أنه قام بذلك بأمر الإدارة المركزية. وأكد كثير من الباحثين المحدثين أنه قام بذلك بعد التشاور مع والي العراق والعلماء والفقهاء في هذا الشأن(10)

والسؤال الذي يُطرح هنا هو كيف كان لهم أن يضعوا الهندوس في زمرة الذميين مع أنهم ليسوا من أهل الكتاب؟ وعلى حسب المصادر المعاصرة الإدارة الإسلامية عدتهم من «شبه أهل الكتاب»، ومن هنا وضعوهم تحت زمرة الذميين(11) وهذا يدل على أن علم أصول الفِقه تطور جداً في ذلك الوقت والعلماء والفقهاء اجتهدوا في أن الهندوس ليسوا من الكفار، وبناءً على ذلك تمَّ التعامل معهم كأهل الكتاب. وعلي أن أناقش هنا بعض القضايا المهمة ومنها:

الحرية الدينية للهندوس:

هل أرغم المسلمون الهندوس على اعتناق الإسلام بالإكراه، أو لم يسمحوا لهم بممارسة النشاطات الدينية؟ على حسب الوثيقة القانونية التي حررتها الإدارة الإسلامية تمَّ التأكيد أن الذين يفضلون أن يقيموا في ظل الإدارة الإسلامية مع البقاء على مذاهبم سيطبق عليهم قانون الجـزية، وبناءً على ذلك سيحصلون على الحرية الدينية الكاملة، وسيتم التعامل معهم بكل العدل والإنصاف. ويلقي الضوء على هذه المسألة بوضوح تام الالتماس الذي قدّمه رجال الدين من معبد برهمن آباد لحضرة محمد بن قاسم رضي الله عنه ، وضحوا فيه موقف الهندوس من عدم التردد على المعابد الهندوسية خوفاً من المسلمين الذين استولوا على هذه المنطقة. وقد التمس رجال الدين من محمد بن قاسم اتخاذ خطوة جادة لاستئناف النشاطات الدينية مع رفع الخوف والفزع من قلوب الهندوس. وأرسل محمد بن قاسم بدوره التماسهم إلى الوالي الحجاج بن يوسف الذي ردَّ عليه قائلاً: «استلمتُ رسالتك وعرفت الأوضاع هناك. إذا أراد الهندوس وكبيـرهم أن يعمروا المعابد الهندوسية وترميمها مع استئناف النشاطات الدينية، فما داموا يؤدون ما عليهم من واجبات مالية على حسب قانون الجـزية المتفق عليه؛ فلهم ما يريدونه؛ لأنهم قبلوا الطاعة ووافقوا على دفع الجـزية، فمن حقهم أن يمارسوا حريتهم بالأسلوب الذي يروق لهم، وكذلك ليس لنا أي حق أن نحصل منهم أي محصول آخر. ولأنهم صاروا ذميين فعلينا أن نحافظ على أموالهم وأرواحهم، ولهم الحرية أن يمارسوا دينهم كيفما يشاءون، ولن يُمنع أحد من ممارسته الدينية والمذهبية، ولهم الحرية أن يعيشوا في منازلهم كيفما يشاءون»(12). ومن هنا لم تُبق الإدارة الإسلامية للبراهمة ورجال الدين على مراكزهم الدينية فحسب؛ بل صدرت أوامر ـ حسب الوثيقة ـ توفر لهم الحماية الكاملة، ومنحت لهم الثقة واعترفت بمكانتهم الدينية(13). وليس هذا فقط؛ إنما أكد محمد بن قاسم في الوثيقة ـ بعد فتح مدينة أرور صلحاً ـ أنه سيعدّ من الآن وصاعداً المعابد الهندوسية والبوذية مثل كنائس النصارى ومعابد اليهود وبيوت نيران المجوس، ووضع عليهم الجزية والخراج وبنى مسجداً(14) وهذه الشهادات تقف دليلاً على أن العرب الفاتحين قد نفذوا شروط الصلح الخاصة بالحرية الدينية والاجتماعية، فأعطوا الهندوس الحرية التامة في ممارسة شعائرهم الدينية ولم يسعوا بالتدخل في شؤونهم الخاصة.

الحرية الاجتماعية للهندوس:

ولم تُعطَ لهم الحرية لممارسة العبادات فحسب؛ بل صرحت لهم الإدارة الجديدة بترميم وبناء المعابد الجديدة، وقد أكد محمد بن قاسم لهم على أن المعابد الهندوسية تأتي في زمرة الكنائس والمعابد اليهودية والمجوسية والتي كانت توجد بكثرة في العراق والشام كما ذكرتها آنفاً(15). وإلى جانب إعطاء الحرية الدينية قامت الإدارة الجديدة بمراعاة حقوقهم الاجتماعية للاحتفاظ بمكانتهم الاجتماعية؛ فكان لهم الحرية التامة في ممارسة العادات والتقاليد والنشاطات الاجتماعية. وجاء في الوثيقة أن لهم الحرية التامة لإقامة أعيادهم وحفلاتهم الدينية وغير الدينية على حسب العادات والتقاليد السائدة عندهم(16). ومنحت الإدارة الجديدة الثقة الكاملة للإداريين مع الاعتراف بمكانتهم الإدارية، وعهدت إليهم بكافة الأعمال والمسؤوليات الإدارية بالبلاد، ولقب محمد بن قاسم عمد القرى بـ «رانا»، وجعل بعض الوظائف وراثية لبعض الأُسر الهندوسية دون نقلها إلى غيرها(17).

وبسبب من اتخذهم محمد بن قاسم معاونين له وغمرهم بمنحه وعطاياه وتعامله معهم بكل مودة وتقدير، فإن كثيراً منهم بدأوا يزورون القرى والأرياف لإقناع الناس بالإدارة الجديدة وتعاملها الخاص مع الأهالي، وقد عبّروا عن مشاعرهم وثقتهم في الإدارة قائلين: «يا أيها الناس، أنتم تعلمون جيداً أن الراجا داهر قُتل وصارت أحوال غير المسلمين سيئة، وقامت لأهل العرب الدولة في كثير من المناطق السندية، واختارت هذه الدولة الفتية منهجاً خاصاً في التعامل مع الشعب ألا وهو مبدأ المساواة المطلقة بين البشر واحترام كرامة الإنسان وأعطوا لنا الحرية الدينية الكاملة وتحلوا بالسماحة نحو عاداتنا وتقاليدنا. وقد التحقت شؤوننا كافة بالإدارة الإسلامية الجديدة الآن. ولولا حكم الملك الجديد لما حصلنا على الأموال والأرزاق. ولهم فضل علينا كبير؛ حيث إنهم منحونا المناصب العليا، ولم تجبـرنا الإدارة الجديدة على الهجرة إلى مكان آخر، ولم نحرم من الأموال والأرزاق، وأموالنا وأراضينا وعقارنا وعيالنا محفوظة في ظل هذه الإدارة الجديدة»(18).

الحقوق الاقتصادية للهندوس:

حسب الشريعة الإسلامية يعدّ غير المسلمين الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية أهل الذمة، على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فتوفر الإدارة الإسلامية لهم الحماية الكاملة من الاعتداء الخارجي، والمنع من الظلم الداخلي، وعدم التعرض للتعذيب أو سوء المعاملة، وحماية أعراضهم وأموالهم وسائر مقدساتهم، مقابل مبلغ من المال لا يفرض إلا على القادر منهم، ولهم على ذلك ذمة الله ورسوله. وقد أصبح الهنود بعد الفتح الإسلامي للهند أهل ذمة، شأنهم شأن سكان البلاد الأخرى التي فتحها العرب المسلمون، فأصبحوا في ذمة المسلمين بعد إعطاء محمد بن قاسم والإدارة الإسلامية الفتية العهد والأمان على أنفسهم وأملاكهم، ونسائهم وأطفالهم، وحرياتهم الدينية والمدنية، والتعهد بدفاع المسلمين عنهم. وبناءً على ذلك أكد القائد محمد بن قاسم لأهالي الديبل، والنيرون، وبرهمن آباد، وأرور والمدن الأخرى الواقعة في السند والملتان على حماية أرواحهم وأموالهم من خلال تنظيم الشؤون الإدارية والمالية، مؤكداً على أن الإدارة تضمن ذلك ولن تسمح لأحد أن يعتدي عليهم وعلى أموالهم وأعراضهم ولهم على ذلك الذمة والميثاق. ووضح ذلك في الوثيقة المعلنة قائلاً: إن الذين دخلوا في زمرة الذميين ستبقى أموالهم وأراضيهم في حوزتهم ولا يجوز لأحد أن يتعرض لها، فهي محرمة بنص القرآن والحديث(19).

وأكد الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي على ذلك في رسالته المرسلة إلى القائد محمد بن قاسم موضحاً وضع الهندوس، وقائلاً: طالما هم دخلوا إلى زمرة الذميين، فليس لنا أي حق في التعرض لأموالهم وأرواحهم، إنما يجب علينا الآن أن نوفر لهم الأمن الداخلي والخارجي ونحمي أموالهم وأرواحهم(20) وتؤكد الحوادث في ما بعد أن الإدارة الإسلامية وفت بوعدها قولاً وفعلاً، حيث أمر القائد محمد بن قاسم الثقفي بتقديم المساعدة المالية لعشرة آلاف من التجار والحرفيين والفلاحين الذين خسروا أموالهم وتجارتهم بسبب الحروب التي دارت لدى الفتوحات الإسلامية(21) فهل هناك حماية مالية أكثر من ذلك؟ ولم تعط الإدارة الفتية للهندوس الحرية الكاملة لممارسة النشاطات التجارية والزراعية والحرفية فحسب؛ بل كانت ترغبهم في ممارسة التعامل التجاري والاقتصادي مع المسلمين دون أدنى خوف، مع محاولة تحسين أوضاعهم الاقتصادية والمالية(22) وتؤكد على ذلك رسالة بعث بها الوالي الحجاج إلى محمد بن قاسم مشيراً إلى هذه النقطة المهمة؛ أن الإسلام أعطاهم الحق في العمل والتكسب كما يشاءون، وهم في المعاملات التجارية وسائر التصرفات كالمسلمين، ولا بد من إعطائهم الحرية الكاملة لممارسة عملية التجارة والزراعة مع توفير حمايتهم الكاملة. فيقول: «يعطى الأمان لكل من يقبل الطاعة، وتقرر عليهم المحاصيل المقررة، ولا تثقل كواهل الحرفيين، والزراع والتجار والذين يبذلون جهودهم في تطوير الزراعة وتنميتها، عليك أن تتعامل معهم بمنتهى الود والتسامح الكامل وتقدم لهم المساعدة الزراعية. والذين يعتنقون الإسلام منهم يُؤخذ منهم العشر، والذين لا يـزالون على دينهم وعقيدتهم يؤخذ من زراعتهم وأموالهم التجارية حسب القوانين الشرعية المتعلقة بها»(23)

وإلى جانب حماية الهندوس وأموالهم وأرواحهم أقرت الإدارة الإسلامية بملكية الهندوس لأراضيهم من خلال تنفيذ قانون الخراج(24). وكذلك اعتمدت الإدارة على العناصر الهندوسية ذات الخبرة العالية في عملية الإدارة والمال. بل وتركت هذه الأعمال لهم، ووظفتهم على مناصب «أمين»، و«العامل» وغيرها من المناصب الإدارية والمالية(25). وتجدر الإشارة هنا إلى أن القائد محمد بن قاسم أمر الإداريين المختصين بالمالية بالسير على سياسة العدل والرحمة عند جباية الجـزية والخراج من الهندوس، ونصحهم بالرفق بهم في جميع المعاملات، وايجاد العلاقات، والتعامل على أساس الحب والأمانة والصدق بين بعضهم بعضاً(26). ولم يكتف بذلك؛ بل قابل رؤساء جميع الطبقات الهندوسية فرداً فرداً لطمأنة قلوبهم وإزالة الشعور بالخوف من الإدارة الجديدة، مؤكداً على الحماية الكاملة لأموالهم وممتلكاتهم نظير دفع المحاصيل المقررة من جانب الإدارة، والتعامل الجيد دون الإكراه على شيء، والنظر في جميع الشكاوى المقدمة من جانبهم واتخاذ الإجراءات اللازمة في وقتها(27).

