حسام المغربي
باحث مصري، مقيم في الصين.
يتماثل الناس جميعاً في طبيعتهم، لكنّهم يختلفون في العادات التي يكتسبونها.
على هذا الأساس لخّص كونفوشيوس ـ الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد ـ طبيعة عالمنا الذي نعيشه وهي «التنوّع»، فالبشرية جمعاء يمكن لها الاعتماد بعضها على بعض رغم تعايشها في ظلّ سياقات وظروف مختلفة؛ سعياً لتحقيق التآلف والتضامن والمحبة.
ويكمن أساسُ تحقيق هدف الوحدة الإنسانية في التنشئة السليمة للفرد والارتقاء بمشاعره واستعداده لاستقبال المعرفة، ومن ثَمَّ إدراك العالم من حوله، والتعايش مع الآخر لبناء «الحضارة الإنسانيّة». وللوصول إلى هذه الغاية يلزم نَشْرُ وعيٍ جديدٍ قائم على الأصل والجذور، يكون عملياً في تطبيقه، ويواكب العصر في مفاهيمه.
ويجب أن يكون جوهرُ هذا النهج الجديد إعادة بناءِ وترقية «المبادئ الأخلاقية» من فهْمٍ للذات ووحدة وتعايش، بدايةً من نمط الحياة الشخصية، وشكل العلاقات الأُسرية والبنية المجتمعية، وطبيعة النظام العالمي سياسيّاً واقتصادياً واجتماعياً؛ لضمان خَلْقِ «مجتمعٍ مشترك المصير»، يحتضن أفراد الجنس البشري كافة، في بيئة تعمّها الوحدةُ والتضامن والمساواة، وتنبذ التعصب والتطرّف. مع الأخذ بعين الاهتمام مبدأ «التأكيد على الهوية»؛ لكونه مطلباً صِحِّيَّا لتطوير مجتمع إنساني متناغم ومنسجم، يحافظ ويثمّن ثراء تنوّع وتعدّد مكوّناته، ويدفع في اتجاه رُقيّها.
وقد أثّرت أفكار الفيلسوف والحكيم كونفوشيوس في إعادة بناءِ الصين الجديدة، ونبذ الروح الانتقامية بعد التحرر من الغزو الياباني وما تلاه من حربٍ أهلية، والتركيز على مساحات الاتفاق، وظهر انعكاسها جليّاً مع بدء تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح قبل نحو أربعين عاماً، حيث نجحت الصين في الاندماج إيجابياً مع العالم، وأصبحت أكثر قُرباً من المجتمع الدولي.
عصر الحكمة الذهبي
تميّزت الصين على مرّ التاريخ بتنوّعِ واختلافِ مدارسها الفكرية، وكذلك بدخول العديد من الأديان ومنها الإسلام، لكن تعاليم كونفوشيوس ظلّت على الدوام صاحبة الانتشار الأوسع والتأثير الأعمق على الفكر والحياة، ليس فقط في الصين؛ ولكن أيضاً على شعوب شرق وجنوب شرقي آسيا.
فبتعاليمه ـ التي ركّزت على «القِيَم الأخلاقية الشخصية» كنواة لخَلْق نظامٍ اجتماعي صحي متناغم، يقوم على غرْس الأخلاق الحميدة في أفراده ـ خلّد كونفوشيوس (المولود قرابة عام 551 ق. م.) فلسفته في تاريخ البشرية. وكانت وسيلتُه لتحقق هذا الالتزام الذاتي تكْمن في التربية والتعليم، دون إغفال دور الحاكم كقدوة لشعبه؛ حيث رأى أن من شأن العلم التأسيس لإنسان سويّ، كخطوةٍ أولى نحو الرقي بالأُسرة، ومنها إلى المجتمع والدولة ككل، ثم العالم أجمع.
وقد أبرز كونفوشيوس في رسالته السامية قيمة الأخلاق ومكانتها لنشر مفهوم الألفة والتسامح والسلام بين البشر، وذهب إلى أن «النبيل من يجعل الأخلاق في أعلى المراتب»، واضعاً مفهوم «ران» في أسمى درجات الأخلاق، هذا المفهوم الذي ينشد التناغم بين البشر من خلال صيغة أرقى وهي «تبادل الفضائل». وشرح الفيلسوف الصيني هذه العلاقة قائلاً: «فقط حينما تُعامل الناس بقلب مُحب سيعاملك الناس بالحُبِّ، وحينما تُعاملهم بتسامحٍ سيعاملونك بتسامح».
كما سعت الكونفوشيوسية لتحقيق التوازن بين الروح والجسم أو العقل والغريزة، من دون تدخُّلٍ أو لجوء إلى قوة خارجية، حتى تتحقق للإنسان السيطرة على انفعالاته بنفسه، فتحقيق التناغم مع الكون يستلزم في البداية انسجاماً داخلياً ونفساً مطمئنة؛ فمفهوم النفس أو الذات لدى كونفوشيوس لا يعني الفردية أو تصوّرها ككيانٍ مستقل، ولكنها عقدة في شبكة ونقطة التقاء.