وتؤكد هذه التفاصيل المذكورة أعلاه أن القائد محمد بن قاسم الثقفي أعطى الهندوس جميع الحقوق المشروعة، وعاملهم معاملة حسنة: بالتسامح، والعدل، والصدق، والأمانة، وبالرفق، واللين، وحاول بكل طرق إسعاد الهندوس وطمأنتهم على حريتهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية. وعلي هنا أن أذكر مقتطفات من تلك الرسالة التي بعث بها الوالي الحجاج إلى القائد لدى فتح منطقة «نيرون»، ناصحاً إياه بالمعاملة الجيدة مع الهندوس والرفق بهم في جميع المعاملات، قائلاً: «هناك أربع دعائم لتأسيس الدولة؛ أولاها: مداراة الناس من دون أي تمييز عرقي أو ديني واجتماعي، ومواساتهم للتخفيف من حـزنهم ومصابهم، والتسامح، والمصاهرة. ثانيتها: إعطاء الناس الأموال والعطايا، ثالثتها: أخذ الرأي السديد ضد العدو واتخاذ الإجراءات اللازمة بحسب ذلك. رابعتها: مظاهر السيادة والقوة والشوكة العظيمة(28).

ولا شك أنه أخذ هذه الوصايا والتعليمات بعين الاهتمام، وأسس دولته على هذه الأُسس مع وضع نظام للعطايا والرفق بالرعايا وتحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا أصبحت أرض السند بعد ذلك تدنو إليه ويطوى له بعيدها، فكثير من المناطق الهندية لم يرفع أهلها السيوف طلباً للصلح الذي لم يبخل به عليهم(29).

وفي نهاية المطاف يجب أن أوضح بعض الأمور المهمة، ومنها أنه على الرغم من أن القائد محمد بن القاسم الثقفي سار على سياسة التسامح الديني والاجتماعي والاقتصادي مع جميع الفئات من المجتمع الهندي المكون من البراهمة، والبوذية، والطبقة العليا والمتوسطة والدنيا؛ ولأن المصادر المعاصرة ـ لا سيما چچ نامه ـ تذكر البراهمة أكثر من أي فئة أخرى في سياق التسامح الديني والاجتماعي والاقتصادي، كما جاء في المباحث المذكورة أعلاه. قد يكون السبب في ذلك أن البراهمة كانوا ذوي المكانة الكبيرة في المجتمع، وكان لهم جولة وصولة في العملية السياسية والإدارية والسيطرة الكاملة عليها قبل الفتوحات الإسلامية لها، ومن هنا، كان هذا الأمر يتطلب من الإدارة الإسلامية مداراتهم ومواساتهم وتأنيسهم وجبـر خاطرهم.

إلى جانب ذلك كانت الإدارة الإسلامية قد وجدت هذه الفئة لدى الفتوحات الإسلامية لها الصدارة في مجال السياسة والحرب، ومن هنا تمت جميع المعاهدات والمعاملات معهم، ومن هنا نجدهم مذكورين في كتب التواريخ المعاصرة أكثر من الفئات الأخرى. وتشهد الحوادث التاريخية المذكورة أعلاه، أنه تعامل مع جميع الفئات بالتسامح الكامل، وأعطى الجميع الحقوق الكاملة في جميع المجالات مع العدالة الاجتماعية. ويدلل على هذا شعبيته بين الناس وحسن اعتقادهم به وسمعهم وطاعتهم، وتؤكد ذلك غضبهم الشديد وحـزنهم العميق لدى خروج القائد من الهند(30).

وجميع المؤرخين من القدامي والمحدثين نجدهم منطلقي اللسان بذكره والثناء على أوصافه الحميدة، لا سيما في ما يتعلّق باهتمامه بتحسين أحوال الرعية، والتسامح، والعدالة الاجتماعية، ورعاية حقوقهم الدينية والسياسية والإدارية والاقتصادية(31). ومدح كثير من المؤرخين الهندوس أعمال القائد محمد بن قاسم، ومنهم المؤرخ الكبير بيني پرساد الذي يذكر أعمال القائد معلقاً على إدارته في السند قائلاً: «ومن الشروط اللازمة لنجاح دولةٍ ما في الهند إعطاء الرعايا الحرية الدينية الكاملة لممارسة معتقداتهم وشعائرهم الدينية. وقد أحسَّ القواد المسلمون لدى الفتوحات الإسلامية بأهمية التسامح الديني والعقائدي، ومن هنا أقاموا سياساتهم بحسب هذه النظرية. وأكبر مثال على ذلك نجده في النظم الإدارية التي قامت تحت رعاية محمد بن قاسم وإشرافه في القرن الثامن الميلادي في السند»(32).

وهكذا رأينا سماحة الإدارة الجديدة وثقتها في القادة والجماهير واستعانتها بهم، وهم في المقابل قاموا بالتعاون معها في كل شيء. وقد اتخذ القائد محمد بن قاسم بعض السياسات التي كانت موضع تقدير وإكبار من القادة والسكان المحليين على السواء(33) وتشهد القرائن التاريخية على أن العلاقات مع الهندوس كانت عامة مبنية على التسامح والعدالة والإنصاف في جميع العصور الإسلامية. وهذا ما سنراه في الصفحات التالية في عصري كل من سلطنة دهلي والدولة المغولية في ضوء الكتب الفقهية.

الفِقه والفقهاء في عصر سلطنة دهلي:

كما ذكرتُ في الصفحات السابقة أن مسألة وضع الهندوس قد حسمها العلماء والفقهاء في عصر الدولة العربية لدى الفتوحات الإسلامية لها بقيادة محمد بن قاسم الثقفي. ولكن يبدو أن العلماء والفقهاء في عصر سلطنة دهلي اجتهدوا مرة ثانية في المسائل المتعلقة بالهندوس، لا سيما الوضع الشرعي لهم ونوعية العلاقات معهم على ذلك الأساس. وقد تناولوا هذه القضايا في الكتب الفقهية العديدة التي دوّنها العلماء والفقهاء آنذاك. وقبل أن أدرس القضايا المتعلقة بوضع الهندوس وعلاقتهم مع الدولة والمسلمين، علي أن أذكر نبذة سريعة حول تاريخ الفِقه والفقهاء في عصر سلطنة دهلي لاستيعاب الموضوع ولطرح القضايا ومناقشتها في ضوء هذه الكتب الفقهية.

بعد سقوط الخلافة العباسية في سنة 656هـ/1258م، هاجر كثير من الأسر العلمية إلى الهند واستقرت في دهلي التي تطورت في رعاية سلاطين دهلي سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً. ووجدت هذه الأسر المهاجرة في دهلي الرعاية العلمية والتي صارت آنذاك من أكبر المراكز العلمية والفقهية(34) ولدى تأسيس سلطنة دهلي ظهرت المسائل والقضايا العديدة مما دفع السلاطين إلى الاعتماد على العلماء والفقهاء للبحث والاجتهاد في التراث الإسلامي والقيام بالفتاوى حسب المسائل والقضايا، ومن هنا نشط علم الفقه وفاق بقية العلوم، وإلى جانب ذلك، كانت دار القضاء تتطلب أكبر قدر من الفقهاء والقضاة لحل القضايا الدينية والاجتماعية والاقتصادية، مما جعل كثيراً من العلماء يشتغلون في هذا المجال، وكان هذا الأمر يوفر لهم السبيل للتوظيف والقرب عند السلطان والإدارة(35) وهكذا نالت علوم الفِقه مكانة مرموقة بين سائر العلوم الأخرى، وتمَّ توسعة دراستها في المدارس ودار القضاء على السواء(36). فكانت مدارس الفقه الحنفي هي المسيطرة على باقي المذاهب، وجاء في المصادر العربية أن عدد المدارس الفقهية التي وجدت في عاصمة دلهي ألف مدرسة منها مدرسة واحدة للفقه الشافعي والباقي للحنفية(37).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن سلاطين دهلي بصورة عامة كانوا أشد اعتناءً بالمسائل الفقهية وبمصاحبة الفقهاء والعلماء، فكانوا يبحثون ويتناقشون حول القضايا الفقهية، كما كانوا يأخذون منهم الآراء والفتاوى حول موقف الشريعة الإسلامية من القضايا المتعلقة بالحياة السياسية والدينية والاجتماعية والشؤون الإدارية، وكانوا يأخذون آراءهم قبل اتخاذ القرارات في المسائل الجديدة(38). وعلينا أن نذكر هنا مثالاً لذلك، حيث تفيد المصادر المعاصرة أن السلطان علاء الدين الخلجي طلب من القاضي مغيث الدين بيانوي الجلوس معه للبحث والحديث حول بعض القضايا والمسائل وموقف الشريعة الإسلامية منها. ومن ضمن الأسئلة المهمة التي طرحت عليه ما يتعلق بوضع الهندوس الشرعي وكيف يعدّون من أهل الذمة(39) وكذلك طُرح سؤال آخر متعلق بوضع البراهمة؛ أي رجال الدين الهندوس في عهد السلطان فيروز شاه تغلق، سائلاً: هل يمكن إعفاء البراهمة من دفع الجـزية؟(40) وما العقوبة للبرهمن الذي فتح مركزاً خاصاً لنشر الكفر والشرك وترويجه جهاراً والذي دفع امرأة إلى الارتداد عن الإسلام؟(41)

ولم تتوقف مسألة رغبة سلاطين دهلي واهتمامهم بالفقه الإسلامي في عملية التعليم والتربية والبحث والمناقشة حول المسائل الفقهية؛ وإنما اهتموا أيضاً بتدوين المجموعات من الفتاوى وترتيبها في صورة كتاب، فأشرف بعض هؤلاء السلاطين على بعض المشتغلين من الفقهاء في هذا المجال شخصياً، وقام بعضهم الآخر بإعدادها تحت رعاية سلاطين دهلي الخاصة. وكذلك قام العلماء والفقهاء بشرح بعض الكتب الفقهية المنتشرة في المدارس الإسلامية، ومنها مختصر القدوري، والهداية، والوقاية، وكنـز الدقائق والمنار وغيرها، ودونوا بعض الكتب الفقهية باللغة العربية والفارسية ومنها على سبيل المثال: «مطالب المؤمنين» لبدر بن تاج لاهوري، و«فقه مخدومي» لمخدوم علي بن مهائمي، و«طرفة الفقهاء» لركن الدين الملتاني، و«فوائد فيروز شاهي» لشرف بن محمد العطائي، و«تيسير الأحكام» للقاضي شهاب الدين دولت آبادي، و«عدة الناسك في المناسك» لعمر بن إسحاق الغـزنوي، و«كتاب الفرائض» لرضي الدين حسن بن محمد الصغاني، و«نصاب الاحتساب» للقاضي ضياء الدين سنامي، و«زبدة الأحكام في اختلاف الأئمة الأعلام» لصفي الدين محمد بن عبد الرحيم الشافعي، وغيرها(42). وتجدر الإشارة هنا إلى أن عملية جمع آراء الفقهاء وفتاواهم في المسائل المعروفة وترتيبها وتأليفها حسب الموضوعات كانت من النشاطات المعروفة آنذاك في مجال علوم الفقه، والتي نشطت منذ القرن الرابع الهجري وتم تداولها ورواجها في القرنين الثامن والتاسع الهجريين. وكانت لهذه المجموعات الفقهية أهمية بالغة في معرفة المسائل الفقهية، وكان العلماء وأهل العلم يستفيدون من هذه المواد الفقهية بكل سهولة ويسر، لا سيما أنها كانت مفيدة للغاية للقضاة والمفتين. وكانت لمجموعات الفتاوى التي تعكس المسائل المعاصرة في فترة البحث أهمية بالغة بين العلوم الأخرى(43).

وقد أسهم كل من العلماء والفقهاء وسلاطين دهلي في تدوين الفتاوى وتأليفها ونشرها من خلال تشكيل اللجنة العلمية للإشراف على عملية تدوين الفتاوى وتأليفها وترتيبها. وبدأت هذه النشاطات منذ تأسيس سلطنة دهلي وقويت في العصور التالية. ومن أهم المجموعات التي دونت في ذلك الوقت ـ من خلال التعاون بين السلاطين والعلماء ـ: الفتاوى الغياثية(44)، وفتاوى فيروز شاهية(45)، وفتاوىتاتارخانية(46)، وفتاوى إبراهيم شاهي(47). وسوف أناقش قضية العلاقات بين المسلمين والهندوس معتمداً على هذه الفتاوى أو بعضها لاستيعاب عصر سلطنة دهلي. وقبل الدخول في غمار الموضوع، ولدى الاطلاع على المواد الفقهية ومسائلها المختلفة ومحاولة حلها من خلال الفقهاء والعلماء، نستطيع القول: إن سلاطين دهلي اهتموا اهتماماً بالغاً بتطوير الفقه الإسلامي آنذاك، وأحاطوا بالرعاية الكاملة الفقهاء المتخصصين وأكرموهم نظير جهدهم في عملية تدوين الفتاوى في المجلدات، إلى جانب تقدير أهمية هؤلاء العلماء والفقهاء والرجوع إليهم في المسائل والقضايا الدينية والفقهية والبحث معهم عن الحلول لحل القضايا والمسائل الفقهية. وليس فقط هذا، بل أشرف بعض السلاطين إشرافاً كاملاً على تدوين مجموعة الفتاوى وإخراجها من خلال تشكيل اللجنة العلمية وفي شكل مبسط وميسر. ولا شك أن إسهامات السلاطين هذه كان لها دور بالغ الأهمية في عملية إعداد الفتاوى. وتركت أثراً كبيراً في الحياة الثقافية العامة. وقد أدى إلى ازدياد تنشيط العلماء والفقهاء في هذا المجال، وزادت الرغبة عند العامة والخاصة لمعرفة وجهة النظر الشرعية حول القضايا المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع إلخ...، وكان ذلك باعثاً كبيراً لنشر الأحكام الفقهية وتوسيع نطاقها في شبه القارة الهندية آنذاك.

وضع الهندوس الشرعي وعلاقتهم مع المسلمين:

ذكرت آنفاً في الصفحات السابقة أن هذه المسألة طرحت لأول مرة عندما قامت الدولة العربية تحت قيادة القائد محمد بن القاسم الثقفي. وقد اجتهد العلماء المعاصرون توضيحاً في هذه المسألة ووضعوهم في زمرة شبه أهل الكتاب، فصاروا من الذميين(48). وحسب المصادر المعاصرة تم تنفيذ جميع القوانين الخاصة بالذميين عليهم، ومن هنا حصلوا جميع الحقوق حسب الشريعة الإسلامية. وقد أخذت هذه المسألة أهمية بالغة في عصر سلطنة دهلي، ومن ثم فقد أدلى العلماء والفقهاء كلٌّ بدلوه في هذا الأمر. فكانت طبقة من العلماء موافقة على وضع الهندوس في زمرة شبه أهل الكتاب، ولكن طبقة ثانية من العلماء كانت ترفض ذلك حسب المذهب الشافعي. وكان العالم والمفتي الكبير السيد نور الدين مبارك الغزنوي ينتمي إلى الطبقة الثانية(49)، وكان معاصراً للسلطان ايلتتمش المتوفى 633هـ/1236م(50).

وحسب بعض المصادر المعاصرة وصل وفد من العلماء لمقابلة السلطان والنقاش معه في هذا الشأن، وأشاروا عليه بعدم إعطاء حقوق الذميين للهندوس في الهند(51) ومن الممكن جداً أن العالم نور الدين مبارك الغزنوي كان قد ذهب مع هذا الوفد إلى السلطان، وكان صاحب الكتاب نفسه يرفض فكرة وضع الهندوس في زمرة الذميين(52) ولكن الجمهور من العلماء من الحنفية والشافعية أفتوا بوضعهم في زمرة أهل الكتاب والتعامل معهم على ذلك الحساب، وكان سلاطين دهلي أنفسهم قد ساروا على هذه الطريقة والتي تؤكد عليها المصادر المعاصرة(53). وتحمل المصادر المعاصرة مصطلح ذمي للهندوس والفئات الأخرى غير الإسلامية آنذاك. فهناك مثلاً فتوحات فيروز شاهي، الذي يؤكد على استعمال مصطلح ذمي للهندوس فحسب؛ ويبرهن على تنفيذ القوانين المتعلقة بأهل الذمة عليهم(54). وحسب الفتاوى التاتارخانية تمَّ تقسيم غير المسلمين في القارة الهندية إلى طبقات عديدة مع توضيح موقف العلماء واختلافهم حول ذلك، وبعضهم أفتوا بأنه لا ينبغي أن يوضع المشركون من غير العرب في درجة الذميين؛ لأنهم ليسوا من أهل الكتاب ولا هم من المجوس(55). ثم اتفق بعض الفقهاء على أنه من الممكن أن يتم اعتبار الهندوس كذميين لو اعترفوا بالدولة الإسلامية وقوانينها ووافقوا على المعيشة تحت الحكم الإسلامي مع عدم الإعانة على قتل المسلمين وإثارة الفتن والفساد في المجتمع وعدم إعانة الأعداء أو مكاتبتهم بأخبار الدولة الإسلامية(56). وهناك كتب فقهية أخرى مثل «طرفة الفقهاء» التي يظهـر من المسائل المذكورة فيه أنه من الممكن أن يوضع الهندوس والمشركون في زمرة الذميين(57). ومن المعروف عن أهداف الجـزية في الإسلام أنه بعد وضع الناس في زمرة الذميين تجري عليهم الجـزية ليقروا بها في دار الإسلام، وتحمي الإدارة المعنية حياتهم وأموالهم، وانطلاقاً من هذه الرؤية أشار بعض الفقهاء على سلاطين الهند بوضع الاهتمام الكبير بحماية حياة جميع الناس وأموالهم والدفاع الكامل عنهم من دون أي فرق بين مسلم وهندوسي من أي عدوان خارجي أو داخلي، وذلك من ضمن المسؤوليات التي تقع على الإدارة المعنية حيال الرعايا غير المسلمين(58). وعلى حسب آراء الفقهاء، فإن الله تعالى كما حرم سفك دم المسلم؛ فقد حرَّم كذلك قتل غير المسلم إذا كان معاهداً أو ذمياً سواءً كان رجلاً أو امرأة، فغير المسلم معصوم الدم والمال في الإسلام كالمسلم، فلا يجوز الاعتداء عليه بأي حال من الأحوال إذا كان صاحب عهد أو أمان أو ذمة. فقد جاء عن نبينا محمد (ص) أنه قال: «ألا من قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً»(59). ومن هنا لا يكون ثمة أدنى فرق بين مسلم وغير مسلم في مسألة دفع الدية في أنواع القتل الذي يجب فيه دفع الدية بدلاً من القصاص(60).

موقف العلماء والفقهاء من غير المسلمين:

كان الهندوس ـ حسب المصادر المعاصرة ـ يعيشون بكل رفاهية في رعاية الدولة التي كانت تسهم في بناء وعمران جميع المناطق من دون أدنى تمييز، وكان غير المسلمين يتمتعون بكافة الحريات الدينية والاجتماعية والثقافية(61). وكانوا مندمجين اندماجاً تاماً بالمسلمين مما أدى إلى ظهور المسائل الكثيرة في عصري سلطنة دهلي. وعلينا أن ننظر في هذه المسائل من خلال كتب الفتاوى مثل الفتاوى التاتارخانية، والغياثية، وفتاوى فيروز شاهية، والأخيرة تم تدوينها في صورة الإفتاء والاستفتاء، والتي تعبر عن آراء العلماء بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول(62). وقد جاءت فيها تفاصيل عن طبيعة وضع الهندوس في العصور الوسطى. والقضايا التي تم طرحها ونقاشها في هذه الفتاوى تتعلّق بالمسائل الخاصة حول طبيعة العلاقات بين الطرفين في الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية. وبرغم أنه تم استخدام مصطلح «ذمي» عامة في جميع الكتب الفقهية، ولكن يمكننا أن نطبق ذلك على الهندوس. وعلينا أن نذكر أولاً الحياة الاجتماعية في ضوء هذه الفتاوى، لا سيما فتاوى فيروز شاهي والتاتارخانية والغياثية وغيرها. وأذكر في التالي بعض الأحكام حول العلاقات مع غير المسلمين كما جاءت في فتاوى فيروز شاهي مع المقارنة بكتب الفتاوى الأخرى:

سؤال: هل يجوز لمسلم أن يرد على سلام ذمي بصيغة «وعليك»؟

جواب: لا بأس في ذلك(63)

سؤال: هل يجوز لمسلم أن يتبادل الودّ والمحبة مع الذمي ويزوره، إذا كان جاراً أو شريكاً في عمل أو تجارة أو ما شابه؟

جواب: يجوز ذلك. وهكذا نرى أنهم أجازوا التعامل مع الهندوس في البيع والشراء ومشاركتهم في التجارة(64). وهناك مسائل أخرى تتعلّق بالتعامل التجاري والاقتصادي بين الطرفين. وبالجملة، يتضح من المسائل المتفرقة الموجودة في الكتب الفقهية أنه يجوز التعامل التجاري والاقتصادي بين الطرفين في الحدود الشرعية الإسلامية.

سؤال: هل يجوز لمسلم أن يـزور ذمياً مريضاً؟

جواب: يجوز ذلك(65).

سؤال: هل يجوز الأكل والشرب في أواني الذميين والمشركين؟

جواب: يجوز ولكنه مكروه(66).

سؤال: هل يجوز إعطاء صدقة الفطر والتصدق على الذميين الفقراء؟ وهل يثاب المتصدق على فعله هذا؟

جواب: يجوز ذلك. ولا بأس بالتصدق عليهم، ويثاب المتصدق على فعله ذلك(67)

سؤال: هل يجوز شرعاً أن يقدم الطعام للذمي في الكفارة؟

جواب: نعم يجوز ذلك(68).