ولكي يصل الإنسان نحو الكمال يجب أن يبسط تعاطفه لجميع الناس بلا حدود، وصفة هذا التعاطف عند كونفوشيوس هي مفهوم «سين»، والتي ترمز إلى القلب، ولكن معناها يدلُّ على العقل والقلب كليهما؛ لأن القلب ـ في تعاليم كونفوشيوس ـ يسير مع العقل جنباً إلى جنب؛ لأنهما إذا فُصِلا بعضهما عن بعض؛ فإن الفكر يغدو جافَّا والمشاعر تصبح فظّة. ليتسع بذلك مفهوم النفس، انطلاقاً من ذات الإنسان، ثم أُسرته ثم المجتمع ثم الأُمة وفي النهاية البشرية جمعاء. فعند نقل مركز التعاطف من نفس الإنسان إلى أُسرته؛ فإنه يسمو فوق حبّ الذات والأنانية، وعندما يتحرك من العائلة إلى المجتمع، فإنه يسمو على محاباة الأقارب، وعندما يتحرك من المجتمع إلى الأمة فإنه يسمو على ضيق الأفق، وأخيراً عندما يتحرك نحو التعاطف مع الإنسانية بأجمعها فإنه يسمو على العصبية القومية بقلبٍ مُحبٍّ وحكمة؛ لتمييز الخير عن الشّر والحقّ من الباطل.
ويُعدُّ «التناغم» جوهر الحكمة في تعاليم الكونفوشيوسية ـ الأكثر تأثيراً في الثقافة الصينية ـ بدايةً من التناغم مع النفس، مروراً بالتناغم بين البشر، وحتى الوصول إلى تناغم الإنسان مع الطبيعة والكون. فقد قال كونفوشيوس لأحد تلاميذه: «يسعى الإنسان إلى الوئام، وليس إلى التنافر»؛ حيث يرى أن مرحلة نُضْج الإنسان هي قدرته على فهْم نفسه واحترام الاختلاف وفهمه؛ ليتمكّن من تقبُّل الآخر والتكيّف معه، وأخذ النافع والمفيد، ومزجه مع السلوكيات والقِيَم الموجودة أصلاً لديه؛ ليصبح جزءًا من المنظومة الإنسانية.
ويساعد التواصل الإيجابي بين الحاضر والماضي على إحياء التراث والسير بثبات نحو مستقبل مشرق. لقد كان الفيلسوف كونفوشيوس «وارثاً ومجدداً»، عمل على جمْع ودراسة وتلخيص الموروث الفكري منذ تشكيل المجتمع البدائي وحتى عصور (شيا) و(شانغ) و(تشو). وقد أظهر وفاءه لأفكار سلفه عندما قال: «أروي وأشرح أفكار السابقين، ولا أبتدع فيها كما يحلو لي»، حيث كان يرى أن «دراسة الماضي مهمة لمن يُريد التخطيط للمستقبل»، فجميع أفكاره وتعاليمه ركّزت على أُسسٍ تاريخية قوية، ما مكّنها من التأثير بشكلٍ عميقٍ في تطوّر الثقافة الصينية.
الفنون مفتاح حوار الثقافات
يمثّل الحوارُ بين الثقافات المنطلقَ لاستكشاف نقاط التلاقي، وإظهار ما يميّز كل ثقافة لخْلق قدرةٍ على التعايش بينها بسلام، وبناء مجتمعٍ متعدد الثقافات، يمكن لأفراده تقبّلُ الاختلافات، والعمل على تقريب الآراء في ظلِّ أجواء من الاحترام المتبادل؛ لضمان بناء جسور من التواصل الفعّال بين الثقافات الشعبيّة والعالميّة المختلفة.
والفن بأنواعه وتكويناته الجمالية وأبعاده المعرفية المتنوعة بمثابة نواةٍ للثقافة الإنسانية، ووسيلة للتعبير وتشكيل الأفكار، وهو كذلك وسيلةٌ لحفظ الهوية ووسيط الحوار والتفاهم بين الشعوب منذ أقدم العصور، حيث يُعدُّ ـ من دون سواه ـ اللغة المشتركة بين شعوب العالم؛ لكونه يتخطى حواجز اللغة والفوارق الاجتماعية؛ ليمدّ جسور التواصل والتقارب والتعارف بين الثقافات المختلفة.