سؤال: هل يجب لشخص مسلم أن يراعي أبويه مشركين ويخدمهما والإحسان إليهما؟

جواب: نعم يجب الإحسان إليهما والانفاق عليهما إن كانا محتاجين، وتأمين حوائجهما المعيشية، وتلبية طلباتهما، ومصاحبتهما بالمعروف وعدم الإساءة إليهما قولاً أو فعلاً وإن كانا مشركين(69)

ويتضح من هذه الأسئلة والأجوبة المذكورة أعلاه أن فتاوى فيرز شاهي وغيرها تجـيز إيجاد العلاقات الجيدة مع غير المسلمين والاستمرار في التعامل معهم في الحياة الاجتماعية. وكذلك يبيّن من خلال مقارنة الآراء بين الفقهاء أن واضعي فتاوى فيروز شاهي متفقون مع الفقهاء الآخرين الذين يرجحون التعامل الجيد والرفق بغير المسلمين. والسؤال الأخير يوضح بعض المسائل التي ظهرت بسبب اختلاف الدين في الأُسرة الواحدة المشتركة. ولا شك أنه كانت هناك نماذج عديدة لقيام بعض الأشخاص باعتناق الإسلام مع بقاء باقي أفراد الأُسرة على دينهم. وكانت من أبرز المسائل التي يمرُّ بها المجتمع الهندي آنذاك. وقد أكد الجواب الأخير المذكور في الفتاوى أنه يجوز لمعتنقي الإسلام أن يحافظوا على علاقتهم الإنسانية مع أبويهم المشركين بل يجب ذلك، وكذا مع الأفراد الباقين في الأسرة وعليهم أن يحسنوا التعامل معهم ويؤدوا حقوقهم. ولكن في الوقت نفسه تتحدّث القضايا المتعلقة بحدود طاعة الوالدين وفقه التعامل معها إذا تعارضت أوامرهما مع أوامر الله ورسوله مؤكدةً على أنه لا طاعة للوالدين إذا أمرا بمخالفة الشرع أو معصية الله(70)

ولما كان المجتمع الهندي مكوناً من مجموعة من الطوائف الدينية من الهندوس والمسلمين وغيرهم والذين كانوا يعيشون معاً ويتم التعامل التجاري والاقتصادي بينهما في الحياة اليومية؛ كان من المستحيل ألا يرتبطا معاً من خلال المعاملات الخاصة والعامة كجيران وكسيد ومسود وكدائن ومدين. وقد ناقَشَت فتاوى فيروز شاهي وغيرُها مثل هذه المسائل الاجتماعية التي يتضح منها أن الهندوس كانوا يحصلون على حقوقهم المعيشية التي كانت الإدارة توفرها إليهم، وكانوا يتمتعون بالحصانة الاجتماعية وضمانها لهم. وسنرى ذلك في الأسئلة التالية:

سؤال: ما رأيكم في أنه يبيع زيد بيته لعمرو بطريقة شرعية صحيحة؛ ولكن الذمي، وهو الجار وله حق الشفعة في بيعه، هل يستطيع أن يمتلك هذا البيت من زيد بشروطه التي حدّدها الفقهاء في مسألة حق الشفعة؟

جواب: نعم يستطيع ذلك(71)

سؤال: لو كان على مسلم دينٌ مائة درهم لذمي ما، وهو يراوغ في دفع الدين له، فهل يجوز حبس المسلم بسبب ذلك؟

جواب: نعم يجوز ذلك(72)

سؤال: لو قام ذمي باستصلاح أرض بوار وزرعها فهل سيكون مالكاً لها؟

جواب: نعم يجوز له أن يمتلك هذه الأراضي(73).

سؤال: هل يجوز لغير المسلمين الذين وافقوا على دفع أموال الجـزية والخراج أن يبيعوا جـزءًا من أراضيهم ويتصرفوا فيها كيفما يشاءون؟

جواب: نعم يجوز لهم أن يفعلوا ذلك(74).

سؤال: لو اشترى ذمي الأراضي العشرية، فهل ينطبق عليه قانون دفع الخراج أم العشر؟

جواب: يجب عليه أن يدفع الخراج وليس العشر(75)

وهكذا نرى من خلال هذه الفتاوى أنه كان من حق الذميين امتلاك الأراضي والعقارات، وأن يتصرفوا فيها من خلال البيع والشراء مثلما كان المسلمون يتمتعون بمثل هذه الحقوق في الأراضي والعقارات. وعلاوةً على ذلك كان لهم حق أيضاً أن يمتلكوا أرضاً بواراً حسب قوانين الشريعة(76). وكذلك نستطيع أن نقدر التحفظ الذي تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ ممتلكات الذميين، ولا يسمح لأحد أن يتلف الأشياء الخاصة بهم والتي يجوز لهم شرعاً أن يضعوها تحت تصرفهم. فمثلاً لا يجوز لهم إدخال الممنوعات مثل لحم الخنـزير والخمر في المدن الإسلامية، ومن انتهك هذا القانون سيعرض نفسه لدفع التعويضات والمساءلة القانونية أمام دار القضاء، ولكن لا يجوز للإدارة أو لأحد أن يفسد هذه الأشياء ويدمرها؛ ذلك لأن هذه الأشياء في حكم المال لدى الذميين، ومن هنا حسب الشريعة الإسلامية لا يتغير الحكم بسبب حرمة هذه الأشياء. ونجد ذلك في الفتوى المذكورة في التالي:

سؤال: لو عرف ذمي أنه لا يجوز له أن يأتي بخمر ولحم الخنـزير في المدن الإسلامية، ومع ذلك لم يمتنع عن الإتيان بهما، فهل تعاتبه الإدارة وتوبخه على ذلك؟

جواب: نعم لا بد منه(77).

سؤال: وهل يجوز إتلاف هذه الأشياء المحرمة التي أدخلها ذمي إلى المدن الإسلامية مع العلم أنه لا يجوز فعل ذلك؟

جواب: لا يجوز إتلاف هذه الأشياء، إنما يتم توبيخ الذمي لما فعله مع التأكيد على ألا يفعل مرة أخرى(78).

سؤال: لو أتلف المسلمون هذه الأشياء، فهل سيدفعون الغرامة على ذلك؟

جواب: نعم ستكون عليهم الغرامة(79).

وإلى جانب بيان الوضع الديني والاجتماعي والاقتصادي، نجد في مجموعة الفتاوى بعض الأسئلة والأجوبة حول الحرية الدينية للهندوس، والتي تدلُّ على أنه كان يسمح لهم أن يمارسوا شعائرهم الدينية مع بعض الشروط التي وضعها الفقهاء لهم، فكانت لهم حرية تامة للذهاب إلى معابدهم للعبادة. وقد تركت الإدارة للهندوس شؤونهم الدينية والاجتماعية ينظمونها بالشكل الذي يريدونه واقتصر دور الإدارة على الإشراف فقط. أما ما يتعلّق بإنشاء المعابد الهندوسية في المدن الإسلامية التي أنشأتها الإدارة الإسلامية، فكانت تشترط عليهم بعض الشروط ومنها عدم بناء معابد حديثة، وكان من المفترض ألا يقوم الهندوسي ببناء المعابد والمنادر في المدن الإسلامية مع بقاء حقهم في أن يبنوا ما تهدم من معابدهم القديمة(80). ونحن سنرى هذا الموقف في الأسئلة الآتية:

سؤال: لو قام هندوسي بإنشاء معبده في مدينة أنشأها المسلمون ولم تكن توجد فيها المعابد والمنادر أصلاً، ففي هذه الحالة حيث إن المدن الإسلامية تنشأ لممارسة الشعائر الدينية، فهل يجوز شرعاً للمسلمين والإدارة أن يمنعوا الهندوسي من إنشاء المعبد الهندوسي في المدن الإسلامية؟

جواب: نعم لهم حق في ذلك. والله أعلم(81)

سؤال: لو قام هندوسي بإنشاء المعبد الهندوسي في قرية ما في الدولة الإسلامية والتي لا تمارس فيها الشعائر الإسلامية مثل صلاة الجمعة أو العيدين، فهل يجوز شرعاً أن يمنع بذلك؟

جواب: لا يمنع من إقامة المعبد الهندوسي في مثل هذا المكان(82).

وإلى جانب السماح للهندوس بإنشاء المعابد الهندوسية وممارسة الشعائر الدينية حسب الفتاوى المذكورة أعلاه، كان العلماء والفقهاء قد حرروا الفتاوى المتعلقة بحرية غير المسلمين بعقد الزواج حسب دينهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم دون السماح لأحد من الإدارة والمسلمين بالتدخل فيها، فمثلاً لو قام أحد من الهندوس بإتمام عقد الزواج دون شهود ـ وبذلك تسمح له شريعته ـ فلا يمنعه من فعل ذلك(83). وكذلك لو قرر هندوسي أن يتزوج امرأة هندوسية كان قد طلقها مسلم أو ذمي، فلا يكون من الضروري أن ينتظر انتهاء أيام العدة لها، ولا يجوز للقاضي أن يمنعهما من فعل ذلك(84). وحسب الفتاوى التاتارخانية إذا أسلم أحد من الزوجين غير المسلمين وبقي أحدهما على دينه، فيتم الدعوة إلى اعتناق الإسلام، فلو تم قبوله فتستمر الحياة الزوجية بطريقة شرعية وفي حالة عدم القبول، ستقع الفرقة الشرعية فوراً(85). وفي الحقيقة تعكس مثل هذه المباحث من الفتاوى القضايا التي ظهرت في الأسر بسبب تغيـير الدين واعتناق الإسلام، وقد شعر الفقهاء بأهمية هذه المسائل وقدموا آراءهم فيها، واختاروا من أقوال فقهاء المذاهب ما يكون أيسر للناس. وكذلك قدم الفقهاء نظرية الإسلام للتعايش مع غير المسلمين والتأثير والتأثر بينهما؛ وذلك لأنه حين يعيش المسلمون وغير المسلمين معاً في مكان واحد، فيشاهد كل واحد منهم عادات وتقاليد للآخرين، وثَم تظهر عند الكثير الرغبة في المعرفة عن دين الآخرين، وفهم العقائد والتعليمات لديهم، وهذه سمة من سمات الحياة. وتوجد بعض المسائل المتعلقة بهذا الأمر، تفيد أنه لو يريد غير مسلم أن يعلمه مسلم القرآن المجيد والكتب الفقهية، فهل يجوز لهذا المسلم أن يعلمه القرآن ويشرح له المسائل الفقهية؟ وقد أجاب الفقهاء بالجواز(86).

وتجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة ألا وهي أن الشريعة الإسلامية لا تعطي الحقوق الدينية والاجتماعية والاقتصادية لغير المسلمين الساكنين في ظل الدولة الإسلامية فحسب؛ بل إنها اهتمت بصيانة حقوقهم والحفاظ عليها. وقد ناقش العلماء والفقهاء في عصر سلطنة دهلي هذه الموضوعات المهمة، ووضحوا موقفهم من حقوقهم مؤكدين أن باستطاعة الهندوس أن يطرقوا باب العدالة الإسلامية في حالة الظلم والاضطهاد وعدم الحصول على حقوقهم الدينية والمدنية، حتى ولو حدث اغتصاب للحقوق في ما بينهم، فيجوز لهم أن يطلبوا الإنصاف من العدالة الإسلامية. ومن خلال المسألة المذكورة في الفتاوى التاتارخانية يتم التأكيد على ذلك، حيث إنه لو قصر الزوج الهندوسي في حقوق زوجته الهندوسية، فتستطيع الزوجة الرجوع إلى القاضي المسلم(87).

ونستطيع القول في ضوء الموضوعات المذكورة أعلاه: إن الهندوس وجميع الفئات غير الإسلامية كانوا يتمتعون بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وكانت لهم حرية كافية وكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية في جميع أنحاء شبه القارة الهندية وإلى جانب التمتع بهذه الحريات كانت الإدارة الإسلامية قد وضعت تحت إشراف العلماء والفقهاء بعض القواعد والشروط التي كانت تتطلب منهم أن يسيروا عليها؛ وذلك لتجنب وقوع المجتمع في الفساد الخلقي والاجتماعي والديني. ويتضح من الفتاوى المذكورة والمسائل المطروحة في الصفحات السابقة أن العلماء والفقهاء كانوا قد اهتموا بالقضايا المتعلقة بطبيعة العلاقات بين المسلمين والهندوس إلى جانب القضايا الأخرى، وقد رجحوا بعض المسائل الاختلافية من وجهة نظرهم عادِّين إياها متماشية مع الزمن وظروفه وقابلة للتنفيذ على أرض الواقع.

وفي بداية الأمر حاول الفقهاء البحث عن الوضع الشرعي لغير المسلمين الذين كانوا يعيشون في داخل حدود الدولة الإسلامية، ثم وضحوا موقفهم من طبيعة العلاقات الدينية والاجتماعية والمعيشية بين الطرفين من خلال وجهة النظر الفقهية ومنظورها. وأكثر الفقهاء في عصر سلطنة دهلي قد وضحوا رأيهم حول وضع الهندوس في زمرة الذميين بعد اعترافهم بالدولة الإسلامية وسيادتها الكاملة. ولا شك أن معظم الفقهاء المعاصرين بيّنوا معظم القضايا المتعلقة بالهندوس من خلال استخدام مصطلح الذميين، فهناك مسائل قليلة تمت مناقشتها بوضوح شديد لأحوال الهندوس مباشرة. وعلى كل حال يمكن تطبيق المسائل المتعلقة بالذميين على الهندوس؛ وذلك لأن أوضاعهم كانت ثابتة ومعترفاً بها، كما أن الكتب التاريخية المعاصرة كثر فيها مصطلح «ذمي» الذي تم استخدامه للهندوس.