ومن ضمن تعاليم كونفوشيوس مفهوم «وين»، وهي لفظة تشير إلى «فنون السلام» في مقابل «فنون الحرب»، وتشتمل على الموسيقى والفن والشعر في قالبها الروحي والجمالي. فقد ثمَّن الفيلسوف الصيني دور الفنون؛ إيماناً بقدرتها على تحويل طبيعة الإنسان في اتجاه الفضيلة، وضبط إيقاع النفس البشرية، وتحقيق الترابط بين أفراد المجتمع؛ لكونها أقصر السبل إلى القلب والعقل وأبلغها أثراً. فقد قال كونفوشيوس: «بالشعر يستثار العقل، ومن الموسيقى تستقى الكياسة الاجتماعية، والقصائد الشعرية الغنائية تحفّز العقل وتدعوه إلى التأمل، إنها تعلم فن الإحساس المرهف ورقة الشعور، وتساعد على احتواء الاستياء وتحمّله».
وبالنظر إلى أهمية الفنّ فقد أوجب كونفوشيوس تعليم الموسيقى للناس أجمعين سواء أصحاب المواهب العليا أو المتوسطة، لضمان وجود إنسان قلبه مفعمٌ بأحاسيس المحبّة والألفة والرحمة. فمن ضمن سعيه لتحقيق الارتقاء بالذوق العام، عمل كونفوشيوس على تنقيح كتاب «الأغاني ـ شي تشنغ»، الذي يضمّ مختارات تتألف من ثلاثمائة بيت من الشعر، بعضها عبارة عن أغانٍ شعبيةٍ كانت شائعة في أراضي الصين إبَّان عصر أُسرتي (شانغ) و(تشو)، من القرن السادس عشر قبل الميلاد وحتى القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
طريق الحرير والمصير المشترك
وضع كونفوشيوس ـ المولود عام 551 ق. م. أي قبل أفلاطون (427 ـ 347 ق. م.) بنحو 52 عاماً ـ فكرة «المدينة الفاضلة» في مُثُلها وقيمها، من خلال إصلاح الحياة عبر تنمية روح المحبّة والتقارب بين البشر، ونشر ثقافة السلام ونبذ الحرب. وعلى هذا الأساس كانت الاستفادة من طبيعة البشر منذ القِدَمِ في الترحال والتنقّل وكذلك التجارة، لتَشُقَّ على مرِّ التاريخ شبكةً متكاملة من التواصل، أشهرها «طريق التوابل» بشقيه البري والبحري، الذي ساعد الشعوب على التعاون وتبادل المصالح بعضها مع بعض. فقد انطلق طريق التوابل البري ـ الذي يعود تاريخه إلى أكثر من ألفي عام ـ من مدينة شيان (عاصمة الصين القديمة)، ووصل إلى القارة الأوروبية عبر غرب آسيا والشرق الأوسط، ليصبح شرياناً للتبادل السياسي والاقتصادي والثقافي بين الشرق والغرب. وفي الوقت ذاته ربط طريق التوابل البحري الصين مع أفريقيا وأوروبا، ليصبح الطريق البحري الرئيس للتجارة والتواصل الثقافي بين الشرق والغرب.
ولم تكن السلع ـ التي كان أهمها الحرير والتوابل والمواد الغذائية والمشغولات ـ هي المنتج الوحيد المتحرّك من بقعة لأخرى على هذا الطريق؛ وإنما أتاح كذلك تناقل المعارف والعلوم والثقافات والفنون والآداب وحتى المعتقدات التي أفرزت تلاقحاً فكرياً.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 600 عام على آخر استخدام لطريق الحرير القديم في التجارة، فإن أثره على الاقتصاد والسياسة والثقافة كان كبيراً، حيث ساعد الدول المطلة عليه على نقل ثقافتها ومعتقداتها. وتحمل مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 ـ في جوهرها ـ الدعوة إلى التركيز على نهضة الإنسان وتطويره؛ لتحقيق التعارف الإنساني وتقبّل الآخر، وإيجاد قواسم مشتركه تتيح إقامة علاقات وديّة بين الأفراد والشعوب والدول.
وفي ظلِّ دعوة الحكومة الصينية إلى «التناغم من دون تماثل»، وحاجة العالم إلى الألفة تماماً مثل حاجة النبات إلى الضوء؛ فإن فكرة مشروع «مجتمع المصير المشترك» تسعى تماماً ـ مثل مشروع «المؤتلف الإنساني» ـ إلى بلورة نهجٍ جديدٍ لتعزيز الحوار وتقاسُم المسؤولية، والانخراط في التعاون المثمر؛ لمساعدة العالم المضطرب على النهوض من جديدٍ على قاعدة من الاحترام المتبادل للسيادة، ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.
فجمهورية الصين وسلطنة عُمان أدركتا أن العيش في عالمٍ متعدد الأقطار ومتنوع القوميات يستدعي البحث عن القِيَم المشتركة، كمنطلق لقاعدة التسامح والتكامل وقبول الآخر، وبناء مجتمعٍ تسوده العدالةُ، ويعيش أفراده في أمانٍ وودٍّ وتواصلٍ.