وفي الحقيقة فإنه يبدو من خلال مطالعة الكتب الفقهية المذكورة أنه لم يجتهد العلماء والفقهاء في الهند في مناقشة قضية وضع الهندوس في عصر سلطنة دهلي كما ينبغي، ربما لأنهم وجدوا أنفسهم غير مؤهلين ولم تتوفر لديهم أدوات الاجتهاد وشروطه، ومن هنا نرى أنهم لدى إعداد مجموعات الفتاوى وتدوينها اعتمدوا على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها والتي تمَّ إعدادها خارج الهند في بغداد والشام ومصر، ومن خلال المواد التي وجدوها في هذه الكتب الفقهية حددوا موقفهم من المسائل والقضايا. ومن هنا لا نجد فيها إشارات واضحة ومحددة إلى أوضاع الهندوس في القارة الهندية. وكذلك لا نجد أن أي عالم مسلم هندي تطرق إلى هذه الموضوعات في كتاب مستقل أو سعى إلى دراسة هذه القضية وطبيعة علاقة المسلمين بالهندوس والفئات الدينية الأخرى في ضوء أوضاع الهند السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية آنذاك. أو تمت دراسة مقارنة للهندوسية والإسلام في ضوء الأوضاع. فإما أنهم كانوا قد رأوا أن هذه الدراسة لمعالجة المشكلات بين الطرفين غير مجدية وضرورية، أو كانت الشريعة والقانون الإسلامي المذكور في الكتب الفقهية في نظرهم ثابتاً في اتخاذ القرارات ومعالجة متطلبات المجتمع المتغير، حتى كتاب «آداب الحرب والشجاعة» ـ الذي قام بإعداده فخر مدبر في عصر سلطنة دهلي(88)، والذي يحتوي على بعض المعالجات والأدلة الضعيفة لتوضيح وضع الذميين وموقف الدولة منهم في الدولة الإسلامية ـ لا نجد فيه ذكر الهندوس وقضاياهم وعلاقتهم بالمسلمين مباشرة، حيث إن صاحبه يتحدث عن الصابئة، والنصارى، واليهود... إلخ؛ ولكنه لم يذكر اسم الهندوس مرة في كتابه المذكور. وهناك رسالة صغيـرة اسمها «فوائد فيروز شاهي» والتي دونها الشيخ الصوفي العالم شمس الدين يحيى في نهاية عصر سلطنة دهلي، والتي تناول فيها الشيخ المذكور ملابس الذميين، وهذه الرسالة مفقودة الآن، فمن الصعب التأكيد على موقفه الواضح من القضايا المتعلقة بالهندوس ووضعهم الديني والسياسي والاجتماعي آنذاك[1].

وعلى كل يتضح من المسائل الفقهية المذكورة أعلاه أن الشريعة الإسلامية أعطت غير المسلمين والذميين الساكنين في الدولة الإسلامية الحرية الدينية والاجتماعية والمعيشية، مع صيانة حقوقهم هذه في إطار الشريعة الإسلامية والحفاظ عليها. كما تؤكد المسائل الفقهية أن الإسلام لا يفرق بين المسلم وغير المسلم في عقوبة المجرمين الذين ينتهكون الحقوق الإنسانية والقوانين ويدوسون القيم والتعاليم المستمدة من الشريعة الإسلامية السمحة والديانات السماوية. والمسائل الفقهية التي تمت مناقشتها في هذا البحث المتواضع تدل على أن الفقهاء في عصر سلطنة دهلي حاولوا شرح المسائل القديمة المعروفة وتوضيحها إلى جانب وضع التعبيرات الفقهية للمسائل المعاصرة ومن ثم حاولوا ربط تلك القضايا بالأوضاع المعاصرة، حسب الضرورة والاحتياج.

......

المراجع والهوامش:

(1) سلطنة دلهي هي دولة إسلامية حكمت معظم الهند (602 ـ 932هـ/1205 ـ 1526م)، أي في العصور الوسطى المتأخرة، حكمها العديد من السلالات التركية والأفغانية بمن فيهم المماليك. أسسها محمد الغوري (ت 602هـ/1205م) القائد الأفغاني الذي استولى على دلهي سنة 602هـ/1205م، وأرسل محمد أحد قواده القديرين قطب الدين أيبك وهو من الرقيق الأتراك في حملة لغزو شمال الهند، وفي سنة 603هـ/1206م أصبح قطب الدين سلطاناً على دلهي وأسس أسرة حاكمة بها، وتُعرف أسرته بأسرة المماليك، وحكمت ما بين 603 ـ 688هـ/1206 ـ 1290م)، وخلفت أسرته سلالة الخلجي 688 ـ 720هـ/1290 ـ 1321م)، ثم سلالة طغلق (720 ـ 815هـ/1321 ـ 1413م)، ثم قضى تيمورلنك على تلك الدولة سنة 800هـ/1398م، وعيّن خضر خان‏ نائباً له على تلك السلطنة، فأسس فيها سلالة السيد ما بين سنة 816 ـ 854هـ/1414 ـ 1451م)، ثم أعقبتها سلالة لودهي ‏(854 ـ 932هـ/1451 ـ 1526م). وفي سنة 932هـ/1526م انضمت تلك السلطنة لإمبراطورية مغول الهند الفتية تحت قيادة مؤسس الدولة المغولية في شبه القارة الهندية بابُر شاه (888 ـ 937هـ/1483 ـ 1530م). للتفصيل حول هذه الأسر الحاكمة راجع كليفورد ا. بوزورث: الأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي، دراسة في التاريخ والأنساب، ترجمة عربية سليمان إبراهيم العسكري، ط 2: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة عام 1995م، ص 255 ـ 256.

(2) للتفصيل راجع: قاضي أطهر المباركپـوري: خلالف راشده اور هندوستان، ط: ندوة المصنفين، دهلي 1972م، ص 52 ـ 98 ـ 101.

(3) راجع السيد سليمان الندوي: عرب وهند كي تعلقات، ط: مطبع معارف، أعظم گره 1979م، الباب الثاني: العلاقات التجارية، ص 44 ـ 96، أيضاً: [Tara Chand: Influence of Islam on Indian Culture, (Allahabad, 1976), pp. 25-29.]

(4) لم تكن علاقة الهند بالعرب وليدة العصر الإسلامي بل بدأت قبل الإسلام بقرون، وكانت علاقة غير مباشرة أولاً عن طريق التجارة والتجار ومستوطناتهم، ثم تطورت إلى علاقة مباشرة في العصر الإسلامي، وتوثقت هذه العلاقة في ما بعد. وتاريخياً أسهم العرب بصورة عامة في النشاط التجاري والملاحي والبحري، منذ أقدم العصور، وانضوى تحت هذا النشاط جميع مناطق شبه الجـزيرة العربية وقاطنيها على سواحلها الطويلة، وهو الأمر الذي دفعهم إلى التفاعل مع شبه القارة والتواصل معها، فأخذوا وأعطوا وأرسوا أسس التواصل بين الطرفين، وهذا التواصل يرتكز على دعائم كثيرة من أهمها التواصل التجاري والاقتصادي والثقافي. للتفصيل حول العلاقات بين الطرفين قبل الإسلام وبعده. راجع حمد محمد بن صراي: العلاقات الحضارية بين منطقة الخليج وشبه القارة الهندية وجنوبي شرقي آسيا، ط: الجمعية التاريخية السعودية، الرياض 2006م، حول التواصل بين منطقة الخليج العربي وشبه القارة، ص 70 وما بعدها.. وحول التواصل الديني والثقافي. راجع: ص 208 ـ 226.

(5) يروي البلاذري في كتابه فتوح البلدان عن علي بن محمد بن أبي سفيان، فيقول: «ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعُمان سنة خمس عشرة، فوجه أخاه الحكم إلى البحرين ومضى إلى عُمان فأقطع جيشاً إلى تهانه، فلما رجع الجيش كتب إلى الخليفة عمر يعلمه بذلك. فكتب إليه عمر: يا أخا ثقيف حملت دوداً على عود، وإني أحلف بالله لو أصيبوا لأخذت من قومك مثلهم، ووجه الحكم أيضاً إلى بَروص ووجه أخاه المغيرة بن أبي العاص إلى خور الديبل فلقي العدو فظفر» راجع البلاذري (أحمد بن يحيى بن جابر ت 279هـ/892م): فتوح البلدان، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، ط: مؤسسة المعارف، بيروت 1407هـ/1987م، ص 607 وما بعدها.

(6) راجع السيد سليمان الندوي: العلاقات العربية والهندية، الباب الثاني حول العلاقات التجارية، ص 59 ـ 97.

(7) للتفاصيل راجع السيد أبي المظفر الندوي: تاريخ سنده، ط: مطبع معارف أعظم گره الهند عام 1970م. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة العربية التي حكمت في السند استمرت خلال أربع مراحل تاريخية، بدأت المرحلة الأولى في عام 22 ـ 396هـ/642 ـ 1010م، واستقرت بين أعوام (92 ـ 96هـ/710 ـ 714م) إلى أن دبَّ في المرحلة الرابعة الضعف والاضطراب في الإدارة العربية بسبب الصراعات السياسية والدينية ما دفع العناصر الشيعية إلى استغلالها سياسياً ودينياً، حتى تمكنت من إقامة الدولة الشيعية في الملتان عام 372هـ/983م، وفي المنصورة عاصمة السند في عام 411هـ/1020م، إلى أن عادت هذه الولايات سُنيَّة باستيلاء الغزنويين على الملتان عام 396هـ/1005م، وعلى المنصورة عام 416هـ/1025م؛ وبذلك انتهى الحكم العربي لهذه المنطقة وتمكنت السيادة الفارسية من فرض سيطرتها تحت قيادة الدولة الغزنوية (351 ـ 583هـ/962 ـ 1186م)، للتفصيل راجع عبد الله محمد جمال الدين: التاريخ والحضارة الإسلامية في الپاكستان أو السند والپـنجاب إلى آخر فترة الحكم العربي.

(8) راجع حامد علي الكوفي: چچ نامه، ص 208 ـ 209 ـ 212 ـ 210.

(9) راجع چچ نامه الذي كتبه المؤرخ المجهول باسم «منهاج المسالك»، ولا يوجد الآن له نسخة عربية، إنما النسخة الفارسية التي قام بها علي بن حامد كوفي في عهد السلطان ناصر الدين قباچة عام 1216م. تصحيح وترتيب، عمر بن داؤد بوته، (ط: حيدر آباد، الهند، 1939م)، ص 208 ـ 209 ـ 212 ـ 210.

(10) عبد الحفيظ صديقي: العدالة الإسلامية في شبه القارة الهندية، أردية، ط: إدارة تحقيقات إسلامي، پاكستان عام 1969م، ص 71.

(11) چچ نامه، ص 213 ـ 214 ـ 218.

(12) راجع چچ نامه، ص 213؛ أيضاً أبي ظفر الندوي: تاريخ سنده، ص 93.

(13) راجع عبد الله جمال الدين: تاريخ السند، ص 219.

(14) راجع البلاذري: فتوح البلدان، ص 617.

 

(15) راجع البلاذري: فتوح البلدان، ص 617؛ چچ نامه، ص 214

(16) «واعیاد ومراسم خودرا بشرائط آباء واجداد قیام نمایند»، راجع چچ نامه، ص 214.

(17) راجع چچ نامه، ص 209 ـ 210 ـ 214.

(18) چچ نامه، ص 210 ـ 211/ أبي الظفر الندوي، تاريخ سنده، ص 92.

(19) راجع چچ نامه، ص 209.

(20) «چوں ذمی شدند درخون ومال ایشاں دست تصرف مامطلق نباشد» راجع چچ نامه، ص 213؛ أيضاً أبو الظفر الندوي، تاريخ سنده، ص 93.

(21) راجع چچ نامه، ص 209، أيضاً صباح الدين عبد الرحمن (مذهبي رواداري): التسامح الديني في الهند في العصور الوسطى، ط: مطبع معارف أعظم گره، 1975م، ص 14.

(22) «وبا مسلماں خرید وفروخت کنند وایمن باشند ودر صلاح خود کوشند»، راجع چچ نامه، ص 214.

(23) راجع چچ نامه، ص 219؛ أيضاً صباح الدين عبد الرحمن: مذهبي رواداري، ص 81.

(24) «پس دہقان ورئیساں رابر تحصیل مال نصب فرمودتا از شہر وروستا اموال در ضبط آرند۔ ایشاں راقوتی واستنطہارے باشد» راجع چچ نامه، ص 209 ـ 211 ـ 213 ـ 219 ـ 220.

(25) راجع چچ نامه، ص 209.

(26) «راستی میان خلق وسلطان نگاہ دارید وبقدر احتمال ہرکس را خراج نہید وباہم دیگر ساختہ باشید ومترددنشوید تا دلایت خراب نگردد»، چچ نامه، ص 211 ـ 219/أبي ظفر الندوي: تاريخ سنده ص 91 ـ 92.

(27) چچ نامه، ص 212؛ سيد صباح الدين عبد الرحمن: مذهبي رواداري، ص 15.

(28) چچ نامه، ص 212؛ سيد صباح الدين عبد الرحمن: مذهبي رواداري، ص 6.

(29) راجع البلاذري: فتوح البلدان، ص 618.

(30) راجع البلاذري: فتوح البلدان، ص 440.

(31) [Francesco Gabrieli: Muḥammad ibn Qāsim ath-Thaqafī and the Arab Conquest of Sind (Journal East and West, Vol. 15, No. 3/4 (September-December 1965), pp. 287-288. ]

(32) [Beni Parasad: History of Jahangir, Allhbad 1973, pp. 80-81. ] وقد صحَّ ما ذكره بعض الباحثين من أن مبدأ التسامح والحرية الدينية الاجتماعية وإدخال العناصر المحلية في عملية الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية ـ مهدت الطريق للتعايش السلمي بين الطرفين ـ وهو الأمر الذي ساعد الجميع لتطوير المنطقة وعمرانها وتنشيط الزراعة والتجارة العالمية والدولية. ومن خلال هذا التعايش السلمي قويت العلاقات بين الطرفين كما عمل على تضييق الفجوة، وجعل المجتمع الهندي يتحمل المشاق والأزمات السياسية والعسكرية التي فرضت عليه من الغزاة الخارجيين من آسيا الوسطى وبلاد ما بين النهرين لعصور طويلة. راجع للتفصيل: [Francesco Gabrieli: Muḥammad ibn Qāsim ath-Thaqafī and the Arab Conquest of Sind. pp. 293-294.]

(33) تفيد المصادر أنه لما غادر محمد بن قاسم السند متوجهاً إلى مقر الخلافة الأموية؛ بكى أهل الهند عليه وجعلوا له تمثالاً في منطقة كيـرج في السند. راجع البلاذري، ص 618.

(34) راجع مقالة تاريخية لظفر الإسلام الإصلاحي: فقه إسلامي وفقهي مسائل مين سلاطين دهلي كي دلچسبي في كتاب سلاطين دهلي اور شريعت إسلامية ايك مختصر جائزه، ط: جامعة عليگراه الإسلامية، 2002م، ص 11 ـ 12.

(35) تناول برني سيرة كثير من العلماء والفقهاء الذين غادروا بلدانهم بسبب الأوضاع السياسية المتردية واستقروا في دهلي بعد وصولهم إلى الهند، وحصلوا على المناصب في الوزارة وفي القضاء، فكانوا يدرسون ويفتون، ومن هنا صار علم الفِقه جـزءًا لا يتجـزأ من المقررات التعليمية، واهتم العلماء به، مما أسفر عن قيامهم بإخراج أعمال فقهية كثيرة ومتنوعة في عصر سلطنة دهلي. راجع برني الذي أتى بكثير من العلماء والفقهاء والقضاة لعهد السلطان بلبن. ضياء الدين برني: تاريخ فيروز شاهي، ترجمة أردية سيد معين الحق، ط: أردو سائنس بورد لاهور عام 2004م، ص 192 ـ 193.

(36) ذكر برني إسهام العلماء والفقهاء في ترويج العلوم الفقهية في عهد السلطان علاء الدين الخلجي مع إعطاء التفاصيل حول القضاء والفقهاء ودورهم في الإدارة. راجع تاريخ فيروز شاهي، ص 512 ـ 513 ـ 514. وحول أهمية الفقهاء والقضاة في عهد السلطان غياث الدين تغلق، راجع المصدر السابق، ص 632.

(37) أحمد بن علي القلقشندي: صبح الأعشى، ط: المطبعة الأميرية، القاهرة عام 1915م، ج 5، ص 69. أيضاً راجع شهاب الدين فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق أحمد عبد القادر الشاذلي، ط: المجمع الثقافي، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة عام 1424هـ/2003م ج 3، ص 54.

(38) تفيد المصادر المعاصرة بأن أكثرية من سلاطين دهلي كانوا يفضلون اصطحاب العلماء والفقهاء في سفرهم وحضرهم، وكانوا يتبادلون معهم القضايا والمسائل الفقهية، ومنهم على سبيل المثال السلطان محمد بن تغلق المتوفى 752هـ/1351م، تؤكد المصادر عنه أنه تأثر بهذه الميول الفقهية فحفظ كتاب الهداية، وكان يصطحب الفقهاء والعلماء سفراً وحضراً للبحث والمناقشة حول أمور الشريعة الإسلامية والقانون، وكان يحضر إلى مائدته مائتا فقيه كل يوم للبحث في المسائل والنقاش فيها. راجع أبا العباس القلقشندي: صبح الأعشى، ج 5، ص 95. ومنهم السلطان سكندر لودهي المتوفى 922هـ/1517م الذي كان يتبادل الحديث والمسائل الفقهية مع العلماء كل يوم إلى مائدة العشاء. راجع رزق الله مشتاقي: واقعات مشتاقي، روتو كراف، رقم المخطوط 3، مكتبة ريسرج، شعبة تاريخ جامعة عليگراه الإسلامية، ورقة 26 ألف و26 ب.

(39) راجع الحوار الكامل في برني: تاريخ فيروز شاهي، ص 425 ـ 435، وتجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة ألا وهي أن المؤرخ برني قدم من خلال فتوى الشيخ نظرية غير إسلامية حول وضع الهندوس في الدولة الإسلامية. وفسر آيات ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: 29] أي حتى يؤدوا ما فُرِض عليهم دفعه من أموال مقابل حصولهم على الأمان والحماية، تفسيراً خاطئاً، فحسب رأيه أنه لا بد من اتخاذ الإجراءات الشديدة لدى جباية الخراج والجـزية إلى درجة أنه لو طلب الجابي من الهندوسي أن يفتح فمه للبصق فيه فعليه أن يفعل ذلك، مطالباً الإدارة بوضع الهندوس أمام خيارين: اعتناق الإسلام أو الموت، وهذا لا يجوز طبعاً ولا هو مقبول بالمرة. ولا شك أنه تدخل المؤرخ برني في هذه الفتوى، لأن قضية وضع الهندوس الشرعي حسمت منذ حصول القائد محمد بن قاسم على الفتاوى الصادرة من فقهاء مكة والمدينة في عهده. وعلى كل لم يقبل السلطان هذه الفتوى. للتفصيل راجع برني: تاريخ فيروز شاهي، ص 426. وهكذا تعددت الأقوال لدى العلماء بشأن المعنى المقصود ﴿يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، ومنها كما ذكرت أن أهل الذمة يعطون الجـزية وهم أذلاء ومقهورون، ومن هنا نرى أنه كان موقف البعض شديداً من أهل الذمة، وهم يبالغون في إذلالهم وامتهانهم في الوقت الذي كان الإسلام يدعو فيه إلى المعاملة الحسنة والطيبة، عملاً بسياسة النبي (ص) ، والصحابة من بعده رضوان الله عليهم أجمعين.

(40) اجتمع البراهمة أمام قصر السلطان فيروز شاه تغلق طالبين منه إعفاءهم من الجزية على أساس أنهم رجال الدين في المعابد الهندوسية، وأكدوا له حرق أجسامهم بأنفسهم في حالة عدم استجابة طلباتهم. وقالوا له إنه لم يدفع أحد من أسلافهم الجـزية قبل ذلك في أي عصر من العصور الإسلامية على أساس أنهم يشتغلون بالشؤون الدينية. وليس لديهم إمكانية دفع أموال الجـزية. فرفض السلطان ذلك ولم يستجب، وحضر بعض الأغنياء من الهندوس، وتحملوا على كواهلهم أموال الجـزية عن البراهمة. ومن هنا فهم اضطروا إلى العودة دون تحقيق الغاية المنشودة. راجع للتفصيل شمس سراج عفيف: تاريخ فيروز شاهي، ص 218.

(41) يروي المؤرخ الدرباري وهو شاهد عيان هذه الواقعة، حيث إنه وصل الخبر إلى السلطان فيروز شاه، إنه قام برهمي بإنشاء معبد خاص في منـزله ويدعو الناس من جميع الطوائف الدينية لممارسة الطقوس الدينية. وبسبب دعوته دخلت امرأة مسلمة إلى مذهبه... طرح السلطان هذه المسألة على الفقهاء والعلماء الذين اجتهدوا في هذه القضية وقالوا: حسب الشرع يجب علينا أن ندعو هذا الهندوسي إلى اعتناق الإسلام، وفي حالة رفضه ذلك لا بد أنه يحرق حياً... وجيء به إلى حضرة السلطان وحاول الفقهاء معه لاعتناق الإسلام ولكنه لم يقبل ذلك ورفضه البتة... فحرق أمام البلاط في الساحة... وكان راوي هذه الواقعة موجوداً وشاهد هذا المنظر بنفسه...». راجع شمس سراج عفيف: تاريخ فيروز شاهي، ترجمة أردية مولوي محمد فدا علي طالب، ط: سنگ ميل لاهور 2009م، ص 217.

(42) للتفصيل راجع ظفر الإسلام: فقه إسلامي وفقهي مسائل مين سلاطين دهلي كي دلچسپي، ص 20.

(43) هناك مقالة قيمة حول أهمية الفتاوى وتطورها في العصور الوسطى، راجع: [Zafarul Islam Islahi: Origin and Development of Fatawa-Compilation in Medieval India. (Hamdard Islamic, Karachi), 20/1, Jan - March, 1997, pp. 7-18.]

(44) تُعدُّ الفتاوى الغياثية أول مجموعة فتاوى باللغة العربية أعدها الشيخ داؤد بن يوسف الخطيب في عهد السلطان غياث الدين بلبن الذي مد له يد العون لإتمام هذا المشروع الفقهي. وله نسخ خطية عديدة في المكتبات الهندية، وقد خرجت إلى حيـز الوجود من مصر عام 1919م. وقد اعتمد المؤلف على الكتب الفقهية العديدة لإعدادها ومن أهمها: فتاوى ذخيرة، فتاوى سمرقندي، جامع الفتاوى، مختصر الطحاوي، الهداية، أدب القاضي، وغيرها. وإلى جانب البحث والمناقشة للمسائل الفقهية المعروفة، وضح كثيراً من القضايا التي كانت لها أهمية كبيرة، مثل: استخدام اللغة الفارسية والتركية لأداء الصلاة بدلاً من العربية، استعمال الصيغ الفارسية لعملية النكاح والطلاق، حق السلطان وأهله في بيت المال، ممارسة السجدة أمام السلطان، أخذ الأجرة للتعليم والتدريس، طبيعة العلاقات بين المسلمين والهندوس، إطار العلاقات المالية بين المسلمين والهندوس، وضع الجـزية لغير الذميين حسب وضعهم المالي وحالة البلاد، وغيرها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جميع الفتاوى التي تم تدوينها في ما بعد اعتمد مؤلفوها على فتاوى غياثية. للتفصيل حول هذه الفتاوى راجع ظفر الإسلام: سلاطين دهلي اور شريعت... ص 21.

(45) تُعدُّ فتاوى فيروز شاهي من أهم المشروعات الفقهية التي تمت في عهد السلطان فيروز شاه تغلق الذي كان يرغب في تدوين عمل شامل يستوعب جميع المسائل والمباحث الفقهية ويكون مفيداً للعام والخاص على السواء. ومن هنا شكل اللجنة العلمية الخاصة المكونة من العلماء والفقهاء الكبار لتدوين الفتاوى تحت إشرافه ورعايته الخاصة. وتحمل هذه الفتاوى بعض الخصوصية ومنها أنه تم ترتيبها في شكل الأسئلة والأجوبة وهو الطريق الصحيح لتدوين الفتاوى. وتأتي هذه الأسئلة والأجوبة باللغة الفارسية مع ذكر الفتاوى العربية في كثير من الأحيان لتأييد موقف ما وقضية ما. وقد اعتمد العلماء في إعداد هذه الفتاوى على ثمانية وتسعين مصدراً من الكتب الفقهية، والتي تشتمل على جميع الفتاوى الحنفية منذ القرن الثاني الهجري إلى القرن السادس الهجري، ومن أهم الكتب الفقهية، فتاوى صغرى، خلاصة الفتاوى، فتاوى سراجية، ذخيرة الفتاوى، فتاوى قاضي خان، وفتاوى ظهيرية وغيرها. وقد تعرضت في هذه المجموعة لبعض المسائل الفقهية المتعلقة بشؤون سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية. وللعلم أن مجموعة فتاوى فيروز شاهية لا تـزال غير مطبوعة ولها نسخ موجودة في مكتبة آزاد بجامعة عليگراه الإسلامية، والمكتب الهندي بمكتبة لندن. وجاءت فيها بعض القضايا المهمة المتعلقة بطبيعة العلاقات بين المسلمين والهندوس في فترة البحث. للتفصيل حول فتاوى فيروز شاهي، راجع ظفر الإسلام، سلاطين دهلي وشريعت.. ص 21 ـ 23. أيضاً راجع المؤلف نفسه: إسلامي قوانين كي ترويج وتنقيد، عهد فيروز شاهي كي هندوستان مين، الباب الأول: عهد فيروز شاهي كي فقهي خدمات، ط: إدارة علوم إسلامية، عليگراه 1998م.

(46) فتاوى تاتار خاني هو المشروع الضخم الآخر الذي تم تدوينه في عهد السلطان فيروز شاه تغلق، تحت إشراف وزيره «خان أعظم تاتار خان المتوفى 799هـ/1397م» ورعايته الكاملة. وهو بمثابة الموسوعة الفقهية تشتمل على ثلاثين مجلداً أعدتها اللجنة العلمية تحت إشراف العالم والفقيه ابن العلاء الأنصاري الاندربتي الدهلوي. وكان الأمير تاتار خان يريد أن يتم إعداد الموسوعة الفقهية التي تتناول المسائل الفقهية بشرح وبسط المسائل المختلف فيها بين الفقهاء يتم ذكرها مع المصادر والمراجع الفقهية، ومن هنا جمعت جميع المصادر الفقهية المتاحة في دهلي وما يجاورها لإعداد هذه الموسوعة. ولم تطبع جميع المجلدات لهذه الموسوعة، إنما قام القاضي سجاد حسين بتحقيق ونشر بعضها في خمسة مجلدات تحت رعاية وزارة التعليم والتربية للحكومة الهندية في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد عام 1984م. وسيتم استخدام هذه المجلدات المطبوعة لطرح القضايا المتعلقة بالهندوس في داخل البحث إن شاء الله. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الموسوعة قد تمت لها شهرة واسعة في شبه القارة وخارجها آنذاك، ووصلت إلى العالم العربي في القرن التاسع الهجري، وقام الفقيه إبراهيم الحلبي الحنفي المتوفى 956هـ/1549م بتلخيصها تحت عنوان: «تلخيص الفتاوى التاتارخانية». هذا، ومؤخراً قام المفتي شبير أحمد القاسمي بتحقيق وتخريج هذه الفتاوى ونشرها في عشرين مجلداً من مكتبة زكريا بديوبند الهند. لمـزيد من التعريف حول هذه الموسوعة، راجع المراجع التالية: ظفر الإسلام: سلاطين دهلي.. ص 23 ـ 25. مقالة لسيد رياست علي ندوي تحت عنوان «تعريف فتاوى تاتارخانية» مجلة معارف أردية عدد 3، مج 59، ص 165 ـ 180. حول سيرة الأمير خان أعظم تاتارخان راجع مقالة لسيد رياست علي الندوي: خان أعظم تاتارخان اور اسكي ياد گار علمي خدمات، معارف عدد 2، مج 29، ص 87 ـ 95. راجع أيضاً دراسة نقدية عن أعمال تاتار خان الفكرية في: [Fazeela Shahnawaz: A critical appraisal of Tatar Khan's literary contribution in Aspects of Indian History, edited by N.R. Farooqi and S.Z.H Jafri, India, Pp.189-194. ]

(47) قامت بعض الإمارات الإسلامية في شمال الهند وجنوبها، إلى جانب سلطنة دهلي، ومنها السلطنة الشرقية التي قامت في منطقة جونبور الشمالية ويطلق عليها «الإمارة الإسلامية الشرقية 796 ـ 883هـ/1394 ـ 1479م». وكان سلاطين جونبور يهتمون بالعلم والعلماء ويرعونهم ويصرفون أموالاً كثيراً لتنشيط الحياة العلمية ونشر الثقافة الإسلامية والعمارة الإسلامية. ومنهم السلطان إبراهيم شاه الشرقي المتوفى 843هـ/1440م، الذي أشرف على تدوين بعض الكتب الفقهية في عهده، ومن أشهرها «فتاوى إبراهيم شاهي» التي تم تدوينها في رعاية الفقيه القاضي نظام الدين أحمد بن محمد كيلاني المتوفى 873هـ/1469م للسلطان المذكور. ولا تـزال هذه الفتاوى في صورة المخطوط، ويوجد لها نسخ عديدة في مكتبة جامعة پنجاب بلاهور، وفي مكتبة رضا برامپـور، وخدابخش پـتنة. وتشتمل هذه الفتاوى على قسمين مهمين: القسم الأول يتعلق بالعبادات مكتوب باللغة الفارسية، والقسم الثاني يتعلق بالمعاملات مكتوب باللغة العربية. وتم الاعتماد على عدد كبير من المدونات الفقهية العربية. للتفصيل راجع ظفر الإسلام، سلاطين دهلي... ص 25 ـ 26.

(48) محمد علي بن حامد الكوفي، چچ نامه، ص 208 ـ 209 ـ 212 ـ 213.

(49) تناول المؤرخ برني بعض النصائح التي نصحها الشيخ مبارك الغزنوي للسلطان ايلتتمش، وكان يذكرها السلطان بلبن في مجالسه الخاصة، ومنها المحاولة الجادة في القضاء على غير المسلمين والكفر والإلحاد والوثنية. ولو كانت هناك مشكلة في ذلك بسبب كثرتهم وتجد الإدارة الصعوبة في قتلهم وقمعهم فعليها أن تسعى إلى تذليلهم وتحقيرهم لإعلاء كلمة الله لأنهم أكبر عدو لله ودينه ورسوله (ص) ... وأكد على الكلام نفسه في النصيحة الثالثة، قائلاً: «وينبغي أن يبذل كافة المجهودات في إبعاد الناس من تعليم الفلسفة والسعي إلى إذلال غير المسلمين من البوذيين والهندوس وتحقيرهم من الأعداء لأهل السنة والجماعة، ولا يسمح أبداً أن ينخرط أحد منهم في المصالح الحكومية...». للتفصيل راجع برني: تاريخ فيروز شاهي، ص 96 ـ 98. ومثل هذه النصائح التي طرحت على السلطان للسير عليها في عملية الحكم والإدارة مرفوضة جملة وتفصيلاً، لا سيما إصرارهم على إذلال غير المسلمين وتحقيرهم، لأنه منافٍ تماماً لتعاليم الإسلام وروحه. والحقيقة أن مثل هذه النصائح لم تجد آذاناً صاغية لدى السلاطين في عصري سلطنة دهلي والدولة المغولية. فهم اتخذوا سياسة «الصلح مع الكل»، لأنهم فهموا جيداً إنهم لا يستطيعون تأسيس دعائم الدولة والنظم السياسية والاجتماعية القوية إلا من خلال وضع النظريات الشاملة المتعاطفة والمسالمة مع الجميع. وسار الجميع على نفس المنهج تقريباً، مما أدى إلى تحسين وضع الهندوس السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهناك مؤرخ معاصر للسلطان فيروز شاه تغلق يقول: «والهندوس يعيشون بكل رفاهية في رعاية الدولة التي تسهم في بناء وعمران المناطق الهندوسية...» راجع عفيف: تاريخ فيروز شاهي، ص 110.

(50) كان الشيخ نور الدين مبارك غزنوي المتوفى 632هـ تلميذاً للشيخ الصوفي شهاب الدين السهروردي. وكان شيخ الإسلام في عهد السلطان ايلتتمش، وكان ينظر في الشؤون المتعلقة بالعلماء والشيوخ والدراويش والأمور الدينية الأخرى. لترجمته راجع الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي، أخبار الأخيار، ترجمة أردية الشيخ سبحان محمود ورفقاه، ط: أدبي دنيا دهلي عام 1414هـ/1994م، ص 66.

(51) راجع خليق أحمد نظامي: سلاطين دهلي كي مذهبي رجحانات، ط: إدارة أدبيات دهلي عام 1958م، ص 111.

(52) «جزیہ ستدن از ہندو جائز نیست کہ ایشاں را کتابے وپیغمبر نبودہ است» أي «لا يجوز أخذ الجزية من الهندوس لأنه لم ينـزل عليهم كتاب من السماء ولا جاء إليهم نبي ولا رسول»، أيي ب راجع ضياء الدين برني: فتاوى جهانداري، رقم مخطوط 68، مكتبة قسم التاريخ في جامعة عليگراه الإسلامية، ورقة 120 ألف.

(53) ضياء الدين برني: تاريخ فيروز شاهي، فارسي، ط: كلكتا عام 1862م، ص 87 ـ 141 ـ 290 ـ 573 ـ 575. أيضاً شمس سراج عفيف: تاريخ فيروز شاهي، فارسي، ط: كلكتا عام 1891م، ص 180 ـ 366 ـ 382 ـ 384.

(54) فتوحات فيروز شاهي، ص 5 ـ 9 ـ 16 ـ 17.

(55) في الواقع أن أخذ الجـزية من المجوس، لم ينص عليه في القرآن المجيد، وإنما كان سنة، من سنن النبي (ص) ، إذ يشهد بعض الصحابة أن النبي (ص) كان يأخذ الجـزية من المجوس، وأنه أخذها من مجوس هجر، راجع ابن قيم الجوزية (شمس الدين عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751هـ): أحكام أهل الذمة، جزءان، ط: دمشق 1383هـ/1963م، ج 1، ص 1، وقال (ص) : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». ابن القيم: المصدر السابق، ج 1، ص 2. وقد اتفق الفقهاء والعلماء على أخذ الجـزية من أهل الكتاب ـ أي اليهود والنصارى ـ ومن المجوس، ومن في حكمهم. ولكنهم اختلفوا في معنى أخذ النبي (ص) الجـزية من المجوس، فهل أخذها منهم، لأن لهم كتاباً؟ أم هناك معنى آخر لأخذها منهم؟ قال الإمام مالك رضي الله عنه : «أخذت منهم الجـزية لأنهم من العجم». وقال الشافعي: فكل من دان ودان آباؤه بنفسه وإن لم يدن آباؤه دين أهل الكتاب، أي كتاب كان قبل نزول الفرقان، وخالف دين أهل الأوثان، وعلى الإمام إذا أعطاه الجـزية وهو صاغر أن يقبلها منه عربياً كان أو عجمياً. وهكذا لم يحدد الإمام الشافعي أهل الكتاب باليهود والنصارى فحسب؛ بل ذكر أي كتاب كان قبل ذلك غير التوراة والإنجيل. وبينما نرى الإمام الشافعي يذهب إلى أخذ الجـزية من المجوس لأنهم أهل كتاب، نرى أبا حنيفة وأصحابه يؤيدون ما ذهب إليه الإمام مالك من أخذ الجـزية منهم لأنهم عجم. وعلينا أن نؤيد الرأي القائل بأنهم ليسوا بأهل كتاب، لأنهم لو كانوا أهل كتاب لجاء ذكرهم في القرآن المجيد. قال تعالى: ﴿  أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾[الأنعام: 156]، وإنما اعتبرناهم أهل ذمة، يدفعون الجـزية، عملاً بسنة الرسول (ص) . وفي ذلك يقول أبو عبيد: «خص النبي عرب أهل الكتاب بالجـزية دون من لا كتاب لهم منهم، ثم لم يرض من سائرهم إلا بالإسلام أو القتل، وعم العجم من ذوي الكتاب ومن لا كتاب له بقبول الجـزية منهم وهم المجوس». راجع المصادر التالية: الشافعي (أبو عبد الله محمد بن أدريس): كتاب الأم، ج 4، ط: القاهرة 1969م، ص 97. الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير المتوفى 310هـ): كتاب الجهاد، وكتاب الجـزية وأحكام المحاربين من كتاب اختلاف الفقهاء، ط: القاهرة 1933م، ص 200 ـ 203. أبو عبيد (القاسم بن سلام المتوفى 224هـ): الأموال، القاهرة 1353هـ ص 543 ـ 544. ابن قيم الجوزية (شمس الدين عبد الله بن أبي بكر المتوفى 751هـ): أحكام أهل الذمة، جـزءان، ط: دمشق 1383هـ/1963م، ج 1، ص 1، ص 2، هذا. وقد اعتبر بعض العلماء في الهند الهندوس من أهل الكتاب مؤكداً على أن الأنبياء والرسل بعثوا إليهم وديانتهم موحاة من الله وأن كتبهم المقدسة نازلة من السماء وتمّ التحريف فيها مثلما حدث مع كتب اليهود والنصارى. راجع للتفصيل مرزا مظهر جانانان: كلمات طيبات، ص 37 ـ 38 نقلاً عن خليق أحمد نظامي: الميول الدينية، ص 67.

(56) عالم بن العلاء الحنفي: الفتاوى التاتارخانية، ط: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد عام 1989م، ج 5، ص 237.

(57) شرف بن محمد العطائي: فوائد فيروز شاهي، مخطوط، جواهر كلكشن رقم، مكتبة آزاد جامعة عليگراه الإسلامية، ورق، ركن الدين ملتاني، طرفة الفقهاء، مخطوط مكتبة علامة شبلي النعماني، رقم المخطوط 98، أوراق 270 ب/ 271 ألف.

(58) الفتاوى التاتارخانية، ج 5، ص 254 ـ 255.

(59) رواه الترمذي برقم (1403) وقال الألباني: في صحيح الترغيب والترهيب، صحيح لغيره، حديث رقم (3009).

(60) فتاوى فيروز شاهي، أوراق  498 ب/236 ب/237 ألف.

(61) راجع شمس سراج عفيف: تاريخ فيروز شاهي، ص 110.

(62) قد عرفه ظفر الإسلام فتاوى فيروز شاهي في كتابه «إسلامي قوانين كي ترويج وتنقيد، عهد فيرزشاهي كي هندوستان مين) ط: إدارة علوم إسلامية، جامعة عليگراه الإسلامية عام 1998م، ص 39 ـ 51.

(63) فتاوى فيروز شاهي: أوراق، 484 ب، 487 ب/ وهناك كتاب فقهي آخر ترد فيه العبارة التي تؤكد على وجود الاختلاف بين العلماء حول هذه القضية. بعضهم يجيزونه وبعضهم يرى عدم جوازه. ويرى صاحب الكتاب أنه لا بأس من إلقاء السلام على الهندوس عند الضرورة. راجع طرفة الفقهاء، ورقة 279 ألف.

(64) فتاوى فيروز شاهي، ورقة، 484 ألف/ ومن ضمن مسألة حكم شراكة المسلم للذمي في باب شركة العنان أي يشترك اثنان فأكثر في مال يتجران فيه، ويكون الربح بينهما، بحسب ما يتفقان، أجاز الفقهاء المشاركة بينهما في مثل هذه التجارة. كما جاء في الفتاوى الغياثية، ص 126.

(65) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 336 ب.

(66) فتاوى فيروز شاهي: ورقة 509 الف.

(67) فتاوى فيروز شاهي: ورقة 76 ب/ ومن المعلوم أن الإسلام لا يفرق بين المسلم وغير المسلم في عملية المساعدة المالية للفقراء والمساكين، ولكن لا يجوز صرف أموال الزكاة على غير المسلمين. ومن هنا جميع مجموعات هذه الفتاوى المعاصرة للبحث تؤكد على صرف أموال صدقة الفطر والكفارة. راجع طرفة الفقهاء، ورقة 130 ب، وعلينا أن نذكر الفتوى (جاء في فتاوى فيروز شاهي التي تم التوضيح فيها أنه ليس للذمي أو الفقير حق في بيت المال، أي لا يجوز مساعدته المالية حسب الشريعة. راجع فتاوى فيروز شاهي، ورقة 71 ألف. ويمكن الاتفاق على هذه الفتوى لو تمَّ تحديد مصادر لدخل بيت المال. والسؤال هو هل كان لبيت المال مصدر واحد للدخل ألا وهو مال الزكاة؟ وفي الحقيقة كانت هناك مصادر إضافية ومتعددة لدخل بيت المال، مثل الخراج، والجـزية، والخمس، والعشر والصدقات وغيرها. ومن الطريف أنه تمت الإشارة في المصدر نفسه إلى أربعة أنواع من بيت المال: بيت المال للغنائم، بيت المال لأموال الخراج والجـزية، وبيت المال لأموال الصدقات والزكاة. ومن هنا لا توجد أي مشكلة في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين من المسلمين والهندوس على السواء من بيوت الأموال الخاصة بأموال غير الزكاة. فأوجب الإسلام على بيت المال الإنفاق على الفقراء والمساكين دون التفريق في ذلك. راجع فتاوى فيروز شاهي، أوراق 248ب/249 ألف. وهناك واقعة معروفة بعهد عمر الفاروق رضي الله عنه لما مر هو بباب قوم ووجد شيخاً كبيراً أعمى من الذميين وكان يتسول، فأخذ عمر بيده إلى خازن بيت المال، وقال له: انظر هذا ونظراءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله في هرمه ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60] وهذا من المساكين من أهل الكتاب، فله حق في الصدقة، ورد عنه الجزية وعن أمثاله، وجعل له رزقاً في بيت المال. للتفصيل راجع أبو يوسف: كتاب الخراج، ط: القاهرة 1352هـ ص 126.

(68) فتاوى فيروز شاهي: ورقة 186 ألف.

(69) فتاوى فيروز شاهي: ورقة 509 ألف. وتتفق الفتاوى الأخرى على ذلك مع الإضافة برعاية الجد والجدة من الحفيد، راجع الفتاوى التاتارخانية، ج 4، ص 258. وهناك مسألة طريفة ذكرت في الفتاوى التاتارخانية تفيد أنه لو مات هندوسي ولا يوجد في أوليائه غير شخص واحد وهو مسلم، ففي هذه الحالة هل يمكن أن يتولى هذا المسلم مسؤولية تكفينه ودفنه؟ وحسب الفتوى لو لم يوجد أحد في أسرة المتوفى لتجهيز عملية التكفين والدفن، فعلى الشخص المسلم الباقي في أسرته أن يتولى هذا الأمر. راجع الفتاوى التاتارخانية، ج 2، ص 173.

(70) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 214 ب.

(71) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 454 ألف/ وكذلك جاءت بعض المسائل حول جواز تأجير البيوت لبعضهم البعض، وذكرت تحت هذه المسائل أقوال أهل العلم وفتاواهم، راجع الفتاوى التاتارخانية، ج 5، ص 450.

(72) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 508 ب.

(73) فتاوى فيروز شاهي، أوراق 250 ألف، 472 ألف.

(74) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 224 ألف.

(75) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 255 ألف.

(76) حول الوضع الشرعي لأراضي شبه القارة الهندية. راجع ظفر الإسلام: عهد إسلامي كي هندوستان مين معاشرتو معيشت اور حكومت كي مسائل، ط: اسلامك بك فاؤنديشن، الهند 1430هـ/2009م، ص 115 ـ 149.

(77) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 508 ألف/ وتؤكد الفتاوى الغياثية أيضاً على ذلك أنه يجوز لهم أن يستهلكوها في مدنهم ولكنه لا يجوز لهم أن يدخلوها في المدن الإسلامية. للتفصيل راجع: الفتاوى الغياثية، ص 110.

(78) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 508 ألف.

(79) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 508 ألف.

(80) تقول الفتوى الموجودة في طرفة الفقهاء: «لا ينبغي للذمي أن ينشئ معبداً جديداً في دار الإسلام، إنما له حق كامل أن يقوم بترميم المعابد في هذه المنطقة كيفما شاء. ولا يجوز لأحد أن يمنعه من فعل ذلك». راجع طرفة الفقهاء، أوراق 270 ب/271 أف.

(81) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 214 ب.

(82) فتاوى فيروز شاهي، ورقة 218 ألف.

(83) راجع طرفة الفقهاء، ورقة 171 ألف. أيضاً الفتاوى التاتارخانية، ج 3، ص 171.

(84) الفتاوى التاتارخانية، ج 3، ص 171 ـ 173.

(85) راجع الفتاوى التاتارخانية، ج 3، ص 181.

(86) راجع فتاوى فيروز شاهي، ورقة 212 ب. طرفة الفقهاء، ورقة 271 ألف.

(87) راجع الفتاوى التاتارخانية، ج 4، ص 259.

(88) اسمه الكامل فخر الدين محمد بن المنصور مبارك شاه القريشي المتوفى عام 633هـ/1236م. وكان ينتمي إلى أسرة معروفة لأن أباه كان عالماً كبيراً في عصره، وقد صار فخر الدين مدبراً من رجال البلاط في الدولة الغزنوية والغورية وسلطنة دهلي في الهند. وله بعض المؤلفات باللغة الفارسية أهمها: شجرة أنساب، وآداب الحرب والشجاعة. لترجمته راجع: [Khaliq Ahmed Nizami: Supplement to Elliot & Dowson's History of India, (Idarah-I Adabiyat-I Delhi 1981), P.27-61/ Islamic Culture, April 1938, pp 189-234; Oct. 1938, pp . 397-404.]

 

 

 


[1] ـ  للتفصيل راجع: Khaliq Ahmad Nizami: Religion and Politics in India During the Thirteenth Century (Oxford University Press, India 2002), pp. 334.

 

أخبار ذات صلة